تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 572 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 572

572 : تفسير الصفحة رقم 572 من القرآن الكريم

سورة الجن
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُوَاْ إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيَ إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَن نّشرِكَ بِرَبّنَآ أَحَداً * وَأَنّهُ تَعَالَىَ جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً * وَأَنّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللّهِ شَطَطاً * وَأَنّا ظَنَنّآ أَن لّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنّ عَلَى اللّهِ كَذِباً * وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً * وَأَنّهُمْ ظَنّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لّن يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن, فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له, فقال تعالى: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد} أي إلى السداد والنجاح {فآمنا به ولن نشرك بربنا أحد} وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} وقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تعالى: {وأنه تعالى جد ربن} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {جد ربن} أي فعله وأمره وقدرته. وقال الضحاك عن ابن عباس: جد الله آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه, وروي عن مجاهد وعكرمة: جلال ربنا, وقال قتادة: تعالى جلاله وعظمته وأمره, وقال السدي: تعالى أمر ربنا: وعن أبي الدرداء ومجاهد أيضاً وابن جريج: تعالى ذكره وقال سعيد بن جبير: {تعالى جد ربن} أي تعالى ربنا, فأما ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرى, حدثنا سفيان عن عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: الجد أب ولو علمت الجن أن في الإنس جداً ما قالوا تعالى جد ربنا, فهذا إسناد جيد ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام ولعله قد سقط شيء والله أعلم.
وقوله تعالى: {ما اتخذ صاحبة ولا ولد} أي تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد, أي قالت الجن: تنزه الرب جل جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتخاذ الصاحبة والولد ثم قالوا {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شطط} قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي {سفيهن} يعنون إبليس {شطط} قال السدي عن أبي مالك: {شطط} أي جوراً, وقال ابن زيد: أي ظلماً كبيراً ويحتمل أن يكون المراد بقولهم سفيهنا اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولداً, ولهذا قالوا {وأنه كان يقول سفيهن} أي قبل إسلامه {على الله شطط} أي باطلاً وزوراً, ولهذا قالوا {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذب} أي ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالؤون على الكذب على الله تعالى في نسبة الصاحبة والولد إليه, فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك.
وقوله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهق} أي كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها, كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم, كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته, فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً أي خوفاً وإرهاباً وذعراً حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم, كما قال قتادة {فزادوهم رهق} أي إثماً وازدادت الجن عليهم جراءة. وقال السدي: كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي, قال قتادة: فإذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان, حدثنا وهب بن جرير, حدثنا أبي, حدثنا الزبير بن الخريت عن عكرمة قال: كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد, فكان الإنس إذا نزلوا وادياً هرب الجن فيقول سيد القوم نعوذ بسيد أهل هذا الوادي, فقال الجن نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون, فذلك قول الله عز وجل: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهق} أي إثماً. وقال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم {رهق} أي خوفاً وقال العوفي عن ابن عباس {فزادوهم رهق} أي إثماً, وكذا قال قتادة وقال مجاهد: زاد الكفار طغياناً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي, حدثنا القاسم بن مالك ـ يعني المزني ـ عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, فآوانا المبيت إلى راعي غنم, فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك, فنادى مناد لا نراه يقول: يا سرحان أرسله. فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهق} ثم قال: وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل, وهو ولد الشاة, كان جنياً حتى يرهب الإنسي ويخاف منه, ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه والله أعلم. وقوله تعالى: {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحد} أي لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولاً, قاله الكلبي وابن جرير.

** وَأَنّا لَمَسْنَا السّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رّصَداً * وَأَنّا لاَ نَدْرِيَ أَشَرّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَداً
يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن, وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرساً شديداً وحفت من سائر أرجائها, وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك لئلا يسترقوا شيئاً من القرآن, فيلقوه على ألسنة الكهنة فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق, وهذا من لطف الله تعالى بخلقه, ورحمته بعباده, وحفظه لكتابه العزيز, ولهذا قال الجن {وأنا كنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الاَن يجد له شهاباً رصد} أي من يروم أن يسترق السمع يجد له شهاباً مرصداً له لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه اليوم ويهلكه. {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشد} أي ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء, لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً, وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل والخير أضافوه إلى الله عز وجل.
وقد ورد في الصحيح «والشر ليس إليك» وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك, ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان, كما في حديث ابن عباس: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار فقال: «ما كنتم تقولون في هذا ؟» فقلنا: كنا نقول يولد عظيم, يموت عظيم فقال: «ليس كذلك, ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء» وذكر تمام الحديث وقد أوردناه في سورة سبأ بتمامه, وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها, فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة, فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء, فآمن من آمن منهم وتمرد في طغيانه من بقي كما تقدم حديث ابن عباس في ذلك عند قوله في سورة الأحقاف: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} الاَية.
ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر, وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها, هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له وارتاعوا لذلك, وظنوا أن ذلك لخراب العالم, كما قال السدي: لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر, فكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا, يستمعون ما يحدث في السماء من أمر, فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا: هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب, فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم, فقال لهم عبد ياليل بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم, فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء, إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمداً صلى الله عليه وسلم, وإن نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السماء, فنظروا فرأوها فكفوا عن أقوالهم وفزعت الشياطين في تلك الليلة, فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها, فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة, فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن, فدنوا منه حرصاً على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه, ثم أسلموا فأنزل الله تعالى أمرهم على رسوله صلى الله عليه وسلم, وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من (كتاب السيرة) المطول, والله أعلم, ولله الحمد والمنة.