تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 581 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 581

581 : تفسير الصفحة رقم 581 من القرآن الكريم

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ {16} ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ
{17} كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ {18} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ {19}
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ {20} فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {21} إِلَى قَدَرٍ
مَّعْلُومٍ {22} فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ {23} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ {24}
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً {25} أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً {26} وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً {27} وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ {28}

يقول تعالى ( ألم نهلك الأولين ) يعني من المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به ( ثم نتبعهم الآخرين ) أي ممن أشبههم ولهذا قال تعالى ( كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ) قاله بن جرير ثم قال تعالى ممتنا على خلقه ومحتجا على الإعادة بالبداءة ( ألم نخلقكم من ماء مهين ) أي ضعيف حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عز وجل كما تقدم في سورة يس في حديث بشر بن جحاش بن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ( فجعلناه في قرار مكين ) يعني جمعناه في الرحم وهو قرار الماء من الرجل والمرأة والرحم معد لذلك حافظ لما أودع فيه من الماء وقوله تعالى ( إلى قدر معلوم ) يعني إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر ولهذا قال تعالى ( فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ) ثم قال تعالى ( ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا ) قال بن عباس كفاتا كنا وقال مجاهد يكفت الميت فلا يرى منه شيء وقال الشعبي بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم وكذا قال مجاهد وقتادة ( وجعلنا فيها رواسي شامخات ) يعني الجبال رسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب ( وأسقيناكم ماء فراتا ) أي عذبا زلالا من السحاب أو مما أنبعه من عيون الأرض ( ويل يومئذ للمكذبين ) أي ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره
انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ {29} انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ
شُعَبٍ {30} لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ {31} إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ {32} كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ {33} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ {34}
هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ {35} وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ {36} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِّلْمُكَذِّبِينَ {37} هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ {38} فَإِن كَانَ
لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ {39} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ {40}
يقول تعالى مخبرا عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار أنهم يقال لهم يوم القيامة ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ) يعني لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب ( لا ظليل ولا يغني من اللهب ) أي ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو في نفسه ولايغني من اللهب يعني ولا يقيهم حر اللهب وقوله تعالى ( إنها ترمي بشرر كالقصر ) أي يتطاير الشرر من لهبها كالقصر قال بن مسعود كالحصون وقال بن عباس ومجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وغيرهم يعني أصول الشجر ( كأنه جمالات صفر ) أي كالإبل السود قاله مجاهد والحسن وقتادة والضحاك واختاره بن جرير وعن بن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ( جمالة صفر ) يعني حبال السفن وعنه أعني بن عباس ( جمالة صفر ) قطع نحاس وقال البخاري 4933 حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى أخبرنا سفيان عن عبد الرحمن بن عابس قال سمعت بن عباس رضي الله عنهما ( إنها ترمي بشرر كالقصر ) قال كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للبناء فنسميه القصر ( كأنه جمالة صفر ) حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال ( ويل يومئذ للمكذبين ) ثم قال تعالى ( هذا يوم لا ينطقون ) أي لا يتكلمون ( ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) أي لا يقدرون على الكلام ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا بل قد قامت عليهم الحجة ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون وعرصات القيامة حالات والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة وعن هذه الحال تارة ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذ ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام ( ويل يومئذ للمكذبين ) وقوله تعالى ( هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ) وهذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده يقول لهم ( هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين ) يعني أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وقوله تعالى ( فإن كان لكم كيد فكيدون ) تهديد شديد ووعيد أكيد أي إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي وتنجوا من حكمي فافعلوا فإنكم لا تقدرون على ذلك كما قال تعالى ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) وقد قال تعالى ( ولا تضرونه شيئا ) وفي الحديث ياعبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني وقد قال بن أبي حاتم ثنا علي بن المنذر الطريقي الأودي ثنا محمد بن فضيل ثنا حصين بن عبد الرحمن عن حسان بن أبي المخارق عن أبي عبد الله الجدلي قال أتيت بيت المقدس فإذا عبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو وكعب الأحبار يتحدثون في بيت المقدس فقال عبادة إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفذهم ويسمعهم الداعي ويقول الله ( هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ) اليوم لا ينجو مني جبار عنيد ولا شيطان مريد فقال عبد الله بن عمرو فإنا نحدث يومئذ أنها تخرج عنق من النار فتنطلق حتى إذا كانت بين ظهراني الناس نادت أيها الناس إني بعثت إلى ثلاثة أنا أعرف بهم من الأب بولده ومن الأخ بأخيه لا يغيبهم عني وزر ولا تخفيهم عني خافية الذي جعل مع الله إلها آخر وكل جبار عنيد وكل شيطان مريد فتنطوي عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب بأربعين سنة
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
ظِلَالٍ وَعُيُونٍ {41} وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ {42} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {43} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ {44} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِّلْمُكَذِّبِينَ {45} كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ {46} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِّلْمُكَذِّبِينَ {47} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ {48} وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ {49} فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ {50}

يقول تعالى مخبرا عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات وترك المحرمات إنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون أي بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن وقوله تعالى ( وفواكه مما يشتهون ) أي ومن سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ) أي يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم ثم قال تعالى مخبرا خبرا مستأنفا ( إنا كذلك نجزي المحسنين ) أي هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل ( ويل يومئذ للمكذبين ) وقوله تعالى ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ) خطاب للمكذبين بيوم الدين وأمرهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى ( كلوا وتمتعوا قليلا ) أي مدة قليلة قريبة قصيرة ( إنكم مجرمون ) أي ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها ( ويل يومئذ للمكذبين ) كما قال تعالى ( نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ) وقال تعالى ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) وقوله تعالى ( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ) أي إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ولهذا قال تعالى ( ويل يومئذ للمكذبين ) ثم قال تعالى ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به كقوله تعالى ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) قال بن أبي حاتم ثنا بن أبي عمر ثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية سمعت رجلا أعرابيا بدويا يقول سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ والمرسلات عرفا فقرأ ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) فليقل آمنت بالله وبما أنزل وقد تقدم هذا الحديث في سورة القيامة