تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 94 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 94

94 : تفسير الصفحة رقم 94 من القرآن الكريم

** لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً
قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء, قال لما نزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فكتبها, فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته, فأنزل الله {غير أولي الضرر}, حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء, قال: لما نزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} قال النبي صلى الله عليه وسلم ادع فلاناً, فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف, فقال اكتب {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل} وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم, فقال يا رسول الله, أنا ضرير, فنزلت مكانها {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} قال البخاري أيضاً: حدثنا إسماعيل بن عبد الله, حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان, عن ابن شهاب, حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد, قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه, فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى علي {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي, قال: يا رسول الله, والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت, وكان أعمى, فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم, وكان فخذه على فخذي فثقلت علي خفت أن ترض فخدي, ثم سري عنه, فأنزل الله {غير أولي الضرر} تفرد به البخاري دون مسلم, وقد روي من وجه آخر عند الإمام أحمد عن زيد فقال: حدثنا سليمان بن داود, أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن خارجة بن زيد, قال: قال زيد بن ثابت: إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه وغشيته السكينة, قال: فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة, قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئاً قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه, فقال: اكتب يا زيد, فأخذت كتفاً, فقال: اكتب {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون} إلى قوله: {أجراً عظيم} فكتبت ذلك في كتف, فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى, فقام حين سمع فضيلة المجاهدين, وقال: يا رسول الله, وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك ؟ قال زيد: فوالله ما قضى كلامه ـ أو ماهو إلا أن قضى كلامه ـ غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة,فوقعت فخذه على فخذي, فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى, ثم سري عنه, فقال: اقرأ فقرأت عليه {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون} فقال النبي صلى الله عليه وسلم {غير أولي الضرر}, قال زيد: فألحقتها,فوالله كأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف, ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور, عن عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن أبيه, عن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه, به نحوه.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر, أنبأنا الزهري, عن قبيصة بن ذؤيب, عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اكتب {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاء عبد الله بن أم مكتوم, فقال: يا رسول الله, إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى, قد ذهب بصري, قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه, ثم قال: «اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله», ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج, أخبرني عبد الكريم هو ابن مالك الجزري, أن مقسماً مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} عن بدر والخارجون إلى بدر, انفرد به البخاري دون مسلم, وقد رواه الترمذي من طريق حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الكريم, عن مقسم, عن ابن عباس, قال: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} عن بدر والخارجون إلى بدر, ولما نزلت غزوة بدر, قال عبد الله بن حجش وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله, فهل لنا رخصة ؟ فنزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر, {وفضل اللهالمجاهدين على القاعدين أجراً عظيما درجات منه} على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر, هذا لفظ الترمذي. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا ا لوجه, فقوله: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} كان مطلقاً, فلما نزل بوحي سريع {غير أولي الضرر}, صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد)من العمى والعرج والمرض, عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين, قال ابن عباس: {غير أولي الضرر}, وكذا ينبغي أن يكون, كما ثبت في صحيح البخاري من طريق زهير بن معاوية, عن حميد, عن أنس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه, قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال: نعم حبسهم العذر», وهكذا رواه أحمد عن محمد بن أبي عدي, عن حميد, عن أنس به, وعلقه البخاري مجزوماً, ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد, عن موسى بن أنس بن مالك, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه», قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله ؟ قال: «نعم حبسهم العذر» لفظ أبي داود, وفي هذا المعنى قال الشاعر:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقدسرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاإنا أقمنا على عذر وعن قدرومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله: {وكلاً وعد الله الحسنى} أي الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين, بل هو فرض على الكفاية. قال تعالى: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيم} ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات, في غرف الجنان العاليات, ومغفرة الذنوب والزلات, وحلول الرحمة والبركات, إحساناً منه وتكريماً, ولهذا قال: {درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيم}.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله, ما بين كل درجتين كما بين السماء الأرض». وقال الأعمش عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رمى بسهم فله أجره درجة» فقال رجل: يا رسول الله, وما الدرجة ؟ فقال: «أما إنها ليست بعتبة أمك. ما بين الدرجتين مائة عام}.

** إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِيَ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء, حدثنا حيوة وغيره, قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود, قال: قطع على أهل المدينة بعث, فاكتتبت فيه, فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته, فنهاني عن ذلك أشد النهي, قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم, فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل, فأنزل الله {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}, وراه الليث عن أبي الأسود. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري, حدثنا محمد بن شريك المكي, حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام, فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم بفعل بعض. قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم, فنزلت {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} الاَية. قال عكرمة: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الاَية لا عذر لهم. قال: فخرجوا, فلحقهم المشركون, فأعطوهم التقية, فنزلت هذه الاَية {ومن الناس من يقول آمنا بالله} الاَية. قال عكرمة: نزلت هذه الاَية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالإسلام بمكة منهم علي بن أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبّه بن الحجاج والحارث بن زمعة, قال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب, فنزلت هذه الاَية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين, وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع, وبنص هذه الاَية, حيث يقول تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} أي بترك الهجرة {قالوا فيم كنتم} أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة {قالوا كنا مستضعفين في الأرض} أي لا نقدر على الخروج من البلد, ولا الذهاب في الأرض {قالوا ألم تكن أرض الله واسعة} الاَية, وقال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان, حدثني يحيى بن حسان, أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود, حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب, حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة, عن سمرة بن جندب, أما بعد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله», وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «افد نفسك وابن أخيك» فقال: يا رسول الله, ألم نصل إلى قبلتك, ونشهد شهادتك, قال «يا عباس, إنكم خاصمتم فخصمتم», ثم تلا عليه هذه الاية {ألم تكن أرض الله واسعة} الاَية, وراه ابن أبي حاتم.
وقوله: {إلا المستضعفين} إلى آخر الاَية, هذه عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة, وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين, ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق, ولهذا قال: {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيل}, قال مجاهد وعكرمة والسدي: يعني طريقاً.
وقوله تعالى: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} أي يتجاوز من الله عنهم بترك الهجرة, عسى من الله موجبة, {وكان الله عفواً غفور}, قال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا شيبان عن يحيى, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده, ثم قال قبل أن يسجد «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة, اللهم أنج سلمة بن هشام, اللهم أنج الوليد بن الوليد, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين, اللهم اشدد وطأتك على مضر, اللهم اجعلها سنين كسني يوسف».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو معمر المقري, حدثني عبد الوارث, حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة, فقال: «اللهم خلص الوليد بن الوليد, وعياش بن أبي ربيعة, وسلمة بن هشام, وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً من أيدي الكفار». وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا حجاج, حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر «اللهم خلص الوليد, وسلمة بن هشام, وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا», ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد, قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. وقال البخاري: أنبأنا أبو النعمان, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة, عن ابن عباس {إلا المستضعفين} قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل.
وقوله: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}, هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه, والمراغم مصدر تقول العرب: راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة, قال النابغة بن جعدة:
كطود يلاذ بأركانهعزيز المراغم والمهرب

وقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض. وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري. وقال مجاهد: {مراغماً كثير} يعني متزحزحاً عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: مراغماً كثيراً يعني بروجاً, والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه المنع الذي يُتحصّن به ويراغم به الأعداء. قوله {وسعة} يعني الرزق, قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال: في قوله: {يجد في الأرض مراغماً كثيرة وسعة} أي من الضلالة إلى الهدى, ومن القلة إلى الغنى, وقوله: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر, كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن علقمة بن وقاص الليثي, عن عمر بن الخطاب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها, أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه». وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً: هل له من توبة ؟ فقال له, ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه. فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الاَخر أدركه الموت في أثناء الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً, وقال هؤلاء إنه لم يصل بعد, فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها, فأمر الله هذه أن تقترب من هذه, وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر, فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم, عن محمد بن عبد الله بن عتيك, عن أبيه عبد الله بن عتيك, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله, ثم قال: ـ وأين المجاهدون في سبيل الله ـ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله, أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ـ يعني بحتف أنفه على فراشه, والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ومن قتل قعصاً فقد استوجب الجنة». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي, حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي, عن المنذر بن عبدالله عن هشام بن عروة عن أبيه, أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيم}, قال الزبير, فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة, فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني, لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله, أو ذوي رحمه, ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى, ولا أرجو غيره, وهذا الأثر غريب جداً, فإن هذه القصة مكية, ونزول هذه الاَية مدنية, فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره وإن لم يكن ذلك سبب النزول, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر, حدثنا سهل بن عثمان, حدثنا عبد الرحمن بن سليمان, حدثنا أشعث هو ابن سوار, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله} الاَية, وحدثنا أبي, حدثنا عبدالله بن رجاء, أنبأنا إسرائيل عن سالم, عن سعيد بن جبير, عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة, فلما نزلت {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة} فقلت: إني لغني, وإني لذو حيلة, فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم, فنزلت هذه الاَية {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت} الاَية.
وقال الطبراني: حدثنا الحسن بن عروبة البصري, حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا ابن ثوبان عن أبيه, حدثنا مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري, أنبأنا أبو مالك, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قال: من انتدب خارجاً في سبيلي غازياً ابتغاء وجهي, وتصديق وعدي, وإيماناً برسلي فهو في ضمان على الله, إما أن يتوفاه بالجيش فيدخله الجنة, وإما أن يرجع في ضمان الله, وإن طالب عبداً فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر, أو غنيمة, ونال من فضل الله فمات, أو قتل, أو رفصته فرسه, أو بعيره, أو لدغته هامة, أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله, فهو شهيد». وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره, وزاد بعد قوله: فهو شهيد, وإن له الجنة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن زياد سبَلان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا محمد بن إسحاق عن حميد بن أبي حميد, عن عطاء بن يزيد الليثي, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج حاجاً فمات, كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة, ومن خرج معتمراً فمات, كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة, ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات, كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة». وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

** وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مّبِيناً
يقول تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} أي سافرتم في البلاد, كما قال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} الاَية. وقوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الاَية, واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك, فمن قائل: لا بد أن يكون سفر طاعة من جهاد, أو حج, أو عمرة, أو طلب علم, أو زيارة, وغير ذلك, كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه, لظاهر قوله: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفرو}, ومن قائل: لا يشترط سفر القربة, بل لا بد أن يكون مباحاً, لقوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} الاَية, كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصياً بسفره, وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة, وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن إبراهيم, قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله, إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين, فأمره أن يصلي ركعتين, وهذا مرسل, ومن قائل: يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر, وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الاَية وخالفهم الجمهور.
وأما قوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفرو} فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الاَية, فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة, بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام, أو في سرية خاصة. وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله, والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له, كقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصن}, وكقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} الاَية, وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إدريس, حدثنا ابن جريج عن ابن أبي عمار, عن عبد الله بن بابيه, عن يعلى بن أمية, قالت: سألت عمر بن الخطاب قلت له: قوله: {وليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفرو} وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه, فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر, ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ورجاله معروفون. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو نعيم, حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء, قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر, فقال: ركعتان, فقلت: أين قوله: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفرو} ونحن آمنون ؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى, حدثنا علي بن محمد بن سعيد: حدثنا منجاب, حدثنا شريك عن قيس بن وهب, عن أبي الوداك, قال: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال: هي رخصة نزلت من السماء, فإن شئتم فردوها. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا ابن عون عن ابن سيرين, عن ابن عباس, قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين. وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى, عن خالد الحذاء, عن عبد الله بن عون به. قال أبو عمر بن عبد البر: وهكذا رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين, عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قلت وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة, عن هشيم, عن منصور, عن زاذان, عن محمد بن سيرين, عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين, فصلى ركعتين, ثم قال الترمذي: صحيح, وقال البخاري: حدثنا أبو معمر, حدثنا عبد الوارث, حدثنا يحيى بن أبي إسحاق, قال: سمعت أنساً يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة, قلت أقمتم بمكة شيئاً ؟ قال: أقمنا بها عشراً.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي به. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن أبي إسحاق, عن حارثة بن وهب الخزاعي, قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس, وآمنه ركعيتن. ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عنه به, ولفظ البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة, أنبأنا أبو إسحاق, سمعت حارثة بن وهب, قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين, وقال البخاري: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى, حدثنا عبيد الله, أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر, قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين, وأبي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته, ثم أتمها, وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به. وقال البخاري: حدثنا قتيبة, حدثنا عبد الواحد عن الأعمش, حدثنا إبراهيم سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات, فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع, ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين, وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين, فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ورواه البخاري أيضاً من حديث الثوري عن الأعمش به وأخرجه مسلم من طرق عنه منها عن قتيبة كما تقدم.
فهذه الأحاديث دالة صريحاً على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف, ولهذا قال من قال من العلماء: إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية, وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه, واعتضدوا أيضاً بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان, عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر, فأقرت صلاة السفر, وزيدت في صلاة الحضر, وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي, ومسلم عن يحيى بن يحيى, وأبو داود عن القعنبي, والنسائي عن قتيبة, أربعتهم عن مالك به, قالوا: فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين, فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية, لأن ما هو الأصل لا يقال فيه: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عن زبيد اليامي, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن عمر رضي الله عنه, قال: صلاة السفر ركعتان, وصلاة الأضحى ركعتان, وصلاة الفطر ركعتان, وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر, على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به, وهذا إسناد على شرط مسلم.
وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر, وقد جاء مصرحاً به في هذا الحديث وفي غيره, وهو الصواب إن شاء الله, وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا, إنه لم يسمع منه, وعلى هذا أيضاً: فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن الثقة, عن عمر, فذكره, وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد, عن عبد الرحمن, عن كعب بن عجرة, عن عمر, فالله أعلم. وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري, زاد مسلم والنسائي: وأيوب بن عائد, كلاهما عن بكير بن الأخنس, عن مجاهد, عن عبد الله بن عباس, قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً, وفي السفر ركعتين, وفي الخوف ركعة, فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر. ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه, فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما, ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها, لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان, ولكن زيد في صلاة الحضر, فلما استقر ذلك, صح أن يقال: إن فرض صلاة الحضر أربع, كما قاله ابن عباس ـ والله أعلم ـ لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان, وأنها تامة غير مقصورة, كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه, وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} قصر الكيفية كما في صلاة الخوف, ولهذا قال: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفرو} الاَية, ولهذا قال بعدها: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الاَية, فبين المقصود من القصر ههنا, وذكر صفته وكيفيته, ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} إلى قوله: {إن الله أعد للكافرين عذاباً مهين}, وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} قال: ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال أسباط عن السدي في قوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} الاَية, إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر, فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان, والمشركون بضجنان, فتوافقوا, فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم, وسجودهم, وقيامهم معاً جميعاً فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم, روى ذلك ابن أبي حاتم, ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي وعن جابر وابن عمر, واختار ذلك أيضاً فإنه قال بعدما حكاه من الأقوال في ذلك: وهو الصواب.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا ابن أبي فديك, حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب, عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف, ولا نجد قصر صلاة المسافر, فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به, فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الاَية عليها لا على قصر صلاة المسافر, وأقره ابن عمر على ذلك, واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن, وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضاً: حدثنا أحمد بن الوليد القرشي, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر, فقال: ركعتان تمام غير قصر, إنما القصر في صلاة المخافة, فقلت: وما صلاة المخافة ؟ فقال: يصلي الإمام بطائفة ركعة, ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء, ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء, فيصلي بهم ركعة, فيكون للإمام ركعتان, ولكل طائفة ركعة ركعة.