تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 123 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 123

123 : تفسير الصفحة رقم 123 من القرآن الكريم

** يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مّنتَهُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَا عَلَىَ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوَاْ إِذَا مَا اتّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمّ اتّقَواْ وّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ
يقول تعالى: ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار, وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: الشطرنج من الميسر, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه, عن عيسى بن مرحوم, عن حاتم, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن علي به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن سفيان, عن ليث, عن عطاء ومجاهد وطاوس قال: سفيان أو اثنين منهم قالوا: كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز: وروي عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب مثله, وقالا: حتى الكعاب والجوز والبيض التي تلعب بها الصبيان. وقال موسى بن عقبة, عن نافع, عن ابن عمر, قال: الميسر هو القمار. وقال الضحاك, عن ابن عباس, قال: الميسر هو القمار, كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام, فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة. وقال مالك, عن داود بن الحصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين.
وقال الزهري, عن الأعرج, قال: الميسر الضرب بالقداح على الأموال والشمار. وقال القاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر, رواهن ابن أبي حاتم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الزيادي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة, حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد, عن القاسم عن أبي أمامة, عن أبي موسى الأشعري, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجراً, فإنها من الميسر» حديث غريب, وكأن المراد بهذا هو النرد الذي ورد الحديث به في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لعب بالنردشير, فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه, عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» وروي موقوفاً عن أبي موسى من قوله, فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إبراهيم, حدثنا الجعيد عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول: أخبرني ما سمعت أباك يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي, مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي» وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر إنه شر من النرد, وتقدم عن علي أنه قال: هو من الميسر, ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد, وكرهه الشافعي, رحمهم الله تعالى, وأما الأنصاب, فقال ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وغير واحد: هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها, وأما الأزلام فقالوا أيضاً: هي قداح كانوا يستقسمون بها, رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {رجس من عمل الشيطان} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي سخط من عمل الشيطان. وقال سعيد بن جبير: إثم. وقال زيد بن أسلم: أي شر من عمل الشيطان {فاجتنبوه} الضمير عائد إلى الرجس, أي اتركوه {لعلكم تفلحون} وهذا ترغيب, ثم قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} وهذا تهديد وترهيب.

ذكر الأحاديث الواردة في بيان تحريم الخمر
قال الإمام أحمد: حدثنا شريح, حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة, عن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات, قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما, فأنزل الله {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} إلى آخر الاَية. فقال الناس: ما حرما علينا إنما قال {فيهما إثم كبير ومنافع للناس}, وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوماً من الأيام, صلى رجل من المهاجرين, أم أصحابه في المغرب, فخلط في قراءته, فأنزل الله أغلظ منها {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مغبق, ثم أنزلت آية أغلظ منها {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} قالوا: انتهينا ربنا. وقال الناس: يا رسول الله, ناس قتلوا في سبيل الله, وماتوا على فرشهم, كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر, وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان, فأنزل الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصاحات جناح فيما طعمو} إلى آخر الاَية, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم» انفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, عن عمر بن الخطاب أنه قال لما نزل تحريم الخمر, قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً, فنزلت الاَية التي في البقرة {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} فدعي عمر فقرئت عليه, فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً, فنزلت الاَية التي في سورة النساء {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: حي على الصلاة, نادى: لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه, فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً, فنزلت الاَية التي في المائدة, فدعي عمر فقرئت عليه, فلما بلغ قول الله تعالى: {فهل أنتم منتهون} قال عمر: انتهينا انتهينا. وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق عمر بن عبد الله السبيعي, وعن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني, عن عمر به, وليس له عنه سواه, قال أبو زرعة: ولم يسمع منه. وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي. وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس, إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير, والخمر ما خامر العقل. وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا محمد بن بشر, حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز, حدثني نافع عن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب.) (حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن أبي حميد, عن المصري يعني أبا طعمة قارىء مصر, قال: سمعت ابن عمر يقول: نزلت في الخمر ثلاث آيات, فأول شيء نزل {يسألونك عن الخمر والميسر} الاَية, فقيل: حرمت الخمر, فقالوا: يا رسول الله, دعنا ننتفع بها كما قال الله تعالى, قال: فسكت عنهم, ثم نزلت هذه الاَية {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فقيل: حرمت الخمر, فقالوا: يا رسول الله إنا لا نشربها قرب الصلاة, فسكت عنهم, ثم نزلت {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} الاَيتين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حرمت الخمر».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى, حدثنا محمد بن إسحاق عن القعقاع بن حكيم أن عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر, فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف, أو من دوس, فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا فلان أما علمت أن الله حرمها ؟» فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا فلان بماذا أمرته ؟ فقال: أمرته أن يبيعها. قال «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» فأمر بها فأفرغت في البطحاء, ورواه مسلم من طريق ابن وهب, عن مالك, عن زيد بن أسلم, ومن طريق ابن وهب أيضاً عن سليمان بن بلال, عن يحيى بن سعيد, كلاهما عن عبد الرحمن بن وعلة, عن ابن عباس به, ورواه النسائي عن قتيبة عن مالك به.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا أبو بكر الحنفي, حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن شهر بن حوشب, عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر, فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها, فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال «إنها قد حرمت بعدك» قال: يا رسول الله فأبيعها وأنتفع بثمنها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله اليهود, حرمت عليهم شحوم البقر والغنم, فأذابوه وباعوه, والله حرم الخمر وثمنها» وقد رواه أيضاً الإمام أحمد فقال: حدثنا روح, حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال: سمعت شهر بن حوشب قال: حدثني عبد الرحمن بن غنم أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر, فلما كان عام حرمت, جاء براوية, فلما نظر إليه ضحك, فقال «أشعرت أنها قد حرمت بعدك» فقال: يا رسول الله, ألا أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله اليهود انطلقوا إلى ما حرم عليهم من شحم البقر والغنم, فأذابوه, فباعوا به ما يأكلون, وإن الخمر حرام وثمنها حرام, وإن الخمر حرام وثمنها حرام, وإن الخمر حرام وثمنها حرام».
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن سليمان بن عبد الرحمن, عن نافع بن كيسان أن أباه أخبره أنه كانه يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق يريد بها التجارة, فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إني جئتك بشراب طيب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا كيسان إنها قد حرمت بعدك» قال: فأبيعها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنها قد حرمت وحرم ثمنها», فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم هراقها.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد, عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسعيد بن بيضاء ونفراً من أصحابه عند أبي طلحة حتى كاد الشراب يأخذ منهم, فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ فقالوا: حتى ننظر ونسأل, فقالوا: يا أنس اسكب ما بقي في إنائك فوالله ما عادوا فيها, وما هي إلا التمر والبسر, وهي خمرهم يومئذ, أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن أنس, وفي رواية حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة, وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر, فإذا منادٍ ينادي قال: اخرج فانظر, فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت, فجرت في سكك المدينة, قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها, فهرقتها فقالوا أو قال بعضهم: قتل فلان وفلان وهي في بطونهم, قال: فأنزل الله {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعمو} الاَية.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد, عن قتادة, عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر, فسمعت منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب, وكسرنا القلال, وتوضأ بعضنا, واغتسل بعضنا, وأصبنا من طيب أم سليم, ثم خرجنا إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {يا أيهاالذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} إلى قوله تعالى {فهل أنتم منتهون} فقال رجل: يا رسول الله, فما ترى فيمن مات وهو يشربها ؟ فأنزل الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعمو} الاَية, فقال رجل لقتادة: أنت سمعته من أنس بن مالك قال: نعم, وقال رجل لأنس بن مالك, أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم, أو حدثني من لم يكذب, ما كنا نكذب, ولا ندري ما الكذب.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر, عن بكر بن سوادة, عن قيس بن سعيد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن ربي تبارك وتعالى, حرم الخمر والكوبة والقنين, وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا فرج بن فضالة عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين, وزادني صلاة الوتر» قال يزيد: القنين البرابط, تفرد به أحمد, وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو عاصم وهو النبيل, أخبرنا عبد الحميد بن جعفر, حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم» قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام» تفرد به أحمد أيضاً.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز, عن أبي طعمة مولاهم, عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعنت الخمر على عشرة أوجه: لعنت الخمر بعينها, وشاربها, وساقيها, وبائعها, ومبتاعها, وعاصرها, ومعتصرها, وحاملها, والمحمولة إليه, وآكل ثمنها», ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث وكيع به, وقال أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو طعمة, سمعت ابن عمر يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد فخرجت معه, فكنت معه, فكنت عن يمينه, وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه, فكان عن يمينه وكنت عن يساره, ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد فإذا بزقاق على المربد فيها خمر, قال ابن عمر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية, قال ابن عمر: وما عرفت المدية إلا يومئذ, فأمر بالزقاق فشقت, ثم قال «لعنت الخمر وشاربها, وساقيها, وبائعها, ومبتاعها, وحاملها, والمحمولة إليه, وعاصرها ومعتصرها, وآكل ثمنها», وقال أحمد: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن عمر: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة, فأتيته بها, فأرسل بها, فأرهفت ثم أعطانيها, وقال «اغد عليّ بها» ففعلت, فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة, وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام, فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها, وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني, وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته, ففعلت فلم أترك في أسواقها زقاً إلا شققته.
(حديث آخر) ـ قال عبد الله بن وهب: أخبرني عبد الرحمن بن شريح وابن لهيعة والليث بن سعد, عن خالد بن زيد, عن ثابت أن يزيد الخولاني أخبره أنه كان له عم يبيع الخمر, وكان يتصدق, قال: فنهيته عنها فلم ينته, فقدمت المدينة فلقيت ابن عباس فسألته عن الخمر وثمنها, فقال: هي حرام, وثمنها حرام, ثم قال ابن عباس رضي الله عنه: يا معشر أمة محمد, إنه لو كان كتاب بعد كتابكم, ونبي بعد نبيكم, لأنزل فيكم كما أنزل قبلكم, ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة ولعمري لهو أشد عليكم, قال ثابت: فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر فقال: سأخبرك عن الخمر, إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فبينما هو محتب على حبوته, ثم قال «من كان عنده من هذه الخمر شيء فليأتنا بها» فجعلوا يأتونه فيقول أحدهم: عندي راوية, ويقول الاَخر: عندي زق, أو ما شاء الله أن يكون عنده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجمعوه ببقيع كذا وكذا, ثم آذنوني» ففعلوا, ثم آذنوه, فقام وقمت معه ومشيت عن يمينه وهو متكىء عليّ, فلحقنا أبو بكر رضي الله عنه, فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعلني عن شماله وجعل أبا بكر في مكاني, ثم لحقنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فأخرني وجعله عن يساره, فمشى بينهما حتى إذا وقف على الخمر قال للناس «أتعرفون هذه ؟ قالوا نعم يا رسول الله, هذه الخمر, قال «صدقتم», ثم قال «فإن الله لعن الخمر, وعاصرها, ومعتصرها, وشاربها, وساقيها, وحاملها, والمحمولة إليه, وبائعها ومشتريها, وآكل ثمنها» ثم دعا بسكين فقال «اشحذوها» ففعلوا, ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق, قال: فقال الناس: في هذه الزقاق منفعة, فقال «أجل ولكني إنما أفعل ذلك غضباً لله عز وجل لما فيها من سخطه» فقال عمر: انا أكفيك يا رسول الله, قال «لا» قال ابن وهب: وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث, رواه البيهقي.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو الحسين بن بشر, أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي, حدثنا وهب بن جرير, حدثنا شعبة عن سماك, عن مصعب بن سعد. عن سعد قال: أنزلت في الخمر أربع آيات, فذكر الحديث قال: وصنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا, فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا فتفاخرنا, فقالت الأنصار: نحن أفضل, وقالت قريش: نحن أفضل, فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور, فضرب به أنف سعد ففزره, وكانت أنف سعد مفزورة, فنزلت {إنما الخمر والميسر} إلى قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} أخرجه مسلم من حديث شعبة.
(حديث آخر) ـ قال البيهقي: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة, أنبأنا أبو علي الرفاء, حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا ربيعة بن كلثوم, حدثني أبي عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار, شربوا فلما أن ثمل القوم, عبث بعضهم ببعض, فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته, فيقول صنع بي هذا أخي فلان, وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن, فيقول: والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا, حتى وقعت الضغائن في قلوبهم, فأنزل الله تعالى هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} إلى قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} فقال أناس من المتكلفين: هي رجس وهي في بطن فلان, وقد قتل يوم أحد: فأنزل الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعمو} إلى آخر الاَية, ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة, عن حجاج بن منهال.
(حديث آخر) ـ قال ابن جرير: حدثني محمد بن خلف, حدثنا سعيد بن محمد الحرمي عن أبي نميلة, عن سلام مولى حفص أبي القاسم, عن أبي بريدة, عن أبيه قال بينا نحن قعود على شراب لنا, ونحن على رملة, ونحن ثلاثة أو أربعة, وعندنا باطية لنا ونحن نشرب الخمر حلاً, إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه, إذ نزل تحريم الخمر {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} إلى آخر الاَيتين, {فهل أنتم منتهون} فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله {فهل أنتم منتهون} قال: وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء فقال: بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام, ثم صبوا ما في باطيتهم, فقالوا: انتهينا ربنا.
(حديث آخر) ـ قال البخاري: حدثناصدقة بن الفضل, أخبرنا ابن عيينة عن عمرو, عن جابر قال صبح أناس غداة أحد الخمر, فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء, وذلك قبل تحريمها, هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه. وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن عبدة, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار, سمع جابر بن عبد الله يقول: اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قتلوا شهداء يوم أحد فقالت اليهود: فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم, فأنزل الله {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعمو} ثم قال: وهذا إسناد صحيح, وهو كما قال, ولكن في سياقه غرابة.
(حديث آخر) ـ قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم ؟ فنزلت {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعمو} الاَية, ورواه الترمذي عن بندار غندر عن شعبة به نحوه, وقال: حسن صحيح.
(حديث آخر) ـ قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا جعفر بن حميد الكوفي, حدثنا يعقوب القمي عن عيسى بن جارية, عن جابر بن عبد الله قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين, فحمل منها بمال فقدم بها المدينة فلقيه رجل من المسلمين فقال يا فلان, إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تل, وسجى عليها بأكسية, ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله, بلغني أن الخمر قد حرمت ؟ قال «أجل» قال لي أن أردها على من ابتعتها منه ؟ قال لا يصلح ردها». قال: لي أن أهديها إلى من يكافئني منها ؟ قال «لا». قال: فإن فيها مالاً ليتامى في حجري, قال «إذا أتانا مال البحرين فأتنا نعوض أيتامك من مالهم» ثم نادى بالمدينة, فقال رجل: يا رسول الله, الأوعية ننتفع بها ؟ قال «فحلوا أوكيتها» فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي, هذا حديث غريب.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن السدي, عن أبي هبيرة وهو يحيى بن عباد الأنصاري, عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمراً فقال «أهرقها». قال: أفلا نجعلها خلاً ؟ قال «لا». ورواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث الثوري به نحوه.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا عبد العزيز بن سلمة حدثنا هلال بن أبي هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال: إن هذه الاَية التي في القرآن {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} قال: هي في التوراة إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل, ويبطل به اللعب والمزامير, والزفن والكبارات, يعني البرابط والزمارات, يعني به الدف والطنابير والشعر والخمر مرة لمن طعمها, أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة, ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس, وهذا إسناد صحيح.
(حديث آخر) ـ قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن شعيب حدثهم عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو بن العاص, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من ترك الصلاة سكراً مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها, ومن ترك الصلاة سكراً أربع مرات, كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال» قيل: وما طينة الخبال ؟ قال «عصارة أهل جهنم» ورواه أحمد من طريق عمرو بن شعيب.
(حديث آخر) ـ قال أبو داود: حدثنا محمد بن رافع, حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني قال: سمعت النعمان هو ابن أبي شيبة الجندي يقول عن طاوس, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كل مخمر خمر, وكل مسكر حرام ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً, فإن تاب تاب الله عليه, فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال» قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال «صديد أهل النار. ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه, كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال» تفرد به أبو داود.
(حديث آخر) ـ قال الشافعي رحمه الله: أنبأنا مالك عن نافع, عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من شرب الخمر في الدنيا لم يتب منها حرمها في الاَخرة» أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك به. وروى مسلم عن أبي الربيع, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مسكر خمر, وكل مسكر حرام, ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها, لم يشربها في الاَخرة».
(حديث آخر) ـ قال ابن وهب: أخبرني عمر بن محمد عن عبد الله بن يسار أنه سمع سالم بن عبد الله يقول: قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه, والمدمن الخمر, والمنان بما أعطى». ورواه النسائي عن عمرو بن علي, عن يزيد بن زريع, عن عمر بن محمد العمري به. وروى أحمد عن غندر, عن شعبة, عن يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر». ورواه أحمد أيضاً عن عبد الصمد, عن عبد العزيز بن مسلم, عن يزيد بن أبي زياد,عن مجاهد به. وعن مروان بن شجاع, عن حصيف, عن مجاهد به. ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا, عن حسين الجعفي, عن زائدة, عن يزيد بن أبي زيادة, عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد, كلاهما عن أبي سعيد به.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا سفيان عن منصور, عن سالم بن أبي الجعد, عن جابان عن عبد الله بن عمرو, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة عاق, ولا مدمن خمر, ولا منان, ولا ولد زنية» وكذا رواه عن يزيد, عن همام, عن منصور, عن سالم, عن جابان, عن عبد الله بن عمرو به, وقد رواه أيضاً عن غندر وغيره, عن شعبة, عن منصور, عن سالم, عن نبيط بن شريط, عن جابان, عن عبد الله بن عمرو, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة منان, ولا عاق والديه, ولا مدمن خمر». ورواه النسائي من حديث شعبة كذلك, ثم قال: ولا نعلم أحداً تابع شعبة عن نبيط بن شريط. وقال البخاري: لا يعرف لجابان سماع عن عبد الله, ولا لسالم من جابان ولا نبيط, وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد عن ابن عباس, ومن طريقه أيضاً عن أبي هريرة, فالله أعلم.
وقال الزهري: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه قال: سمعت عثمان بن عفان يقول اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت إنّا ندعوك لشهادة فدخل معها فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر فقالت إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هذا الغلام أو تشرب هذا الخمر فسقته كأساً فقال زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه. رواه البيهقي وهذا إسناد صحيح وقد رواه أبوبكر بن أبي الدنيا في كتابه ذم المسكر عن محمد بن عبد الله بن بزيع عن الفضيل بن سليمان النميري عن عمر بن سعيد عن الزهري به مرفوعاً والموقوف أصح والله أعلم وله شاهد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
وقال أحمد بن حنبل: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا إسرائيل عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما حرمت الخمر قال ناس: يا رسول الله, أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها, فأنزل الله {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعمو} إلى آخر الاَية, ولما حولت القبلة قال ناس: يا رسول الله, إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس, فأنزل الله {وما كان الله ليضيع إيمانكم} وقال الإمام أحمد: حدثنا داود بن مهران الدباغ, حدثنا داود يعني العطار عن أبي خثيم, عن شهر بن حوشب, عن أسماء بنت يزيد أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة, إن مات مات كافراً, وإن تاب تاب الله عليه, وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال» قالت: قلت: يارسول الله, وما طينة الخبال ؟ قال «صديد أهل النار» وقال الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنو} فقال النبي صلى الله عليه وسلم «قيل لي: أنت منهم» وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريقه. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قرأت على أبي, حدثنا علي بن عاصم, حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجراً فإنهما ميسر العجم».

** يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مّنَ الصّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مّتَعَمّداً فَجَزَآءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
قال الوالبي عن ابن عباس قوله {ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره, يبتلي الله به عباده في إحرامهم, حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم, فنهاهم الله أن يقربوه. وقال مجاهد {تناله أيديكم} يعني صغار الصيد وفراخه, {ورماحكم} يعني كباره. وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الاَية في عمرة الحديبية, فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم, لم يروا مثله قط فيما خلا, فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون {ليعلم الله من يخافه بالغيب} يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد, يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً, لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره, كما قال تعالى: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير} وقوله ههنا {فمن اعتدى بعد ذلك} قال السدي وغيره: يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم, {فله عذاب أليم} أي لمخالفته أمر الله وشرعه.
ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام, ونهي عن تعاطيه فيه, وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره, فأما غير المأكول من حيوانات البر, فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها, والجمهور على تحريم قتلها أيضاً , ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري عن عروة, عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب, والحدأة, والعقرب, والفأرة, والكلب العقور». وقال مالك, عن نافع, عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب, والحدأة, والعقرب, والفأرة, والكلب العقور» أخرجاه, ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله. قال أيوب: فقلت لنافع: فالحية ؟ قال الحية لا شك فيها. ولا يختلف في قتلها. ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد, لأنها أشد ضرراً منه, فالله أعلم.
وقال زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة: الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها, واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال «اللهم سلط عليه كلبك بالشام» فأكله السبع بالزرقاء, قالوا: فإن قتل ما عداهن فداه, كالضبع والثعلب وهرّ البر ونحو ذلك, قال مالك: وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها, وصغار الملحق بها من السباع العوادي. وقال الشافعي: يجوز للمحرم قتل كل مالا يؤكل لحمه, ولا فرق بين صغاره وكباره, وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل. وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذئب, لأنه كلب بري, فإن قتل غيرهما فداه إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه وهذا قول الأوزاعي والحسن بن صالح بن حيي. وقال زفر بن الهذيل: يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه.
وقال بعض الناس: المراد بالغراب ههنا الأبقع, وهو الذي في بطنه وظهره بياض دون الأدرع وهو الأسود, والأعصم وهو الأبيض, لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس, عن يحيى القطان, عن شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خمس يقتلهن المحرم: الحية, والفأرة, والحدأة, والغراب الأبقع, والكلب العقور» والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك, لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه. وقال مالك رحمه الله: لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه. وقال مجاهد بن جبر وطائفة: لا يقتله بل يرميه, ويروى مثله عن علي. وقد روى هشيم: حدثنا يزيد بن أبي زياد: عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال «الحية, والعقرب, والفويسقة, ويرمي الغراب ولا يقتله, والكلب العقور, والحدأة, والسبع العادي» رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل, والترمذي عن أحمد بن منيع, كلاهما عن هشيم وابن ماجه, عن أبي كريم وعن محمد بن فضيل, كلاهما عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن علية عن أيوب قال: نبئت عن طاوس أنه قال: لا يحكم على من أصاب صيداً خطأ, إنما يحكم على من أصابه متعمداً, وهذا مذهب غريب عن طاوس وهو متمسك بظاهر الاَية, وقال مجاهد بن جبر: المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد, الناسي لإحرامه, فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه, فذاك أمره أعظم من أن يكفر, وقد بطل إحرامه, ورواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نجيح, وليث بن أبي سليم وغيرهما عنه, وهو قول غريب أيضاً, والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. وقال الزهري: دل الكتاب على العامد, وجرت السنة على الناسي, ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله {ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه} وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ, كما دل الكتاب عليه في العمد, وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف, والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان, لكن المتعمد مأثوم, والمخطىء غير ملوم.
وقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} قرأ بعضهم بالإضافة, وقرأ آخرون بعطفها {فجزاء مثل ما قتل من النعم}, وحكى ابن جرير, أن ابن مسعود قرأها {فجزاؤه مثل ما قتل من النعم}. وفي قوله {فجزاء مثل ما قتل من النعم} على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد والجمهور, من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم, إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله, حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثلياً أو غير مثلي, قال: وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه, وإن شاء اشترى به هدياً, والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع, فإنهم حكموا في النعامة ببدنة, وفي بقرة الوحش ببقرة, وفي الغزال بعنز, وذكر قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب الأحكام, وأما إذا لم يكن الصيد مثلياً فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة, رواه البيهقي.
وقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من المسلمين, واختلف العلماء في القاتل: هل يجوز أن يكون أحد الحكمين ؟ على قولين (أحدهما) لا, لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه, وهذا مذهب مالك. (والثاني) نعم, لعموم الاَية, وهو مذهب الشافعي وأحمد, واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكوماً عليه في صورة واحدة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين, حدثنا جعفر هو ابن برقان عن ميمون بن مهران أن أعرابياً أتى أبا بكر, فقال: قتلت صيداً وأنا محرم, فما ترى علي من الجزاء ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال ؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك, فإذا أنت تسأل غيرك ؟ فقال أبو بكر: وما تنكر ؟ يقول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به, وهذا إسناد جيد, لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق, ومثله يحتمل ههنا, فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابياً جاهلاً, وإنما دواء الجهل التعليم, فأما إذا كان المعترض منسوباً إلى العلم, فقد قال ابن جرير: حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي,قالا: حدثنا وكيع بن الجراح عن المسعودي, عن عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر, قال: خرجنا حجاجاً, فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا, فنتماشى نتحدث. قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح, فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشّاءَهُ (وهو العظم الناتى خلف الأذن), فركب رَدْعَه ميتاً. قال: فَعَظّمْنا عليه, فلما قدمنا مكة, خرجت معه حتى أتينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقص عليه القصة فقال: وإذا إلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة, يعني عبد الرحمن بن عوف, فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه, قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمداً قتلته أم خطأ ؟ فقال الرجل: لقد تعمدت رميه وما أردت قتله, فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ, اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها, واستبق إهابها, قال: فقمنا من عنده, فقلت لصاحبي: أيها الرجل, عظم شعائر الله, فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه, اعمد إلى ناقتك فانحرها. فلعل ذلك يعني أن يجزىء عنك, قال قبيصة: ولا أذكر الاَية من سورة المائدة {يحكم به ذوا عدل منكم} فبلغ عمر مقالتي, فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة, قال: فعلا صاحبي ضرباً بالدرة, أقتلت في الحرم وسفهت في الحكم. قال: ثم أقبل علي, فقلت: يا أمير المؤمنين, لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني, فقال: يا قبيصة بن جابر, إني أراك شاب السن, فسيح الصدر, بين اللسان, وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيء, فيفسد الخلق السيء الأخلاق الحسنة, فإياك وعثرات الشباب.
وروى هشيم هذه القصة عن عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بنحوه. ورواها أيضاً عن حصين, عن الشعبي, عن قبيصة بنحوه. وذكرها مرسلة عن عمر بن بكر بن عبد الله المزني ومحمد بن سيرين بنحوه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا شعبة عن منصور, عن أبي وائل, أخبرني ابن جرير البجلي, قال: أصبت ظبياً وأنا محرم, فذكرت ذلك لعمر, فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك, فأتيت عبد الرحمن وسعداً فحكما علي بتيس أعفر. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا ابن عيينة عن مخارق, عن طارق, قال: أوطأ أربد ظبياً فقتله وهو محرم, فأتى عمر ليحكم عليه, فقال له عمر: احكم معي, فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر, ثم قال عمر {يحكم به ذوا عدل منكم}, وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين, كما قاله الشافعي وأحمد رحمهما الله.) واختلفوا: هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم, فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل, وإن كان قد حكم في مثله الصحابة أو يكتفى بأحكام الصحابة المتقدمة ؟ على قولين, فقال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة, وجعلاه شرعاً مقرراً لا يعدل عنه, ومالم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا, لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم}.
وقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} أي واصلاً إلى الكعبة, والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم, وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. وقوله {أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيام} أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم, أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال, أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام, كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن, وأحد قولي الشافعي, والمشهور عن أحمد, رحمهم الله, لظاهر «أو» بأنها للتخيير, والقول الاَخر أنها على الترتيب, فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة, فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم. وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجوداً, ثم يشترى به طعام فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه, عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز, واختاره ابن جرير, وقال أبو حنيفة وأصحابه: يطعم كل مسكين مدين, وهو قول مجاهد. وقال أحمد: مد من حنطة أو مدان من غيره, فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير, صام عن إطعام كل مسكين يوماً. وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يوماً كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه, فإن الشارع أمر كعب بن عجرة أن يقسم فرقاً بين ستة, أو يصوم ثلاثة أيام, والفرق ثلاثة آصع, واختلفوا في مكان هذا الإطعام, فقال الشافعي: مكانه الحرم, وهو قول عطاء. وقال مالك يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم, وإن شاء أطعم في غيره.

ذكر أقوال السلف في هذا المقام
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن المغيرة, حدثنا جرير عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس في قوله الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيام} قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم, فإن لم يجد, نظر كم ثمنه, ثم قوم ثمنه طعاماً, قال الله تعالى: {أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيام}, قال: إنما أريد بالطعام والصيام, أنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه, ورواه ابن جرير من طريق جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيام}, فإذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه, فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة, فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين, فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام, فإن قتل أيلاً أو نحوه, فعليه بقرة, فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً, فإن لم يجد صام عشرين يوماً, وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه, فعليه بدنة من الإبل, فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكيناً, فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً» رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وزاد: الطعام مدّ مدّيشبعهم, وقال جابر الجعفي, عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد {أو عدل ذلك صيام} قالوا إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي رواه ابن جرير وكذا روى ابن جريج عن مجاهد وأسباط عن السدي أنها على الترتيب. وقال عطاء وعكرمة ومجاهد في رواية الضحاك وإبراهيم النخعي: هي على الخيار, وهي رواية الليث عن مجاهد, عن ابن عباس, واختار ذلك ابن جرير رحمه الله.
وقوله {ليذوق وبال أمره} أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة {عفا الله عما سلف} أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله, ولم يرتكب المعصية, ثم قال {ومن عاد فينتقم الله منه} أي ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه {فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام}. قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما {عفا الله عما سلف} ؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال: قلت: وما {ومن عاد فينتقم الله منه} ؟ قال: ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه, وعليه مع ذلك الكفارة. قال: قلت: فهل في العود من حد تعلمه ؟ قال: لا, قال قلت: فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه ؟ قال: لا, هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عز وجل, ولكن يفتدي» رواه ابن جرير. وقيل: معناه فينتقم الله منه بالكفارة, قاله سعيد بن جبير وعطاء, ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء, ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة, وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, قال: من قتل شيئاً من الصيد خطأ وهو محرم, يحكم عليه فيه كلما قتله, فإن قتله عمداً يحكم عليه فيه مرة واحدة, فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك, كما قال الله عز وجل. وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي, جميعاً عن هشام هو ابن حسان, عن عكرمة, عن ابن عباس, فيمن أصاب صيداً يحكم عليه ثم عاد قال: لا يحكم عليه, ينتقم الله منه. وهكذا قال شريح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي, رواهن ابن جرير, ثم اختار القول الأول. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي, حدثنا المعتمر بن سليمان عن زيد بن أبي المعلى, عن الحسن البصري أن رجلاً أصاب صيداً فتجوز عنه, ثم عاد فأصاب صيداً آخر, فنزلت نار من السماء فأحرقته, فهو قوله {ومن عاد فينتقم الله منه}. وقال ابن جرير في قوله {والله عزيز ذو انتقام} يقول, عز ذكره: والله منيع في سلطانه, لا يقهره قاهر ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه, ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع, لأن الخلق خلقه, والأمر أمره, له العزة والمنعة. وقوله {ذو انتقام} يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.