تفسير الطبري تفسير الصفحة 94 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 94
095
093
 الآية : 95
القول في تأويل قوله تعالى: {لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ}: لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله, المؤثرون الدعة والخفض والقعود في منازلهم على مقاساة حزونة الأسفار والسير في الأرض ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله وقتالهم في طاعة الله, إلا أهل العذر منهم بذهاب أبصارهم, وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها للضرر الذي بهم إلى قتالهم وجهادهم في سبيل الله والمجاهدون في سبيل الله, ومنهاج دينه, لتكون كلمة الله هي العليا, المستفرغون طاقتهم في قتال أعداء الله وأعداء دينهم بأموالهم, إنفاقا لها فيما أوهن كيد أعداء أهل الإيمان بالله وبأنفسهم, مباشرة بها قتالهم, بما تكون به كلمة الله العالية, وكلمة الذين كفروا السافلة.
واختلفت القراء في قراءة قوله: {غيرَ أُولي الضّرَرِ}¹ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة ومكة والشام: «غيرَ أُولي الضّرَرِ} نصبا, بمعنى: إلا أولي الضرر. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل العراق والكوفة والبصرة: {غيرُ أُولي الضّرَرِ} برفع «غيرُ» على مذهب النعت للقاعدين.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: «غيرَ أُولي الضّرَرِ» بنصب غيرَ, لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله: «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ» نزل بعد قوله: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ} استثناء من قوله: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ}. ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك:
8180ـ حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن أبي إسحاق, عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ائْتُونِي بالكَتِفِ وَاللّوْحِ»! فَكَتبَ: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ} وعمرو بن أمّ مكتوم خلف ظهره, فقال: هل لي من رخصة يا رسول الله؟ فنزلت: «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ».
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو كبر بن عياش, عن أبي إسحاق, عن البراء, قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} جاء ابن أمّ مكتوم وكان أعمى, فقال: يا رسول الله كيف وأنا أعمى؟ فما برح حتى نزلت: «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ».
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب في قوله: «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ» قال: لما نزلت جاء عمرو بن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, وكان ضرير البصر, فقال: يا رسول الله ما تأمرني, فإني ضرير البصر؟ فأنزل الله هذه الاَية, فقال: «ائتُونِي بالكَتفِ والدّوَاةِ, أوِ اللّوْحِ وَالدّوَاةِ».
حدثني محمد بن إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي, قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن المغيرة, قال: حدثنا مسعر, عن أبي إسحاق, عن البراء أنه لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} كلمه ابن أمّ مكتوم, فأنزلت: «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ».
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبو إسحاق أنه سمع البراء يقول في هذه الاَية: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا, فجاء بكتف فكتبها, قال: فشكى إليه ابن أمّ مكتوم ضَرَارَتَهُ, فنزلت: «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضّرَرِ».
قال شعبة: وأخبرني سعد بن إبراهيم, عن أبيه, عن رجل, عن زيد في هذه الاَية: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ} مثل حديث البراء.
8181ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا إسحاق بن سليمان, عن أبي سنان الشيباني, عن ابن إسحاق, عن زيد بن أرقم, قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} جاء ابن أمّ مكتوم, فقال: يا رسول الله مالي رخصة؟ قال: «لا»قال: ابن أمّ مكتوم: اللهمّ إني ضرير فرخّص! فأنزل الله: «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ», وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبها, يعني الكاتب.
8182ـ حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم, قالا: حدثنا بشر بن المفضل, عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن الزهري, عن سهل بن سعد, قال: رأيت مروان بن الحكم جالسا, فجئت حتى جلست إليه, فحدثنا عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمِجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} قال: فجاء ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ, فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت! قال: فأنزل عليه وفخذه على فخذي, فثقلت, فظننت أن ترضّ فخذي, ثم سُرّي عنه, فقال: «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ».
8183ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, عن قبيصة ابن ذؤيب, عن زيد بن ثابت, قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «اكْتُبْ: لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ»! فجاء عبد الله بن أمّ مكتوم, فقال: يا رسول الله إني أحبّ الجهاد في سبل الله, ولكن بي من الزمانة ما قد ترى, قد ذهب بصري. قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يرضها, ثم قال: «اكْتُبْ: لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ».
8184ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: أخبرني عبد الكريم: أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره, قال: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر.
8185ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا حسين, قال: ثني حجاج, قال: أخبرني عبد الكريم أنه سمع مقسما يحدّث عن ابن عباس أنه سمعه يقول: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر. لما نزلت غزوة بدر, قال عبد الله بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي: يا رسول الله, إننا أعميان, فهل لنا رخصة؟ فنزلت: «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ فَضّل اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً».
8186ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ} فسمع بذلك عبد الله بن أمّ مكتوم الأعمى, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, قد أنزل الله في الجهاد ما قد علمت وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد, فهل لي من رخصة عند الله إن قعدت؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أُمِرْتُ فِي شأْنِكَ بِشَيءٍ وَما أدْري هَلْ يَكُونُ لَكَ ولأصحَابِكَ مِنْ رُخْصَةٍ!» فقال ابن أمّ مكتوم: اللهمّ إني أنشدك بصري! فأنزل الله بعد ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم, فقال: «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّهِ»... إلى قوله: {على القاعِدِينَ دَرَجَةً}.
8187ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد, قال: نزلت: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} فقال رجل أعمى: يا نبيّ الله فأنا أحبّ الجهاد ولا أستطيع أن أجاهد! فنزلت: «غَيْرَ أُولي الضّرَرَ».
8188ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن عبد الله بن شداد, قال: لما نزلت هذه الاَية في الجهاد: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} قال عبد الله بن أمّ مكتوم: يا رسول الله إني ضرير كما ترى! فنزلت: «غَيْرَ أُولي الضّرَر».
8189ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر} عذر الله أهل العذر من الناس, فقال: «غَيْرَ أُولي الضّرَر» كان منهم ابن أمّ مكتوم, {وَالمجاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ}.
8190ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ}... إلى قوله: {وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى} لما ذكر فضل الجهاد, قال ابن أمّ مكتوم: يا رسول الله إني أعمى ولا أطيق الجهاد! فأنزل الله فيه: «غَيْرَ أُولي الضّرَر».
8191ـ حدثني المثنى, قثال: حدثنا محمد بن عبد اللهالنفيلي, قال: حدثنا زهير بن معاوية, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء, قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «ادْعُ لي زَيْدا وَقُلْ لَهُ يَأْتِي ـ أوْ يَجِيـىءُ بالكَتِف والدّوَاة ـ أو اللّوْح والدّواة, الشكّ من زهير اكتب: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ}» فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول الله إن بعينيّ ضررا! فنزلت قبل أن يبرح «غَيْرَ أُولي الضّرَر».
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن رجاء البصري, قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء بنحوه, إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادْعُ لي زَيْدا وَلْيَجِئْني مَعَهُ بِكَتفٍ وَدَوَاةٍ, أو لَوْحٍ وَدَوَاةٍ».
8192ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن زياد بن فياض, عن أبي عبد الرحمن, قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ} قال عمرو بن أمّ مكتوم: يا ربّ ابتليتني فكيف أصنع؟ فنزلت: «غَيْرَ أُولي الضّرَر».
وكان ابن عباس يقول في معنى: «غَيْرَ أُولي الضّرَر» نحوا مما قلنا.
8193ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قا: ثني معاوية, عن عليّ عن ابن عباس, قوله: «غَيْرَ أُولي الضّرَر» قال: أهل الضرر.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً} فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة, يعني فضيلة واحدة, وذلك بفضل جهاد بنفسه, فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان. كما:
8194ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك أنه سمع ابن جريج يقول في: {فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً} قال: على أهل الضرر.
القول في تأويل قوله: {وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعدِينَ أجْرا عَظيم}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى}: وعد الله الكلّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم, والقاعدين من أهل الضرر الحسنى. ويعني جلّ ثناؤه بالحسنى: الجنة¹ كما:
8195ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى} وهي الجنة, والله يؤتي كلّ ذي فضل فضله.
8196ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: قال: الحسنى: الجنة.
وأما قوله: {وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيم} فإنه يعني: وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما. كما:
8197ـ حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: {وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما دَرَجاتٍ مِنْه وَمَغْفِرَةً} قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.
الآية : 96
القول في تأويل قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً }..
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {دَرَجاتٍ مِنْهُ}: فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة.
واختلف أهل التأويل في معنى الدرجات التي قال جلّ ثناؤه {دَرَجاتٍ مِنْهُ}. فقال بعضهم بما:
8198ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَحَمَةً} كان يقال: الإسلام درجة, والهجرة في الإسلام درجة, والجهاد في الهجرة درجة, والقتل في الجهاد درجة.
وقال آخرون بما:
8199ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألت ابن زيد عن قول الله تعالى: {وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما دَرَجاتٍ مِنْه} الدرجات: هي السبع التي ذكرها في سورة براءة: {ما كانَ لأهلِ المدينةِ ومَنْ حَوْلهمْ مِنَ الأعراب أنْ يتَخلّفُوا عنْ رسُولِ اللّهِ ولا يَرْغبُوا بأنفُسهِمْ عنْ نَفسِهِ ذلك بَأَنهمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمأٌ ولا نَصبٌ} فقرأ حتى بلغ: {أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}. قال هذه السبع الدرجات. قال: وكان أوّل شيء, فكانت درجة الجهاد مجملة, فكان الذي جاهد بماله له اسم في هذه, فلما جاءت هذه الدرجات بالتفضيل أخرج منها, فلم يكن له منها إلا النفقة. فقرأ: {لا يُصيبُهُمْ ظَمأٌ وَلا نَصَبٌ} وقال: ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ: {ولاَ يُنفِقُونَ نفقةً} قال: وهذه نفقة القاعد.
وقال آخرون: عُني بذلك درجات الجنة. ذكر من قال ذلك:
8200ـ حدثنا عليّ بن الحسن الأزدي, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن هشام بن حسان, عن جبلة بن سُحيم, عن ابن محيريز في قوله: {فَضّلَ اللّه المُجاهِدينَ على القاعِدينَ}... إلى قوله: {دَرَجاتٍ} قال: الدرجات: سبعون درجة, ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرس الجواد المضمّر سبعين سنة.
وأولى التأويلات بتأويل قوله¹ {دَرَجاتٍ مِنْه} أن يكون معنيّا به درجات الجنة, كما قال ابن محيريز¹ لأن قوله تعالى ذكره: {دَرَجاتٍ مِنْهُ} ترجمة وبيان عن قوله: {أجْرا عَظِيم}, ومعلوم أن الأجر إنما هو الثواب والجزاء, وإذا كان ذلك كذلك, وكانت الدرجات والمغفرة والرحمة ترجمة عنه, كان معلوما أن لا وجه لقول من وجه معنى قوله: {دَرَجاتٍ مِنْه} إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد كما قال قتادة وابن زيد. وإذا كان ذلك كذلك, وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا, فبيّن أن معنى الكلام: وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما وثوابا جزيلاً, وهو درجات أعطاهموها في الاَخرة من درجات الجنة, رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله. {وَمغفرةً} يقول: وصفح لهم عن ذنوبهم, فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها. {ورحمةً} يقول: ورأفة بهم. {وكانع اللّهُ غَفُورا رَحِيم} يقول: ولم يزل الله غفورا لذنوب عباده المؤمنين, فيصفح لهم عن العقوبة عليها {رَحِيم} بهم, يتفضل عليهم بنعمه, مع خلافهم أمره ونهيه وركوبهم معاصيه.
الآية : 97-99
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِيَ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ}: إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة {ظالِمِي أنْفُسِهِمْ} يعني: مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه. وقد بينا معنى الظلم فيما مضى قبل. {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} يقول: قالت الملائكة لهم: فيم كنتم, في أيّ شيء كنتم من دينكم. {قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض} يعني: قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضعفين في الأرض, يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوّتهم, فيمنعونا من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم, معذرةٌ ضعيفة وحجةٌ واهية. {قَالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيه} يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم, وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض التي يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله, فتوحدوا الله فيها وتعبدوه, وتتبعوا نبيه؟ يقول الله جلّ ثناؤه: {فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ}: أي فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم, الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم, مأواهم جهنم, يقول: مصيرهم في الاَخرة جهنم, وهي مسكنهم. {وَساءَتْ مَصير} يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى. ثم استثنى جلّ ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون من الرجال والنساء والولدان, وهم العجزة عن الهجرة بالعسرة وقلة الحيلة وسوء البصر والمعرفة بالطريق من أرضهم أرض الشرك إلى أرض الإسلام من القوم الذين أخبر جلّ ثناؤه أن مأواهم جهنم أن تكون جهنم مأواهم, للعذر الذي هم فيه, على ما بينه تعالى ذكره. ونصب المستضعفين على الاستثناء من الهاء والميم اللتين في قوله: {فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ}, يقول الله جلّ ثناؤه: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} يعني: هؤلاء المستضعفين, يقول: لعلّ الله أن يعفو عنهم للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون, فيتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة, إذ لم يتركوها اختيارا ولا إيثارا منهم لدار الكفر على دار الإسلام, ولكن للعجز الذي هم فيه عن النقلة عنها. {وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُور} يقول: ولم يزل الله عفوّا, يعني ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بتركه العقوبة عليها, غفورا ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. وذكر أن هاتين الاَيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله, وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر, وعُرض بعضهم على الفتنة فافتتن, وشهد مع المشركين حرب المسلمين, فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها, التي بينها في قوله خبرا عنهم: {قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ}.
ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا من نزول الاَية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم:
8201ـ حدثنا أبو هشام الرفاعي, قال: حدثنا ابن فضيل, قال: حدثنا أشعث, عن عكرمة: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} قال: كان ناس من أهل مكة أسلموا, فمن مات منهم بها هلك, قال الله: {فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَساءَتْ مَصيرا إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّسَاء وَالوِلْدانِ} إلى قوله: {عَفُوّا غَفُور} قال ابن عباس: فأنا منهم وأمي منهم, قال عكرمة: وكان العباس منهم.
8202ـ حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا محمد بن شريك, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا, وكانوا يستخفون بالإسلام, فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم, فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا, فاستغفروا لهم. فنزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}... الاَية, قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الاَية, وأنه لا عذر لهم. قال: فخرجوا, فلحقهم المشركون, فأعطوهم الفتنة, فنزلت فيهم: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ}... إلى آخر الاَية, فكتب المسلمون إليهم بذلك, فحزنوا وأيسوا من كلّ خير, ثم نزلت فيهم: {ثُمّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَروا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبُروا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا. فخرجوا, فأدركهم المشركون, فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقُتل من قتل.
8203ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني حيوة ـ أو ابن لهيعة, الشكّ من يونس عن أبي الأسود, أنه سمع مولى لابن عباس يقول عن ابن عباس: إن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم, فيأتى السهم يُرْمَى به, فيصيب أحدهم فيقتله, أو يضرب فيقتل, فأنزل الله فيهم: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}, حتى بلغ: {فَتُهاجِرُوا فِيهَ}.
8204ـ حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء قال: أخبرنا حيوة, قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسديّ, قال: قُطع على أهل المدينة بعث, فاكتتبتُ فيه, فلقيت عكرمة مولى ابن عباس, فنهاني عن ذلك أشدّ النهي. ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين¹ ثم ذكر مثل حديث يونس عن ابن وهب.
8205ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} هم قوم تخلفوا بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه, فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودُبُره.
8206ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}... إلى قوله: {وَساءَتْ مَصير} قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج وعليّ بن أمية بن خلف. قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وغير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وأن يطلبوا ما نِيلَ منهم يوم نخلة, خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد, فقتلوا ببدر كفارا, ورجعوا عن الإسلام, وهم هؤلاء الذين سميناهم. قال ابن جريج وقال مجاهد: نزلت هذه الاَية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش. قال ابن جريج وقال عكرمة: لما نزل القرآن في هؤلاء النفر, إلى قوله: {وَساءَتْ مَصيرا إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ} قال: يعني: الشيخ الكبير, والعجوز والجواري والصغار والغلمان.
8207ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... إلى قوله: {وَساءَتْ مَصير} قال: لما أسر العباس وعقيل ونوفل, قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «افْدِ نفسكَ وابنَ أخيكَ!» قال: يا رسول الله ألم نصلّ قبلتك, ونشهد شهادتك؟ قال: «يا عَبّاسُ أنّكُمْ خاصَمْتُمْ فَخُصِمْتُمْ», ثم تلا هذه الاَية: {ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فأولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَساءَتْ مَصير} فيوم نزلت هذه الاَية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر, إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً, حيلة في المال, والسبيل: الطريق. قال ابن عباس: كنت أنا منهم من الولدان.
8208ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, قال: سمعت عكرمة يقول: كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله, فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم, فقتلوا, فنزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... إلى قوله: {أُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُور} فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين الذين بمكة. قال: فخرج ناس من المسلمين حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون فأدركوهم, فمنهم من أعطى الفتنة, فأنزل الله فيهم: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُوْلُ آمَنّا باللّهِ فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ}. فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة, وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة: {ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَروا مِنْ بَعْد ما فُتِنُوا ثّم جاهَدُو}... إلى {غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قال ابن عيينة: أخبرني محمد بن إسحاق في قوله {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ} قال: هم خمسة فتية من قريش: عليّ بن أمية, وأبو قيس بن الفاكه, وزمعة بن الأسود, وأبو العاص بن منبه, ونسيت الخامس.
8209ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... الاَية, حْدّثنا أن هذه الاَية أنزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة, فخرجوا مع عدوّ الله أبي جهل, فقتلوا يوم بدر, فاعتذروا بغير عذر, فأبى الله أن يقبل منهم. وقوله {إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حيلَةٌ وَلا يَهْتَدُونَ سَبيل} أناس من أهل مكة عذرهم الله, فاستثناهم فقال: {أولَئِكَ عَسَى الله أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُور} قال: وكان ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
8210ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... الاَية, قال: أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يخرجوا معه إلى المدينة, وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر, فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب, فأنزل الله فيهم هذه الاَية.
8211ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألته, يعني ابن زيد, عن قول الله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} فقرأ حتى بلغ: {إلاّ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ والوِلْدَان} فقال: لما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وظهر ونَبَع الإيمان نَبَع النفاق منه, فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالٌ, فقالوا: يا رسول الله, لولا أنّا نخاف هؤلاء القوم يعذبوننا ويفعلون ويفعلون لأسلمنا, ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله! فكانوا يقولون ذلك له. فلما كان يوم بدر قام المشركون, فقالوا: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم, فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة. قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله فيهم: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... الاَية كلها {ألمْ تكُن أرضُ اللّهِ واسعةً فتهاجرُوا فيهَ} وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم {أولئكَ مَأواهُم جَهَنمُ وساءَتْ مَصير}. قال: ثم عذر الله أهل الصدق فقال: {إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالولْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيل} يتوجهون له لو خرجوا لهلكوا, فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم إقامتهم بين ظهري المشركين. وقال الذين أسروا: يا رسول الله إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا! فقال الله: {يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا ممّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ} صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَإنْ يُريدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ} خرجوا مع المشركين {فأمْكنَ مِنهُم واللّهُ عَليمٌ حَكيمٌ}.
8212ـ حدثني محمد بن خالد بن خداش, قال: ثني أبي, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس: أنه قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
8213ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يحيـى بن آدم, عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: {إلاّ الُمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالولْدَانِ} قال ابن عباس: أنا من المستضعفين.
8214ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} قال: من قتل من ضعفاء كفار قريش يوم بدر.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن عبد الله بن أبي يزيد, قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان.
8215ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, عن عليّ بن زيد, عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي, عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر: «اللّهُمّ خَلّصِ الَولِيدَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشامٍ وَعَيّاشَ بْنَ أبي رَبِيعَةَ وَضَعَفَةَ المُسْلِمِينَ مِنْ أيْدِي المُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً».
8216ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيل} قال: مؤمنون مستضعفون بمكة, فقال فيهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش. فأنزل الله فيهم: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيل}... الاَية.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد نحوه.
وأما قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} فإن معناه كما:
8217ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة في قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} قال: نهوضا إلى المدينة¹ {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيل}: طريقا إلى المدينة.
8218ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيل}: طريقا إلى المدينة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
8219ـ حدثنا محمد بن الحسن, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: الحيلة: المال, والسبيل: الطريق إلى المدينة.
وأما قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ} ففيه وجهان: أحدهما أن يكون «توفاهم» في موضع نصب بمعنى المضيّ, لأن «فَعَلَ» منصوبة في كلّ حال. والاَخر أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال, يراد به: إن الذين تتوفاهم الملائكة. فتكون إحدى التاءين من توفاهم محذوفة, وهي مرادة في الكلمة, لأن العرب تفعل ذلك إذا اجتمعت تاءان في أوّل الكلمة ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى, وربما أثبتتهما جميعا.
الآية : 100
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}: ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربا بدينه منها ومنهم إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين, {في سَبِيلِ الله} يعني في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه, وذلك الدين القيم. {يَجِدْ في الأرْضِ مُرَاغَما كَثِير} يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغما كثيرا, وهو المضطرب في البلاد والمذهب, يقال منه: راغم فلان قومه مُراغَما ومراغمة مصدران, ومنه قول نابغة بني جعدة:
كَطَوْدٍ يُلاذُ بأرْكانِهِعَزِيزِ المُرَاغَمِ والمَهْرَبِ
وقوله: {وَسَعَةً} فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة, وذلك منعهم إياهم من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية ثم أخبر جلّ ثناؤه عمن خرج مهاجرا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى الله وإلى رسوله إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودار الهجرة, فقال: من كان كذلك فقد وقع أجره على الله, وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه. يقول جلّ ثناؤه: ومن يخرج مهاجرا من داره إلى الله وإلى رسوله, فقد استوجب ثواب هجرته إن لم يبلغ دار هجرته باخترام المنية إياه قبل بلوغه إياها على ربه. {وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيم} يقول: ولم يزل الله تعالى ذكره غفورا, يعني: ساترا ذنوب عباده المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها رحيما بهم رفيقا. وذكر أن هذه الاَية نزلت بسبب بعض من كان مقيما بمكة وهو مسلم, فخرج لما بلغه أن الله أنزل الاَيتين قبلها, وذلك قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... إلى قوله: {وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُور} فمات في طريقه قبل بلوغه المدينة. ذكر الاَخبار الواردة بذلك:
8220ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ} قال: كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع, قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضا, فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: ففعلوا, فأتاه الموت وهو بالتنعيم, فنزلت هذه الاَية.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت هذه الاَية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ} في ضمرة بن العيص بن الزنباع, أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع, حين بلغ التنعيم مات فنزلت فيه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن العوام التيمي بنحو حديث يعقوب, عن هشيم, قال: وكان رجلاً من خزاعة.
8221ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَمَنْ يُهاجِرْ في سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً}... الاَية, قال: لما أنزل الله هؤلاء الاَيات ورجل من المؤمنين يقال له ضمرة بمكة, قال: والله إن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها وإني لأهتدي, أخرجوني! وهو مريض حينئذ. فلما جاوز الحرم قبضه الله فمات, فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ}... الاَية.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لما نزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} قال رجل من المسلمين يومئذ وهو مريض: والله مالي من عذر إني لدليل بالطريق, وإني لموسر, فاحملوني! فحملوه فأدركه الموت بالطريق, فنزلت فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ}.
8222ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, قال: سمعت عكرمة يقول: لما أنزل الله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... الاَيتين, قال رجل من بني ضمرة وكان مريضا: أخرجوني إلى الرّوْح! فأخرجوه, حتى إذا كان بالحَصْحَاص مات, فنزل فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ}... الاَية.
8223ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي عن المنذر بن ثعلبة, عن علباء بن أحمر اليشكري, قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ} قال: نزلت في رجل من خزاعة.
8224ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا قرّة, عن الضحاك في قول الله جلّ وعزّ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ} قال: لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة قد ضربت وجوهَهم وأدبارَهم الملائكةُ قال لأهله: أخرجوني! وقد أدنف للموت. قال: فاحتمل حتى انتهى إلى عَقَبة قد سماها, فتوفي, فأنزل الله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ}... الاَية.
8225ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدّيّ, قال: لما سمع بهذه ـ يعني بقوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... إلى قوله: {وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُور} ضمرةُ بن جندب الضمري قال لأهله وكان وجعا: أرحلوا راحلتي, فإن الأخشبين قد غماني ـ يعني: جبلي مكة لعلي أن أخرج فيصيبني روح! فقعد على راحلته ثم توجه نحو المدينة فمات بالطريق, فأنزل الله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ}. وأما حين توجه إلى المدينة, فإنه قال: اللهمّ مهاجر إليك وإلى رسولك.
8226ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قال: لما نزلت هذه الاَية, يعني قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ} قال جندب بن ضمرة الجندعي: اللهمّ أبلغت في المعذرة والحجة, ولا معذرة لي ولا حجة. قال: ثم خرج وهو شيخ كبير فمات ببعض الطريق, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مات قبل أن يهاجر, فلا ندري أعلى ولاية أم لا؟ فنزلت: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ}.
حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك يقول: لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... الاَية, سمع بما أنزل الله فيهم رجل من بني ليث كان على دين النبيّ صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة, وكان ممن عذر الله كان شيخا كبيرا وضيئا, فقال لأهله: ما أنا ببائت الليلة بمكة! فخرجوا به مريضا حتى إذا بلغ التنعيم من طريق المدينة أدركه الموت, فنزل فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ}... الاَية.
8227ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً} قال: هاجر رجل من بني كنانة يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم, فمات في الطريق. فسخر به قومه واستهزءوا به, وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد, ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن! قال: فنزلت القرآن: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ}.
8228ـ حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا شريك, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: نزلت هذه الاَية: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} وكان بمكة رجل يقال له ضمرة من بني بكر وكان مريضا, فقال لأهله: أخرجوني من مكة, فإني أجد الحرّ! فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو المدينة. فنزلت هذه الاَية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ}... إلى آخر الاَية.
8229ـ حدثني الحارث بن أبي أسامة, قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان, قال: حدثنا قيس, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير, قال: لما نزلت هذه الاَية: {لا يَسْتَوِى القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولي الضّرَرِ} قال: رخص فيها قوم من المسلمين ممن كان بمكة من أهل الضرر حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين, فقالوا: قد بين الله فضيلة المجاهدين على القاعدين ورخص لأهل الضرر. حتى نزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... إلى قوله: {وَساءَتْ مَصير} قالوا: هذه موجبة. حتى نزلت: {إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيل}, فقال ضمرة بن العيص الزرقي أحد بني ليث, وكان مصاب البصر: إني لذو حيلة لي مال ولي رقيق, فاحملوني! فخرج وهو مريض, فأدركه الموت عند التنعيم, فدفن عند مسجد التنعيم, فنزلت فيه هذه الاَية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ}... الاَية.
واختلف أهل التأويل في تأويل المراغَم, فقال بعضهم: هو التحوّل من أرض إلى أرض. ذكر من قال ذلك:
8230ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {مُرَاغَما كَثِير} قال: المراغم: التحوّل من الأرض إلى الأرض.
8231ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك, يقول في قوله: {مُرَاغَما كَثِير} يقول: متحوّلاً.
8232ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: {يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِير} قال: متحوّلاً.
8233ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن أو قتادة: {مُرَاغَما كَثِير} قال: متحوّلاً.
8234ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: {يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِير} قال: مندوحةً عما يكره.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: {مُرَاغَما كَثِير} قال: مزحزحا عما يكره.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: {مُرَاغَما كَثير} قال: متزحزحا عما يكره.
وقال آخرون: مبتغَى معيشةٍ. ذكر من قال ذلك:
8235ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَما كَثِير} يقول: مبتغى للمعيشة.
وقال آخرون: المراغم: المهاجر. ذكر من قال ذلك:
8236ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {مُرَاغَم} المراغم: المهاجر.
قال أبو جعفر: وقد بينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل.
واختلفوا أيضا في معنى السّعَة التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال: {وَسَعَة}¹ فقال بعضهم: هي السعة في الرزق. ذكر من قال ذلك:
8237ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: {مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً} قال: السّعة في الرزق.
8238ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, في قوله: {مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً} قال: السعة في الرزق.
8239ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وَسَعَةَ} يقول: سعة في الرزق.
وقال آخرون في ذلك ما:
8240ـ حدثني بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً}: أي والله من الضلالة إلى الهدى, ومن العيلة إلى الغنى.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطربا ومتسعا¹ وقد يدخل في السّعة, السعة في الرزق, والغنى من الفقر¹ ويدخل فيه السعة من ضيق الهمّ, والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان بالله من المشركين بمكة, وغير ذلك من معاني السّعة التي هي بمعنى الرّوْح والفرج من مكروه ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظهري المشركين وفي سلطانهم. ولم يضع الله دلالة على أنه عنى بقوله: «وسعة» بعض معاني السعة التي وصفنا, فكل معاني السّعة هي التي بمعنى الروح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش وغمّ جوار أهل الشرك وضيق الصدر, بتعذّر إظهار الإيمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والاَلهة, داخل في ذلك.
وقد تأوّل قوم من أهل العلم هذه الاَية, أعني قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ على اللّهِ} أنها في حكم الغازي يخرج للغزو فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلاً فيموت, أن له سهمه من المغنم وإن لم يكن شهد الوقعة. كما:
3518 حدثني المثنى, قال: حدثنا يوسف بن عديّ, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن لهيعة, عن يزيد ابن أبي حببب, أن أهل المدينة يقولون: من خرج فاصلاً وجب سهمه¹ وتأوّلوا قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ}.
الآية : 101
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مّبِيناً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}: وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض, {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ} يقول: فليس عليكم حرج ولا إثم, {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ}: يعني أن تقصروا من عددها, فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا, اثنتين, في قول بعضهم. وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلّ عددها في حال ضربكم في الأرض, أشار إلى واحدة في قول آخرين.
وقال آخرون: معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون, حتى يقتلوهم أو يأسروهم, فيمنعوهم من إقامتها وأدائها, ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له. ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال: {إنّ الكافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِين} يعني: الجاحدون وحدانية الله كانوا لكم عدوّا مبينا, يقول: عدوّا قد أبانوا لكم عداوتهم, بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله, وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام, ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.
واختلف أهل التأويل في معنى القصر الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله, فقال بعضهم: في السفر من الصلاة التي كان واجبا تمامها في الحضر أربع ركعات, وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين. ذكر من قال ذلك:
8241ـ حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري, قال: حدثنا عبد الله بن إدريس, عن ابن جريج, عن ابن أبي عمار, عن عبد الله بن بابيه, عن يعلى بن أمية, قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاة إنْ خِفْتُمْ} وقد أمن الناس! فقال: عجبت مما عجبت منه حتى سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فقال: «صَدَقَةٌ تَصَدّقَ اللّهُ بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن ابن جريج, عن ابن أبي عمار, عن عبد الله بن بابيه عن يعلى بن أمية, عن عمر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, مثله.
حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي, قال: حدثنا محمد بن أبي عديّ, عن ابن جريج, قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدّث عن عبد الله بن بابيه, يحدث عن يعلى بن أمية, قال: قلت لعمر بن الخطاب أعجب من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا, وقد قال الله تبارك وتعالى: {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ حِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُو}! فقال عمر: عجبت مما عجبتَ منه, فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «صَدَقَةٌ تَصَدّقَ اللّهُ بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».
8242ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا هشام بن عبد الملك, قال: حدثنا أبو عوانة, عن قتادة, عن أبي العالية, قال: سافرت إلى مكة, فكنت أصلي ركعتين, فلقيني قرّاء من أهل هذه الناحية, فقالوا: كيف تصلي؟ قلت: ركعتين, قالوا: أسنة أو قرآن؟ قلت: كل ذلك سنة وقرآن, قلت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين, قالوا: إنه كان في حرب! قلت: قال الله: {لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ لَتَدْخُلُنّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمْقَصّرينَ لا تخافونَ} وقال: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} فقرأ حتى بلغ: {فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ}.
8243ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: أخبرنا يوسف, عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن عليّ, قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله إنّا نضرب في الأرض, فكيف نصلي؟ فأنزل الله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحَوْل, غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم, فصلى الظهر, فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم! فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إنْ خفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إنّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}... إلى قوله: {إنّ اللّهَ أعَدّ للكافِرينَ عَذَابا مُهِين} فنزلت صلاة الخوف.
قال أبو جعفر: وهذا تأويل للاَية حسن لو لم يكن في الكلام «إذا», وإذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها, ولو لم يكن في الكلام «إذا» كان معنى الكلام على هذا التأويل الذي رواه سيف, عن أبي روق: إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم, وكنت فيهم يا محمد, فأقمت لهم الصلاة, فلتقم طائفة منهم معك, الاَية. وبعد, فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ بن كعب: «وإذا ضَرَبْتُم في الأرض فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصّلاة أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا».
8244ـ حدثني بذلك الحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا الثوري, عن واصل بن حيان, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي, عن أبيه, عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: «أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاة أن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا», ولا يقرأ: «إنْ خِفْتُم».
8245ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا بكر بن شرود, عن الثوريّ, عن واصل الأحدب, عن عبد الله بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبيّ بن كعب أنه قرأ: «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم», قال بكر: وهي في الإمام مصحف عثمان رحمه الله: {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُو}.
وهذه القراءة تنبىء على أن قوله: {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُو} مواصل قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة, وأن قوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ} قصة مبتدأة غير قصة هذه الاَية. وذلك أن تأويل قراءة أبيّ هذه التي ذكرناها عنه: «وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا», فحذفت «لا» لدلالة الكلام عليها, كما قال جلّ ثناؤه: {يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّو} بمعنى: أن لا تضلوا. ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف, عن أبي روق.
وقال آخرون: بل هو القصر في السفر, غير أنه إنما أذن جلّ ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوّ يخشى أن يفتنه في صلاته. ذكر من قال ذلك:
8246ـ حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري, قال: حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد, قال: ثني عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق, قال: سمعت أبي, يقول: سمعت عائشة تقول في السفر: أتّموا صلاتكم! فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر ركعتين؟ فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب وكان يخاف, هل تخافون أنتم؟.
8247ـ حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا ابن أبي فديك, قال: حدثنا ابن أبي ذئب, عن ابن شهاب, عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد, أنه قال لعبد الله بن عمر: إنّا نجد في كتاب الله قصر الصلاة في الخوف, ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به.
8248ـ حدثنا عليّ بن سهل الرملي, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن هشام بن عروة, عن أبيه: أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين.
8249ـ حدثنا سعيد بن يحيـى, قال: ثني أبي, قال: حدثنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: أيّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمّ الصلاة في السفر؟ قال: عائشة وسعد بن أبي وقاص.
وقال آخرون: بل عنى بهذه الاَية: قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة, قالوا: وفيها نزل. ذكر من قال ذلك:
8250ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} قال: يوم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بُعْسفان والمشركون بَضجَنَان, فتواقفوا, فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو أربعا, شكّ أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا. فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم, فأنزل الله عليه: {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فصلى العصر, فصفّ أصحابه صفين, ثم كبر بهم جميعا, ثم سجد الأوّلون سجدة والاَخرون قيام, ثم سجد الاَخرون حين قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم كبر بهم وركعوا جميعا, فتقدم الصفّ الاَخر, واستأخر الأوّل, فتعاقبوا السجود كما فعلوا أوّل مرّة وقصر العصر إلى ركعتين.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان والمشركون بضَجَنَان, فتواقفوا, فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة الظهر ركعتين ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعا, فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم, فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فصلى بهم صلاة العصر, فصفّ أصحابه صفين, ثم كبر بهم بهم جميعا, ثم سجد الأوّلون بسجوده والاَخرون قيام لم يسجدوا, حتى قام النبيّ صلى الله عليه وسلم, ثم كبر بهم وركعوا جميعا, فقدّم الصفّ الاَخر واستأخر الصفّ المقدّم, فتعاقبوا السجود كما دخلوا أوّل مرّة, وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين.
8251ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, عن أبي عياش الزرقي, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان, وعلى المشركين خالد بن الوليد. قال: فصلينا الظهر, فقال المشركون: كانوا على حال لو أردنا لأصبنا غِرّة, لأصبنا غفلة. فأنزلت آية القصر بين الظهر والعصر, فأخذ الناس السلاح, وصفّوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مُسْتَقْبَلَهُمْ, فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبروا جميعا, ثم ركع وركعوا جميعا, ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا, ثم سجد وسجد الصفّ الذي يليه وقام الاَخرون يحرسونهم, فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء. ثم نكص الصفّ الذي يليه وتقدّم الاَخرون فقاموا في مقامهم, فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركعوا جميعا, ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا, ثم سجد وسجد الصفّ الذي يليه, وقام الاَخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم, سجد هؤلاء الاَخرون, ثم استووا معه, فقعدوا جميعا, ثم سلم عليهم جميعا, فصلاها بعسفان, وصلاها يوم بني سُلَيْم.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, عن شيبان النحويّ, عن منصور, عن مجاهد, عن أبي عياش الزرقي. وعن إسرائيل, عن منصور, عن مجاهد, عن أبي عياش, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان, ثم ذكر نحوه.
8252ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا معاذ بن هشام, قال: حدثنا أبي, عن قتادة, عن سليمان اليشكري, أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة, أيّ يوم أنزل؟ أو أيّ يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشأم, حتى إذا كنا بنَخْل, جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! قال: «نَعَمْ», قال: هل تخافني؟ قال: «لا», قال: فمن يمنعك مني؟ قال: «اللّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ». قال: فسلّ السيف ثم هدّده وأوعده. ثم نادى بالرحيل وأَخْذِ السلاح, ثم نُودي بالصلاة, فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم, وطائفة أخرى يحرسونهم, فصلى بالذين يلونه ركعتين, ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم, فقاموا في مصافّ أصحابهم, ثم جاء الاَخرون فصلى بهم ركعتين والاَخرون يحرسونهم, ثم سلم, فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم أربع ركعات, وللقوم ركعتين ركعتين, فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة, وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.
وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف, إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر, لا في صلاة الإقامة. قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان تمام غير قصر, كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة, قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم, فجعلت على النصف, وهي تمام في السفر, ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه, فجعلت على النصف ركعة. ذكر من قال ذلك:
8253ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُو}... إلى قوله: {عَدُوّا مُبِين} إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام, والتقصير لا يحلّ إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة والتقصير ركعة, يقوم الإمام, ويقوم جنده جندين, طائفة خلفه, وطائفة يوازون العدوّ, فيصلي بمن معه ركعة ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم, وتلك المشية القهقرى, ثم تأتى الطائفة الأخرى, فتصلى مع الإمام ركعة أخرى, ثم يجلس الإمام فيسلم, فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ثم يرجعون إلى صفهم, ويقوم الاَخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة, والناس يقولون: لا, بل هي ركعة واحدة, لا يصلى أحد منهم إلى ركعته شيئا, تجزئه ركعة الإمام, فيكون للإمام ركعتان, ولهم ركعة, فذلك قول الله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}... إلى قوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}.
8254ـ حدثني أحمد بن الوليد القرشي, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن سماك الحنفي, قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان تمام غير قصر إنما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ قال: يصلي الإمام بطائفة ركعة, ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء, فيصلي بهم ركعة, فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة.
8255ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيـى, قال: حدثنا سفيان, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير, قال: كيف تكون قصرا وهم يصلون ركعتين؟ إنما هي ركعة.
8256ـ حدثني سعيد بن عمرو السكوني, قال: حدثنا بقية, قال: حدثنا المسعودي, قال: ثني يزيد الفقير, عن جابر بن عبد الله, قال: صلاة الخوف ركعة.
8257ـ حدثني أحمد بن عبد الرحمن, قال: ثني عمي عبد الله بن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحرث, قال: ثني بكر بن سوادة أن زياد بن نافع حدثه, عن كعب ـ وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعت يده يوم اليمامة : أن صلاة الخوف لكل طائفة ركعة وسجدتان.
واعتلّ قائلو هذه المقالة من الاَثار بما:
8258ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيـى بن سعيد, قال: حدثنا سفيان, قال: ثني أشعث بن أبي الشعثاء, عن الأسود بن هلال, عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي, قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان, فقال: أيكم يحفظ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فأقامنا خلفه صفّا وصفّ موازي العدوّ, فصلى بالذين يلونه ركعة, ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ أولئك, وجاء أولئك فصلى بهم ركعة.
8259ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيـى وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفيان, عن الركين بن الربيع, عن القاسم بن حسان, قال: سألت زيد بن ثابت عنه, فحدثني بنحوه.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأشعث, عن الأسود بن هلال, عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي, عن حذيفة بنحوه.
8260ـ حدثنا ابن بشار, قال: ثني يحيـى, قال: حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الجهم, عن عبيد الله بن عبد الله, عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قَرَد, فصفّ الناس خلفه صفين: صفّا خلفه, وصفّا موازي العدوّ¹ فصلى بالذين خلفه ركعة, ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء, وجاء أولئك فصلى بهم ركعة, ولم يقضوا.
حدثنا تميم بن المنتصر, قال: أخبرنا إسحاق الأزرق, عن شريك, عن أبي بكر بن صخير, عن عبيد الله بن عبد الله, عن ابن عباس, مثله.
8261ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا أبو عوانة, عن بكير بن الأخنس, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام في الحضر أربعا, وفي السفر ركعتين, وفي الخوف ركعة.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا أبو عوانة, عن بكير بن الأخنس, عن مجاهد, عن ابن عباس, مثله.
حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأودي, قال: حدثنا المحاربي, عن أيوب بن عائذ الطائي, عن بكير بن الأخنس, عن مجاهد, عن ابن عباس, مثله.
حدثنا يعقوب بن ماهان, قال: حدثنا القاسم بن مالك, عن أيوب بن عائذ الطائي, عن بكير بن الأخنس, عن مجاهد, عن ابن عباس, مثله.
8262ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن يزيد الفقير, عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف, فقام صفّ بين يديه وصفّ خلفه, فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين, ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء, فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم, فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة.
8263ـ حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, قال: ثني عمي عبد الله بن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة, حدثه عن زيادة بن نافع, حدثه عن أبي موسى, أن جابر بن عبد الله حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة, لكل طائفة ركعة وسجدتين.
8264ـ حدثني أحمد بن محمد الطوسي, قال: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا سعيد بن عبد الهنائي, قال: حدثنا عبد الله بن شقيق, قال: حدثنا أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان, فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم, وهي العصر, فأجمعوا أمركم, فميلوا عليهم ميلة واحدة! وإن جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقسم أصحابه شطرين, فيصلي بعضهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حذرهم وأسلحتهم, ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم, فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين.
وقال آخرون: عَنى به القَصْر في السفَر, إلا أنه عنى به القصْر في شدّة الحرب وعند المسايفة, فأبيح عند التحام الحرب للمصلى أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُو}. ذكر من قال ذلك:
8265ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}... الاَية, قصر الصلاة إن لقيت العدوّ وقد حانت الصلاة أن تكبر الله وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الاَية قول من قال: عَنَى بالقْصر فيها القصر من حدودها, وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها, وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها مستقبل القبلة فيها ومستدبرها وراكبا وماشيا, وذلك في حال الشبكة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف, وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْان} وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا إيماء بالركوع والسجود على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُو} لدلالة قول الله تعالى: {فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} على أن ذلك كذلك¹ لأن إقامتها إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف.
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك أمر من الله باتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف, فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم غير مقيم صلاته لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين, فذلك قول إن قاله قائل مخالف لما عليه الأمة مجمعة من أن المسافر لا يستحقّ أن يقال له: إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها, وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين أنه غير مقيم صلاته. وإذا كان ذلك كذلك, وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوّه أن يفتنه, أن يقيم صلاته إذا اطمأنّ وزال الخوف, كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة, عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف, وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة إقامة صلاته, فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها, إنما هو ترك حدودها على ما بينا