تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 280 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 280  {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ * إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِى ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـٰنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلاٌّخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ * أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ هُمُ ٱلْخَـٰسِرونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَـٰهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ * فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ} . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول إن هذا القرآن الذي زعموا أنه افتراء بسبب تبديل الله آية مكان آية ـ أنه نزله عليه روح القدس من ربه جل وعلا. فليس مفترياً له. وروح القدس: جبريل، ومعناه الروح المقدس. أي الطاهر من كل ما لا يليق.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ}، وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِين نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاٌّمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِين َبِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ}، وقوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ}، وقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَه ُفَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُ
إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} . أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يعلم أن الكفار يقولون: إن هذا القرآن الذي جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم ليس وحياً من الله، وإنما تعلمه من بشر من الناس.
وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله: {وَقَالُوۤاْ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيل}، وقوله: {إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره، وقوله: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ}. كما تقدم (في الأنعام).
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا البشر الذي زعموا أنه يعلم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح القرآن بأنه أعجمي اللسان. فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، وكان نصرانياً فأسلم. وقيل: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب الأعجمية. وقيل: غلام لبني عامر بن لؤي. وقيل: هما غلامان: اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان السيوف، وكانا يقرآن كتاباً لهم. وقيل: كانا يقرآن التوراة والإنجيل، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد بين جل وعلا كذبهم وتعنتهم في قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} بقوله: {لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ}. أي كيف يكون تعلمه من ذلك البشر، مع أن ذلك البشر أعجمي اللسان. وهذا القرآن عربي مبين فصيح، لا شائبة فيه من العجمة. فهذا غير معقول.
وبين شدة تعنتهم أيضاً بأنه لو جعل القرآن أعجمياً لكذبوه أيضاً وقالوا: كيف يكون هذا القرآن أعجمياً مع أن الرسول الذي أنزل عليه عربي. وذلك في قوله {وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَـٰتُهُ ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} أي أقرآن أعجمي، ورسول عربي. فكيف ينكرون أن القرآن أعجمي والرسول عربي، ولا ينكرون أن المعلم المزعوم أعجمي، مع أن القرآن المزعوم تعليمه له عربي.
كما بين تعنتهم أيضاً، بأنه لو نزل هذا القرآن العربي المبين، على أعجمي فقرأه عليهم عربيًّا لكذبوه أيضاً، مع ذلك الخارق للعادة. لشدة عنادهم وتعنتهم، وذلك في قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلاٌّعْجَمِين َفَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {يُلْحِدُونَ} أي يميلون عن الحق. والمعنى لسان البشر الذي يلحدون، أي يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه ـ أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين، أي ذو بيان وفصاحة. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي {يُلْحِدُونَ} بفتح الياء والحاء، من لحد الثلاثي. وقرأه الباقون {يُلْحِدُونَ} بضم الياء والحاء، من لحد الثلائي. وقرأه الباقون {يُلْحِدُونَ} بضم الياء وكسر الحاء من ألحد الرباعي، وهما لغتان، والمعنى واحد. أي يميلون عن الحق إلى الباطل. وأما {يُلْحِدُونَ} التي في (الأعراف، والتي في فصلت) فلم يقرأهما بفتح الياء والحاء إلا حمزة وحده دون الكسائي. وإنما وافقه الكسائي في هذه التي في (النحل) وأطلق اللسان على القرآن لأن العرب تطلق اللسان وتريد به الكلام. فتؤنثها وتذكرها. ومنه قول أعشى باهلة: إني أتتني لسان لا أسر بها من علو لا عجب فيها ولا سخر

وقول الآخر:
لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا

وقول الآخر: أتتني لسان بني عامر أحاديثها بعد قول نكر

ومنه قوله تعالى: {وَٱجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلاٌّخِرِينَ} أي ثناءً حسناً باقياً. ومن إطلاق اللسان بمعنى الكلام مذكراً قول الحطيئة: ندمت على لسان فات مني فليت بأنه في جوف عكم
قوله تعالى: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ}. قال بعض أهل العلم: «إن هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة»، وهو رواية العوفي عن ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله، نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وهذه الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذه القرية ـ تتفق مع صفات أهل مكة المذكورة في القرآن. فقوله عن هذه القرية {كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} قال نظيره عن أهل مكة. كقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِن}، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}، وقوله: {وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ}، وقوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِن}، وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْن}، وقوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} قال نظيره عن أهل مكة أيضاً. كقوله: {يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ}، وقوله: {لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ إِيلَـٰفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْف ِفَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِىۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ} فإن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف كانت إلى الشام، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق. ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم: بأن أطعمهم من جوعٍ. وقوله في دعوة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ}، وقوله: {فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ}.
وقوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ} ذكر نظيره عن أهل مكة في آيات كثيرة. كقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ}.
وقد قدمنا طرفاً من ذلك في الكلام على قوله تعالى {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَ}.
وقوله: {فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وقع نظيره قطعاً لأهل مكة.
لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والعلهز (وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه)، وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن. وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزواته وبعوثه وسراياه. وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات. فقد فسر ابن مسعود آية (الدخان) بما يدل على ذلك.
قال البخاري في صحيحه: باب {فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} فارتقب: فانتظر. حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله قال: مضى خمس: الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام. {يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية. عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله: «إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصوا على النَّبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف. فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام. فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. فأنزل الله تعالى {فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِين ٍيَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضرٰ إنك لجريءٰ» فاستسقى فسقوا. فنزلت {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية. فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ} يعني يوم بدر.
باب قوله تعالى: {رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ} حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخلت على عبد الله فقال: «إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: والله أعلم، إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ}» إن قريشاً لما غلبوا النَّبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع قالوا. {رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ} فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا. فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر. فذلك قوله: {يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} إلى قوله جل ذكره {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} انتهى بلفظه من صحيح البخاري.
وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة ـ ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في (سورة النحل) من لباس الجوع أذيقه أهل مكة، حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع. وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع. لما تقرر في علم الحديث: من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع. كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله: تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق

وكما هو معروف عند أهل العلم.
وقد قدمنا ذلك في (سورة البقرة) في الكلام: على قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ}.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة. ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين: الدخان الذي مضى، والدخان المستقبل ـ جمعاً بين الأدلة. وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى. وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته، في علوم القرآن، بأدلته.
وأما الخوف المذكور في آية النحل ـ فقد ذكر جل وعلا مثله عن أهل مكة أيضاً على بعض تفسيرات الآية الكريمة التي هي {وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ} فقد جاء عن جماعة من السلف تفسير القارعة التي تصيبهم بسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صاحب الدر المنثور: أخرج الفريابي وابن جرير، وابن مردويه من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ * قَالَ}. وأخرج الطيالسي وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، من طريق سعيد بن جبير رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: «{وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} قال: سرية {قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ} قال: أنت يا محمد {حَتَّىٰ يَأْتِىَ وَعْدُ ٱللَّهِ} قال فتح مكة». وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد رضي الله عنه في قوله «{تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} قال: سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَوْ تَحُلُّ} يا محمد {قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ}». وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن مجاهد رضي الله عنه قال: «{لَّخَبِيرٌ ٱلْقَارِعَةُ} السرايا {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ} قال الحديبية {حَتَّىٰ يَأْتِىَ وَعْدُ ٱللَّهِ} قال: فتح مكة». وأخرج ابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُو} ـ نزلت بالمدينة في سرايا النَّبي صلى الله عليه وسلم. أو تحل أنت يا محمد قريباً من دراهم اهـ محل الغرض منه.
فهذا التفسير المذكور في آية (الرعد) هذه، والتفسير المذكور قبله في آية (الدخان) ـ يدل على أن أهل مكة أبدلوا بعد سعة الرزق بالجوع، وبعد الأمن والطمأنينة بالخوف. كما قال في القرية المذكورة {كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}. وقوله في القرية المذكورة {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} ـ لا يخفى أنه قال مثل ذلك عن قريش في آيات كثيرة. كقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، وقوله: {لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ}.
والآيات المصرحة بكفرهم وعنادهم كثيرة جداً. كقوله: {أَجَعَلَ ٱلاٌّلِهَةَ إِلَـٰهاً وَٰحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} {وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ ءَالِهَتِكُمْ}،وقوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاًإِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
فمجموع ما ذكرنا يؤيد قول من قال: إن المراد بهذه القرية المضروبة مثلاً في آية (النحل)، هذه: هي مكة. وروي عن حفصة وغيرها: «أنها المدينة، قالت ذلك لما بلغها قتل عثمان رضي الله عنه». وقال بعض العلماء: هي قرية غير معينة، ضربها الله مثلاً للتخويف من مقابلة نعمة الأمن والاطمئنان والرزق، بالكفر والطغيان. وقال من قال بهذا القول: إنه يدل عليه تنكير القرية في الآية الكريمة في قوله: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً}.
قال مقيدة عفا الله عنه: وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان. لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة. ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علماً. لقوله: {وَتِلْكَ ٱلاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ}.
وفي قوله في هذه الآية الكريمة {قَرْيَةٌ} وجهان من الإعراب.
أحدهما ـ أنه يدل من قوله {مَثَل}. الثاني ـ أن {ضُرِبَ} مضمن معنى جعل، وأن {قَرْيَةٌ} هي المفعول الأول، و{مَثَل} المفعول الثاني. وإنما أخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها المذكورة في قوله: {كَانَتْ ءامِنَةً} الخ.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مُّطْمَئِنَّةً} أي لا يزعجها خوف. لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف.
وقوله: {رَغَدً} أي واسعاً لذيذاً. والأنعام قيل جمع نعمة كشدة وأشد. أو على ترك الاعتداد بالتاء. كدرع وأدرع. أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. كما تقدم في (سورة الأنعام) في الكلام على قوله: {حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، هو أن يقال: كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله {فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ}. وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمامِ اللغة الأدب: هل يُذاق اللباس؟ٰ يريد الطعن في قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ}. فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناسٰ هب أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان نبياً! أما كان عربياً؟
قال مقيده عفا الله عنه: والجواب عن هذا السؤال ظاهر، وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف. لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم، وتحيط بها كالباس. ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبرَّ به عن آثار الجوع والخوف، أوقع عليه الإذاقة، فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز): أنه لا يجوز لأحد أن يقول إن في القرآن مجازاً، وأوضحنا ذلك بأدلته، وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازاً أنه أسلوب من أساليب اللغة العربية.
وقد اختلف أهل البيان في هذه الآية، فبعضهم يقول: فيها استعارة مجردة. يعنون أنها جيء فيها بما يلائم المستعار له. وذلك في زعمهم أنه استعار اللباس لما غشيهم من بعض الحوادث كالجوع والخوف، بجامع اشتماله عليهم كاشتمال اللباس على اللابس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية التحقيقية، ثم ذكر الوصف، الذي هو الإذاقة ملائماً للمستعار له، الذي هو الجوع والخوف. لأن إطلاق الذوق على وجدان الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة لكثرة الاستعمال.
فيقولون: ذاق البؤس والضر، وأذاقه غيره إياهما. فكانت الاستعارة مجردة لذكر ما يلائم المستعار له، الذي هو المشبه في الأصل في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة. ولو أريد ترشيح هذه الاستعارة في زعمهم لقيل: فسكاها. لأن الإتيان بما يلائم المستعار منه الذي هو المشبه به في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة يسمى «ترشيحاً» والكسوة تلائم اللباس، فذكرها ترشيح للاستعارة. قالوا: وإن كانت الاستعارة المرشحة أبلغ من المجردة، فتجريد الاستعارة في الآية أبلغ. من حيث إنه روعي المستعار له الذي هو الخوف والجوع، وبذكر الإذاقة المناسبة لذلك ليزداد الكلام وضوحاً.
وقال بعضهم: هي استعارة مبنية على استعارة. فإنه أولاً استعار لما يظهر على أبدانهم من الاصفرار والذبول والنحول اسم اللباس، بجامع الإحاطة بالشيء والاشتمال عليه، فصار اسم اللباس مستعاراً لآثار الجوع والخوف على أبدانهم، ثم استعار اسم الإذاقة لما يجدونه من ألم ذلك الجوع والخوف، المعبر عنه باللباس، بجامع التعرف والاختبار في كل من الذوق بالفم، ووجود الألم من الجوع والخوف. وعليه ففي اللباس استعارة أصلية كما ذكرنا. وفي الإذاقة المستعارة لمس ألم الجوع، والخوف استعارة تبعية.
وقد ألممنا هنا بطرف قليل من كلام البيانيين هنا ليفهم الناظر مرادهم، مع أن التحقيق الذي لا شك فيه: أن كل ذلك لا فائدة فيه، ولا طائل تحته، وأن العرب تطلق الإذاقة على الذوق وعلى غيره من وجود الألم واللذة، وأنها تطلق اللباس على المعروف، وتطلقه على غيره مما فيه معنى اللباس من الاشتمال. كقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}، وقول الأعشى: إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت عليه فكانت لباسا

وكلها أساليب عربية. ولا إشكال في أنه إذا أطلق اللباس على مؤثر مؤلم يحيط بالشخص إحاطة اللباس، فلا مانع من إيقاع الإذاقة على ذلك الألم المحيط المعبر باسم اللباس. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ} . نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار عن تحريم ما أحل الله من رزقه، مما شرع لهم عمرو بن لحي (لعنه الله) من تحريم ما أحل الله.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ}، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ}، وقوله: {قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلَـٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}، وقوله: {وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَـٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَ}، وقوله: {وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَـٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ}. وقوله {حِجْرٍ} أي حرام، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم.
وفي قوله {ٱلْكَذِبَ} أوجه من الإعراب: أحدهما ـ أنه منصوب بـ {تَقُولُو} أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة.
كما ذكر في الآيات المذكورة آنفاً من غير استناد ذلك الوصف إلى دليل. واللام مثلها في قولك: لا تقولوا لما أحل الله: هو حرام. وكقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ}. وجملة {هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ} بدل من {ٱلْكَذِبَ} وقيل: إن الجملة المذكورة في محل نصب. {تَصِفُ} بتضمينها معنى تقول. أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول هذا حلال وهذا حرام. وقيل: {ٱلْكَذِبَ} مفعول به لـ {تَصِفُ}. و{مَ}مصدرية، وجملة {هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ} متعلقة بـ {لاَ تَقُولُو} أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لو صف ألسنتكم الكذب. أي لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم، ويجول في أفواهكم. لا لأجل حجة وبينة ـ قاله صاحب الكشاف. وقيل: {ٱلْكَذِبَ} بدل من هاء المفعول المحذوفة. أي لما تصفه ألسنتكم الكذب.
تنبيه
كان السّلف الصالح رضي الله عنهم يتورعون عن قولهم: هذا حلال وهذا حرام. خوفاً من هذه الآيات.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: قال الدارمي أبو محمد في مسنده: أخبرنا هارون، عن حفص، عن الأعمش قال: «ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون، وكانوا يستحبون».
وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. انتهى.
وقال الزمخشري: واللام في قوله {لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ} من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض اهـ. وكثير من العلماء يقولون: هي لام العاقبة. والبيانيون يزعمون أن حرف التعليل كاللام إذا لم تقصد به علة غائية. كقوله: {فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّ}، وقوله هنا: {لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ} أن في ذلك استعارة تبعية في معنى الحرف.
قال مقيده عفا الله عنه: بل كل ذلك من أساليب اللغة العربية. فمن أساليبها: الإتيان بحرف التعليل للدلالة على العلة الغائية. كقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ}. ومن أساليبها الإتيان باللاّم للدلالة على ترتب أمر على أمر. كترتب المعلول على علته الغائية. وهذا الأخير كقوله: {فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَن}. لأن العلة الغائية الباعثة لهم على التقاطه ليست هي أن يكون لهم عدواً، بل ليكون لهم قرة عين. كما قالت امرأة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَد} ولكن لما كان كونه عدواً لهم وحزناً يترتب على التقاطهم له. كترتب المعلول على علته الغائية ـ عبر فيه باللام الدالة على ترتيب المعلول على العلة. وهذا أسلوب عربي، فلا حاجة إلى ما يطيل به البيانيون في مثل هذا المبحث.

وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

سيتم شرح هذه الأيات في الصفحه التي بعدها بأذن الله