تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 573 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 573

573 : تفسير الصفحة رقم 573 من القرآن الكريم

** وَأَنّا مِنّا الصّالِحُونَ وَمِنّا دُونَ ذَلِكَ كُنّا طَرَآئِقَ قِدَداً * وَأَنّا ظَنَنّآ أَن لّن نّعْجِزَ اللّهَ فِي الأرْضِ وَلَن نّعْجِزَهُ هَرَباً * وَأَنّا لَمّا سَمِعْنَا الْهُدَىَ آمَنّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً * وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـَئِكَ تَحَرّوْاْ رَشَداً * وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً * وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً * لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
يقول تعالى مخبراً عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} أي غير ذلك {كنا طرائق قدد} أي طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة, قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد {كنا طرائق قدد} أي منا المؤمن ومنا الكافر. وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه: حدثنا أسلم بن سهل بحشل, حدثنا علي بن الحسن بن سليمان وهو أبو الشعثاء الحضرمي شيخ مسلم, حدثنا أبو معاوية قال: سمعت الأعمش يقول تروح إلينا جني فقلت له: ما أحب الطعام إليكم ؟ فقال الأرز, قال: فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحداً, فقلت فيكم من هذه الأهواء التي فينا ؟ قال: نعم فقلت فما الرافضة فيكم ؟ قال: شرنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزني فقال هذا إسناد صحيح إلى الأعمش, وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال: سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي بالليل ينشد:
قلوب براها الحب حتى تعلقتمذاهبها في كل غرب وشارق
تهيم بحب الله والله ربهامعلقة بالله دون الخلائق
وقوله تعالى: {وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرب} أي نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض, ولو أمعنا في الهرب فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا {وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به} يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة, وقولهم {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهق} قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: فلا يخاف أن ينقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته كما قال تعالى: {فلا يخاف ظلماً ولا هضم} {وأنّا منا المسلمون ومنا القاسطون} أي منا المسلم ومنا القاسط, وهو الجائر عن الحق الناكب عنه, بخلاف المقسط فإنه العادل {فمن أسلم فأولئك تحروا رشد} أي طلبوا لأنفسهم النجاة {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطب} أي وقوداً تسعر بهم.
وقوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً * لنفتنهم فيه} اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين: (أحدهما) وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها {لأسقيناهم ماء غدق} أي كثيراً, والمراد بذلك سعة الرزق, كقوله تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوارة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وكقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} وعلى هذا يكون معنى قوله: {لنفتنهم فيه} أي لنختبرهم, كما قال مالك عن زيد بن أسلم: لنفتنهم لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية.
(ذكر من قال بهذا القول) قال العوفي عن ابن عباس: {وأن لو استقاموا على الطريقة} يعني بالاستقامة الطاعة, وقال مجاهد {وأن لو استقاموا على الطريقة} قال: الإسلام وكذا قال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعطاء والسدي ومحمد بن كعب القرظي, وقال قتادة {وأن لو استقاموا على الطريقة} يقول: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا وقال مجاهد: {وأن لو استقاموا على الطريقة} أي: طريقة الحق, وكذا قال الضحاك واستشهد على ذلك بالاَيتين اللتين ذكرناهما, وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله: {لنفتنهم فيه} أي لنبتليهم به. وقال مقاتل: نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين.
(والقول الثاني) {وأن لو استقاموا على الطريقة} الضلال {لأسقيناهم ماء غدق} أي لأوسعنا عليهم الرزق استدراجاً, كما قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} وكقوله: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وهذا قول أبي مجلز لاحق بن حميد, فإنه قال في قوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة} أي طريقة الضلالة, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان وله اتجاه, ويتأيد بقوله لنفتنهم فيه. وقوله: {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعد} أي عذاباً مشقاً شديداً موجعاً مؤلماً, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد: {عذاباً صعد} أي مشقة لا راحة معها, وعن ابن عباس: جبل في جهنم, وعن سعيد بن جبير: بئر فيها.

** وَأَنّ الْمَسَاجِدَ لِلّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ أَحَداً * وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً * قُلْ إِنّمَآ أَدْعُو رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاّ بَلاَغاً مّنَ اللّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً * حَتّىَ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلّ عَدَداً
يقول تعالى آمراً عباده أن يوحدوه في محال عبادته ولا يدعى معه أحد ولا يشرك به, كما قال قتادة في قوله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد} قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله, فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده. وقال ابن أبي حاتم: ذكر علي بن الحسين, حدثنا إسماعيل بن بنت السدي, أخبرنا رجل سماه عن السدي, عن أبي مالك أو أبي صالح, عن ابن عباس في قوله: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد} قال: لم يكن يوم نزلت هذه الاَية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس. وقال الأعمش: قالت الجن: يا رسول الله ائذن لنا فنشهد معك الصلوات في مسجدك, فأنزل الله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد} يقول: صلوا لا تخالطوا الناس. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا مهران, حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن محمود عن سعيد بن جبير {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد} قال: قالت الجن لنبي الله صلى الله عليه وسلم كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناؤون ؟ أي بعيدون عنك, وكيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد}.
وقال سفيان عن خصيف عن عكرمة: نزلت في المساجد كلها, وقال سعيد بن جبير: نزلت في أعضاء السجود, أي هي لله فلا تسجدوا بها لغيره. وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح من رواية عبد الله بن طاوس عن أبيه, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة ـ أشار بيده إلى أنفه ـ واليدين والركبتين وأطراف القدمين», وقوله تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبد} قال العوفي عن ابن عابس يقول لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن ودنوا منه, فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} يستمعون القرآن هذا قول, وهو مروي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه, وقال ابن جرير: حدثني محمد بن معمر, حدثنا أبو مسلم عن أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الجن لقومهم: {لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبد} قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده, قال: عجبوا من طواعية أصحابه له قال: فقالوا لقومهم {لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبد} وهذا قول ثان وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضاً, وقال الحسن: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا إله إلا الله ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب تلبد عليه جميعاً.
وقال قتادة في قوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبد} قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه, فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه, وهذا قول ثالث وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقول ابن زيد, وهو اختيار ابن جرير وهو الأظهر لقوله بعده: {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحد} أي قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته {إنما أدعوا ربي} أي إنما أعبد ربي وحده لا شريك له وأستجير به وأتوكل عليه {ولا أشرك به أحداً وقوله تعالى: {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشد} أي إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي وعبد من عباد الله ليس إلي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم, بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل, ثم أخبر عن نفسه أيضاً أنه لا يجيره من الله أحد أي لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه {ولن أجد من دونه)ملتحد} قال مجاهد وقتادة والسدي: لا ملجأ. وقال قتادة أيضاً {قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحد} أي لا نصير ولا ملجأ وفي رواية: لا ولي ولا موئل.
وقوله تعالى: {إلا بلاغاً من الله ورسالاته} قال بعضهم هو مستثنى من قوله: {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغ} ويحتمل أن يكون استثناء من قوله: {لن يجيرني من الله أحد} أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي, كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} وقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبد} أي أناأبلغكم رسالة الله فمن يعص بعد ذلك فله جزاءً على ذلك نار جهنم, خالدين فيها أبداً أي لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها. وقوله تعالى: {حتى إذ رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدد} أي حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة, فسيعلمون يومئذمن أضعف ناصراً وأقل عدداً, هم أم المؤمنون الموحدون لله تعالى, أي بل المشركون لا ناصر لهم بالكلية وهم أقل عدداً من جنود الله عز وجل.

** قُلْ إِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ مّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّيَ أَمَداً * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىَ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَىَ مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىَ كُلّ شَيْءٍ عَدَداً
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس إنه لا علم له بوقت الساعة ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد {قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمد} أي مدة طويلة, وفي هذه الاَية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام لا يؤلف تحت الأرض كذب لا أصل له, ولم نره في شيء من الكتب, وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها, ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد فأخبرني عن الساعة ؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد متى الساعة ؟ قال: «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟» قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام ولكني أحب الله ورسوله قال: «فأنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن مضاء, حدثنا محمد بن حمير, حدثني أبو بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى, والذي نفسي بيده إنما توعدون لاَت». وقد قال أبو داود في آخر كتاب الملاحم: حدثنا موسى بن سهل, حدثنا حجاج بن إبراهيم, حدثنا ابن وهب, حدثني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تعجز الله هذه الأمة من نصف يوم» انفرد به أبو داود ثم قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا أبو المغيرة, حدثني صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم» قيل لسعد: وكم نصف يوم ؟ قال: خمسمائة عام. انفرد به أبو داود.
وقوله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول} هذه كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} وهكذا قال ههنا إنه يعلم الغيب والشهادة وأنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه, ولهذا قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول} وهذا يعم الرسول الملكي والبشري. ثم قال تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصد} أي يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ويساوقونه على ما معه من وحي الله, ولهذا قال: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدد} وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: {ليعلم} إلى من يعود ؟ فقيل إنه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصد} قال: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل {ليعلم} محمد صلى الله عليه وسلم {أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدد} ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك والسدي ويزيد بن أبي حبيب.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} قال: ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلّغت عن الله وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها, وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة واختاره ابن جرير, وقيل غير ذلك كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصد} قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم, وذلك حين يقول ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} قال: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم, وفي هذا نظر. وقال البغوي: قرأ يعقوب {ليعلم} بالضم أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. ويحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الله عز وجل, وهو قول حكاه ابن الجوزي في زاد المسير, ويكون المعنى في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم, ويكون ذلك كقوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} وكقوله تعالى: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} إلى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة, ولهذا قال بعد هذا {وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدد}. آخر تفسير سورة الجن, ولله الحمد والمنة.