تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 281 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 281  {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَـٰلَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لانْعُمِهِ ٱجْتَبَـٰهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَءاتَيْنَـٰهُ فِى ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى ٱلاٌّخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـٰبِرينَ * وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ  مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: إن الذين يفترون عليه الكذب ـ أي يختلقونه عليه ـ كدعواهم أنه حرم هذا وهو لم يحرمه. ودعواهم له الشركاء والأولاد ـ لا يفلحون. لأنهم في الدنيا لا ينالون إلا متاعاً قليلاً لا أهمية له، وفي الآخرة يعذبون العذاب العظيم، الشديد المؤلم.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في يونس: {قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَـٰعٌ فِى ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، وقوله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ}، وقوله: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله {مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ} خبر مبتدإ محذوف. أي متاعهم في الدنيا متاع قليل. وقال الزمخشري: منفعتهم في الدنيا متاع قليل. وقوله {لاَ يُفْلِحُونَ} أي لا ينالون الفلاح، وهو يطلق على معنيين: أحدهما ـ الفوز بالمطلوب الأكبر. والثاني ـ البقاء السرمدي. كما تقدم بشواهده. قوله تعالى: {وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} .
هذا المحرم عليهم، المقصوص عليه من قبل المحال عليه هنا هو المذكور في (سورة الأنعام) في قوله: {وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَـٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ}.
وجملة المحرمات عليهم في هذه الآية الكريمة ظاهرة، وهو كل ذي ظفر: كالنعامة والبعير، والشحم الخالص من البقر والغنم (وهو الثروب) وشحم الكلى. أما الشّحم الذي على الظهر، والذي في الحوايا وهي الأمعاء، والمختلط بعظم كلحم الذنب وغيره من الشحوم المختلطة بالعظام ـ فهو حلال لهم. كما هو واضح من الآية الكريمة. قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِين َشَاكِراً لانْعُمِهِ ٱجْتَبَـٰهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. أثنى الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصَّلاة والسلام: بأنه أمة. أي إمام مقتدى به، يعلم الناس الخير. كما قال تعالى: {إِنِّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامً}، وأنه قانت لله، أي مطيع له. وأنه لم يكن من المشركين، وأنه شاكر لأنعم الله، وأن الله اجتباه، أي اختاره واصطفاه. وأنه هداه إلى صراط مستقيم.
وكرر هذا الثناء عليه في مواضع أخر، كقوله: {وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ}، وقوله: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامً}، وقوله: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَٰهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَـٰلِمِينَ}، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِىۤ إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ}، وقوله عنه: {إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ}، وقوله: {مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ}، وقوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَٰهِيم َإِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في الثناء عليه.
وقد قدمنا معاني «الأمة» في القرآن. قوله تعالى: {وَءاتَيْنَـٰهُ فِى ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً}. قال بعض العلماء: الحسنة التي آتاه الله في الدنيا: الذرية الطيبة، والثناء الحسن. ويستأنس لهذا بأن الله بين أنه أعطاه بسبب إخلاصه لله، واعتزاله أهل الشرك: الذرية الطيبة. وأشار أيضاً لأنه جعل له ثناءً حسناً باقياً في الدنيا. قال تعالى: {فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّ}، وقال: {وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ}، وقال: {وَٱجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلاٌّخِرِينَ}. قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} .
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أوحى إلى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم الأمر باتباع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
وبين هذا أيضاً في غير هذا الموضع كقوله: {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ}، وقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى قوله {ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ}، وقوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىۤ إِبْرَٰهِيمَ}، إلى غير ذلك من الآيات. والملة: الشريعة. والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. وأصله من الحنف: وهو اعوجاج الرجلين. يقال: برجله حنف أي اعوجاج. ومنه قول أم الأحنف بن قيس ترقصه وهو صبي: والله لولا حنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله

وقوله {حَنِيف} حال من المضاف إليه. على حد قول ابن مالك في الخلاصة: ما كان جزء ما له أضيفا أو مثل جزئه فلا تحيفا

لأن المضاف هنا وهو {مِلَّةَ} كالجزء من المضاف إليه وهو {إِبْرَاهِيمَ} لأنه لو حذف لبقي المعنى تاماً. لأن قولنا: أن اتبع إبراهيم، كلام تامُّ المعنى كما هو ظاهر، وهذا هو مراده
بكونه مثل جزئه. قوله تعالى: {وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يجادل خصومه بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة: من إيضاح الحق بالرفق واللين. وعن مجاهد {وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} قال: أعرض عن أذاهم. وقد أشار إلى هذا المعنى في قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}. ومن ذلك القول اللين: قول موسى له {هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰوَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ}. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أعلم بمن ضل عن سبيله. أي زاغ عن طريق الصواب والحق، إلى طريق الكفر والضلال.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله (في أول القلم) {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِين َفَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ}، وقوله (في الأنعام): {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ}،وقوله (في النجم): {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
والظاهر أن صيغة التفضيل التي هي {أَعْلَمُ} في هذه الآيات يراد بها مطلق الوصف لا التفضيل. لأن الله لا يشاركه أحد في علم ما يصير إليه خلقه من شقاوة وسعادة. فهي كقول الشنفرى: وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

أي لم أكن بعجلهم. وقول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول

أي عزيزة طويلة. قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـٰبِرينَ} . نزلت هذه الآية الكريمة من سورة النحل بالمدينة، في تمثيل المشركين بحمزة ومن قتل معه يوم أحد. فقال المسلمون: لئن أظفرنا الله بهم لنمثلن بهم. فنزلت الآية الكريمة، فصبروا لقوله تعالى: {لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـٰبِرينَ} مع أن سورة النحل مكية، إلا هذه الآيات الثلاث من آخرها. والآية فيها جواز الانتقام والإرشاد إلى أفضلية العفو. وقد ذكر تعالى هذا المعنى في القرآن. كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ}، وقوله: {وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}، وقوله: {وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} إلى قوله {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلاٍّمُورِ}، وقوله {لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} إلى قوله {أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِير} كما قدمنا.
مسائل بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى ـ يؤخذ من هذه الآية حكم مسألة الظفر، وهي أنك إن ظلمك إنسان: بأن أخذ شيئاً من مالك بغير الوجه الشرعي ولم يمكن لك إثباته، وقدرت له على مثل ما ظلمك به على وجه تأمن معه الفضيحة والعقوبة. فهل لك أن تأخذ قدر حقك أو لا؟
أصح القولين، وأجراهما على ظواهر النصوص وعلى القياس: أن لك أن تأخذ قدر حقك من غير زيادة. لقوله تعالى في هذه الآية: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية، وقوله: {فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}.
وممن قال بهذا القول: ابن سيرين وإبراهيم النخعي، وسفيان ومجاهد، وغيرهم.
وقالت طائفة من العلماء منهم مالك: لا يجوز ذلك. وعليه درج خليل بن إسحاق المالكي في مختصره بقوله في الوديعة: وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها.
واحتج من قال بهذا القول بحديث «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك. ولا تخن من خانك» اهـ. وهذا الحديث على فرض صحته لا ينهض الاستدلال به. لأن من أخذ قدر حقه ولم يزد عليه لم يخن من خانه، وإنما أنصف نفسه ممن ظلمه.
المسألة الثانية ـ أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة المماثلة في القصاص. فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به. ويؤيده «رضه صلى الله عليه وسلم رأس يهودي بين حجرين قصاصاً لجارية فعل بها مثل ذلك».
وهذا قول أكثر أهل العلم خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه، زاعماً أن القتل بغير المحدد شبه عمد، لا عمد صريح حتى يجب فيه القصاص. وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح في سورة الإسراء.
المسألة الثالثة: أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة اسم العقوبة على الجناية الأولى في قوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} والجناية الأولى ليست عقوبة. لأن القرآن بلسان عربي مبين. ومن أساليب اللغة العربية المشاكلة بين الألفاظ. فيؤدي لفظ بغير معناه الموضوع له مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام. كقول الشاعر: قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبةً وقميصا

أي خيطوا لي. وقال بعض العلماء: ومنه قول جرير: هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذَّكر

بناء على القول بأن الأرامل لا تطلق في اللغة إلا على الإناث.
ونظير الآية الكريمة في إطلاق إحدى العقوبتين على ابتداء الفعل مشاكلة للفظ الآخر ـ قوله تعالى: {ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ}، ونحوه أيضاً.
قوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ} مع أن القصاص ليس بسيئة وقوله: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ}. لأن القصاص من المعتدي أيضاً ليس باعتداء كما هو ظاهر، وإنما أدى بغير لفظه للمشاكلة بين اللفظين: قوله تعالى: {وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالصبر، وأنه لا يمتثل ذلك الأمر بالصبر إلا بإعانة الله وتوفيقه. لقوله: {وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ} وأشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ}، لأن قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ}، معناه أن خصلة الصبر لا يلقاها إلا من كان له عند الله الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، بفضل الله عليه، وتيسر ذلك له. قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه مع عباده المتقين المحسنين. وقد تقدم إيضاح معنى التقوى والإحسان.
وهذه المعية بعباده المؤمنين، وهي بالإعانة والنَّصر والتوفيق. وكرر هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ}، وقوله: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}، وقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَ} وقوله: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا: فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبّة خردل، وهذه هي المذكورة أيضاً في آيات كثيرة. كقوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ}،وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}، وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
فهو جل وعلا مستو على عرشه كما قال، على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه، كلهم في قبضة يده، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.

تم بحمد الله تفسير سورة النحل ولله الحمد