تفسير الطبري تفسير الصفحة 134 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 134
135
133
 الآية : 53
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَـَؤُلآءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ وكذلك اختبرنا وابتلينا. كالذي:
10434ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, وحدثنا الحسين بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يقول: ابتلينا بعضهم ببعض.
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى الفتنة, وأنها الاختبار والابتلاء, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإنما فتنة الله تعالى بعض خلقه ببعض, مخالفته بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق, فجعل بعضا غنيا وبعضا فقيرا وبعضا قويا وبعضا ضعيفا, فأحوج بعضهم إلى بعض, اختبارا منه لهم بذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10435ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء, فقال الأغنياء للفقراء: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا يعني: هداهم الله. وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية.
وأما قوله: لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا يقول تعالى: أختبرنا الناس بالغنى والفقر والعزّ والذلّ والقوّة والضعف والهدى والضلال, كي يقول من أضله الله وأعماه عن سبيل الحقّ للذين هداهم الله ووفقهم: أهؤلاء منّ الله عليهم بالهدى والرشد وهم فقراء ضعفاء أذلاء من بيننا ونحن أغنياء أقوياء استهزاء بهم, ومعاداة للإسلام وأهله. يقول تعالى: ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكرِينَ وهذا منه تعالى إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحقّ, وخذلهم عنه وهم أغنياء, وتقرير لهم أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرا نعمتي ممن هو لها كافر, فمنّي على من مننت عليه منهم بالهداية جزاء شكره إياي على نعمتي, وتخذلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد عقوبة كفرانه إياي نعمتي لا لغنى الغنيّ منهم ولا لفقر الفقير لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحد إلاّ جزاء على عمله الذي اكتسبه لا على غناه وفقره, لأن الغنى والفقر والعجز والقوّة ليس من أفعال خلقي.
الآية : 54
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أَنّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }..
اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى بهذه الاَية: فقال بعضهم: عَنَى بها الذين نهيّ الله نبيه عن طردهم, وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه.
وقال آخرون: عنى بها قوما استفتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذنوب أصابوها عظام, فلم يؤيسهم الله من التوبة. ذكر من قال ذلك:
10436ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا سفيان, عن مجمع, قال: سمعت ماهان, قال: جاء قوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوبا عظاما. قال ماهان: فما إخاله ردّ عليهم شيئا. قال: فأنزل الله هذه الاَية: وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ... الاَية.
حدثنا هناد, قال: حدثنا قيصة, عن سفيان, عن مجمع, عن ماهان: أن قوما جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا محمد إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما إخاله ردّ عليهم شيئا, فانصرفوا, فأنزل الله تعالى: وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَة قال: فدعاهم, فقرأها عليهم.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن مجمع التميمي, قال: سمعت ماهان يقول, فذكر نحوه.
وقال آخرون: بل عُني بها قوم من المؤمنين كانوا أشاروا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم, فكان ذلك منهم خطيئة, فغفرها الله لهم وعفا عنهم, وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم. وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد, وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الاَية, قول من قال: المعنيون بقوله: وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ غير الذين نُهي الله النبيّ صلى الله عليه وسلم عن طردهم, لأن قوله: وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا خبر مستأنف بعد تقضي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم, ولو كانوا هم لقيل: «وإذا جاءوك فقل سلام عليكم», وفي ابتداء الله الخبر عن قصة هؤلاء وتركه وصل الكلام بالخبر عن الأوّلين ما ينبىء عن أنهم غيرهم.
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: وإذا جاءك يا محمد القوم الذين يصدّقون بتنزيلنا وأدلتنا وحججنا فيقرّون بذلك قولاً وعملاً, مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم, هل لهم منها توبة؟ فلا تؤيسهم منها, وقل لهم: سلام عليكم: أمنة الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها, كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَة يقول: قضى ربكم الرحمة بخلقه, أنّه مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ ثمّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وأصْلَحَ فإنّه غَفُورٌ رَحيمٌ.
واختلفت القراء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء المدنيين: أنّه مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا فيحعلون «أنّ» منصوبة على الترجمة بها عن الرحمة, «ثمّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وأصْلَحَ فإنّه عَفُورٌ رَحِيمٌ» على ائتناف «إنه» بعد الفاء فيكسرونها ويجعلونها أداة لا موضع لها, بمعنى: فهو له غفور رحيم, أو فله المغفرة والرحمة. وقرأهما بعض الكوفيين بفتح الألف منهما جميعا, بمعنى: كتب ربكم على نفسه الرحمة, ثم ترجم بقوله: أنّه مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ عن الرحمة فإنّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ, فيعطف «فأنه» الثانية على «أنه» الأولى, ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت. وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرّاء أهل العراق من الكوفة والبصرة بكسر الألف من «إنه» و «فإنه» على الابتداء, وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأهما بالكسر: «كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ إنّهُ» على ابتداء الكلام, وأن الخبر قد انتهى عند قوله: كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ ثم استؤنف الخبر عما هو فاعل تعالى ذكره بمن عمل سوءا بجهال ثم تاب وأصلح منه. ومعنى قوله: أنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ: أنه من اقترف منكم ذنبا, فجهل باقترافه إياه. ثُمّ تابَ وأصْلَحَ فأنه غَفُورٌ لذنبه إذا تاب وأناب وراجع بطاعة الله وترك العود إلى مثله مع الندم على ما فرط منه. رَحِيمٌ بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه. ذكر من قال ذلك:
10437ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن عثمان, عن مجاهد: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ قال: من جهل أنه لا يعلم حلالاً من حرام, ومن جهالته ركب الأمر.
10438ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك, مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ قال: من عمل بمعصية الله, فذاك منه جهل حتى يرجع.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا بكر بن خنيس, عن ليث, عن مجاهد, في قوله: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ قال: كلّ من عمل بخطيئة فهو بها جاهل.
10439ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا خالد بن دينار أبو خلدة, قال: كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال: وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِه الرّحْمَةَ.
الآية : 55
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: وكَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَياتِ وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحها يا محمد إلى هذا الموضع حجتنا على المشركين من عبدة الأوثان وأدلتنا, وميزناها لك وبينّاها, كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كلّ حقّ ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم, فنبينها لك حتى تبين حقه من باطله وصحيحه من سقيمه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة: ولِتَسْتَبِينَ بالتاء «سَبِيل المُجْرِمِينَ» بنصب السبيل, على أن «تستبين» خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم كأن معناه عندهم: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. وكان ابن زيد يتأوّل ذلك: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين الذين سألوك طرد النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه.
10440ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: «وَلِتَسْتبِينَ سَبِيل المُجْرِمِينَ» قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء.
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: ولِتَسْتَبِينَ بالتاء سَبِيلُ المُجْرِمِينَ برفع السبيل على أن القصد للسبيل, ولكنه يؤنثها. وكأن معنى الكلام عندهم: وكذلك نفصّل الاَيات ولتتضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: «ولِتَسْتَبِينَ» بالياء سَبِيلُ المُجْرِمِينَ برفع السبيل على أن الفعل للسبيل ولكنهم يذكرونه. ومعنى هؤلاء في هذا الكلام, ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في: ولِتَسْتَبِينَ ورفع السبيل واحدٌ, وإنما الاختلاف بينهم في تذكير السبيل وتأنيثها.
وأولى القراءتين بالصواب عندي في «السبيل» الرفع, لأن الله تعالى ذكره فصّل آياته في كتابه وتنزيله, ليتبَيّن الحقّ بها من الباطل جميع من خوطب بها, لا بعض دون بعض. ومن قرأ «السبيل» بالنصب, فإنما جعل تبيين ذلك محصورا على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما القراءة في قوله: وَلِتَسْتَبِينَ فسواء قُرِئت بالتاء أو بالياء, لأن من العرب من يذكر السبيل وهم تميم وأهل نجد, ومنهم من يؤنث السبيل وهم أهل الحجاز, وهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار ولغتان مشهورتان من لغات العرب, وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلاف لقراءته بالأخرى ولا وجه لاختيار إحداهما على الأخرى بعد أن يرفع السبيل للعلة التي ذكرنا.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: نُفصّلُ الاَياتِ قال أهل التأويل.
10441ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وكذَلِكَ نُفَصّلُ الاَياتِ نبين الاَيات.
10442ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في: نُفَصّلُ الاَياتِ: نبين.
الآية : 56
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُلْ لاّ أَتّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك, العادلين به الأوثان والأنداد, الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان: إن الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه, فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك ولا أوافقكم عليه, ولا أعطيكم محبتكم وهواكم فيه, وإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحقّ وسلكت على غير الهدى, فصرت ضالاّ مثلكم على غير استقامة. وللعرب في «ضللت» لغتان: فتح اللام وكسرها, واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها, وبها قرأ عامة قراء الأمصار, وبها نقرأ لشهرتها في العرب وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها والقراء بها قليلون, فمن قال ضَلَلْتُ قال أضِلّ, ومن قال ضَلِلْتُ قال في المستقبل أَضَلّ, وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن: وقالوا أئِذا ضَلَلْنا بفتح اللام.
الآية : 57
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنّي عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّي وَكَذّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصّ الْحَقّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم, الداعين لك إلى الإشراك بربك: إنّي على بَيّنَةٍ مِنْ ربي أي إني على بيان قد تبينته وبرهان قد وضح لي من ربي, يقول: من توحيده, وما أنا عليه من إخلاص عبوديته من غير إشراك شيء به وكذلك تقول العرب: فلان على بينة من هذا الأمر: إذا كان على بيان منه, ومن ذلك قول الشاعر:
أبَيّنَةً تَبْغُونَ بَعدَ اعْتِرَافِهِوقَوْلِ سُوَيْدٍ قدْ كَفَيْتُكُمْ بِشْرَا
وكَذّبْتُمْ بِهِ يقول: وكذبتم أنتم بربكم. والهاء في قوله «به» من ذكر الربّ جل وعزّ. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يقول: ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي, ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتوحيده, فدعاهم إلى الله وأخبرهم أنه رسوله إليهم: هَلْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفَتأْتونَ السّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام. وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر, فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أجبهم بأن الاَيات بيد الله لا بيدك, وإنما أنت رسول, وليس عليك إلاّ البلاغ لما أرسلت به, وإن الله يقضي الحقّ فيهم وفيك ويفصل به بينك وبينهم فيتبين المحقّ منكم والمبطل. وهُوَ خَيْرُ الفاصلِينَ: أي وهو خير من بين وميز بين المحقّ والمبطل وأعدلهم, لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة, ولا في قضائه جور لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجوز, فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين. وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: «وهُوَ أسْرَعُ الفَاصِلين».
10443ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير أنه قال: في قراءة عبد الله: «يقضي الحقّ وهو أسرع الفاصلين».
واختلفت القراء في قراءة قوله: «يَقْضِي الحَقّ» فقرأه عامة قرّاء الحجاز والمدينة وبعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: إن الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ يَقُصّ الحَقّ بالصاد بمعنى القصص, وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى: نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ. وذكر ذلك عن ابن عباس.
10444ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: يَقُصّ الحَقّ, وقال: نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ.
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة والبصرة: «إن الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ يَقْضِي الحَقّ» بالضاد من القضاء بمعنى الحكم والفصل بالقضاء. واعتبروا صحة ذلك بقوله: وَهُوَ خَيْرُ الفاصلِينَ وأن الفصل بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقصص.
وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب لما ذكرنا لأهلها من العلة. فمعنى الكلام إذن: ما الحكم فيما تستعجلون به أيها المشركون من عذاب الله وفيما بيني وبينكم, إلاّ الله الذي لا يجور في حكمه, وبيده الخلق والأمر, يقضي الحقّ بيني وبينكم, وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه.
الآية : 58
القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لّوْ أَنّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الاَلهة والأوثان المكذّبيك فيما جئتهم به, السائليك أن تأتيهم بآية استعجالاً منهم بالعذاب: لو أن بيدي ما تستعجلون به من العذاب لقضي الأمر بيني وبينكم ففصل ذلك أسرع الفصل بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه, ولكن ذلك بيد الله الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلاّ لله في غير موضعها فيعبدون من دونه الاَلهة والأصنام, وهو أعلم بوقت الانتقام منهم وحال القضاء بيني وبينهم. وقد قيل: معنى قوله: لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الذبح للموت.
10445ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن ابن جريج, قال: بلغني في قوله: لَقُضِيَ الأمْرُ قال: ذبح الموت.
وأحسب أن قائل هذا النوع نزع لقوله: وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ فإنه رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تدلّ على معنى ما قاله هذا القائل في قضاء الأمر, وليس قوله: لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ من ذلك في شيء, وإنما هذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصل القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والاَيات بيدي وعندي لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك, ولكنه بيد من هو أعلم بما يصلح خلقه مني ومن جميع خلقه.
الآية : 59
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }..
يقول: وَعِنْدَهُ مَقاتِحُ الغَيْبِ والمفاتح: جمع مِفْتَح, يقال فيه: مِفْتَح ومِفْتَاح, فمن قال مِفْتَح جمعه مَفَاتح, ومن قال مِفْتاح جمعه مَفَاتِيح.
ويعني بقوله: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ خزائن الغيب, كالذي:
10446ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ قال: يقول: خزائن الغيب.
10447ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن مسعر, عن عمرو بن مرّة, عن عبد الله بن سلمة, عن ابن مسعود, قال: أعطي نبيكم كلّ شيء إلاّ مفاتح الغيب.
10448ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: وَعِنْدَهُ مفاتِخُ الغَيْبِ قال: هنّ خمس: إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَزّلُ الغَيْثَ... إلى: إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
فتأويل الكلام إذن: والله أعلم بالظّالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو بهم صانع, فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه, فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه ولم يعلموه ولن يدركوه. ويَعْلَمُ ما في البَرّ والبَحْرِ يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضا عنكم, لأن ما في البرّ والبحر مما هو ظاهر للعين يعلمه العباد. فكان معنى الكلام: وعند الله علم ما غاب عنكم أيها الناس مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه نفسه, ويعلم أيضا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم, لا يخفى عليه شيء, لأنه لا شيء إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى أن عنده علم كل شيء كان ويكون وما هو كائن مما لم يكن بعد, وذلك هو الغيب.
القول في تأويل قوله تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلمُها وَلا حَبّةٍ فِي ظُلُماتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقة في الصحاري والبراري ولا في الأمصار والقرى إلا الله يعلمها. وَلا حَبّةٍ فِي ظُلُماتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إلاّ فِي كِتابِ مُبِينٍ يقول: ولا شيء أيضا مما هو موجود أو مما سيوجد ولم يوجد بعد, إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ, مكتوب ذلك فيه ومرسوم عدده ومبلغه والوقت الذي يوجد فيه والحال التي يفني فيها. ويعني بقولين مُبِين: أنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم.
فإن قال قائل: وما وجه إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين ما لا يخفى عليه, وهو بجميعه عالم لا يخاف نسيانه؟ قيل له: لله تعالى فعل ما شاء, وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانا منه لحفظته واختبارا للمتوكلين بكتابة أعمالهم, فإنهم فيما ذكر مأمورون بكتابة أعمال العباد ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ, حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم وقيل: إن ذلك معنى قوله: إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك مما هو أعلم به, إما بحجة يحتجّ بها على بعض ملائكته وأما على بني آدم وغير ذلك. وقد:
10449ـ حدثني زياد بن يحيى الحساني أبو الخطاب, قال: حدثنا مالك بن سعير, قال: حدثنا الأعمش, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحرث, قال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة, إلا عليها ملك موكل بها يأتي الله, يعلمه يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت