تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 134 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 134

  

قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ}
أجرى الله تعالى الحكمة بأن أكثر أتباع الرسل ضعفاء الناس، ولذلك «لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أأشرف الناس يتبعونه، أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. قال: هم أتباع الرسل».
فإذا عرفت ذلك فاعلم أنه تعالى أشار إلى أن من حكمة ذلك فتنة بعض الناس ببعض، فإن
أهل المكانة والشرف والجاه يقولون: لو كان في هذا الدين خير لما سبقنا إليه هؤلاء، لأنا أحق منهم بكل خير كما قال هنا: {وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَ} إنكاراً منهم أن يمن الله على هؤلاء الضعفاء دونهم، زعماً منهم أنهم أحق بالخير منهم، وقد رد الله قولهم هنا بقوله: {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ}.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ} ، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بِيِّنَـٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّ} .
والمعنى: أنهم لما رأوا أنفسهم أحسن منازل، ومتاعاً من ضعفاء المسلمين اعتقدوا أنهم أولى منهم بكل خير، وأن أبتاع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان خيراً ما سبقوهم إليه، ورد الله افتراءهم هذا بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْي} ، وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَنُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

{قُلْ إِنِّى عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَـٰصِلِينَ * قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ ٱلاٌّمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّـٰلِمِينَ}
قوله تعالى: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يخبر الكفار، أن تعجيل العذاب عليهم الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم ليس عنده. وإنما هو عند الله إن شاء عجله، وإن شاء أخره عنهم، ثم أمره أن يخبرهم بأنه لو كان عنده لعجله عليهم بقوله: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ ٱلاٌّمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} .
وبين في مواضع أخر أنهم ما حملهم على استعجال العذاب إلا الكفر والتكذيب، وأنهم إن عاينوا ذلك العذاب علموا أنه عظيم هائل لا يستعجل به إلا جاهل مثلهم، كقوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} ، وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَ} ، وقوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ} ، وقوله: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ} .
وبين في موضع آخر أنه لولا أن الله حدد لهم أجلاً لا يأتيهم العذاب قبله لعجله عليهم، وهو قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ} .
تنبيه
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ ٱلاٌّمْرُ} ، صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم، مع أنه ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أرسل الله إليه ملك الجبال، وقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ـ وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها ـ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشركَ به شيئاً».
والظاهر في الجواب: هو ما أجاب به ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية، وهو أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم لعجله عليهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت، بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم، ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره.
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلاٌّرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ}
قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ}.
بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاٌّرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة». والمفاتح الخزائن جمع مَفتح بفتح الميم، بمعنى المخزن، وقيل: هي المفاتيح جمع مِفتح، بكسر الميم، وهو المفتاح وتدل له قراءة ابن السميقع. مفاتيح بياء بعد التاء جمع مفتاح، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وهو كذلك، لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية»، والله يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلاٌّرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ} أخرجه مسلم والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب، وذلك في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ} .
ولذا لما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفكِ، لم يعلم، أهي بريئة أم لا حتى أخبره الله تعالى بقوله: {أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} .
وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه، وقالوا له: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ} ، ولما جاءوا لوطاً لم يعلم أيضاً أنهم ملائكة، ولذا {سِىۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة حتى قال: {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِىۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ} ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ} .
ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف.
وسليمان عليه السلام مع أن الله سخر له الشياطين والريح ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد، وقال له: {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} .
ونوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتى قال: {رَبِّ إِنَّ ٱبُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ} ، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله: {قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـٰلِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِـى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّىۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ} .
وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ} ، والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم: {أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَقَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَ} .
فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء، كما أشار له بقوله: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} ، وقوله: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداًإِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ} .
تنبيه
لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين، وبعض منها يكون كفراً.
ولذا ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أَتى عرَّافاً فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين يوماً»، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة والكهانة والعرافة، والطرق والزجر، والنجوم وكل ذلك يدخل في الكهانة، لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الإطلاع على علم الغيب.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهَّان فقال: «ليسوا بشيء».
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: فمن قال إنه ينزل الغيث غداً. وجزم به فهو كافر أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا، وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر، فإن لم يجزم، وقال: إن النوء ينزل به الماء عادة، وإنه سبب الماء عادة، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيهاً بكلمة أهل الكفر وجهلا بلطيف حكمته، لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء.
قال الله تعالى: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب» على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى.
قال ابن العربي: وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة، فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجباً في الخلقة لم يكفر، ولم يفسق.
وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر، أو أخبر عن الكوائن المجملة، أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضاً. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر، فقد قال علماؤنا: يؤدب ولا يسجن، أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسبما أخبر الله عنه من قوله: {وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ} .
وأما أدبهم، فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره فيشوشون عقائدهم، ويتركون قواعدهم في اليقين، فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به.
قلت: ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة»، والعراف: هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب، وهي العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدَّعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة بالياء،
وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة، قاله القاضي عياض.
والكهانة: ادعاء علم الغيب.
قال أبو عمر بن عبد البر في (الكافي): من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا، ومهور البغايا، والسحت، والرشا، وأخذ الأجرة على النياحة، والغناء، وعلى الكهانة، وادعاء الغيب، وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله. اهـ من القرطبي بلفظه، وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن.
وقال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق، ومكان الضالة ونحو ذلك، وقال أبو العباس بن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
والمراد بالطرق: قيل الخط الذي يدعي به الإطلاع على الغيب، وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء، والزجر هو العيافة، وهي التشاؤم والتيامن بالطير، وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ومواقعها وأسمائها وألوانها وجهاتها التي تطير إليها.
ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي:
ومن تعرض للغربان يزجرها على سلامته لا بد مشئوم

وكان أشد العرب عيافة بنو لهب حتى قال فيهم الشاعر: خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت

وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب: في مدلج بن بكر القيافة كما للهب كانت العيافة

ولقد صدق من قال: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع

ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الإطلاع على الغيب أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلاٌّرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ} ، وقوله هنا {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} ونحو ذلك.
وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية أن حلوان الكاهن لا يحل له، ولا يرد لمن أعطاه له، بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها. بعض علماء المالكية بقوله: وأي مال حرموا أن ينتفع موهوبه به ورده منع
حلوان كاهن وأجرة الغنا ونائح ورشوة مهر الزنا

هكذا قيل. والله تعالى أعلم.