سورة النساء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 81 من المصحف
** يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً * وَإِنْ أَرَدْتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىَ بَعْضُكُمْ إِلَىَ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً * وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الشيباني عن عكرمة, عن ابن عباس, ـ قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي, ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ـ {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} قال: كانوا إذا مات الرجل, كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها, وإن شاؤوا زوجوها, وإن شاؤوا لم يزوجوها, فهم أحق بها من أهلها, فنزلت هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان, عن عكرمة, وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء, كوفي أعمى, كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي, حدثني علي بن حسين عن أبيه, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله تعالى عن ذلك, أي نهى عن ذلك, تفرد به أبو داود, وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. فقال وكيع عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عن مقسم, عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها, فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها, فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره}. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية, ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها, وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها, وروى العوفي عنه: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم, ألقى ثوبه على امرأته, فورث نكاحها, ولم ينكحها أحد غيره, وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية, فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره}. وقال زيد بن أسلم في الاَية: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية, ورث امرأته من يرث ماله, وكان يعضلها حتى يرثها, أو يزوجها من أراد, وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها, ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها, فنهى الله المؤمنين عن ذلك, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا علي بن المنذر, حدثنا محمد بن فضيل, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, عن أبيه, قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت, أراد ابنه أن يتزوج امرأته, وكان لهم ذلك في الجاهلية, فأنزل الله {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به. ثم روى من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة, حبسها أهله على الصبي يكون فيهم, فنزلت {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} الاَية. وقال ابن جريج: قال مجاهد: كان الرجل إذا توفي, كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها, أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن)عاصم من الأوس, توفي عنها أبو قيس بن الأسلت, فجنح عليها ابنه, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله, لا أنا ورثت زوجي, ولا أنا تركت فأنكح, فأنزل الله هذه الاَية. وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها, جاء وليه فألقى عليها ثوباً, فإن كان له ابن صغير, أو أخ, حبسها حتى يشب, أو تموت فيرثها, فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوباً, نجت, فأنزل الله {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره}. وقال مجاهد في هذه الاَية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها, فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه, رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان, نحو ذلك. قلت: فالاَية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد, ومن وافقه, وكل ما كان فيه نوع من ذلك, والله أعلم. وقوله {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} أي لا تُضَارّوهن في العشرة, لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك, أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ولا تعضلوهن} يقول: ولا تقهروهن {لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} يعني الرجل, تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها, ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي, وكذا قال الضحاك وقتادة, واختاره ابن جرير, وقال ابن المبارك وعبد الرزاق: أخبرنا معمر, قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن البَيْلماني, قال: نزلت هاتان الاَيتان, إحداهما في أمر الجاهلية, والأخرى في أمر الإسلام. قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} في الجاهلية, {ولا تعضلوهن} في الإسلام. وقوله {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال: يعني بذلك الزنا, يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها, وتضاجرها حتى تتركه لك, وتخالعها, كما قال تعالى في سورة البقرة: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله} الاَية, وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان, واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان, والنشوز وبذاء اللسان, وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها, وهذا جيد, والله أعلم. وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفرداً به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة} قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت, أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله عن ذلك, أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري: وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية, ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام, وقال عبد الرحمن بن زيد: كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة, فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه, فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد, فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال: فهذا قوله {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} الاَية, وقال مجاهد في قوله {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} أي طيبوا أقوالكم لهن, وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها, فافعل أنت بها مثله, كما قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر, يداعب أهله, ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته, ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, يتودد إليها بذلك, قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته, وذلك قبل أن أحمل اللحم, ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني, فقال «هذه بتلك» ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان, ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها, وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد, يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار, وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام, يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام, ولله الحمد.
وقوله تعالى {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثير} أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه, خير كثير لكم في الدنيا والاَخرة, كما قال ابن عباس في هذه الاَية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً, ويكون في ذلك الولد خير كثير, وفي الحديث الصحيح «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر».
وقوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبين} أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال, وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا. وفي هذه الاَية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل, وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق, ثم رجع عن ذلك, كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين, قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي, قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تَغّلوا في صداق النساء, فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله, كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم, ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية, وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة, ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مُسَيب البصري, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(طريق أخرى عن عمر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد, عن الشعبي, عن مسروق, قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس, ما إكثاركم في صُدُق النساء. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصّدُقات فيما بينهم أربعمائة درهم, فما دون ذلك, ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل, فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين, نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم, قال: نعم, فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال: وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله يقول {وآتيتم إحداهن قنطار} الاَية ؟ قال: فقال: اللهم غفراً, كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم, فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل, إسناده جيد قوي.
(طريق أخرى) قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق, عن قيس بن ربيع, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء, فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر, إن الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطار} ـ من ذهب ـ قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود, {فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئ}, فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
(طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد, ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة من صفة النساء طويلة, في أنفها فطس: ما ذاك لك. قال: ولم ؟ قالت: لأن الله قال {وآتيتم إحداهن قنطار} الاَية, فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكراً {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك ؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد: يعني بذلك الجماع ـ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما «الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب ؟» قالها ثلاثاً, فقال الرجل: يا رسول الله مالي ؟ ـ يعني ما أصدقها ـ قال «لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها, وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها». في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها, فإذا هي حامل من الزنا, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له, فقضى لها بالصداق, وفرق بينهما, وأمر بجلدها, وقال «الولد عبد لك. فالصداق في مقابلة البضع» ولهذا قال تعالى {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض}.
وقال تعالى: {وأخذن منكم ميثاقاً غليظ} روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, أن المراد بذلك العقد. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله {وأخذن منكم ميثاقاً غليظ} قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي, نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الاَية: هو قوله «أخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله» فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة, قال: وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, قال له «جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي» رواه ابن أبي حاتم, وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها «واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
وقال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} الاَية, يحرم الله تعالى زوجات الاَباء تكرمة لهم, وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده, حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها, وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت, عن رجل من الأنصار, قال: لما توفي أبو قيس ـ يعني ابن الأسلت ـ وكان من صالحي الأنصار, فخطب ابنه قيس امرأته, فقالت: إنما أعدك ولداً وأنت من صالحي قومك, ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أبا قيس توفي, فقال «خيراً» ثم قالت: إن ابنه قيساً خطبني, وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولداً فما ترى ؟ فقال لها «ارجعي إلى بيتك», قال: فنزلت {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} الاَية, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخرة, وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف, وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار, وكان عند أبيه خلف, وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف, فخلف عليها صفوان بن أمية. وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الاَباء كان معمولاً به في الجاهلية, ولهذا قال {إلا ما قد سلف} كما قال {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} قال: وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة, تزوج بامرأة أبيه, فأولدها ابنه النضر بن كنانة, قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم «ولدت من نكاح لا من سفاح» قال: فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك, فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً فيما بينهم. فقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي, حدثنا قراد, حدثنا ابن عيينة عن عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين, فأنزل الله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} {وأن تجمعوا بين الأختين}, وهكذا قال عطاء وقتادة, ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر, والله أعلم, وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الاَية, مبشع غاية التبشع, ولهذا قال تعالى: {إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيل} وقال {ولاتقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وقال {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل} فزاد ههنا {ومقت} أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه, ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته, فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله, ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب, بل حقه أعظم من حق الاَباء بالإجماع, بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه . وقال عطاء بن أبي رباح في قوله {ومقت} أي يمقت الله عليه, {وساء سبيل} أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس, فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه, فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب, عن خاله أبي بردة ـ وفي رواية: ابن عمر, وفي رواية: عن عمه ـ أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت, عن البراء بن عازب, قال: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم أين بعثك النبي ؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
(مسألة) وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة, واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع, أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية, فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضاً بذلك, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة, فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب, فجعل يهوي به إلى متاعها, ويقول: هذا المتاع, لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال: لا, ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرسي, وكان فقيهاً, فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد, فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له, ثم قال: نعم ما رأيت, ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري, فدعوته وكان آدم شديد الأدمة, فقال: دونك هذه بيض بها ولدك, قال: وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته, ثم أعتقته, ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه.
** حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الاُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَإِن لّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
هذه الاَية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: حرمت عليكم سبع نسباً وسبع صهراً, وقرأ {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} الاَية¹ وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد, حدثنا أبو أحمد, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن إسماعيل بن رجاء عن عمير, مولى ابن عباس, عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع, ثم قرأ {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} فهن النسب. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى: {وبناتكم} فإنها بنت, فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل, وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتاً شرعية, فكما لم تدخل في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} فإنها لا ترث بالإجماع, فكذلك لا تدخل في هذه الاَية, والله أعلم, وقوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك, كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك, ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن عمرة بنت عبد الرحمن, عن عائشة أم المؤمنين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة», وفي لفظ لمسلم «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب», وقال بعض الفقهاء: كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاعة إلا في أربع صور, وقال بعضهم: ست صور هي مذكورة في كتب الفروع والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك, لأنه يوجد مثل بعضها من النسب, وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر فلا يرد على الحديث شيء أصلاً البتة, ولله الحمد وبه الثقة. ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة, فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الاَية, وهذا قول مالك, ويروى عن ابن عمر, وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وقال آخرون: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات, لما ثبت في صحيح مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه, عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «لا تحرم المصة ولا المصتان» وقال قتادة, عن أبي الخليل, عن عبد الله بن الحارث, عن أم الفضل, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان, والمصة ولا المصتان», وفي لفظ آخر «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» رواه مسلم. وممن ذهب إلى هذا القول: الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه, وأبو عبيد وأبو ثور, وهو مروي عن علي وعائشة وأم الفضل وابن الزبير وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير رحمهم الله. وقال آخرون: لا يحرم أقل من خمس رضعات, لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر, عن عَمْرة, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: كان فيما أنزل من القرآن «عشر رضعات معلومات يحرمن» ثم نسخن بخمس معلومات, فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن, وروى عبد الرزاق عن معمر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة, نحو ذلك. وفي حديث سهلة بنت سهيل, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة خمس رضعات, وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات, وبهذا قال الشافعي وأصحابه, ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله {يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} ثم اختلفوا هل يحرم لبن الفحول, كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم, أو إنما يختص الرضاع بالأم فقط, ولا ينتشر إلى ناحية الأب, كما هو قول لبعض السلف ؟ على قولين, تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير. وقوله {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن, فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم}, أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها, سواء دخل بها أو لم يدخل, وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل, فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها, ولهذا قال {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن, فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} في تزويجهن, فهذا خاص بالربائب وحدهن. وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب, فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها, لقوله {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم}. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن علي رضي الله تعالى عنه, في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها, أيتزوج أمها ؟ قال: هي بمنزلة الربيبة, وحدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن زيد بن ثابت, قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وفي رواية عن قتادة, عن سعيد, عن زيد بن ثابت, أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها, فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل. وقال ابن المنذر: حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق, عن ابن جريج, قال: أخبرني أبو بكر بن حفص عن مسلم بن عويمر الأجدع, أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف, قال: فلم أجامعها حتى توفى عمي عن أمها, وأمها ذات مال كثير, فقال أبي: هل لك في أمها ؟ قال: فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر, فقال: انكح أمها ؟ قال: وسألت ابن عمر, فقال: لا تنكحها, فأخبرت أبي بما قالا, فكتب إلى معاوية فأخبره بما قالا, فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله, ولا أحرم ما أحل الله, وأنت وذاك والنساء سواها كثير. فلم ينه ولم يأذن لي فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عن رجل عن عبد الله بن الزبير, قال: الربيبة والأم سواء لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة, وفي إسناده رجل مبهم لم يسم. وقال ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهداً قال له {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم} أراد بهما الدخول جميعاً, فهذا القول كما ترى مروي عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس, وقد توقف فيه معاوية. وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني فيما نقله الرافعي عن العبادي. وقد روي عن ابن مسعود مثله, ثم رجع عنه, قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري, حدثنا عبد الرزاق عن الثوري, عن أبي فروة, عن أبي عمرو الشيباني, عن ابن مسعود: أن رجلاً من بني كمخ من فزارة تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته. فاستفتى ابن مسعود, فأمره أن يفارقها ثم تزوج أمها, فتزوجها وولدت له أولاداً, ثم أتى ابن مسعود المدينة, فسئل عن ذلك, فأخبر أنها لا تحل له, فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل: إنها عليك حرام ففارقها. وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم, فإنها تحرم بمجرد العقد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن محمد ابن هارون بن عَزْرة, حدثنا عبد الوهاب عن سعيد, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس, أنه كان يقول: إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها, وروي أنه قال: إنها مبهمة, فكرهها. ثم قال:وروي عن ابن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وطاوس وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وابن سيرين وقتادة والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة, وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً, ولله الحمد والمنة ـ قال ابن جرير: والصواب قول من قال: الأم من المبهمات, لأن الله لم يشترط معهن الدخول كما اشترطه مع أمهات الربائب, مع أن ذلك أيضاً إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر غير أن في إسناده نظراً, وهو ما حدثني به المثنى, حدثنا حبان بن موسى, حدثنا ابن المبارك, أخبرنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها, دخل بالبنت أو لم يدخل, وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلقها, فإن شاء تزوج الابنة», ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه, فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره. وأما قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل, أو لم تكن في حجره, قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, كقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصن}. وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان, وفي لفظ لمسلم عزة بنت أبي سفيان, قال «أو تحبين ذلك» ؟ قالت: نعم لست لك بمخلية, وأحب من شاركني في خير أختي, قال «فإن ذلك لا يحل لي». قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة, قال «بنت أم سلمة» ؟ قالت: نعم. قال «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي, إنها لبنت أخي من الرضاعة, أرضعتني وأبا سلمة ثويبة, فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن» وفي رواية للبخاري «إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي», فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة, وحكم بالتحريم لذلك, وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف وقد قيل: بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل, فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, أنبأنا هشام ـ يعني ابن يوسف ـ عن ابن جريج, حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة, أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان, قال: كانت عندي امرأة فتوفيت, وقد ولدت لي فوجدت عليها, فلقيني علي بن أبي طالب فقال: ما لك ؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة ؟ قلت: نعم وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك ؟ قلت: لا, هي بالطائف قال: فانكحها, قلت: فأين قول الله {وربائبكم اللاتي في حجوركم} ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك, هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم, وهو قول غريب جداً, وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله, واختاره ابن حزم, وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله, فاستشكله وتوقف في ذلك, والله أعلم. وقال ابن المنذر, حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قوله {اللاتي في حجوركم}, قال: في بيوتكم, وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس, عن ابن شهاب: أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين, توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر: ما أحب أن أخبرهما جميعاً يريد أن أطأهما جميعاً بملك يميني, وهذا منقطع. وقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا أبو الأحوص, عن طارق بن عبد الرحمن, عن قيس, قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له ؟ فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية, ولم أكن لأفعله. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين, لأن الله حرم ذلك في النكاح, قال {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس, وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. وروى هشام عن قتادة: بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة, وكذا قال قتادة عن أبي العالية, ومعنى قوله {اللاتي دخلتم بهن} أي نكحتموهن, قاله ابن عباس وغير واحد. وقال ابن جريج عن عطاء: هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها. وقلت: أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها ؟ قال: هو سواء, وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها. وقال ابن جرير: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا يحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
وقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم, يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية. كما قال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائكم} الاَية, وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}. قال: كنا نحدث ـ والله أعلم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد, قال المشركون بمكة في ذلك, فأنزل الله عز وجل: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} ونزلت {وما جعل أدعياءكم أبناءكم}, ونزلت {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا الجرح بن الحارث عن الأشعث, عن الحسن بن محمد: أن هؤلاء الاَيات مبهمات {وحلائل أبنائكم} {وأمهات نسائكم}, ثم قال: وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول, نحو ذلك. (قلت) معنى مبهمات أي عامة في المدخول بها وغير المدخول, فتحرم بمجرد العقد عليها, وهذا متفق عليه, فإن قيل: فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة كما هو قول الجمهور, ومن الناس من يحكيه إجماعاً وليس من صلبه, فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} الاَية. أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين معاً في التزويج, وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف, كما قال {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً, وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح, ومن أسلم وتحته أختان, خيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة. قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجَيْشاني, عن الضحاك بن فيروز, عن أبيه, قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان, فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق أحداهما. ثم رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن لهيعة, وأخرجه أبو داود والترمذي أيضاً من حديث يزيد بن أبي حبيب, كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني, قال الترمذي واسمه ديلم بن الهوشع. عن الضحاك بن فيروز الديلمي, عن أبيه به, وفي لفظ للترمذي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اختر أيتهما شئت», ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد رواه ابن ماجه أيضاً بإسناد آخر فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن أبي وهب الجَيْشاني عن أبي خراش الرعيني, قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية, فقال «إذا رجعت فطلق إحداهما» قلت: فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز, ويحتمل أن يكون غيره, فيكون أبو وهب قد)رواه عن اثنين عن فيروز الديلمي, والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى, حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني, حدثنا هيثم بن خارجة, حدثنا يحيى بن إسحاق عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن رُزَيق بن حكيم, عن كثير بن مرة, عن الديلمي, قال: قلت: يا رسول الله, إن تحتي أختين, قال «طلق أيهما شئت», فالديلمي المذكور أولاً هو الضحاك بن فيروز الديلمي قال أبو زرعة الدمشقي: كان يصحب عبد الملك بن مروان, والثاني هو أبو فيروز الديلمي رضي الله عنه, وكان من جملة الأمراء باليمن الذين وَلُوا قتل الأسود العنسي المتنبىء لعنه الله, وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضاً لعموم الاَية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة, عن عبد الله بن أبي عنبة أو عتبة عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين, فكرهه فقال له ـ يعني السائل: يقول الله تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم} فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وبعيرك مما ملكت يمينك. وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم, وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك, عن ابن شهاب, عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين, هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية, وما كنت لأصنع ذلك, فخرج من عنده, فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك, فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. قال مالك: قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب. قال: وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك. قال ابن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستذكار: إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طاب لصحبته عبد الملك بن مروان, وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ثم قال أبو عمر: حدثني خلف بن أحمد قراءة عليه: أن خلف بن مطرف حدثهم: حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة, قالوا: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي, حدثني عمي إياس بن عامر, قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني, اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولاداً ثم رغبت في الأخرى فما أصنع ؟ فقال علي رضي الله عنه: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى, قلت: فإن ناساً يقولون: بل تزوجها ثم تطأ الأخرى, فقال علي: أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها, أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد, أو قال: إلا الأربع, ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب, ثم قال أبو عمر: هذا الحديث رحلة, لو لم يصب الرجل من أقصى المغرب أو المشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته. قلت: وقد روي عن علي نحو ما روي عن عثمان. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن العباس, حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي, حدثنا عبد الرحمن بن غزوان, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال لي علي بن أبي طالب: حرمتهما آية وأحلتهما آية ـ يعني الأختين ـ قال ابن عباس: يحرمهن عليّ قرابتي منهن ولا يحرمهن عليّ قرابة بعضهن من بعض, يعني الإماء وكانت الجاهلية يحرمون ما تحرمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. فلما جاء الإسلام أنزل الله {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} يعني في النكاح, ثم قال أبو عمر: روى الإمام أحمد بن حنبل, حدثنا محمد بن سلمة عن هشام, عن ابن سيرين, عن ابن سيرين, قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد, وعن ابن مسعود والشعبي نحو ذلك. قال أبو عمر: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس, ولكنهم اختلف عليهم, ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا العراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب, إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس, وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه, وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} إلى آخر الاَية, أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء, فكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم, وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. وقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات, وهن المزوجات {إلا ما ملكت أيمانكم}, يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن, فإن الاَية نزلت في ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان هو الثوري عن عثمان البتي, عن أبي الخليل, عن أبي سعيد الخدري, قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس, ولهن أزواج, فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج, فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الاَية {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} فاستحللنا بها فروجهن, وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم, ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج, ثلاثتهم عن عثمان البتي, ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سوراي عن عثمان البتي, ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة, كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم, عن أبي سعيد الخدري, فذكره, وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة, عن أبي الخليل, عن أبي سعيد الخدري به. وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل, عن أبي علقمة الهاشمي, عن أبي سعيد الخدري, قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد, عن قتادة, عن أبي الخليل, عن أبي علقمة, عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس, لهن أزواج من أهل الشرك, فكأن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن, قال: فنزلت هذه الاَية في ذلك {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة, زاد مسلم: وشعبة, ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى, ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن, ولا أعلم أن أحداً ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة ـ كذا قال ـ وقد تابعه سعيد وشعبة, والله أعلم.
وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في سبايا خيبر, وذكر مثل حديث أبي سعيد, وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقاً لها من زوجها أخذاً بعموم هذه الاَية, وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى, حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال: كان عبد الله يقول: بيعها طلاقها. ويتلو هذه الاَية {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود, قال: بيعها طلاقها وهو منقطع, ورواه سفيان الثوري عن خالد, عن أبي قلابة, عن ابن مسعود, قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج, فسيدها أحق ببضعها. ورواه سعيد عن قتادة, قال: إن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس, قالوا: بيعها طلاقها. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب ابن علية عن خالد, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: طلاق الأمة ست: بيعها طلاقها, وعتقها طلاقها, وهبتها طلاقها, وبراءتها طلاقها, وطلاق زوجها طلاقها, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله {والمحصنات من النساء} قال: هُنّ ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك, فبيعها طلاقها. قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك, وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن الحسن في قوله {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال إذا كان لها زوج, فبيعها طلاقها. وروى عوف عن الحسن: بيع الأمة طلاقها, وبيعه طلاقها, فهذا قول هؤلاء من السلف, وقد خالفهم الجمهور قديماً وحديثاً, فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقاً لها لأن المشتري نائب عن البائع, والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها, واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما, فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ونجزّت عتقها, ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث, بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, بين الفسخ والبقاء, فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة, فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم, فلما خيرها دل على بقاء النكاح, وأن المراد من الاَية المسبيات فقط, والله أعلم. وقد قيل: المراد بقوله {والمحصنات من النساء} يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي, واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً, حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عمر وعبيدة {والمحصنات من النساء} ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.
وقوله تعالى: {كتاب الله عليكم} أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم, فالزموا كتابه, ولا تخرجوا عن حدوده, والزموا شرعه وما فرضه. وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله {كتاب الله عليكم} يعني الأربع. وقال إبراهيم {كتاب الله عليكم} يعني ما حرم عليكم. وقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} أي ما عدا من ذكرن من المحارم, هن لكم حلال, قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي {وأحل لكم ما وراء ذلكم} ما دون الأربع, وهذا بعيد, والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} يعني ما ملكت أيمانكم, وهذه الاَية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين, وقول من قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية, وقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع, أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي, ولهذا قال {محصنين غير مسافحين}. وقوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} أي كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك, كما قال تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} وكقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}, وكقوله {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئ} وقد استدل بعموم هذه الاَية على نكاح المتعة, ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام, ثم نسخ بعد ذلك, وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ مرتين. وقال آخرون: أكثر من ذلك. وقال آخرون: إنما أبيح مرة ثم نسخ مرة, ثم نسخ, ولم يبح بعد ذلك. وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة, وهو وراية عن الإمام أحمد, وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون {فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة}, وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة, ولكن الجمهور على خلاف ذلك. والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة, وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام. وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني, عن أبيه, أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة, فقال «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء, وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة, فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله, ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» وفي رواية لمسلم: في حجة الوداع, وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام, وقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} من حمل هذه الاَية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى, قال: فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به, وزيادة للجعل, قال السدي: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى, يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما, فقال: أتمتع منك أيضاً بكذا وكذا, فازاد قبل أن يستبرىء رحمها يوم تنقضي المدة, وهو قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}. قال السدي: إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل, وهي منه بريئة وعليها أن تستبرىء ما في رحمها, وليس بينهما ميراث, فلا يرث واحد منهما صاحبه, ومن قال بهذا القول الأول جعل معناه كقوله {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} الاَية, أي إذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه, فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الأعلى, حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه, قال: زعم الحضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر, ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة, فقال: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ. واختار هذا القول ابن جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} والتراضي أن يوفيها صداقها ثم يخيرها, يعني في المقام أو الفراق. وقوله تعالى: {إن الله كان عليماً حكيم} مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 81
81 : تفسير الصفحة رقم 81 من القرآن الكريم** يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً * وَإِنْ أَرَدْتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىَ بَعْضُكُمْ إِلَىَ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً * وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الشيباني عن عكرمة, عن ابن عباس, ـ قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي, ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ـ {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} قال: كانوا إذا مات الرجل, كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها, وإن شاؤوا زوجوها, وإن شاؤوا لم يزوجوها, فهم أحق بها من أهلها, فنزلت هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان, عن عكرمة, وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء, كوفي أعمى, كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي, حدثني علي بن حسين عن أبيه, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله تعالى عن ذلك, أي نهى عن ذلك, تفرد به أبو داود, وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. فقال وكيع عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عن مقسم, عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها, فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها, فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره}. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية, ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها, وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها, وروى العوفي عنه: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم, ألقى ثوبه على امرأته, فورث نكاحها, ولم ينكحها أحد غيره, وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية, فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره}. وقال زيد بن أسلم في الاَية: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية, ورث امرأته من يرث ماله, وكان يعضلها حتى يرثها, أو يزوجها من أراد, وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها, ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها, فنهى الله المؤمنين عن ذلك, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا علي بن المنذر, حدثنا محمد بن فضيل, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, عن أبيه, قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت, أراد ابنه أن يتزوج امرأته, وكان لهم ذلك في الجاهلية, فأنزل الله {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به. ثم روى من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة, حبسها أهله على الصبي يكون فيهم, فنزلت {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} الاَية. وقال ابن جريج: قال مجاهد: كان الرجل إذا توفي, كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها, أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن)عاصم من الأوس, توفي عنها أبو قيس بن الأسلت, فجنح عليها ابنه, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله, لا أنا ورثت زوجي, ولا أنا تركت فأنكح, فأنزل الله هذه الاَية. وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها, جاء وليه فألقى عليها ثوباً, فإن كان له ابن صغير, أو أخ, حبسها حتى يشب, أو تموت فيرثها, فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوباً, نجت, فأنزل الله {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره}. وقال مجاهد في هذه الاَية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها, فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه, رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان, نحو ذلك. قلت: فالاَية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد, ومن وافقه, وكل ما كان فيه نوع من ذلك, والله أعلم. وقوله {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} أي لا تُضَارّوهن في العشرة, لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك, أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ولا تعضلوهن} يقول: ولا تقهروهن {لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} يعني الرجل, تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها, ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي, وكذا قال الضحاك وقتادة, واختاره ابن جرير, وقال ابن المبارك وعبد الرزاق: أخبرنا معمر, قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن البَيْلماني, قال: نزلت هاتان الاَيتان, إحداهما في أمر الجاهلية, والأخرى في أمر الإسلام. قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كره} في الجاهلية, {ولا تعضلوهن} في الإسلام. وقوله {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال: يعني بذلك الزنا, يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها, وتضاجرها حتى تتركه لك, وتخالعها, كما قال تعالى في سورة البقرة: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله} الاَية, وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان, واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان, والنشوز وبذاء اللسان, وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها, وهذا جيد, والله أعلم. وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفرداً به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة} قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت, أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله عن ذلك, أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري: وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية, ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام, وقال عبد الرحمن بن زيد: كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة, فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه, فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد, فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال: فهذا قوله {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} الاَية, وقال مجاهد في قوله {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} أي طيبوا أقوالكم لهن, وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها, فافعل أنت بها مثله, كما قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر, يداعب أهله, ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته, ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, يتودد إليها بذلك, قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته, وذلك قبل أن أحمل اللحم, ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني, فقال «هذه بتلك» ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان, ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها, وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد, يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار, وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام, يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام, ولله الحمد.
وقوله تعالى {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثير} أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه, خير كثير لكم في الدنيا والاَخرة, كما قال ابن عباس في هذه الاَية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً, ويكون في ذلك الولد خير كثير, وفي الحديث الصحيح «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر».
وقوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبين} أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال, وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا. وفي هذه الاَية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل, وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق, ثم رجع عن ذلك, كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين, قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي, قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تَغّلوا في صداق النساء, فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله, كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم, ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية, وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة, ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مُسَيب البصري, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(طريق أخرى عن عمر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد, عن الشعبي, عن مسروق, قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس, ما إكثاركم في صُدُق النساء. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصّدُقات فيما بينهم أربعمائة درهم, فما دون ذلك, ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل, فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين, نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم, قال: نعم, فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال: وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله يقول {وآتيتم إحداهن قنطار} الاَية ؟ قال: فقال: اللهم غفراً, كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم, فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل, إسناده جيد قوي.
(طريق أخرى) قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق, عن قيس بن ربيع, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء, فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر, إن الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطار} ـ من ذهب ـ قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود, {فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئ}, فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
(طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد, ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة من صفة النساء طويلة, في أنفها فطس: ما ذاك لك. قال: ولم ؟ قالت: لأن الله قال {وآتيتم إحداهن قنطار} الاَية, فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكراً {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك ؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد: يعني بذلك الجماع ـ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما «الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب ؟» قالها ثلاثاً, فقال الرجل: يا رسول الله مالي ؟ ـ يعني ما أصدقها ـ قال «لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها, وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها». في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها, فإذا هي حامل من الزنا, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له, فقضى لها بالصداق, وفرق بينهما, وأمر بجلدها, وقال «الولد عبد لك. فالصداق في مقابلة البضع» ولهذا قال تعالى {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض}.
وقال تعالى: {وأخذن منكم ميثاقاً غليظ} روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, أن المراد بذلك العقد. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله {وأخذن منكم ميثاقاً غليظ} قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي, نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الاَية: هو قوله «أخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله» فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة, قال: وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, قال له «جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي» رواه ابن أبي حاتم, وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها «واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
وقال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} الاَية, يحرم الله تعالى زوجات الاَباء تكرمة لهم, وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده, حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها, وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت, عن رجل من الأنصار, قال: لما توفي أبو قيس ـ يعني ابن الأسلت ـ وكان من صالحي الأنصار, فخطب ابنه قيس امرأته, فقالت: إنما أعدك ولداً وأنت من صالحي قومك, ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أبا قيس توفي, فقال «خيراً» ثم قالت: إن ابنه قيساً خطبني, وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولداً فما ترى ؟ فقال لها «ارجعي إلى بيتك», قال: فنزلت {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} الاَية, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخرة, وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف, وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار, وكان عند أبيه خلف, وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف, فخلف عليها صفوان بن أمية. وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الاَباء كان معمولاً به في الجاهلية, ولهذا قال {إلا ما قد سلف} كما قال {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} قال: وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة, تزوج بامرأة أبيه, فأولدها ابنه النضر بن كنانة, قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم «ولدت من نكاح لا من سفاح» قال: فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك, فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً فيما بينهم. فقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي, حدثنا قراد, حدثنا ابن عيينة عن عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين, فأنزل الله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} {وأن تجمعوا بين الأختين}, وهكذا قال عطاء وقتادة, ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر, والله أعلم, وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الاَية, مبشع غاية التبشع, ولهذا قال تعالى: {إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيل} وقال {ولاتقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وقال {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل} فزاد ههنا {ومقت} أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه, ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته, فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله, ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب, بل حقه أعظم من حق الاَباء بالإجماع, بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه . وقال عطاء بن أبي رباح في قوله {ومقت} أي يمقت الله عليه, {وساء سبيل} أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس, فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه, فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب, عن خاله أبي بردة ـ وفي رواية: ابن عمر, وفي رواية: عن عمه ـ أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت, عن البراء بن عازب, قال: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم أين بعثك النبي ؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
(مسألة) وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة, واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع, أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية, فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضاً بذلك, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة, فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب, فجعل يهوي به إلى متاعها, ويقول: هذا المتاع, لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال: لا, ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرسي, وكان فقيهاً, فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد, فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له, ثم قال: نعم ما رأيت, ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري, فدعوته وكان آدم شديد الأدمة, فقال: دونك هذه بيض بها ولدك, قال: وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته, ثم أعتقته, ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه.
** حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الاُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَإِن لّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
هذه الاَية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: حرمت عليكم سبع نسباً وسبع صهراً, وقرأ {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} الاَية¹ وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد, حدثنا أبو أحمد, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن إسماعيل بن رجاء عن عمير, مولى ابن عباس, عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع, ثم قرأ {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} فهن النسب. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى: {وبناتكم} فإنها بنت, فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل, وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتاً شرعية, فكما لم تدخل في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} فإنها لا ترث بالإجماع, فكذلك لا تدخل في هذه الاَية, والله أعلم, وقوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك, كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك, ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن عمرة بنت عبد الرحمن, عن عائشة أم المؤمنين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة», وفي لفظ لمسلم «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب», وقال بعض الفقهاء: كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاعة إلا في أربع صور, وقال بعضهم: ست صور هي مذكورة في كتب الفروع والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك, لأنه يوجد مثل بعضها من النسب, وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر فلا يرد على الحديث شيء أصلاً البتة, ولله الحمد وبه الثقة. ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة, فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الاَية, وهذا قول مالك, ويروى عن ابن عمر, وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وقال آخرون: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات, لما ثبت في صحيح مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه, عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «لا تحرم المصة ولا المصتان» وقال قتادة, عن أبي الخليل, عن عبد الله بن الحارث, عن أم الفضل, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان, والمصة ولا المصتان», وفي لفظ آخر «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» رواه مسلم. وممن ذهب إلى هذا القول: الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه, وأبو عبيد وأبو ثور, وهو مروي عن علي وعائشة وأم الفضل وابن الزبير وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير رحمهم الله. وقال آخرون: لا يحرم أقل من خمس رضعات, لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر, عن عَمْرة, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: كان فيما أنزل من القرآن «عشر رضعات معلومات يحرمن» ثم نسخن بخمس معلومات, فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن, وروى عبد الرزاق عن معمر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة, نحو ذلك. وفي حديث سهلة بنت سهيل, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة خمس رضعات, وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات, وبهذا قال الشافعي وأصحابه, ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله {يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} ثم اختلفوا هل يحرم لبن الفحول, كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم, أو إنما يختص الرضاع بالأم فقط, ولا ينتشر إلى ناحية الأب, كما هو قول لبعض السلف ؟ على قولين, تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير. وقوله {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن, فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم}, أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها, سواء دخل بها أو لم يدخل, وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل, فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها, ولهذا قال {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن, فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} في تزويجهن, فهذا خاص بالربائب وحدهن. وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب, فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها, لقوله {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم}. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن علي رضي الله تعالى عنه, في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها, أيتزوج أمها ؟ قال: هي بمنزلة الربيبة, وحدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن زيد بن ثابت, قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وفي رواية عن قتادة, عن سعيد, عن زيد بن ثابت, أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها, فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل. وقال ابن المنذر: حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق, عن ابن جريج, قال: أخبرني أبو بكر بن حفص عن مسلم بن عويمر الأجدع, أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف, قال: فلم أجامعها حتى توفى عمي عن أمها, وأمها ذات مال كثير, فقال أبي: هل لك في أمها ؟ قال: فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر, فقال: انكح أمها ؟ قال: وسألت ابن عمر, فقال: لا تنكحها, فأخبرت أبي بما قالا, فكتب إلى معاوية فأخبره بما قالا, فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله, ولا أحرم ما أحل الله, وأنت وذاك والنساء سواها كثير. فلم ينه ولم يأذن لي فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عن رجل عن عبد الله بن الزبير, قال: الربيبة والأم سواء لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة, وفي إسناده رجل مبهم لم يسم. وقال ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهداً قال له {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم} أراد بهما الدخول جميعاً, فهذا القول كما ترى مروي عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس, وقد توقف فيه معاوية. وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني فيما نقله الرافعي عن العبادي. وقد روي عن ابن مسعود مثله, ثم رجع عنه, قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري, حدثنا عبد الرزاق عن الثوري, عن أبي فروة, عن أبي عمرو الشيباني, عن ابن مسعود: أن رجلاً من بني كمخ من فزارة تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته. فاستفتى ابن مسعود, فأمره أن يفارقها ثم تزوج أمها, فتزوجها وولدت له أولاداً, ثم أتى ابن مسعود المدينة, فسئل عن ذلك, فأخبر أنها لا تحل له, فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل: إنها عليك حرام ففارقها. وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم, فإنها تحرم بمجرد العقد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن محمد ابن هارون بن عَزْرة, حدثنا عبد الوهاب عن سعيد, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس, أنه كان يقول: إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها, وروي أنه قال: إنها مبهمة, فكرهها. ثم قال:وروي عن ابن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وطاوس وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وابن سيرين وقتادة والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة, وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً, ولله الحمد والمنة ـ قال ابن جرير: والصواب قول من قال: الأم من المبهمات, لأن الله لم يشترط معهن الدخول كما اشترطه مع أمهات الربائب, مع أن ذلك أيضاً إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر غير أن في إسناده نظراً, وهو ما حدثني به المثنى, حدثنا حبان بن موسى, حدثنا ابن المبارك, أخبرنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها, دخل بالبنت أو لم يدخل, وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلقها, فإن شاء تزوج الابنة», ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه, فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره. وأما قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل, أو لم تكن في حجره, قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, كقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصن}. وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان, وفي لفظ لمسلم عزة بنت أبي سفيان, قال «أو تحبين ذلك» ؟ قالت: نعم لست لك بمخلية, وأحب من شاركني في خير أختي, قال «فإن ذلك لا يحل لي». قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة, قال «بنت أم سلمة» ؟ قالت: نعم. قال «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي, إنها لبنت أخي من الرضاعة, أرضعتني وأبا سلمة ثويبة, فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن» وفي رواية للبخاري «إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي», فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة, وحكم بالتحريم لذلك, وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف وقد قيل: بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل, فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, أنبأنا هشام ـ يعني ابن يوسف ـ عن ابن جريج, حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة, أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان, قال: كانت عندي امرأة فتوفيت, وقد ولدت لي فوجدت عليها, فلقيني علي بن أبي طالب فقال: ما لك ؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة ؟ قلت: نعم وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك ؟ قلت: لا, هي بالطائف قال: فانكحها, قلت: فأين قول الله {وربائبكم اللاتي في حجوركم} ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك, هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم, وهو قول غريب جداً, وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله, واختاره ابن حزم, وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله, فاستشكله وتوقف في ذلك, والله أعلم. وقال ابن المنذر, حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قوله {اللاتي في حجوركم}, قال: في بيوتكم, وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس, عن ابن شهاب: أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين, توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر: ما أحب أن أخبرهما جميعاً يريد أن أطأهما جميعاً بملك يميني, وهذا منقطع. وقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا أبو الأحوص, عن طارق بن عبد الرحمن, عن قيس, قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له ؟ فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية, ولم أكن لأفعله. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين, لأن الله حرم ذلك في النكاح, قال {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس, وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. وروى هشام عن قتادة: بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة, وكذا قال قتادة عن أبي العالية, ومعنى قوله {اللاتي دخلتم بهن} أي نكحتموهن, قاله ابن عباس وغير واحد. وقال ابن جريج عن عطاء: هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها. وقلت: أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها ؟ قال: هو سواء, وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها. وقال ابن جرير: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا يحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
وقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم, يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية. كما قال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائكم} الاَية, وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}. قال: كنا نحدث ـ والله أعلم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد, قال المشركون بمكة في ذلك, فأنزل الله عز وجل: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} ونزلت {وما جعل أدعياءكم أبناءكم}, ونزلت {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا الجرح بن الحارث عن الأشعث, عن الحسن بن محمد: أن هؤلاء الاَيات مبهمات {وحلائل أبنائكم} {وأمهات نسائكم}, ثم قال: وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول, نحو ذلك. (قلت) معنى مبهمات أي عامة في المدخول بها وغير المدخول, فتحرم بمجرد العقد عليها, وهذا متفق عليه, فإن قيل: فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة كما هو قول الجمهور, ومن الناس من يحكيه إجماعاً وليس من صلبه, فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} الاَية. أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين معاً في التزويج, وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف, كما قال {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً, وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح, ومن أسلم وتحته أختان, خيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة. قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجَيْشاني, عن الضحاك بن فيروز, عن أبيه, قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان, فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق أحداهما. ثم رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن لهيعة, وأخرجه أبو داود والترمذي أيضاً من حديث يزيد بن أبي حبيب, كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني, قال الترمذي واسمه ديلم بن الهوشع. عن الضحاك بن فيروز الديلمي, عن أبيه به, وفي لفظ للترمذي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اختر أيتهما شئت», ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد رواه ابن ماجه أيضاً بإسناد آخر فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن أبي وهب الجَيْشاني عن أبي خراش الرعيني, قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية, فقال «إذا رجعت فطلق إحداهما» قلت: فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز, ويحتمل أن يكون غيره, فيكون أبو وهب قد)رواه عن اثنين عن فيروز الديلمي, والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى, حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني, حدثنا هيثم بن خارجة, حدثنا يحيى بن إسحاق عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن رُزَيق بن حكيم, عن كثير بن مرة, عن الديلمي, قال: قلت: يا رسول الله, إن تحتي أختين, قال «طلق أيهما شئت», فالديلمي المذكور أولاً هو الضحاك بن فيروز الديلمي قال أبو زرعة الدمشقي: كان يصحب عبد الملك بن مروان, والثاني هو أبو فيروز الديلمي رضي الله عنه, وكان من جملة الأمراء باليمن الذين وَلُوا قتل الأسود العنسي المتنبىء لعنه الله, وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضاً لعموم الاَية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة, عن عبد الله بن أبي عنبة أو عتبة عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين, فكرهه فقال له ـ يعني السائل: يقول الله تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم} فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وبعيرك مما ملكت يمينك. وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم, وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك, عن ابن شهاب, عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين, هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية, وما كنت لأصنع ذلك, فخرج من عنده, فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك, فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. قال مالك: قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب. قال: وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك. قال ابن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستذكار: إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طاب لصحبته عبد الملك بن مروان, وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ثم قال أبو عمر: حدثني خلف بن أحمد قراءة عليه: أن خلف بن مطرف حدثهم: حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة, قالوا: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي, حدثني عمي إياس بن عامر, قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني, اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولاداً ثم رغبت في الأخرى فما أصنع ؟ فقال علي رضي الله عنه: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى, قلت: فإن ناساً يقولون: بل تزوجها ثم تطأ الأخرى, فقال علي: أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها, أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد, أو قال: إلا الأربع, ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب, ثم قال أبو عمر: هذا الحديث رحلة, لو لم يصب الرجل من أقصى المغرب أو المشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته. قلت: وقد روي عن علي نحو ما روي عن عثمان. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن العباس, حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي, حدثنا عبد الرحمن بن غزوان, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال لي علي بن أبي طالب: حرمتهما آية وأحلتهما آية ـ يعني الأختين ـ قال ابن عباس: يحرمهن عليّ قرابتي منهن ولا يحرمهن عليّ قرابة بعضهن من بعض, يعني الإماء وكانت الجاهلية يحرمون ما تحرمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. فلما جاء الإسلام أنزل الله {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} يعني في النكاح, ثم قال أبو عمر: روى الإمام أحمد بن حنبل, حدثنا محمد بن سلمة عن هشام, عن ابن سيرين, عن ابن سيرين, قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد, وعن ابن مسعود والشعبي نحو ذلك. قال أبو عمر: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس, ولكنهم اختلف عليهم, ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا العراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب, إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس, وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه, وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} إلى آخر الاَية, أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء, فكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم, وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. وقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات, وهن المزوجات {إلا ما ملكت أيمانكم}, يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن, فإن الاَية نزلت في ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان هو الثوري عن عثمان البتي, عن أبي الخليل, عن أبي سعيد الخدري, قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس, ولهن أزواج, فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج, فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الاَية {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} فاستحللنا بها فروجهن, وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم, ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج, ثلاثتهم عن عثمان البتي, ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سوراي عن عثمان البتي, ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة, كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم, عن أبي سعيد الخدري, فذكره, وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة, عن أبي الخليل, عن أبي سعيد الخدري به. وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل, عن أبي علقمة الهاشمي, عن أبي سعيد الخدري, قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد, عن قتادة, عن أبي الخليل, عن أبي علقمة, عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس, لهن أزواج من أهل الشرك, فكأن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن, قال: فنزلت هذه الاَية في ذلك {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة, زاد مسلم: وشعبة, ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى, ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن, ولا أعلم أن أحداً ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة ـ كذا قال ـ وقد تابعه سعيد وشعبة, والله أعلم.
وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في سبايا خيبر, وذكر مثل حديث أبي سعيد, وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقاً لها من زوجها أخذاً بعموم هذه الاَية, وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى, حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال: كان عبد الله يقول: بيعها طلاقها. ويتلو هذه الاَية {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود, قال: بيعها طلاقها وهو منقطع, ورواه سفيان الثوري عن خالد, عن أبي قلابة, عن ابن مسعود, قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج, فسيدها أحق ببضعها. ورواه سعيد عن قتادة, قال: إن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس, قالوا: بيعها طلاقها. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب ابن علية عن خالد, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: طلاق الأمة ست: بيعها طلاقها, وعتقها طلاقها, وهبتها طلاقها, وبراءتها طلاقها, وطلاق زوجها طلاقها, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله {والمحصنات من النساء} قال: هُنّ ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك, فبيعها طلاقها. قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك, وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن الحسن في قوله {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال إذا كان لها زوج, فبيعها طلاقها. وروى عوف عن الحسن: بيع الأمة طلاقها, وبيعه طلاقها, فهذا قول هؤلاء من السلف, وقد خالفهم الجمهور قديماً وحديثاً, فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقاً لها لأن المشتري نائب عن البائع, والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها, واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما, فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ونجزّت عتقها, ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث, بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, بين الفسخ والبقاء, فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة, فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم, فلما خيرها دل على بقاء النكاح, وأن المراد من الاَية المسبيات فقط, والله أعلم. وقد قيل: المراد بقوله {والمحصنات من النساء} يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي, واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً, حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عمر وعبيدة {والمحصنات من النساء} ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.
وقوله تعالى: {كتاب الله عليكم} أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم, فالزموا كتابه, ولا تخرجوا عن حدوده, والزموا شرعه وما فرضه. وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله {كتاب الله عليكم} يعني الأربع. وقال إبراهيم {كتاب الله عليكم} يعني ما حرم عليكم. وقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} أي ما عدا من ذكرن من المحارم, هن لكم حلال, قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي {وأحل لكم ما وراء ذلكم} ما دون الأربع, وهذا بعيد, والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} يعني ما ملكت أيمانكم, وهذه الاَية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين, وقول من قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية, وقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع, أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي, ولهذا قال {محصنين غير مسافحين}. وقوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} أي كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك, كما قال تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} وكقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}, وكقوله {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئ} وقد استدل بعموم هذه الاَية على نكاح المتعة, ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام, ثم نسخ بعد ذلك, وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ مرتين. وقال آخرون: أكثر من ذلك. وقال آخرون: إنما أبيح مرة ثم نسخ مرة, ثم نسخ, ولم يبح بعد ذلك. وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة, وهو وراية عن الإمام أحمد, وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون {فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة}, وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة, ولكن الجمهور على خلاف ذلك. والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة, وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام. وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني, عن أبيه, أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة, فقال «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء, وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة, فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله, ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» وفي رواية لمسلم: في حجة الوداع, وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام, وقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} من حمل هذه الاَية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى, قال: فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به, وزيادة للجعل, قال السدي: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى, يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما, فقال: أتمتع منك أيضاً بكذا وكذا, فازاد قبل أن يستبرىء رحمها يوم تنقضي المدة, وهو قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}. قال السدي: إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل, وهي منه بريئة وعليها أن تستبرىء ما في رحمها, وليس بينهما ميراث, فلا يرث واحد منهما صاحبه, ومن قال بهذا القول الأول جعل معناه كقوله {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} الاَية, أي إذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه, فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الأعلى, حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه, قال: زعم الحضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر, ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة, فقال: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ. واختار هذا القول ابن جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} والتراضي أن يوفيها صداقها ثم يخيرها, يعني في المقام أو الفراق. وقوله تعالى: {إن الله كان عليماً حكيم} مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.
الصفحة رقم 81 من المصحف تحميل و استماع mp3