تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 557 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 557

557 : تفسير الصفحة رقم 557 من القرآن الكريم

** مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن تَولّيْتُمْ فَإِنّمَا عَلَىَ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * اللّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ
يقول تعالى مخبراً بما أخبر به في سورة الحديد: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}. وهكذا قال ههنا: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله} قال ابن عباس: بأمر الله, يعني عن قدره ومشيئته {ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه. وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً, وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيراً منه. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} يعني يهد قلبه لليقين, فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقال الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة فقرىء عنده هذه الاَية {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما, وقال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} يعني يسترجع يقول {إنا لله وإنا إليه راجعون}.
وفي الحديث المتفق عليه «عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وليس ذلك لأحدإلا للمؤمن» وقال أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول: سمعت عبادة بن الصامت يقول: إن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال: «إيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيل الله» قال: أريد أهون من هذا يا رسول الله قال: «لا تتهم الله في شيء قضى لك به» لم يخرجوه.
وقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع وفعل ما به أمر وترك ما عنه نهى وزجر, ثم قال تعالى: {فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين} أي إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حمل من البلاغ وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة قال الزهري: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم.
ثم قال تعالى مخبراً أنه الأحد الصمد الذي لا إله غيره فقال تعالى: { الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون} فالأول خبر عن التوحيد ومعناه معنى الطلب أي وحدوا الإِلهية له وأخلصوها لديه وتوكلوا عليه, كما قال تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيل}.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * إِنّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُواْ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يقول تعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد أن منهم من هو عدو الزوج والوالد بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} ولهذا قال تعالى ههنا: {فاحذروهم} قال ابن زيد: يعني على دينكم, وقال مجاهد {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم} قال: يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن خلف الصيدلاني, حدثنا الفريابي, حدثنا إسرائيل حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الاَية {يا أيها الذي آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} قال: فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم, فلما أتوا رسول الله رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم, فأنزل الله تعالى هذه الاَية {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} وكذا رواه الترمذي عن محمد بن يحيى عن الفريابي, وهو محمد بن يوسف به. وقال حسن صحيح. ورواه ابن جرير والطبراني من حديث إسرائيل به, وروي من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه, وهكذا قال عكرمة مولاه سواء.
وقوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} يقول تعالى: إِنما الأموال والأولاد فتنة أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه ليعلم من يطيعه ممن يعصيه وقوله تعالى: {والله عنده} أي يوم القيامة {أجر عظيم} كما قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} والتي بعدها, وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثني حسين بن واقد, حدثني عبد الله بن بريدة: سمعت أبا بريدة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب, فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهماعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران, فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة, نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما»ورواه أهل السنن من حديث حسين بن واقد به, وقال الترمذي: حسن غريب, إنما نعرفه من حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان, حدثنا هشيم, أخبرنا مجالد عن الشعبي, حدثنا الأشعث بن قيس قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة فقال لي: «هل لك من ولد ؟» قلت: غلام ولد لي في مخرجي إليك من ابنة حمد ولوددت أن بمكانه سبع القوم, فقال لي: «لا تقولن ذلك فإن فيهم قرة عين وأجراً إذا قبضوا» ثم قال: «ولئن قلت ذاك إنهم لمجبنة محزنة» تفرد به أحمد, وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمود بن بكر, حدثنا أبي عن عيسى عن ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد ثمرة القلوب وإنهم مجبنة مبخلة محزنة» ثم قال: لا نعرفه إلا بهذا الإسناد, وقال الطبراني: حدثنا هاشم بن مزيد, حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزاً لك وإن قتلك دخلت الجنة, ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك, ثم أعدى عدو لك مالك الذي ملكت يمينك».
وقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} أي جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين عن أيي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» وقد قال بعض المفسرين كما رواه مالك عن زيد بن أسلم إن هذه الاَية ناسخة للتي في آل عمران, وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثني ابن لهيعة, حدثني عطاء هو ابن دينار عن سعيد بن جبير في قوله: {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} قال: لما نزلت هذه الاَية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم, فأنزل الله تعالى هذه الاَية تخفيفاً على المسلمين {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الاَية الأولى وروي عن أبي العالية وزيد بن أسلم وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك. وقوله تعالى: {واسمعوا وأطيعو} أي كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة, ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله ولا تتخلفوا عما به أمرتم. ولا تركبوا ما عنه زجرتم.
وقوله تعالى: {وأنفقوا خيراً لأنفسكم} أي وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحاجات, وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم يكن خيراً لكم في الدنيا والاَخرة, وإن لا تفعلوا يكن شراً لكم في الدنيا والاَخرة. وقوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تقدم تفسيره في سورة الحشر وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الاَية بما أغنى عن إعادته ههنا, ولله الحمد والمنة, وقوله تعالى: {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم} أي مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه. ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه, ونزل ذلك منزلة القرض له كما ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يقول: من يقرض غير ظلوم ولا عديم, ولهذا قال تعالى يضاعفه لكم كما تقدم في سورة البقرة {فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} {ويغفر لكم} أي ويكفر عنكم السيئات ولهذا قال تعالى: {والله شكور} أي يجزي على القليل بالكثير {حليم} أي يصفح ويغفر ويستر ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات {عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} تقدم تفسيره غير مرة, آخر تفسير سورة التغابن, ولله الحمد والمنة.