تفسير الطبري تفسير الصفحة 123 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 123
124
122
 الآية : 90
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }..
وهذا بـيان من الله تعالـى ذكره للذين حرّموا علـى أنفسهم النساء والنوم واللـحم من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم تشبها منهم بـالقسيسين والرهبـان, فأنزل الله فـيهم علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم كتابه ينهاهم عن ذلك, فقال: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُـحَرّمُوا طَيّبـاتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ فنهاهم بذلك عن تـحريـم ما أحلّ الله لهم من الطيبـات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضا فـي حدودي, فتـحلوا ما حرّمت علـيكم, فإن ذلك لكم غير جائز كما غير جائز لكم تـحريـم ما حللت, وإنـي لا أحبّ الـمعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرّم علـيهم مـما إذا استـحلوه, وتقدّموا علـيه كانوا من الـمعتدين فـي حدوده, فقال لهم: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, إن الـخمر التـي تشربونها والـميسر الذي تتـياسرونه والأنصاب التـي تذبحون عندها والأزلام التـي تستقسمون بها رِجْسٌ يقول: إثم ونَتْن, سخِطه الله وكرهه لكم مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ يقول: شربكم الـخمر, وقماركم علـى الـجُزُر, وذبحكم للأنصاب, واستقسامكم بـالأزلام من تزيـين الشيطان لكم, ودعائه إياكم إلـيه, وتـحسينه لكم, لا من الأعمال التـي ندبكم إلـيها ربكم, ولا مـما يرضاه لكم, بل هو مـما يسخطه لكم. فـاجْتَنِبُوهُ يقول: فـاتركوه وارفضوه, ولا تعلـموه. لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ يقول: لكي تنـجحوا فتدركوا الفلاح عند ربكم, بترككم ذلك. وقد بـينا معنى الـخمر والـميسر والأزلام فـيـما مضى فكرهنا إعادته. وأما الأنصاب, فإنها جمع نصب, وقد بـينا معنى النصب بشواهده فـيـما مضى.
ورُوِي عن ابن عبـاس فـي معنى الرجس فـي هذا الـموضع, ما:
9841ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ يقول: سخط.
وقال ابن زيد فـي ذلك, ما:
9842ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: رِجْسٌ مِنَ عَمَلِ الشّيْطانِ قال: الرجس: الشرّ.
الآية : 91
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مّنتَهُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: إنـما يريد لكم الشيطان شرب الـخمر والـمياسرة بـالقداح ويحسن ذلك لكم إرادة منه أن يوقع بـينكم العداوة والبغضاء فـي شربكم الـخمر ومياسرتكم بـالقداح, لـيعادي بعضكم بعضا, ويبغّضَ بعضكم إلـى بعض, فـيشتت أمركم بعد تألـيف الله بـينكم بـالإيـمان وجمعه بـينكم بأخوة الإسلام. ويَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الـخمر بسكرها إياكم علـيكم وبـاشتغالكم بهذا الـميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنـياكم وآخرتكم, وعن الصلاة التـي فرضها علـيكم ربكم. فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ يقول: فهل أنتـم منتهون عن شرب هذه, والـمياسرة بهذا, وعاملون بـما أمركم به ربكم من أداء ما فرض علـيكم من الصلاة لأوقاتها, ولزوم ذكره الذي به نـجح طلبـاتكم فـي عاجل دنـياكم وآخرتكم.
واختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية, فقال بعضهم: نزلت بسبب كان من عمر بن الـخطاب, وهو أنه ذكر مكروه عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وسأل الله تـحريـمها. ذكر من قال ذلك:
9843ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن أبـي ميسرة, قال: قال عمر: اللهمّ بـين لنا فـي الـخمر بـيانا شافـيا قال: فنزلت الاَية التـي فـي البقرة: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ والـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِما إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال: فدُعي عمر فقرئت علـيه, فقال: اللهمّ بـين لنا فـي الـخمر بـيانا شافـيا فنزلت الاَية فـي النساء: لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ. قال: وكان منادي النبـيّ صلى الله عليه وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربنّ الصلاة السكران قال: فدُعي عمر, فقرئت علـيه, فقال: اللهمّ بـين لنا فـي الـخمر بـيانا شافـيا قال: فنزلت الاَية التـي فـي الـمائدة: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ... إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ فلـما انتهى إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ قال عمر: انتهينا انتهينا
حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: حدثنا أبـي, عن أبـي إسحاق, عن أبـي ميسرة, قال: قال عمر: اللهمّ بـين لنا فـي الـخمر بـيانا شافـيا, فإنها تذهب بـالعقل والـمال ثم ذكر نـحو حديث وكيع.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن زكريا, عن أبـي إسحاق, عن أبـي ميسرة, قال: قال عمر بن الـخطاب: اللهمّ بـين لنا فذكر نـحوه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه وإسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن أبـي ميسرة, عن عمر بن الـخطاب, مثله.
حدثنا هناد, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا زكريا بن أبـي زائدة, عن أبـي إسحاق, عن أبـي ميسرة, عن عمر بن الـخطاب, مثله.
9844ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: ثنـي أبو معشر الـمدنـي, عن مـحمد بن قـيس, قال: لـما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة أتاه الناس, وقد كانوا يشربون الـخمر ويأكلون الـميسر, فسألوه عن ذلك, فأنزل الله تعالـى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ والـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِما إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمنَافِعُ للناسِ وإثْمُهُماأكبرُ مِنْ نَفْعِهِما فقالوا: هذا شيء قد جاء فـيه رخصة, نأكل الـميسر ونشرب الـخمر, ونستغفر من ذلك. حتـى أتـى رجل صلاة الـمغرب, فجعل يقرأ: قل يا أيها الكافرون, أعبد ما تعبدون, ولا أنتـم عابدون ما أعبد. فجعل لا يجوّد ذلك ولا يدري ما يقرأ, فأنزل الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى فكان الناس يشربون الـخمر حتـى يجيء وقت الصلاة فـيدعَون شربها, فـيأتون الصلاة وهم يعلـمون ما يقولون. فلـم يزالوا كذلك حتـى أنزل الله تعالـى: إنّـمَا الـخمْرُ والـمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ... إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ فقالوا: انتهينا يا رب
وقال آخرون: نزلت هذه الاَية بسبب سعد بن أبـي وقاص, وذلك أنه كان لاَحَى رجلاً علـى شراب لهما, فضربه صاحبه بلَـحْيِ جمل, ففزر أنفه, فنزلت فـيهما. ذكر الرواية بذلك:
9845ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب, عن مصعب ابن سعد عن أبـيه سعد, أنه قال: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا, قال: فشربنا الـخمر حتـى انتشينا, فتفـاخرت الأنصار وقريش, فقالت الأنصار: نـحن أفضل منكم. قال: فأخذ رجل من الأنصار لـحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره, فكان سعد أفزر الأنف. قال: فنزلت هذه الاَية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ والـمَيْسِرُ... إلـى آخر الاَية.
حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن مصعب بن سعد, قال: قال سعد: شربت مع قوم من الأنصار, فضربت رجلاً منهم أظنّ بفكّ جمل فكسرته, فأتـيت النبـيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فلـم ألبث أن نزل تـحريـم الـخمر: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ... إلـى آخر الاَية.
حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: حدثنا إسرائيـل, عن سماك, عن مصعب بن سعد, عن أبـيه, قال: شربت الـخمر مع قوم من الأنصار, فذكر نـحوه.
9846ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عمرو بن الـحرث أن ابن شهاب أخبره أن سالـم بن عبد الله حدثه: أن أوّل ما حرّمت الـخمر, أن سعد بن أبـي وقاص وأصحابـا له شربوا, فـاقتتلوا, فكسروا أنف سعد, فأنزل الله: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ... الاَية.
وقال آخرون: نزلت فـي قبـيـلتـين من قبـائل الأنصار. ذكر من قال ذلك:
9847ـ حدثنا الـحسين بن علـيّ الصدائي, قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا ربـيعة بن كلثوم, عن جبـير, عن أبـيه, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: نزل تـحريـم الـخمر فـي قبـيـلتـين من قبـائل الأنصار, شربوا حتـى إذا ثملوا عبِث بعضهم ببعض فلـما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولـحيته, فـيقول: فعل بـي هذا أخي فلان وكانوا إخوة لـيس فـي قلوبهم ضغائن والله لو كان بـي رءوفـا رحيـما ما فعل بـي هذا حتـى وقعت فـي قلوبهم الضغائن, فأنزل الله: إنّـمَا الـخَمْرُ والـمَيْسِرُ... إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ. فقال ناس من الـمتكلفـين: هي رجس, وهي فـي بطن فلان قتل يوم بدر, وقتل فلان يوم أحد, فأنزل الله: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُناحٌ فِـيـما طَعِمُوا... الاَية.
9848ـ حدثنا مـحمد بن خـلف, قال: حدثنا سعيد بن مـحمد الـجرمي, عن أبـي تـميـلة, عن سلام مولـى حفص بن أبـي قـيس, عن أبـي بريدة, عن أبـيه, قال: بـينـما نـحن قعود علـى شراب لنا ونـحن نشرب الـخمر حلاّ, إذ قمت حتـى آتـيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلـم علـيه, وقد نزل تـحريـم الـخمر: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ... إلـى آخر الاَيتـين: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ, فجئت إلـى أصحابـي فقرأتها علـيهم, إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ. قال: وبعض القوم شرْبته فـي يده قد شرب بعضا وبقـي بعض فـي الإناء, فقال بـالإناء تـحت شفته العلـيا كما يفعل الـحجام, ثم صبوا ما فـي بـاطيتهم, فقالوا: انتهينا ربنا, انتهينا ربّنا
وقال آخرون: إنـما كانت العداوة والبغضاء كانت تكون بـين الذين نزلت فـيهم هذه الاَية بسبب الـميسر لا بسبب السكر الذي يحدث لهم من شرب الـخمر, فلذلك نهاهم الله عن الـميسر. ذكر من قال ذلك:
9849ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا جامع بن حماد, قال: حدثنا يزيد بن زريع قال بشر: وقد سمعته من يزيد وحدثنـيه قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الرجل فـي الـجاهلـية يقامر علـى أهله وماله, فـيقعد حزينا سلـيبـا ينظر إلـى ماله فـي يدي غيره, فكانت تورث بـينهم عداوةً وبغضاء, فنهى الله عن ذلك وقدّم فـيه والله أعلـم بـالذي يُصْلـح خـلقه.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالـى قد سمى هذه الأشياء التـي سماها فـي هذه الاَية رجسا وأمر بـاجتنابها.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية, وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دعاء عمر رضي الله عنه فـي أمر الـخمر, وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نال سعدا من الأنصاريّ عند انتشائهما من الشراب, وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يـلـحق أحدهم عند ذهاب ماله بـالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضه. ولـيس عندنا بأيّ ذلك كان خبر قاطع للعذر, غير أنه أي ذلك كان, فقد لزم حكم الاَية جميع أهل التكلـيف, وغير ضائرهم الـجهل بـالسبب الذي له نزلت هذه الاَية, فـالـخمر والـميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فرض علـى جميع من بلغته الاَية من التكلـيف اجتناب جميع ذلك, كما قال تعالـى: فـاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ.
الآية : 92
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَا عَلَىَ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }..
يقول تعالـى ذكره: إنـما الـخمر والـميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فـاجتنبوه, وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فـي اجتنابكم ذلك واتبـاعكم أمره فـيـما أمركم به من الانزجار عما زجركم عنه من هذه الـمعانـي التـي بـينها لكم فـي هذه الاَية وغيرها, وخالفوا الشيطان فـي أمره إياكم بـمعصية الله فـي ذلك وفـي غيره, فإنه إنـما يبغي لكم العداوة والبغضاء بـينكم بـالـخمر والـميسر. واحْذَرُوا يقول: واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عندما نهاكم عنه من هذه الأمور التـي حرّمها علـيكم فـي هذه الاَية وغيرها, أو يفقدكم عندما أمركم به فتوبقوا أنفسكم وتهلكوها. فإنْ تَوَلّـيْتُـمْ يقول: فإن أنتـم لـم تعملوا بـما أمرناكم به وتنتهوا عما نهيناكم عنه ورجعتـم مدبرين عما أنتـم علـيه من الإيـمان والتصديق بـالله وبرسوله واتبـاع ما جاءكم به نبـيكم فـاعْلَـمُوا أنّـمَا علـى رَسُولِنا البَلاغُ الـمُبِـينُ يقول: فـاعلـموا أنه لـيس علـى من أرسلناه إلـيكم بـالنذارة غير إبلاغكم الرسالة التـي أرسل بها إلـيكم, مبـينة لكم بـيانا يوضح لكم سبـيـل الـحقّ والطريق الذي أمرتـم أن تسلكوه وأما العقاب علـى التولـية والانتقام بـالـمعصية, فعلـى الـمرسَل إلـيه دون الرسل. وهذا من الله تعالـى وعيد لـمن تولـى عن أمره ونهيه, يقول لهم تعالـى ذكره: فإن تولـيتـم عن أمري ونهي, فتوقعوا عقابـي واحذروا سخطي.
الآية : 93
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوَاْ إِذَا مَا اتّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمّ اتّقَواْ وّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }..
يقول تعالـى ذكره للقوم الذين قالوا إذ أنزل الله تـحريـم الـخمر بقوله: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِر والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ: كيف بـمن هلك من إخواننا وهمُ يشربونها وبنا وقد كنا نشربها: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ منكم حرج فـيـما شربوا من ذلك فـي الـحال التـي لـم يكن الله تعالـى حرّمه علـيهم, إذَا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ يقول: إذا ما اتقـى الله الأحياء منهم, فخافوه وراقبوه فـي اجتنابهم ما حرّم علـيهم منه وصدّقوا الله ورسوله فـيـما أمراهم ونهاهم, فأطاعوهما فـي ذلك كله. وعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ يقول: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله فـي ذلك مـما كلفهم بذلك ربهم. ثُمّ اتّقَوْا وآمَنُوا يقول: ثم خافوا الله وراقبوه بـاجتنابهم مـحارمه بعد ذلك التكلـيف أيضا, فثبتوا علـى اتقاء الله فـي ذلك والإيـمان به, ولـم يغيروا ولـم يبدّلو. ثُمّ اتّقَوْا وأحْسَنُوا يقول: ثم خافوا الله, فدعاهم خوفهم الله إلـى الإحسان. وذلك الإحسان هو العمل بـما لـم يفرضه علـيهم من الأعمال, ولكنه نوافل تقرّبوا بها إلـى ربهم طلب رضاه وهربـا من عقابه. وَاللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ يقول: والله يحبّ الـمتقرّبـين إلـيه بنوافل الأعمال التـي يرضاها. فـالاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقـي أمر الله بـالقبول والتصديق والدينونة به والعمل والاتقاء الثانـي: الاتقاء بـالثبـات علـى التصديق وترك التبديـل والتغيـير والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بـالإحسان والتقرب بنوافل الأعمال.
فإن قال قائل: ما الدلـيـل علـى أن الاتقاء الثالث هو الاتقاء بـالنوافل دون أن يكون ذلك بـالفرائض؟ قـيـل: إنه تعالـى ذكره قد أخبر عن وضعه الـجناح عن شاربـي الـخمر التـي شربوها قبل تـحريـمه إياها إذا هم اتقوا الله فـي شربها بعد تـحريـمها وصدّقوا الله ورسوله فـي تـحريـمها وعملوا الصالـحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك, وقد مضى ذكره فـي آية واحدة.
وبنـحو الذي قلنا من أن هذه الاَية نزلت فـيـما ذكرنا أنها نزلت فـيه, جاءت الأخبـار عن الصحابة والتابعين. ذكر من قال ذلك:
9850ـ حدثنا هناد بن السري وأبو كريب, قالا: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما تـحريـم الـخمر قالوا: يا رسول الله, فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الـخمر؟ فنزلت: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُناحٌ... الاَية.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الله, عن إسرائيـل بإسناده, نـحوه.
9851ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: ثنـي عبد الكبـير بن عبد الـمـجيد, قال: أخبرنا عبـاد بن راشد, عن قتادة, عن أنس بن مالك, قال: بـينا أنا أدير الكأس علـى أبـي طلـحة وأبـي عبـيدة بن الـجرّاح ومعاذ بن جبل وسهيـل بن بـيضاء وأبـي دجانة, حتـى مالت رءوسهم من خـلـيط بسر وتـمر, فسمعنا مناديا ينادي: ألا إن الـخمر قد حرّمت قال: فما دخـل علـينا داخـل ولا خرج منا خارج حتـى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال. وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا فأصبنا من طيب أمّ سلـيـم ثم خرجنا إلـى الـمسجد, وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ... إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ. فقال رجل: يا رسول الله, فما منزلة من مات منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالـى: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا... الاَية. فقال رجل لقتادة: سمعته من أنس بن مالك؟ قال: نعم, وقال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, وحدثنـي من لـم يكذب, والله ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب.
9852ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن البراء, قال: لـما حرّمت الـخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الـخمر؟ فنزلت: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا... الاَية.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, قال: قال البراء: مات ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الـخمر, فلـما نزل تـحريـمها, قال أناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الاَية: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ... الاَية.
9853ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا داود, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: نزلت: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا فـيـمن قُتل ببدر وأُحد مع مـحمد صلى الله عليه وسلم.
9854ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا خالد بن مخـلد, قال: حدثنا علـيّ بن مسهر, عن الأعمش, عن إبراهيـم عن علقمة, عن عبد الله, قال: لـما نزلت: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قِـيـلَ لـي أنْتَ مِنْهُمْ».
9855ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا جامع بن حماد, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا... إلـى قوله: وَاللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ لـما أنزل الله تعالـى ذكره تـحريـم الـخمر فـي سورة الـمائدة بعد سورة الأحزاب, قال فـي ذلك رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أُحد وهم يشربونها, فنـحن نشهد أنهم من أهل الـجنة فأنزل الله تعالـى ذكره: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا إذَا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ ثُمّ اتّقَوْا وآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وأحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ يقول: شربها القوم علـى تقوى من الله وإحسان وهي لهم يومئذٍ حلال, ثم حرّمت بعدهم, فلا جناح علـيهم فـي ذلك.
9856ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا قالوا: يا رسول الله, ما نقول لإخواننا الذين مضوا, كانوا يشربون الـخمر ويأكلون الـميسر؟ فأنزل الله: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا يعنـي قبل التـحريـم إذا كانوا مـحسنـين متقـين. وقال مرّة أخرى: لـيس علـى الذين آمنوا وعملوا الصالـحات جناح فـيـما طعموا من الـحرام قبل أن يحرّم علـيهم إذا ما اتقوا وأحسنوا بعد ما حرّم وهو قوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فـانْتَهَى فَلَهُ ما سَلَفَ.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا يعنـي بذلك رجالاً من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الـخمر قبل أن تـحرّم الـخمر, فلـم يكن علـيهم فـيها جناح قبل أن تـحرّم, فلـما حرّمت قالوا: كيف تكون علـينا حراما وقد مات إخواننا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالـى لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُواإذا ما اتّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ يقول: لـيس علـيهم حرج فـيـما كانوا يشربون قبل أن أحرّمها إذا كانوا مـحسنـين متقـين, والله يحب الـمـحسنـين.
9857ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله تعالـى: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ فِـيـما طَعِمُوا لـمن كان يشرب الـخمر مـمن قتل مع مـحمد صلى الله عليه وسلم ببدر وأُحد.
9858ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, عن الضحاك, قوله: لَـيْسَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ جُنَاحٌ... الاَية: هذا فـي شأن الـخمر حين حُرّمت, سألوا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله هذه الاَية.
الآية : 94
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مّنَ الصّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }..
يقول تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله لَـيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ يقول: لـيختبرنكم الله بشيء من الصيد, يعنـي: ببعض الصيد. وإنـما أخبرهم تعالـى ذكره أنه يبلوهم بشيء, لأنه لـم يبلهم بصيد البحر وإنـما ابتلاهم بصيد البرّ, فـالابتلاء ببعض لـم يـمتنع. وقوله: تَنالُه أيْدِيكُمْ يعنـي: إما بـالـيد, كالبـيض والفراخ وإما بإصابة النبل والرماح, وذلك كالـحمر والبقر والظبـاء, فـيـمتـحنكم به فـي حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجكم.
وبنـحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9859ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: لَـيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال: أيديكم صغار الصيد, أخذ الفراخ والبـيض. و «الرماح», قال: كبـار الصيد.
حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن داود, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال: النبل, ورماحكم تنال كبـير الصيد, وأيديكم تنال صغير الصيد, أخذ الفراخ والبـيض.
9860ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن حميد الأعرج, عن مـجاهد فـي قوله: لَـيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال: ما لا يستطيع أن يفرّ من الصيد.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفـيان, عن حميد الأعرج, عن مـجاهد, مثله.
9861ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره, يبتلـي الله تعالـى به عبـاده فـي إحرامهم حتـى لو شاءوا نالوه بأيديهم, فنهاهم الله أن يقربوه.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان الثوري, عن حميد الأعرج, ولـيث عن مـجاهد فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لَـيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال: الفراخ والبـيض, وما لا يستطيع أن يفرّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِـيَعْلَـمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بـالغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمُ.
يعنـي تعالـى ذكره: لـيختبرنكم الله أيها الـمؤمنون ببعض الصيد فـي حال إحرامكم, كي يعلـم أهل طاعة الله والإيـمان به والـمنتهون إلـى حدوده وأمره ونهيه, من الذي يخاف الله, فـيتقـي ما نهاه عنه ويجتنبه خوف عقابه بـالغيب, بـمعنى: فـي الدنـيا بحيث لا يراه. وقد بـينا أن الغيب إنـما هو مصدر قول القائل: غاب عنـي هذا الأمر فهو يغيب غيبـا وغيبة, وأن ما لـم يعاين فإن العرب تسميه غيبـا.
فتأويـل الكلام إذن: لـيعلـم أولـياء الله من يخاف الله فـيتقـي مـحارمه التـي حرّمها علـيه من الصيد وغيره, بحيث لا يراه ولا يعاينه.
وأما قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فإنه يعنـي: فمن تـجاوز حدّ الله الذي حدّه له بعد ابتلائه بتـحريـم الصيد علـيه وهو حرام, فـاستـحلّ ما حرم الله علـيه منه بأخذه وقتله فَلَهُ عَذَابٌ من الله ألِـيـمٌ يعنـي: مؤلـم موجع.
الآية : 95
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مّتَعَمّداً فَجَزَآءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }..
يقول تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله لا تَقْتُلُوا الصّيْدَ الذي بـينت لكم, وهو صيد البرّ دون صيد البحر وأنْتُـمْ حُرُمٌ يقول: وأنتـم مـحرمون بحجّ أو عمرة والـحُرُم: جمع حرام, والذكر والأنثى فـيه بلفظ واحد, تقول: هذا رجل حَرَام وهذه امرأة حَرَام, فإذا قـيـل مُـحْرم, قـيـل للـمرأة مـحرمة. والإحرام: هو الدخول فـيه, يقال: أحرم القوم: إذا دخـلوا فـي الشهر الـحرام, أو فـي الـحرم. فتأويـل الكلام: لا تقتلوا الصيد وأنتـم مـحرمون بحجّ أو عمرة. وقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدًا فإن هذا إعلام من الله تعالـى ذكره عبـاده حكم القاتل من الـمـحرمين الصيد الذي نهاه عن قتله متعمدا.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة العمد الذي أوجب الله علـى صاحبه به الكفـارة والـجزاء فـي قتله الصيد. فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد مع نسيان قاتله إحرامه فـي حال قتله, وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدا قتله فلا حكم علـيه وأمره إلـى الله. قالوا: وهذا أجلّ أمرا من أن يحكم علـيه أو يكون له كفّـارة. ذكر من قال ذلك:
9862ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ من قتله منكم ناسيا لإحرامه متعمدا لقتله, فذلك الذي يُحكم علـيه. فإن قتله ذاكرا لـحُرْمه متعمدا لقتله, لـم يحكم علـيه.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد فـي الذي يقتل الصيد متعمدا, وهو يعلـم أنه مـحرم ومتعمد قتله, قال: لا يحكم علـيه, ولا حجّ له. وقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا قال: هو العمد الـمكفر, وفـيه الكفـارة والـخطأ أن يصيبه, وهو ناس إحرامه, متعمدا لقتله, أو يصيبه وهو يريد غيره, فذلك يحكم علـيه مرّة.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: لا تَقْتُلُوا الصّيْدُ وأنْتُـمْ حُرُمٌ, وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدًا غير ناس لـحرمه ولا مريد غيره, فقد حلّ ولـيست له رخصة. ومن قتله ناسيا أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد الـمكفر.
حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا قال: متعمدا لقتله, ناسيا لإحرامه.
حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا الفضيـل بن عياض, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: العمد هو الـخطأ الـمكفّر.
حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا يونس بن مـحمد, قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد, قال: حدثنا لـيث قال: قال مـجاهد: قوله الله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ قال: فـالعمد الذي ذكر الله تعالـى أن يصيب الصيد وهو يريد غيره فـيصيبه, فهذا العمد الـمكفّر فأما الذي يصيبه غيرَ ناس ولا مريد لغيره, فهذا لا يحكم علـيه, هذا أجَلّ من أن يحكم علـيه.
حدثنا ابن وكيع, ومـحمد بن الـمثنى, قالا: حدثنا مـحمد بن جعفر, عن شعبة, عن الهيثم, عن الـحكم, عن مـجاهد, أنه قال فـي هذه الاَية: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا قال: يقتله متعمدا لقتله, ناسيا لإحرامه.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, قال: حدثنا شعبة, عن الهيثم, عن الـحكم, عن مـجاهد, مثله.
9863ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: قال ابن جريج: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا غير ناس لـحُرمه ولا مريد غيره, فقد حلّ ولـيست له رخصة. ومن قتله ناسيا لـحرمه أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد الـمكفّر.
9864ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سهل بن يوسف, عن عمرو, عن الـحسن: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا للصيد ناسيا لإحرامه, فمن اعْتَدَى بَعْدَ ذلك متعمدا للصيد يذكر إحرامه.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا مـحمد بن أبـي عديّ, قال: حدثنا إسماعيـل بن مسلـم, قال: كان الـحسن يفتـي فـيـمن قتل الصيد متعمدا ذاكرا لإحرامه: لـم يحكم علـيه. قال إسماعيـل, وقال حماد عن إبراهيـم, مثل ذلك.
9865ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا عفـان بن مسلـم, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, قال: أمرنـي جعفر بن أبـي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الاَية: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَرَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ... الاَية, فسألته, فقال: كان عطاء يقول: هو بـالـخيار أيّ ذلك شاء فعل, إن شاء أهدى وإن شاء أطعم وإن شاء صام. فأخبرت به جعفرا, وقلت: ما سمعتَ فـيه؟ فتلكأ ساعة ثم جعل يضحك, ولا يخبرنـي, ثم قال: كان سعيد بن جبـير يقول: يحكم علـيه من النعم هديا بـالغ الكعبة, فإن لـم يجد يحكم علـيه ثمنه, فقوّم طعاما فتصدّق, فإن لـم يجد علـيه حكم الصيام فـيه من ثلاثة أيام إلـى عشرة.
حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا نافع بن يزيد, قال أخبرنـي ابن جريج, قال: قال مـجاهد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا غير ناس لـحُرمه ولا مريد غيره فقد حلّ ولـيست له رخصة, ومن قتله ناسيا أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد الـمكفّر.
9866ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فـيه الصيد وهو ناس لـحرمه أو جاهل أن قتله غير مـحرّم, فهؤلاء الذين يحكم علـيهم. فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله وهو يعرف أنه مـحروم وأنه حرام, فذلك يوكل إلـى نقمة الله, وذلك الذي جعل الله علـيه النقمة.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله:وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا قال: متعمدا لقتله, ناسيا لإحرامه.
وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من الـمـحرم لقتل الصيد ذاكرا لـحُرمه. ذكر من قال ذلك:
9867ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن ابن جريج, عن عطاء, قال: يحكم علـيه فـي العمد والـخطإ والنسيان.
9868ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: حدثنا ابن جريج, وحدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج, قال: قال طاوس: والله ما قال الله إلاّ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا.
9869ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنـي بعض أصحابنا عن الزهري أنه قال: نزل القرآن بـالعمد, وجرت السنة فـي الـخطإ. يعنـي فـي الـمـحرم يصيب الصيد.
9870ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصّيْدَ وأنْتُـمْ حُرُمٌ قال: إن قتله متعمدا أو ناسيا حكم علـيه, وإن عاد متعمدا عجلت له العقوبة, إلاّ أن يعفو الله.
9871ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن الأعمش, عن عمرو بن مرّة, عن سعيد بن جبـير, قال: إنـما جعلت الكفّـارة فـي العمد, ولكن غلّظ علـيهم فـي الـخطأ كي يتقوا.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع, قالا: حدثنا الأعمش, عن عمرو بن مرّة, عن سعيد بن جبـير, نـحوه.
حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا نافع بن يزيد, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: كان طاوس يقول: والله ما قال الله إلاّ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا, أن يقال: إن الله تعالـى حرّم قتل صيد البرّ علـى كل مـحرم فـي حال إحرامه ما دام حراما, بقوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصّيْدَ ثم بـين حكم من قتل ما قتل من ذلك فـي حال إحرامه متعمدا لقتله, ولـم يخصص به الـمتعمد قتله فـي حال نسيانه إحرامه, ولا الـمخطىء فـي قتله فـي حال ذكره إحرامه, بل عمّ فـي التنزيـل بإيجاب كلّ قاتل صيد فـي حال إحرامه متعمدا. وغير جائز إحالة ظاهر التنزيـل إلـى بـاطن من التأويـل لا دلالة علـيه من نصّ كتاب ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع من الأمة ولا دلالة من بعض هذه الوجوه. فإذ كان ذلك كذلك, فسواء كان قاتل الصيد من الـمـحرمين عامدا قتله ذاكرا لإحرامه, أو عامدا قتله ناسيا لإحرامه, أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه, فـي أنّ علـى جميعهم من الـجزاء ما قال ربنا تعالـى وهو: مثل ما قتل من النّعَم يحكم بِهِ ذوا عدل من الـمسلـمين أو كفّـارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما, دون القول الذي قاله مـجاهد.
وأما ما يـلزم بـالـخطأ قاتله, فقد بـينا القول فـيه فـي كتابنا «كتاب لطيف القول فـي أحكام الشرائع» بـما أغنى عن ذكره فـي هذا الـموضع. ولـيس هذا الـموضع موضع ذكره, لأن قصدنا فـي هذا الكتاب الإبـانة عن تأويـل التنزيـل, ولـيس فـي التنزيـل للـخطإ ذكر فنذكر أحكامه.
وأما قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ فإنه يقول: وعلـيه كفـارة وبدل, يعنـي بذلك: جزاء الصيد الـمقتول يقول تعالـى ذكره: فعلـى قاتل الصيد جزاء الصيد الـمقتول مثل ما قتل من النعم. وقد ذكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ».
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة وبعض البصريـين: «فَجَزَاءُ مِثْلِ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ» بإضافة الـجزاء إلـى الـمثل وخفض الـمثل. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ بتنوين «الـجزاء» ورفع «الـمثل» بتأويـل: فعلـيه جزاء مثل ما قتل.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ بتنوين «الـجزاء» ورفع «الـمثل», لأن الـجزاء هو الـمثل, فلا وجه لإضافة الشيء إلـى نفسه. وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بـالإضافة, رأوا أن الواجب علـى قاتل الصيد أن يجزى مثله من الصيد بـمثل من النعم ولـيس كذلك كالذي ذهبوا إلـيه, بل الواجب علـى قاتله أن يجزى الـمقتول نظيره من النعم. وإذ كان ذلك كذلك, فـالـمثل هو الـجزاء الذي أوجبه الله تعالـى علـى قاتل الصيد, ولن يضاف الشيء إلـى نفسه, ولذلك لـم يقرأ ذلك قارىء علـمناه بـالتنوين ونصب الـمثل. ولو كان الـمثل غير الـجزاء لـجاز فـي الـمثل النصب إذا نون الـجزاء, كما نصب الـيتـيـم إذ كان غير الإطعام فـي قوله: أوْ إطْعامٌ فِـي ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِـيـما ذَا مَقْرَبَةٍ وكما نصب الأموات والأحياء ونون الكفـات فـي قوله: ألَـمْ نَـجْعَلِ الأرْضَ كِفـاتا أحْياءً وأمْوَاتا إذ كان الكفـات غير الأحياء والأموات. وكذلك الـجزاء, لو كان غير الـمثل لاتسعت القراءة فـي الـمثل بـالنصب إذا نوّن الـجزاء, ولكن ذلك ضاق فلـم يقرأه أحد بتنوين الـجزاء ونصب الـمثل, إذ كان الـمثل هو الـجزاء, وكان معنى الكلام: ومن قتله منكم متعمدا, فعلـيه جزاء هو مثل ما قتل من النعم.
ثم اختلف أهل العلـم فـي صفة الـجزاء, وكيف يجزى قاتل الصيد من الـمـحرمين ما قتل بـمثله من النعم. فقال بعضهم: ينظر إلـى أشبه الأشياء به شبها من النعم, فـيجزيه به ويُهديه إلـى الكعبة. ذكر من قال ذلك:
9872ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدافَجَزَاءٌ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ قال: أما جزاء مثل ما قتل من النعم, فإن قتل نعامة أو حمارا فعلـيه بدنة, وإن قتل بقرة أو أيّلاً أو أَرْوَى فعلـيه بقرة, أو قتل غزالاً أو أرنبـا فعلـيه شاة. وإن قتل ضبّـا أو حربـاء أو يربوعا, فعلـيه سخـلة قد أكلت العشب وشربت اللبن.
9873ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة, عن أبـي مـجاهد, قال: سئل عطاء: أيغرم فـي صغير الصيد كما يغرم فـي كبـيره؟ قال: ألـيس يقول الله تعالـى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ؟
9874ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قال مـجاهد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ قال: علـيه من النعم مثله.
9875ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ قال: إذا أصاب الـمـحرم الصيد وجب علـيه جزاؤه من النعم, فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدّق به, فإن لـم يجد جزاءه قوّم الـجزاء دراهم ثم قوّم الدراهم حنطة ثم صام مكان كلّ نصف صاع يوما. قال: وإنـما أريد بـالطعام الصوم, فإذا وجد طعاما وجد جزاء.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن منصور, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفّـارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما قال: إذا أصاب الـمـحرم الصيد حكم علـيه جزاؤه من النعم, فإن لـم يجد نظركم ثمنه قال ابن حميد: نظركم قـيـمته فقوّم علـيه ثمنه طعاما, فصام مكان كل نصف صاع يوما, أو كفّـارة طعام مساكين, أو عدل ذلك صياما. قال: إنـما أريد بـالطعام: الصيام, فإذا وجد الطعام وجد جزاءه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن سفـيان بن حسين, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ فإن لـم يجد هديا, قوّم الهدى علـيه طعاما وصام عن كلّ صاع يومين.
حدثنا هناد. قال: عبد بن حميد, عن منصور, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس فـي هذه الاَية: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ قال: إذا أصاب الرجل الصيد حكم علـيه, فإن لـم يكن عنده قوّم علـيه ثمنه طعام ثم صام للكّ نصف صاع يوما.
9876ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب, قالا: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك بن عمير, عن قبـيصة بن جابر, قال: ابتدرت وصاحب لـي ظبـيا فـي العقبة, فأصبته. فأتـيت عمر بن الـخطاب فذكرت ذلك له, فأقبل علـيّ رجل إلـى جنبه, فنظرا فـي ذلك, فقال: اذبح كبشا.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن الشعبـي, قال: أخبرنـي قبـيصة بن جابر نـحوا مـما حدّث به عبد الـملك.
9877ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن الـمسعودي, عن عبد الـملك بن عمير, عن قبـيصة بن جابر, قال: قتل صاحب لـي ظبـيا وهو مـحرم, فأمره عمر أن يذبح شاة, فـيتصدّق بلـحمها ويُسْقِـي إهابها.
9878ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن داود بن أبـي هند, عن بكر بن عبد الله الـمزنـي, قال: قتل رجل من الأعراب وهو مـحرم ظبـيا, فسأل عمر, فقال له عمر: أهد شاة.
9879ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن حصين, وحدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا ابن فضيـل, قال: حدثنا حصين, عن الشعبـيّ, قال: قال قبـيصة بن جابر: أصبت ظبـيا وأنا مـحرم, فأتـيت عمر فسألته عن ذلك, فأرسل إلـى عبد الرحمن بن عوف, فقلت: يا أمير الـمؤمنـين إن أمره أهون من ذلك قال: فضربنـي بـالدرّة حتـى سابقته عدوا. قال: ثم قال: قتلت الصيد وأنت مـحرم ثم تُغمص الفتـيا؟ قال: فجاء عبد الرحمن, فحكما شاة.
9880ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ قال: إذا قتل الـمـحرم شيئا من الصيد حكم علـيه, فإن قتل ظبـيا أو نـحوه فعلـيه شاة تذبح بـمكة, فإن لـم يجد فإطعام ستة مساكين, فإن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام, فإن قتل أيّلاً أو نـحوه فعلـيه بقرة وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نـحوه فعلـيه بدنة من الإبل.
9881ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: أرأيت إن قتلت صيدا فإذا هو أعور أو أعرج أو منقوص أغرم مثله؟ قال: نعم, إن شئت. قلت: أُوفـي أحبّ إلـيك؟ قال: نعم. وقال عطاء: وإن قتلت ولد الظبـي ففـيه ولد شاة, وإن قتلت ولد بقرة وحشية ففـيه ولد بقرة إنسية مثله, فكل ذلك علـى ذلك.
9882ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان البـاهلـي, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ: ما كان من صيد البرّ مـما لـيس له قرن الـحمار والنعامة فعلـيه مثله من الإبل, وما كان ذا قرن من صيد البرّ من وعل أو أيـل فجزاؤه من البقر, وما كان من ظبـي فمن الغنـم مثله, وما كان من أرنب ففـيها ثنـية, وما كان من يربوع وشبهه ففـيه حمل صغير, وما كان من جرادة أو نـحوها ففـيه قبضة من طعام, وما كان من طير البرّ ففـيه أن يقوّم ويتصدّق بثمنه, وإن شاء صام لكلّ نصف صاع يوما. وإن أصاب فرخ طير برية أو بـيضها فـالقـيـمة فـيها طعام أو صوم علـى الذي يكون فـي الطير. غير أنه قد ذكر فـي بـيض النعام إذا إصابها الـمـحرم أن يحمل الفحل علـى عدّة من أصاب من البـيض علـى بِكارة الإبل, فما لقح منها أهداه إلـى البـيت, وما فسد منها فلا شيء فـيه.
9883ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا نافع, قال: أخبرنـي ابن جريج, قال: قال مـجاهد: من قتله يعنـي الصيد ناسيا, أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد الـمكفّر, فعلـيه مثله هديا بـالغ الكعبة, فإن لـم يجد ابتاع بثمنه طعاما, فإن لـم يجد صام عن كلّ مدّ يوما. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة, كان له إن كان ذا يسار ما شاء, إن شاء يهدي جزورا أو عَدلها طعاما أو عدلها صياما, أيهنّ شاء من أجل قوله: فَجَزَاءٌ أو كذا قال: فكلّ شيء فـي القرآن أوأو, فلـيختر منه صاحبه ما شاء.
9884ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا نافع, قال: أخبرنـي ابن جريج, قال: أخبرنـي الـحسن بن مسلـم, قال: من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعدا, فذلك الذي قال الله تعالـى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مَنَ النّعَمِ. وأما كفّـارَة طَعَام مَسَاكِين فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فـيه هدي, العصفور يقتل فلا يكون فـيه. قال: أو عدل ذلك صياما, عدل النعامة, أو عدل العصفور, أو عدل ذلك كله.
وقال آخرون: بل يقوّم الصيد الـمقتول قـيـمته من الدراهم, ثم يشتري القاتل بقـيـمته نِدّا من النعم, ثم يهديه إلـى الكعبة. ذكر من قال ذلك:
9885ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبدة, عن إبراهيـم, قال: ما أصاب الـمـحرم من شيء حكم فـيه قـيـمته.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن حماد, قال: سمعت إبراهيـم يقول: فـي كلّ شيء من الصيد ثمنه.
وأولـى القولـين فـي تأويـل الاَية, ما قال عمر وابن عبـاس ومن قال بقولهما: إن الـمقتول من الصيد يجزى بـمثله من النعم, كما قال الله تعالـى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم وقد قال الله تعالـى: مِنَ النّعَمِ لأن الدراهم لـيست من النعم فـي شيء.
فإن قال قائل: فإن الدراهم وإن لـم تكن مثلاً للـمقتول من الصيد, فإنه يشتري بها الـمثل من النعم, فـيهديه القاتل, فـيكون بفعله ذلك كذلك جازيا بـما قتل من الصيد مثلاً من النعم؟ قـيـل له: أفرأيت إن كان الـمقتول من الصيد صغيرا أو كبـيرا أو سلـيـما, أو كان الـمقتول من الصيد كبـيرا أو سلـيـما بقـيـمته من النعم إلاّ صغيرا أو معيبـا, أيجوز له أن يشتري بقـيـمته خلافه وخلاف صفته فـيهديه, أم لا يجوز ذلك له, وهو لا يجد إلاّ خلافه؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقـيـمته إلاّ مثله, تُرك قوله فـي ذلك لأن أهل هذه الـمقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقـيـمته ذلك فـيهديه إلاّ ما يجوز فـي الضحايا, وإذا أجازوا شِرَى مثل الـمقتول من الصيد بقـيـمته وإهداءها وقد يكون الـمقتول صغيرا معيبـا, أجازوا فـي الهدي ما لا يجوز فـي الأضاحي, وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقـيـمته فـيهديه إلاّ ما يجوز فـي الضحايا أوضح بذلك من قوله الـخلافَ لظاهر التنزيـل وذلك أن الله تعالـى أوجب علـى قاتل الصيد من الـمـحرمين عمدا الـمثل من النعم إذا وجدوه وقد زعم قائل هذه الـمقالة أنه لا يجب علـيه الـمثل من النعم وهو إلـى ذلك واجد سبـيلاً.
ويقال لقائل: ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر: ما علـى قاتل ما لا تبلغ من الصيد قـيـمته ما يصاب به من النعم ما يجوز فـي الأضاحي من إطعام ولا صيام, لأن الله تعالـى إنـما خير قاتل الصيد من الـمـجرمين فـي أحد الثلاثة الأشياء التـي سماها فـي كتابه, فإذا لـم يكن له إلـى واحد من ذلك سبـيـل سقط عنه فرض الاَخرين, لأن الـخيار إنـما كان له وله إلـى الثلاثة سبـيـل فإذا لـم يكون له إلـى بعض ذلك سبـيـل فرض الـجزاء عنه, لأنه لـيس مـمن عُنـي بـالاَية نظير الذي قلت أنت إنه إذا لـم يكن الـمقتول من الصيد يبلغ قـيـمته ما يصاب من النعم مـما يجوز فـي الضحايا, فقد سقط فرض الـجزاء بـالـمثل من النعم عنه, وإنـما علـيه الـجزاء بـالإطعام أو الصيام هل بـينك وبـينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول فـي أحدهما قولاً إلاّ ألزم فـي الاَخر مثله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ.
يقول تعالـى ذكره: يحكم بذلك الـجزاء الذي هو مثل الـمقتول من الصيد من النعم عدلان منكم, يعنـي: فقـيهان عالـمان من أهل الدين والفضل. هَدْيا يقول: يقضي بـالـجزاء ذوا عدل أن يُهدي فـيبلغ الكعبة. والهاء فـي قوله «يحكم به» عائدة علـى الـجزاء, ووجه حكم العدلـين إذا أرادا أن يحكما بـمثل الـمقتول من الصيد من النعم علـى القاتل أن ينظرا إلـى الـمقتول ويستوصفـاه, فإن ذكر أنه أصاب ظبـيا صغيرا حكما علـيه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله فـي السنّ والـجسم, فإن كان الذي أصاب من ذلك كبـيرا حكما علـيه من الضأن بكبـير, وإن كان الذي أصاب حمار وحش حكما علـيه ببقرة إن كان الذي أصاب كبـيرا من البقر, وإن كان صغيرا فصغيرا, وإن كان الـمقتول ذكرا فمثله من ذكور البقر, وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى, ثم كذلك ينظران إلـى أشبه الأشياء بـالـمقتول من الصيد شبها من النعم فـيحكمان علـيه به كما قال تعالـى.
وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل علـى اختلاف فـي ذلك بـينهم. ذكر من قال ذلك بنـحو الذي قلنا فـيه:
9886ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا داود بن أبـي هند, عن بكر بن عبد الله الـمزنـي, قال: كان رجلان من الأعراب مـحرمَين, فأحاش أحدهما ظبـيا فقتله الاَخر, فأتـيا عمر وعنده عبد الرحمن بن عوف, فقال له عمر: وما ترى؟ قال: شاة. قال: وأنا أرى ذلك, اذهبـا فأهديا شاة فلـما مضيا, قال أحدهما لصاحبه: ما درى أمير الـمؤمنـين ما يقول حتـى سأل صاحبه. فسمعها عمر, فردّهما فقال: هل تقرآن سورة الـمائدة؟ فقالا: لا. فقرأها علـيهما: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكمْ. ثم قال: استعنت بصاحبـي هذا.
9887ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب, قالا: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك بن عمَير, عن قبـيصة بن جابر, قال: ابتدرت أنا وصاحب لـي ظبـيا فـي العقبة, فأصبته. فأتـيت عمر بن الـخطاب, فذكرت ذلك له, فأقبل علـى رجل إلـى جنبه, فنظرا فـي ذلك. قال: فقال: اذبح كبشا قال يعقوب فـي حديثه: فقال لـي اذبح شاة. فـانصرفت فأتـيت صاحبـي, فقلت: إن أمير الـمؤمنـين لـم يدر ما يقول فقال صاحبـي: انـحر ناقتك فسمعها عمر بن الـخطاب, فأقبل علـيّ ضربـا بـالدرّة, وقال: تقتل الصيد وأنت مـحرم وتَغْمِصُ الفتـيا إن الله تعالـى يقول فـي كتابه: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هذا ابن عوف وأنا عمر.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن الشعبـي, قال: أخبرنـي قبـيصة بن جابر, بنـحو ما حدّث به عبد الـملك.
9888ـ حدثنا هناد وأبو هشام, قالا: حدثنا وكيع, عن الـمسعودي, عن عبد الـملك بن عمير, عن قبـيصة بن جابر, قال: خرجنا (حجاجا) فكنا إذا صلـينا الغداة, اقتدرنا رواحلنا نتـماشى نتـحدّث. قال: فبـينـما نـحن ذات غداة إذ سنـح لنا ظبـيٌ أو برَح, فرماه رجل منا بحجر, فما أخطأ خُشَشاءه, فركب رَدْعَه ميتا. قال: فعظُمنا علـيه فلـما قدمنا مكة, خرجت معه حتـى أتـينا عمر, فقصّ علـيه القصة, قال: وإذا إلـى جنبه رجل كأن وجهه قُلْبُ فضة يعنـي عبد الرحمن بن عوف فـالتفت إلـى صاحبه فكلـمه قال: ثم أقبل علـيّ الرجل, قال: أعمدا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه, وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلاّ قد أشركت بـين العمد والـخطأ, اعمد إلـى شاة فـاذبحها, وتصدّق بلـحمها, وأسق إهابها قال: فقمنا من عنده, فقلت: أيها الرجل عظم شعائر الله فما درى أمير الـمؤمنـين ما يفتـيك حتـى سأل صاحبه, اعمد إلـى ناقتك فـانـحرها ففعل ذاك. قال قبـيصة: ولا أذكر الاَية من سورة الـمائدة: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ. قال: فبلغ عمر مقالتـي, فلـم يفجأنا إلاّ ومعه الدرّة, قال: فعلا صاحبـي ضربـا بـالدرّة, وجعل يقول: أقتلت فـي الـحرم وسفّهت الـحكم قال: ثم أقبل علـيّ فقلت: يا أمير الـمؤمنـين, لا أحلّ لك الـيوم شيئا يحرم علـيك منـي. قال: يا قبـيصة بن جابر, إنـي أراك شاب السنّ فسيح الصدر بَـيّن اللسان, وإن الشاب يكون فـيه تسعة أخلاق حسنة وخـلق سيّء, فـيفسد الـخـلق السيء الأخلاق الـحسنة, فإياك وعثرات الشبـاب
9889ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن مخارق, عن طارق, قال: أوطأ أربد ضبّـا فقتله وهو مـحرم, فأتـى عمر لـيحكم علـيه, فقال له عمر: احكم معي فحكما فـيه جديا قد جمع الـماء والشجر, ثم قال عمر: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ.
9890ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا جامع بن حماد, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً أصاب صيدا, فأتـى ابن عمر فسأله عن ذلك وعنده عبد الله بن صفوان, فقال ابن عمر لابن صفوان: إما إن أقول فتصدّقنـي, وإما أن تقول فأصدّقك فقال ابن صفوان: بل أنت فقل فقال ابن عمر, ووافقه علـى ذلك عبد الله بن صفوان.
9891ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا هشام, عن ابن سيرين, عن شريح, أنه قال: لو وجدت حكما عدلاً لـحكمت فـي الثعلب جديا, وجديٌ أحبّ إلـيّ من الثعلب.
9892ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن بكير, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبـي مـجلز: أن رجلاً سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيدا وهو مـحرم, وعنده ابن صفوان, فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدّقك, أو أقول فتصدّقنـي قال: قل وأصدّقك.
9893ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبـي وائل, قال: أخبرنـي ابن جرير البجلـي, قال: أصبت ظبـيا وأنا مـحرم, فذكرت ذلك لعمر, فقال: ائت رجلـين من إخوانك فلـيحكما علـيك فأتـيت عبد الرحمن وسعدا, فحكما علـيّ تـيسا أعفر. قال أبو جعفر: الأعفر: الأبـيض.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور بإسناده عن عمر, مثله.
9894ـ حدثنا عبد الـحميد, قال: أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن أشعث بن سوار, عن ابن سيرين, قال: كان رجل علـى ناقة وهو مـحرم, فأبصر ظبـيا يأوي إلـى أكمة, فقال: لأنظرْ أنا أسبق إلـى هذه الأكمة أم هذا الظبـي؟ فوقعت عنز من الظبـاء تـحت قوائم ناقته فقتلتها. فأتـى عمر, فذكر ذلك له, فحكم علـيه هو وابن عوف عنزا عفراء. قال: وهي البـيضاء.
9895ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا أيوب, عن مـحمد: أن رجلاً أوطأ ظبـيا وهو مـحرم. فأتـى عمر فذكر ذلك له وإلـى جنبه عبد الرحمن بن عوف, فأقبل علـى عبد الرحمن فكلـمه, ثم أقبل علـى الرجل, فقال: أهد عنزا عفراء
9896ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم أنه كان يقول: ما أصاب الـمـحرم من شيء لـم يـمض فـيه حكومة, استقبل به, فـيحكم فـيه ذوا عدل.
9897ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: ثنـي وهب بن جرير, قال: حدثنا شعبة, عن يعلـي, عن عمرو بن حبشي قال: سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن عمر عن رجل أصاب ولد أرنب فقال: فـيه ولد ماعز فـيـما أرى أنا. ثم قال لـي: أكذاك؟ فقلت: أنت أعلـم منـي. فقال: قال الله تعالـى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ.
9898ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, وسهل بن يوسف, عن حميد, عن بكر: أن رجلـين أبصرا ظبـيا وهما مـحرمان, فتراهنا, وجعل كل واحد منهما لـمن سبق إلـيه. فسبق إلـيه أحدهما, فرماه بعصاه فقتله. فلـما قدما مكة, أتـيا عمر يختصمان إلـيه وعنده عبد الرحمن بن عوف. فذكرا ذلك له, فقال عمر: هذا قمار, ولا أجيزه ثم نظر إلـى عبد الرحمن, فقال: ما ترى؟ قال: شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فلـما قـفّـى الرجلان من عند عمر, قال أحدهما لصاحبه: ما درى عمر ما يقول حتـى سأل الرجل فردّهما عمر فقال: إن الله تعالـى لـم يرض بعمر وحده فقال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ وأنا عمر, وهذا عبد الرحمن بن عوف.
وقال آخرون: بل ينظر العدلان إلـى الصيد الـمقتول فـيقوّمانه قـيـمته دراهم, ثم يأمران أن يشتري بذلك من النعم هديا. فـالـحاكمان يحكمان فـي قول هؤلاء بـالقـيـمة, وإنـما يحتاج إلـيهما لتقويـم الصيد قـيـمته فـي الـموضع الذي أصابه فـيه. وقد ذكرنا عن إبراهيـم النـخعي فـيـما مضى قبل أنه كان يقول: ما أصاب الـمـحرم من شيء حكم فـيه قـيـمته, وهو قول جماعة من متفقهة الكوفـيـين.
وأما قوله: هَدْيا فإنه مصدر علـى الـحال من الهاء التـي فـي قوله: يَحْكُمُ بِهِ, وقوله: بـالِغَ الكَعْبَةِ من نعت الهدي وصفته. وإنـما جاز أن ينعت به وهو مضاف إلـى معرفة, لأنه فـي معنى النكرة, وذلك أن معنى قوله: بـالِغَ الكَعْبَةِ يبلغ الكعبة, فهو وإن كان مضافـا فمعناه التنوين, لأنه بـمعنى الاستقبـال, وهو نظير قوله: هَذَا عارِضٌ مُـمْطِرُنا فوصف بقوله: «مـمطرنا» عارضا, لأن فـي «مـمطرنا» معنى التنوين, لأن تأويـله الاستقبـال, فمعناه: هذا عارض يـمطرنا, فكذلك ذلك فـي قوله: هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أوْ كَفّـارَةٌ طعَامٌ مسَاكِينَ.
يقول تعالـى ذكره: أو علـيه كفـارة طعام مساكين. والكفّـارة معطوفة علـى «الـجزاء» فـي قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ.
واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة: أوْ كَفّـارَةٌ طعَامِ مسَاكِينَ بـالإضافة. وأما قرّاء أهل العراق, فإن عامتهم قرءوا ذلك بتنوين الكفّـارة ورفع الطعام: أوْ كَفّـارةٌ طعَامُ مسَاكِينَ.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندنا بـالصواب, قراءة من قرأ بتنوين الكفـارة ورفع الطعام, للعلة التـي ذكرناها فـي قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: أوْ كَفّـارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ فقال بعضهم: معنى ذلك أن القاتل وهو مـحرم صيدا عمدا, لا يخـلو من وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التـي ذكر الله تعالـى من مثل الـمقتول هديا بـالغ الكعبة, أو طعام مسكين كفّـارة لـما فعل, أو عدل ذلك صياما, لأنه مخير فـي أيّ ذلك شاء فعل, وأنه بأيها كان كفر فقد أدّى الواجب علـيه وإنـما ذلك إعلام من الله تعالـى عبـاده أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرج حكمه من إحدى الـخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان علـى الـمثل قادرا أن يحكم علـيه بـمثل الـمقتول من النعم, لا يجزيه غير ذلك ما دام للـمثل واجدا. قالوا: فإن لـم يكن له واجدا, أو لـم يكن للـمقتول مثل من النعم, فكفّـارته حينئذٍ إطعام مساكين. ذكر من قال ذلك:
9899ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيا بَـالِغَ الكَعْبَةِ أو كَفّـارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما لِـيَذُوقَ وَبـالَ أمْرِهِ قال: إذ قتل الـمـحرم شيئا من الصيد حكم علـيه فـيه, فإن قتل ظبـيا أو نـحوه فعلـيه شاة تذبح بـمكة. فإن لـم يجدها, فإطعام ستة مساكين. فإن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيلاً أو نـحوه, فعلـيه بقرة. فإن لـم يجد, أطعم عشرين مسكينا, فإن لـم يجد صام عشرين يوما. وإن قتل نعامة أو حمار أو وحش أو نـحوه, فعلـيه بدنة من الإبل. فإن لـم يجد أطعم ثلاثـين مسكينا, فإن لـم يجد صام ثلاثـين يوما. والطعام مدّ مدّ يشبعهم.
9900ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: النبـي صلى الله عليه وسلم يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصّيْدَ وأنْتُـمْ حُرُمٌ... إلـى قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فـالكفّـارة من قتل ما دون الأرنب إطعام.
9901ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن الـحكم, عن ابن عبـاس, قال: إذا أصاب الـمـحرم الصيد حكم علـيه جزاؤه من النعم, فإن وجد جزاء ذبحه فتصدّق به, وإن لـم يجد جزاءه قوّم الـجزاء دراهم, ثم قوّمت الدراهم حنطة, ثم صام مكان كلّ صاع يوما. قال: إنـما أريد بـالطعام: الصوم, فإذا وجد جزاء.
9902ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن زهير, عن جابر, عن عطاء ومـجاهد وعامر: أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاما لِـيَذُوقَ قال: إنـما الطعام لـمن لـم يجد الهدي.
9903ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم أنه كان يقول: إذا أصاب الـمـحرم شيئا من الصيد علـيه جزاؤه من النعم, فإن لـم يجد قُوّم الـجزاء دراهم, ثم قوّمت الدراهم طعاما, ثم صام لكلّ نصف صاع يوما.
9904ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد, قال: إذا أصاب الـمـحرم الصيد فحكم علـيه, فإن فضل منه ما لا يتـمّ نصف صاع صام له يوما, ولا يكون الصوم إلا علـى من لـم يجد ثمن هدي فـيحكم علـيه الطعام. فإن لـم يكن عنده طعام يتصدّق به, حكم علـيه الصوم, فصام مكان كلّ نصف صاع يوما. كَفّـارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ قال: فـيـما لا يبلغ ثمن هدي. أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما من الـجزاء إذا لـم يجد ما يشتري به هديا, أو ما يتصدّق به, مـما لا يبلع ثمن هدي, حكم علـيه الصيام مكان كلّ نصف صاع يوما.
9905ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قال مـجاهد: ومَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ قال: علـيه من النعم مثله هديا بـالغ الكعبة, ومن لـم يجد ابتاع بقـيـمته طعاما, فـيطعم كلّ مسكين مدّين, فإن لـم يجد صام عن كلّ مدّين يوما.
9906ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا... إلـى قوله: وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ قال: إذ قتل صيدا فعلـيه جزاؤه مثل ما قتل من النعم, فإن لـم يجد ما حكم علـيه قوّم الفداء كم هو درهما, وقدّر ثمن ذلك بـالطعام علـى الـمسكين, فصام عن كلّ مسكين يوما, ولا يحلّ طعام الـمسكين, لأن من وجد الطعام مسكين فهو يجد الفداء.
9907ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج, قال: قال لـي الـحسن بن مسلـم: من أصاب الصيد مـما جزاؤه شاة, فذلك الذي قال الله تعالـى: فَجَزَاءٌ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ وما كان من كفّـارة طعام مساكين مثل العصفورة يقتل ولا يبلغ أن يكون فـيه هدي أو عدْلُ ذلك صِيَاما قال عدل النعامة أو العصفور, أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء, فقال: كلّ شيء فـي القرآن «أو أو», فلصاحبه أن يختار ما شاء.
9908ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا سفـيان بن حسين, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس, فـي قوله لا تَقْتُلُوا الصّيْدَ وأنْتُـمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ فإن لـم يجد جزاء, قوّم علـيه الـجزاء طعاما ثم صاع لكلّ صاع يومين,
وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدا عمدا وهو مـحرم, الـخيار بـين إحدى الكفّـارات الثلاث وهي الـجزاء بـمثله من النعم والطعام والصوم. قالوا: وإنـما تأويـل قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ أوْ كَفّـارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما فعلـيه أن يجزي بـمثله من النعم, أو يكفّر بإطعام مساكين أو بعدل الطعام من الصيام. ذكر من قال ذلك:
9909ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, فـي قول الله تعالـى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَة أوْ كَفّـارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما قال: إن أصاب إنسان مـحرم نعامة, فإن له أن كان ذا يسار أن يهدي ما شاء جزورا أو عدلها طعاما أو عدلها صياما. قال: كلّ شيء فـي القرآن «أو أو», فلـيختر منه صاحبه ما شاء.
9910ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حجاج, عن عطاء, فـي قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ قال: ما كان فـي القرآن «أو كذا أو كذا», فصاحبه فـيه بـالـخيار, أيّ ذلك شاء فعل.
9911ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أسبـاط وعبد اوعلـى, عن داود, عن عكرمة, قال: ما كان فـي القرآن «أو أو», فهو فـيه بـالـخيار, وما كان «فمن لـم يجد» فـالأوّل, ثم الذي يـلـيه.
9912ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص, عن عمرو, عن الـحسن, مثله.
9913ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا لـيث, عن عطاء ومـجاهد, أنهما قالا فـي قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ قالا: ما كان فـي القرآن «أو كذا أو كذا», فصاحبه فـيه بـالـخيار أي ذلك شاء فعل.
9914ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك: ما كان فـي القرآن «أو كذا أو كذا», فصاحبه فـيه بـالـخيار, أيّ ذلك شاء فعل.
9915ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو حمزة, عن الـحسن. قال: وأخبرنا عبـيدة, عن إبراهيـم قالا: كلّ شيء فـي القرآن «أو أو», فهو بـالـخيار, أيّ ذلك شاء فعل.
9916ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا حفص, عن لـيث, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: كل شيء فـي القرآن «أو أو» فصاحبه مخير فـيه, وكلّ شيء فمن لـم يجد فـالأول, ثم الذي يـلـيه.
واختلف القائلون بتـخيـير قاتل الصيد من الـمـحرمين بـين الأشياء الثلاثة فـي صفة اللازم له من التكفـير بـالإطعام والصوم إذا اختار الكفّـارة بأحدهما دون الهدي, فقال بعضهم: إذا اختار التكفـير بذلك, فأن الواجب علـيه أن يقوّم الـمثل من النعم طعاما, ثم يصوم مكان كلّ مدّ يوما. ذكر من قال ذلك:
9917ـ حدثنا هناد, قال: أخبرنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: ما أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما؟ قال: إن أصاب ما عدله شاة أقـيـمت الشاة طعاما, ثم جعل مكان كلّ مدّ يوما يصومه.
وقال آخرون: بل الواجب علـيه إذا أراد التكفـير بـالإطعام أو الصوم, أن يقوّم الصيد الـمقتول طعاما, ثم يتصدق بـالطعام إن اختار الصدقة, وإن اختار الصوم صام.
ثم اختلفوا أيضا فـي الصوم, فقال بعضهم: يصوم لكلّ مدّ يوما. وقال آخرون: يصوم مكان كلّ نصف صاع يوما. وقال آخرون: يصوم مكان كلّ صاع يوما.
ذكر من قال: الـمتقوّم للإطعام هو الصيد الـمقتول:
9918ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا جامع بن حماد, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصّيْدَ... الاَية, قال: كان قتادة يقول: يحكمان فـي النعم, فإن كان لـيس صيده ما يبلغ ذلك, نظروا ثمنه فقوّموه طعاما, ثم صام مكان كلّ صاع يومين.
وقال آخرون: لا معنى للتكفـير بـالإطعام, لأن من وجد سبـيلاً إلـى التكفـير بـالإطعام, فهو واجد إلـى الـجزاء بـالـمثل من النعم سبـيلاً, ومن وجد إلـى الـجزاء بـالـمثل من النعم سبـيلاً لـم يجزه التكفـير بغيره. قالوا: وإنـما ذكر الله تعالـى ذكره الكفّـارة بـالإطعام فـي هذا الـموضع لـيدلّ علـى صفة التكفـير بـالصوم لا أنه جعل التكفـير بـالإطعام إحدى الكفّـارات التـي يكفر بها قتل الصيد, وقد ذكرناه تأويـل ذلك فـيـما مضى قبل.
وأولـى الأقوال بـالصواب عندي فـي قوله الله تعالـى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ أن يكون مرادا به: فعلـى قاتله متعمدا مثل الذي قتل من النعم, لا القـيـمة إن اختار أن يجزيه بـالـمثل من النعم وذلك أن القـيـمة إنـما هي من الدنانـير أو الدراهم أو الدنانـير لـيست للصيد بـمثل, والله تعالـى إنـما أوجب الـجزاء مثلاً من النعم.
وأولـى الأقوال بـالصواب عندي فـي قوله: أوْ كَفّـارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما: أن يكون تـخيـيرا, وأن يكون للقاتل الـخيار فـي تكفـيره بقتله الصيد وهو مـحرم بأيّ هذه الكفـارات الثلاث شاء, لأن الله تعالـى جعل ما أوجب فـي قتل الصيد من الـجزاء والكفـارة عقوبة لفعله, وتكفـيرا لذنبه فـي إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حراما علـيه إتلافه فـي حال إحرامه, وقد كان حلالاً له قبل حال إحرامه, كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك فـي حلق الشعر الذي حلقه الـمـحرم فـي حال إحرامه, وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه, ثم منع من حلقه فـي حال إحرامه نظير الصيد, ثم جعل علـيه إن حلقه جزاء من حلقه إياه, فأجمع الـجميع علـى أنه فـي حلقه إياه إذا حلقه من إيذائه مخير فـي تكفـيره, فعلـيه ذلك بأيّ الكفـارات الثلاث شاء, فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من الـمـحرمين, وأنه مخير فـي تكفـيره قتله الصيد بأيّ الكفـارات الثلاث شاء, لا فرق بـين ذلك. ومن أبى ما قلنا فـيه, قـيـل له: حكم الله تعالـى علـى قاتل الصيد بـالـمثل من النعم, أو كفّـارة طعام مساكين, أو عدله صياما, كما حكم علـى الـحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك, فزعمت أن أحدهما مخير فـي تكفـير ما جعل منه, عوض بأيّ الثلاث شاء, وأنكرت أن يكون ذلك للاَخر, فهل بـينك وبـين من عكس علـيك الأمر فـي ذلك فجعل الـخيار فـيه حيث أبـيت وأبى حيث جعلته له فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول فـي أحدهما قولاً, إلا ألزم فـي الاَخر مثله.
ثم اختلفوا فـي صفة التقويـم إذا أراد التكفـير بـالإطعام, فقال بعضهم: يقوّم الصيد قـيـمته بـالـموضع الذي أصابه فـيه, وهو قول إبراهيـم النـخعي, وحماد, وأبـي حنـيفة, وأبـي يوسف, ومـحمد, وقد ذكرت الرواية عن إبراهيـم وحماد فـيـما مضى بـما يدلّ علـى ذلك, وهو نصّ قول أبـي حنـيفة وأصحابه.
وقال آخرون: بل يقوّم ذلك بسعر الأرض التـي يكفّر بها. ذكر من قال ذلك:
9919ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: حدثنا إسرائيـل, عن جابر, عن عامر, قال فـي مـحرم أصاب صيدا بخراسان, قال: يكفّر بـمكة أو بـمنى, وقال: يقوّم الطعام بسعر الأرض التـي يكفّر بها.
9920ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو يـمان, عن إسرائيـل, عن جابر, عن الشعبـي, فـي رجل أصاب صيدا بخراسان, قال: يحكم علـيه بـمكة.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا, أن قاتل الصيد إذا جزاه بـمثله من النعم, فإنـما يجزيه بنظيره فـي خـلق وقدره فـي جسمه من أقرب الأشياء به شبها من الأنعلـم, فإنْ جزاه بـالإطعام قوّمه قـيـمته بـموضعه الذي أصابه فـيه, لأنه هنالك وجب علـيه التكفـير بـالإطعام, ثم إن شاء أطعم بـالـموضع الذي أصابه فـيه وإن شاء بـمكة وإن شاء بغير ذلك من الـمواضع حيث شاء لأن الله تعالـى إنـما شرط بلوغ الكعبة بـالهدي فـي قتل الصيد دون غيره من جزائه, فللـجازي بغير الهدى أن يجزيه بـالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض.
وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل العلـم. ذكر من قال ذلك:
9921ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: حدثنا ابن أبـي عروبة, عن أبـي معشر, عن إبراهيـم قال: ما كان من دم فبـمكة, وما كان من صدقة أو صوم حيث شاء.
وقد خالف ذلك مخالفون, فقالوا: لا يجزىء الهدى والإطعام إلا بـمكة, فأما الصوم فإن كفر به يصوم حيث شاء من الأرض. ذكر من قال ذلك:
9922ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن حماد بن سلـمة, عن قـيس بن سعد, عن عطاء, قال: الدم والطعام بـمكة, والصيام حيث شاء.
9923ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن مالك بن مغول, عن عطاء, قال: كفّـارة الـحجّ بـمكة.
9924ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج, قال: قلت: لعطاء: أين يتصدّق بـالطعام إن بدا له؟ قال: بـمكة من أجل أنه بـمنزله الهدي, قال: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ أوْ هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ من أجل أنه أصابه فـي حرم يريد البـيت فجزاؤه عند البـيت.
فأما الهدي, فإنه جرّاء ما قتل من الصيد, فلن يجزئه من كفّـارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة طيبـا, وينـحره أو يذبحه, ويتصدّق به علـى مساكين الـحرم. ويعنـي بـالكعبة فـي هذا الـموضع: الـحرم كله, ولـمن قدم بهدية الواجب من جزاء الصيد أن ينـحره فـي كلّ وقت شاء قبل يوم النـحر وبعده, ويطعمه وكذلك إن كفّر بـالطعام فله أن يكفّر به متـى أحبّ وحيث أحبّ, وإن كفّر بـالصوم فكذلك.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل, خلا ما ذكرنا من اختلافهم فـي التكفـير بـالإطعام علـى ما قد بـينا فـيـما مضى. ذكر من قال ذلك:
9925ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما هل لصيامه وقت؟ قال: لا, إذ شاء وحيث شاء, وتعجيـله أحبّ إلـيّ.
9926ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: رجل أصاب صيدا فـي الـحجّ أو العمرة, فأرسل بجزائه إلـى الـحرم فـي الـمـحرّم أو غيره من الشهور, أيجزىء عنه؟ قال: نعم ثم قرأ: هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ قال هناد: قال يحيى: وبه نأخذ.
9927ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ابن جريج وابن أبـي سلـيـم, عن عطاء, قال: إذا قدمت مكة بجزاء صيد فـانـحره, فإن الله تعالـى يقول: هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ إلا أن يقدّم فـي العشر, فـيؤخر إلـى يوم النـحر.
9928ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: حدثنا ابن جريج, عن عطاء, قال: يتصدّق الذي يصيب الصيد بـمكة, فإن الله تعالـى يقول: هدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أو علـى قاتل الصيد مـحرما عدل الصيد الـمقتول من الصيام, وذلك أن يقوّم الصيد حيّا غير مقتول من الطعام بـالـموضع الذي قتله فـيه الـمـحرم, ثم يصوم مكان كلّ مدّ يوما وذلك أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم عدل الـمدّ من الطعام بصوم يوم فـي كفّـارة الـمواقع فـي شهر رمضان.
فإن قال قائل: فهلاّ جعلت مكان كلّ صاع فـي جزاء الصيد صوم يوم قـياسا علـى حكم النبـي صلى الله عليه وسلم فـي نظيره, وذلك حكمه علـى كعب بن عجرة, إذ أمره أن يطعم إن كفر بـالإطعام فَرْقا من طعام وذلك ثلاثة آصع بـين ستة مساكين, فإن كفّر بـالصيام أن يصوم ثلاثة أيام, فجعل الأيام الثلاثة فـي الصوم عدلاً من إطعام ثلاثة آصع, فإن ذلك بـالكفـارة فـي جزاء الصيد أشبه من الكفـارة فـي قتل الصيد بكفـارة الـمواقع امرأته فـي شهر رمضان؟ قـيـل: إن القـياس إنـما هو ردّ الفروع الـمختلف فـيها إلـى نظائرها من الأصول الـمـجمع علـيها, ولا خلاف بـين الـجميع من الـحجة, أنه لا يجزىء مكفرّا كفّر فـي قتل الصيد بـالصوم, أن يعدل صوم يوم بصاع طعام. فإن كان ذلك, وكان غير جائز خلافها فـيـما حدّث به من الدين مـجمعة علـيه صحّ بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعام فـي قتل الصيد مخالف حكم معادلته إياه فـي كفّـارة الـحلق, إذا كان غير جائز, وداخـل علـى آخر قـياسا وإنـما يجوز أن يقاس الفرع علـى الأصل, وسواء قال قائل: هلا رددت حكم الصوم فـي كفّـارة قتل الصيد علـى حكمه فـي حلق الأذى فـيـما يعدل به من الطعام وآخر قال: هلا رددت حكم الصوم فـي الـحلق علـى حكمه فـي كفّـارة قتل الصيد فـيـما يعدل به من الطعام, فتوجب علـيه مكان كل مدّ, أو مكان كل نصف صاع صوم يوم.
وقد بـينا فـيـما مضى قبل أن العَدْل فـي كلام العرب بـالفتـح, وهو قدر الشيء من غير جنسه, وأن العِدْل هو قدره من جنسه. وقد كان بعض أهل العلـم بكلام العرب يقول: العَدْل مصدر من قول القائل: عَدَلْت بهذا عَدْلاً حسنا. قال: والعَدْل أيضا بـالفتـح: الـمثل, ولكنهم فرّقوا بـين العدل فـي هذا وبـين عِدْل الـمتاع, بأن كسروا العين من عِدْل الـمتاع, وفتـحوها من قولهم: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وقول الله عزّ وجلّ: أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما كما قالوا: امرأة رزان, وحَجَر رزين.
وقال بعضهم: العَدْل: هو القسط فـي الـحقّ, والعِدْل بـالكسر: الـمثل, وقد بـينا ذلك بشواهد فـيـما مضى. وأما نصب «الصيام» فأنه علـى التفسير كما يقال عندي ملء زقّ سمنا, وقدر رطل عسلاً.
وينـحو الذي قلنا ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9929ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: ما عَدل ذلك صياما؟ قال: عَدْل الطعام من الصيام. قال: لكلّ يوما يؤخذ زعم بصيام رمضان وبـالظهار. وزعم أن ذلك رأى يراه ولـم يسمعه من أحد, ولـم تـمض به سنة. قال: ثم عاودته بعد ذلك بحين, قلت: ما عدل ذلك صياما؟ قال: إن أصاب ما عدله شاة, قوّمت طعاما ثم صام مكان كلّ مدّ يوما. قال: ولـم أسأله: هذا رأي أو سنة مسنونة؟
9930ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله عزّ وجلّ: أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما قال: بصوم ثلاثة أيام, إلـى عشرة أيام.
9931ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد: أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما من الـجزاء إذا لـم يجد ما يشتري به هديا أو ما يتصدّق به مـما لا يبلغ ثمن هدي, حكم علـيه الصيام مكان كلّ نصف صاع يوما.
9932ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـي بنأبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما قال: إذ قتل الـمـحرم شيئا من الصيد حكم علـيه فـيه, فإن قتل ظبـيا أو نـحوه فعلـيه شاة تذبح بـمكة, فإن لـم يجد فإطعام ستة مساكين, فإن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيّلاً أو نـحوه فعلـيه بقرة, فإن لـم يجد أطعم عشرين مسكينا, فإن لـم يجد صام عشرين يوما وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نـحوه, فعلـيه بدنة من الإبل, فإن لـم يجد أطعم ثلاثـين مسكينا, فإن لـم يجد صام ثلاثـين يوما, والطعام مدّ مدّ يشبعهم.
9933ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة, عن سعيد, الـمـحرم يصيب الصيد فـيكون علـيه الفدية شاة, أو البقرة أو البدنة, فإن لـم يجد فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة؟ قال: ثمن ذلك فإن لـم يجد ثمنه قوّم ثمنه طعاما يتصدّق به لكلّ مسكين مدّ, ثم يصوم لكلّ مدّ يوما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِـيَذُوقَ وَبَـالَ أمْرِهِ.
يقول جلّ ثناؤه: أوجبت علـى قاتل الصيد مـحرما ما أوجبت من الـحقّ أو الكفّـارة الذي ذكرت فـي هذه الاَية, كي يذوق وبـال أمره وعذابه, يعنـي «بأمره»: ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عزّ وجلّ عن قتله فـي حال أحرامه يقول: فألزمته الكفّـارة التـي ألزمته إياها, لأذيقه عقوبة ذنبه بإلزامه الغرامة, والعمل ببدنه مـما يتعبه ويشقّ علـيه. وأصل الوبـال: الشدّة فـي الـمكروه. ومنه قول الله: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرّسُولَ فَأَخَذْناهُ أخْذا وَبِـيلاً.
وقد بـين تعالـى ذكره بقوله: لِـيَذُوقَ وَبَـالَ أمْرِهِ أن الكفّـارات اللازمة الأموال والأبدان عقوبـات منه لـخـلقه, وإن كانت تـمـحيصا لهم, وكفّـارة لذنوبهم التـي كفرّوها بها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9934ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما وَبـال أمره, فعقوبة أمره.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: عَفـا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ.
يقول جلّ ثناؤه لعبـاده الـمؤمنـين به ورسوله صلى الله عليه وسلم: عفـا الله أيها الـمؤمنون عما سلف منكم فـي جاهلـيتكم من إصابتكم الصيد وأنتـم حرم وقتلكموه, فلا يؤاخذكم بـما كان منكم فـي ذلك قبل تـحريـمه إياه علـيكم, ولا يـلزمكم له كفّـارة فـي مال ولا نفس, ولكن من عاد منكم لقتله وهو مـحرم بعد تـحريـمه بـالـمعنى الذي يقتله فـي حال كفره وقبل تـحريـمه علـيه من استـحلاله قتله, فـينتقم الله منه.
وقد يحتـمل أن يكون ذلك فـي معناه: من عاد لقتله بعد تـحريـمه فـي الإسلام فـينتقم الله منه فـي الاَخرة, فأما فـي الدنـيا فإن علـيه من الـجزاء والكفّـارة فـيها ما بـينت.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك فقال بعضهم نـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:
9935ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: ما عَفَـا اللّهُ عمّا سَلَفَ؟ قال: عما كان فـي الـجاهلـية, قال: قلت: وما وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ؟ قال: من عاد فـي الإسلام, فـينتقم الله منه, وعلـيه مع ذلك الكفّـارة.
9936ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء, فذكر نـحوه, وزاد فـيه, وقال: وإن عاد فقتل علـيه الكفّـارة. قلت: هل فـي العود من حدّ العلـم؟ قال: لا, قلت: فترى حقا علـى الإمام أن يعاقبه؟ قال: هو ذنب أذنبه فـيـما بـينه وبـين الله, ولكن يفتدي.
حدثنا سفـيان, قال: حدثنا مـحمد بن بكر, وأبو خالد, عن ابن جريج, عن عطاء: وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ قال: فـي الإسلام, وعلـيه مع ذلك الكفّـارة, قلت: علـيه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.
حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن ابن جريج, عن عطاء: عَفـا اللّهُ عَمّا سَلَفَ عما كان فـي الـجاهلـية, وَمَنْ عادَ قال: فـي الإسلام, فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وعلـيه الكفّـارة. قال: قلت لعطاء: فعلـيه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن جريج, عن عطاء, قال: يحكم علـيه فـي الـخطإ والعمد والنسيان وكلـما أصاب قال الله عزّ وجلّ: عَفـا اللّهُ عَمّا سَلَفَ قال: ما كان فـي الـجاهلـية, وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ مع الكفّـارة. قال سفـيان: قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان؟ قال: لا.
9937ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا مـحمد بن بكر وأبو خالد, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: عَفـا اللّهُ عَمّا سَلَفَ؟ قال: عما كان فـي الـجاهلـية.
9938ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن أبـي بشر, عن عطاء بن أبـي ربـاح, أنه قال: يحكم علـيه كلـما عاد.
9939ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد, قال: كلـما أصاب الـمـحرم الصيد ناسيا حكم علـيه.
9940ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, عن منصور, عن إبراهيـم, قال: كلـما أصاب الصيد الـمـحرم حكم علـيه.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن عطاء, قال: من قتل الصيد ثم عاد حكم علـيه.
9941ـ حدثنا عمرو, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن داود بن أبـي هند, عن سعيد بن جبـير, قال: يحكم علـيه فـيخـلع, أو يترك.
9942ـ حدثنا عمرو, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود بن أبـي هند, عن سعيد بن جبـير: الذي يصيب الصيد وهو مـحرم فـيحكم علـيه ثم يعود؟ قال: يحكم علـيه.
9943ـ حدثنا عمرو, قال: حدثنا كثـير بن هشام, قال: حدثنا الفرات بن سلـمان, عن عبد الكريـم, عن عطاء, قال: يحكم علـيه كلـما عاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: عفـا الله عما سلف منكم فـي ذلك فـي الـجاهلـية, ومن عاد فـي الإسلام فـينتقم الله منه بإلزامه الكفّـارة. ذكر من قال ذلك:
9944ـ حدثنـي ابن البرقـي, قال: حدثنا عمرو, عن زهير, عن سعيد بن جبـير وعطاء, فـي قول الله تعالـى: وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ قالا: ينتقم الله, يعنـي بـالـجزاء. عفـا الله عَمّا سَلَفَ فـي الـجاهلـية.
وقال آخرون: فـي ذلك: عفـا الله عما سلف مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلَ منكم الصيد حراما فـي أوّل مرّة, ومن عاد ثانـية لقتله بعد أولـى حراما, فـالله ولـيّ الانتقام منه دون كفّـارة تلزمه لقتله إياه. ذكر من قال ذلك:
9945ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن لـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو مـحرم, حكم علـيه فـيه مرّة واحدة, فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك, كما قال الله عزّ وجلّ.
9946ـ حدثنا يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: إذا أصاب الـمـحرم الصيد حكم علـيه, فإن عاد لـم يحكم علـيه, وكان ذلك إلـى الله عزّ وجلّ, إن شاء عاقبه وإن شاء عفـا عنه. ثم قرأ هذه الاَية: وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.
9947ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا يحيى بن أبـي زائدة, قال: حدثنا داود, عن عامر, قال: جاء رجل إلـى شريح, فقال: إنـي أصبت صيدا وأنا مـحرم. فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئا؟ قال: لا. قال: لو قلت نعم وكلتك إلـى الله, يكون هو ينتقم منك, إنه عزيز ذو انتقام قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبـير, فقال: بل يحكم علـيه, أو يخـلع.
9948ـ حدثنـي أبو السائب وعمرو بن علـيّ, قالا: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيـم, قال: إذا أصاب الرجل الصيد وهو مـحرم, وقـيـل له أصبت صيدا مثل هذا؟ قال: فإن قال: نعم, قـيـل له: اذهب, فـينتقم الله منك وإن قال لا, حكم علـيه.
9949ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن سلـيـمان, عن إبراهيـم فـي الذي يقتل الصيد, ثم يعود, قال: كانوا يقولون: من عاد لا يحكم علـيه, أمره إلـى الله عزّ وجلّ.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن داود بن أبـي هند, عن الشعبـي: أن رجلاً أتـى شريحا, فقال: أصبت صيدا. قال: أصبت قبله صيدا؟ قال: لا, قال: أما إنك لو قلت نعم, لـم أحكم علـيك.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, قال: حدثنا داود, عن الشعبـيّ, عن شريح, مثله.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن الأشعث, عن مـحمد, عن شريح فـي الذي يصيب الصيد, قال: يحكم علـيه, فإن عاد انتقم الله منه.
9950ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام بن سلـم, عن عنبسة, عن سالـم, عن سعيد بن جبـير: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْقال: يحكم علـيه فـي العمد مرّة واحدة, فإن عاد لـم يحكم علـيه وقـيـل له: اذهب ينتقم الله منك, ويحكم علـيه فـي الـخطأ أبدا.
9951ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن خصيف, عن سعيد بن جبـير, قال: رخص فـي قتل الصيد مرّة, فمن عاد لـم يدعه الله تعالـى حتـى ينتقم منه.
حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن خصيف, عن سعيد بن جبـير, مثله.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبـي عديّ جميعا, عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, فـيـمن أصاب صيدا, فحكم علـيه, ثم عاد, قال: لا يحكم, ينتقم الله منه.
9952ـ حدثنا عمرو, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إنـما قال الله عزّ وجلّ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا يقول: متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه, فذلك الذي يحكم علـيه, فإن عاد لا يحكم علـيه, وقـيـل له: ينتقم الله منك.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا كثـير بن هشام, قال: حدثنا الفرات بن سلـمان, عن عبد الكريـم, عن مـجاهد: إن عاد لـم يحكم علـيه, وقـيـل له: ينتقم الله منك.
9953ـ حدثنا عمرو, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا الأشعث, عن الـحسن فـي الذي يصيب الصيد, فـيحكم علـيه ثم يعود, قال: لا يحكم علـيه.
وقال آخرون: معنى ذلك: عفـا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تـحريـم الله تعالـى ذلك علـيكم, ومن عاد لقتله بعد تـحريـم الله إياه علـيه عالـما بتـحريـمه ذلك علـيه, عامدا لقتله, ذاكرا لإحرامه, فإن الله هو الـمنتقم منه, ولا كفّـارة لذنبه ذلك, ولا جزاء يـلزمه له فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
9954ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ قال: من عاد بعد نهي الله بعد أن يعرف أنه مـحرّم وأنه ذاكر لُـحْرمِه لـمْ ينبغ لأحد أن يحكم علـيه, ووكلوه إلـى نقمة الله عزّ وجلّ. فأما الذي يتعمد قتل الصيد وهو ناس لـحرمه, أو جاهل أن قتله مـحرّم, فهؤلاء الذين يحكم علـيهم. فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله وهو يعرف أنه مـحرم وأنه حرام, فذلك يوكل إلـى نقمة الله, فذلك الذي جعل الله علـيه النقمة. وهذا شبـيه بقول مـجاهد الذي ذكرناه قبل.
وقال آخرون: عُنـي بذلك شخص بعينه. ذكر من قال ذلك:
9955ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان, قال: حدثنا زيد أبو الـمعلـى: أن رجلاً أصاب صيدا وهو مـحرم, فُتُـجوّز له عنه. ثم عاد, فأرسل الله علـيه نارا فأحرقته, فذلك قوله: وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ قال: فـي الإسلام.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندنا, قول من قال: معناه: ومن عاد فـي الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالـى عنه, فـينتقم الله منه, وعلـيه مع ذلك الكفّـارة, لأن الله عز وجلٍ إذ أخبر أنه ينتقم منه لـم يخبرنا, وقد أوجب علـيه فـي قتله الصيد عمدا ما أوجب من الـجزاء أو الكفّـارة بقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ أنه قد أزال عنه الكفّـارة فـي الـمرّة الثانـية والثالثة, بل أعلـم عبـاده ما أوجب من الـحكم علـى قاتل الصيد من الـمـحرمين عمدا, ثم أخبر أنه منتقم مـمن عاد, ولـم يقل: ولا كفّـارة علـيه فـي الدنـيا.
فإن ظنّ ظانّ أن الكفّـارة مزيـلة للعقاب, ولو كانت الكفّـارة لازمة له فـي الدنـيا لبطل العقاب فـي الاَخرة, فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الله عزّ وجلّ أن يخالف بـين عقوبـات معاصيه بـما شاء, وأحبّ فـيزيد فـي عقوبته علـى بعض معاصيه مـما ينقص من بعض, وينقص من بعض مـما يزيد فـي بعض, كالذي فعل من ذلك فـي مخالفته بـين عقوبته الزانـي البكر والزانـي الثـيب الـمـحصن, وبـين سارق ربع دينار وبـين سارق أقلّ من ذلك فكذلك خالف بـين عقوبته قاتل الصيد من الـمـحرمين عمدا ابتداء وبـين عقوبته عودا بعد بدء, فأوجب علـى البـاديء الـمثل من النعم, أو الكفّـارة بـالإطعام, أو العدل من الصيام, وجعل ذلك عقوبة جرمه بقوله: لِـيذُوقَ وَبـالَ أمْرِهِ وجعل علـى العائد بعد البدء, وزاده من عقوبته ما أخبر عبـاده أنه فـاعل من الانتقام تغلـيظا منه للعود بعد البدء. ولو كانت عقوبـاته علـى الأشياء متفقة, لوجب أن لا يكون حدّ فـي شيء مخالفـا حدّا فـي غيره, ولا عقاب فـي الاَخرة أغلظ من عقاب, وذلك خلاف ما جاء به مـحكم الفرقان. وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد فـي الإسلام بعد نهي الله عن قتله لقتله بـالـمعنى الذي كان القوم يقتلونه فـي جاهلـيتهم, فعفـا لهم عنه عند تـحريـم قتله علـيهم, وذلك قتله علـى استـحلال قتله. قال: فأما إذا قتله علـى غير ذلك الوجه, وذلك أن يقتله علـى وجه الفسوق لا علـى وجه الاستـحلال, فعلـيه الـجزاء والكفّـارة كلـما عاد. وهذا قول لا نعلـم قائلاً قاله من أهل التأويـل, وكفـي خطأ بقوله خروجه عن أقوال أهل العلـم لو لـم يكن علـى خطئه دلالة سواه, فكيف وظاهر التنزيـل ينبىء عن فساده؟ وذلك أن الله عمّ بقوله: وَمَنْ عادَ فَـيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ كل عائد لقتل الصيد بـالـمعنى الذي تقدم النهي منه به فـي أوّل الاَية, ولـم يخصّ به عائدا منهم دون عائد, فمن ادّعي فـي التنزيـل ما لـيس فـي ظاهره كلف البرهان علـى دعواه من الوجه الذي يجب التسلـيـم له.
وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد فـي قتله متعمدا بعد بدء لقتل تقدّم منه فـي حال إحرامه فـينتقم الله منه, فإن معنى قوله: عَفـا اللّهُ عَمّا سَلَفَ إنـما هو: عفـا عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءا, فإن فـي قول الله تعالـى: لِـيَذُوقَ وَبـالَ أمْرِهِ دلـيلاً واضحا علـى أن القول فـي ذلك غير ما قال لأن العفو عن الـجرم ترك الـمؤاخذة به, ومن أذيق وبـال جرمه فقد عوقب به, وغير جائز أن يقال لـمن عوقب قد عفـي عنه, وخبر الله أصدق من أن يقع فـيه تناقض.
فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من الـمـحرمين فـي أوّل مرّة قد أذيق وبـال أمره بـما ألزم من الـجزاء والكفّـارة, وعفـي له من العقوبة بأكثر من ذلك مـما كان لله عزّ وجلّ أن يعاقبه به؟ قـيـل له: فإن كان ذلك جائزا أن يكون تأويـل الاَية عندك وإن كان مخالفـا لقول أهل التأويـل, فما ينكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله علـى العود بعد البدء, هو تلك الزيادة التـي عفـاها عنه فـي أوّل مرّة مـما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبـال أمره, فـيذيقه فـي عوده بعد البدء وبـال أمره الذي أذاقه الـمرّة الأولـى, ويترك عفوه عما عفـا عنه فـي البدء, فـيؤاخذه به؟ فلـم يقل فـي ذلك شيئا إلا ألزم فـي الاَخر مثله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.
يقول عزّ وجلّ: والله منـيع فـي سلطانه, لا يقهره قاهر, ولا يـمنعه من الانتقام مـمن انتقم منه, ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع, لأن الـخـلق خـلقه, والأمر أمره, له العزّة والـمنعة. وأما قوله: ذُو انتِقام فإنه يعنـي به: معاقبته لـمن عصاه علـى معصيته إياه