تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 123 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 123

 يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاٌّنصَابُ وَٱلاٌّزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ * لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَـٰتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ * يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَـٰحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قوله تعالى: {يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاٌّنصَابُ وَٱلاٌّزْلاَمُ رِجْسٌ}.
يفهم مِن هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين، لأن الله تعالى قال: إنها رجس، والرِّجْس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس.
وقيل: إن أصله من الركس، وهو العذرة والنتن. قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنَّة {وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُور} ، لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه، أن خمر الدنيا ليستْ كذلك، ومما يؤيِّد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} ، وكقوله: {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} ، بخلاف خمر الدنيا ففيها غَوْل يغتال العقُول وأهلها يصدَّعون. أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها، وقوله {لا يُنزَفُونَ} على قراءة فتح الزاي مبنياً للمفعول، فمعناه: أنهم لا يسكرون، والنزيف السكران، ومنه قول حميد بن ثور:
نزيف ترى ردع العبير بجيبها كما ضرج الضاري النزيفُ المكلما
يعني أنها في ثقل حركتها كالسكران، وأن حمرة العبير الذي هو الطيب في جيبها كحمرة الدم على الطريد الذي ضرجه الجوارح بدمه: فأصابه نزيف الدم من جرح الجوارح له، ومنه أيضاً قول امرىء القيس:
وإذ هي تمشي كمشّي النزيف يصرعه بالكثِيب البهر

وقوله أيضاً: نزيف إذا قامتْ لوجه تمايلت تراشى الفؤاد الرخص ألا تخترا

وقول ابن أبِي ربيعة أو جميل: فلثمتُ فاها آخذاً بقرونِها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وعلى قراءة {يُنزَفُونَ} بكسر الزاي مبنياً للفاعل، ففيه وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما: أنه من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. ونظيره قولهم: أحصد الزرع إذا حان حصاده وأقطف العنب إذا حان قطافه، وهذا القول معناه راجع إلى الأول.
والثاني: أنه من أنزف القوم إذا فنيت خمورهم، ومنه قول الخَطيئة: لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتموا لَبِئس الندامى أنتم آل أبجرا

وجماهير العلماء على أن الخمر نجسة العين لما ذكرنا، وخالف في ذلك ربيعة واللَّيث، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخِّرين من البغدادِيِّين والقرويِّين، كما نقله عنهم القرطبي في تفسيره.
واستدلُّوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر، ومال قِمار وأنصاب وأَزلام ليست نجسة العين، وإن كانت محرَّمة الاستعمال.
وأُجِيب من جهة الجمهور بأن قوله {رِجْسٌ} يقتضي نجاسة العين في الكل، فما أخْرجه إجماع، أو نصّ خرج بذلك، وما لم يخْرجه نصّ ولا إجماع، لزم الحكم بنجاسته، لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصّص من المخصصات، لا يسقط الاحتجاج به في الباقي، كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
وهو حجّة لدى الأكثر إن مخصّص له معيناً يبِن
وعلى هذا، فالمسكر الذي عمت البلوي اليوم بالتطيُّب به المعروف في اللِّسان الدارجي بالكولانيا نجس لا تجوز الصلاة به، ويؤيده أن قوله تعالى في المسكر {فَٱجْتَنِبُوهُ} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المُسكر، وما معه في الآية بوجه من الوجوه، كما قاله القرطبي وغيره.
قال مُقيِّده عفا الله عنه: لا يخفَى على منصف أن التضمخ بالطِّيب المذكور والتلذذ بريحه واستطابته. واستحسانه مع أنه مسكر، والله يصرح في كتابة بأن الخمر رجس فيه ما فيه، فليس للمسلم أن يتطيب بما يسمع ربَّه يقول فيه: {أَنَّهُ * رِجْسٌ} كما هو واضح، ويؤيده «أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر» فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها، كما بين جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولما أراقها.
واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد، القروي على طهارة عَين الخمر بأن الصحابة أراقوها في طرق المدينة، ولو كانت نجسة، لما فعلوا ذلك ولَنهاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما نهاهم عن التخلي في الطرق، لا دليل له فيه، فإنها لا تعم الطرق، بل يمكن التحرز منها، لأن المدينة كانت واسِعة، ولم تكُن الخمر كثيرة جِداً بحيث تكون نَهراً أو سيلاً في الطرق يَعمُّها كلها، وإنما أُرِيقت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها، قاله القرطبي، وهو ظاهر.
{يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ}
قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. هذه الآية الكريمة يفهم من دليل خطابها أي مفهوم مخالفتها أنهم إن حلوا من إحرامهم، جاز لهم قتل الصيد، وهذا المفهوم مصرح به في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُو}، يعني إن شئتم كما تقدم إيضاحه في أول هذه السورة الكريمة. {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ} قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّد} .
ذَهب جمهور العلماء إلى أن معنى هذه الآية الكريمة: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّد} لِقَتْلِه ذاكراً لاِحْرامه، وخالف مجاهد ـ رَحمه الله ـ الجمهور قائلاً: إن معنى الآية: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّد} لِقَتْله في حال كونه ناسياً لإحْرامه، واستدل لِذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ}، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن مِن أنواع البيان التي تضمنها أنْ يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون فيها قرينة دالة على عدم صحّة ذلك القول. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن في الآية قرينة واضحة دالة على عدم صحّة قول مجاهد رحمه الله، وهي قوله تعالى: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}، فإنه يدل على أنه مُتعمِّداً أمراً لا يجوز، أما الناسي فهو غَير آثِم إجماعاً، فلا يناسِب أن يقال فيه: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}، كما ترى، والعِلْم عند الله تعالى.