تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 133 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 133

 {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * بَلْ إِيَّـٰهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلاٌّيَـٰتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ * وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَـٰتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ *قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلاٌّعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ * وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأايَـٰتِنَا فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلاٌّيَـٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ * قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ}
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَبَلْ إِيَّـٰهُ تَدْعُونَ} .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذ أتاهم عذاب من الله، أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده، ونسوا ما كانوا يشركون به. لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا.
ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله، ولم يبين هنا أيضاً إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم، أو يرجعون إلى كفرهم وشركهم، ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر.
فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص، هو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك، كأن يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه، ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده، كقوله تعالى {حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَفَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلاٌّرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} ، وقوله {وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِى ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ} ، وقوله{فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ} ، وقوله {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب، رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع
كثيرة كقوله {فَلَمَّا نَجَّـٰكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ كَفُورً} وقوله {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، وقوله {قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} ، وقوله {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلاٌّرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} إلى غير ذلك من الآيات.
وبين تعالى أن رجوعهم للشرك بعد أن نجاهم الله من الغرق من شدة جهلهم، وعماهم: لأنه قادر على أن يهلكهم في البر كقدرته على إهلاكهم في البحر، وقادر على أن يعيدهم في البحر مرة أخرى، ويهلكهم فيه بالغرق فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها. لأنها من جهلهم وضلالهم، وذلك في قوله {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاًأَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعً} . قوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأمره في آية أخرى أن يصبر نفسه معهم، وأن لا تعدو عيناه عنهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا، ونهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك وهي قوله:
{وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً} كما أمره هنا بالسلام عليهم، وبشارتهم برحمة ربهم جل وعلا في قوله:
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأايَـٰتِنَا فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ} ، وبين في آيات أخر أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا صلى الله عليه وسلم فنهاه الله عنه، طلبه أيضاً قوم نوح من نوح، فأبى كقوله تعالى عنه: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءامَنُوۤ} ، وقوله: {وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ} ، وقوله: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} ، وهذا من تشابه قلوب الكفار المذكور في قوله تعالى: {تَشَـٰبَهَتْ قُلُوبُهُمْ} . قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ}.
أجرى الله تعالى الحكمة بأن أكثر أتباع الرسل ضعفاء الناس، ولذلك «لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أأشرف الناس يتبعونه، أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. قال: هم أتباع الرسل».
فإذا عرفت ذلك فاعلم أنه تعالى أشار إلى أن من حكمة ذلك فتنة بعض الناس ببعض، فإن
أهل المكانة والشرف والجاه يقولون: لو كان في هذا الدين خير لما سبقنا إليه هؤلاء، لأنا أحق منهم بكل خير كما قال هنا: {وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَ} إنكاراً منهم أن يمن الله على هؤلاء الضعفاء دونهم، زعماً منهم أنهم أحق بالخير منهم، وقد رد الله قولهم هنا بقوله: {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ}.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ} ، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بِيِّنَـٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّ} .
والمعنى: أنهم لما رأوا أنفسهم أحسن منازل، ومتاعاً من ضعفاء المسلمين اعتقدوا أنهم أولى منهم بكل خير، وأن أبتاع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان خيراً ما سبقوهم إليه، ورد الله افتراءهم هذا بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْي} ، وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَنُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.