تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 317 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 317


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى ٱلْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ

تقدم شرح هذه الأيات في الصفحة التي قبلها

{يٰبَنِى إِسْرَٰءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَـٰكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَـٰكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلاٌّيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ * كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَىٰ * وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ * وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ * فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ أَسِفاً قَالَ يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى * قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِىُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِىَ * أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَـٰرُونُ مِن قَبْلُ يٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوۤاْ أَمْرِى * قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ}
قوله تعالى: {يٰبَنِى إِسْرَٰءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَـٰكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَـٰكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلاٌّيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰكُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ}. وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: امتنانه على بني إسرائيل بإنجائه إياهم من عدوهم فرعون، وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن، وأنه نزل عليهم المن والسلوى، وقال لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. ولا تطغوا فيغضب عليكم ربكم. وما ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع. كقوله في امتنانه عليهم بإنجائهم من عدوهم فرعون في «سورة البقرة»: {وَإِذْ نَجَّيْنَـٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} ، وقوله في «الأعراف»: {وَإِذْ أَنْجَيْنَـٰكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} ، وقوله في «الدخان»: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ} ، وقوله في سورة «إبراهيم»: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} ، وقوله في «الشعراء» {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ} ، وقوله في «الدخان» {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ} ، وقوله في «الأعراف»: {وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلاٌّرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَ} ، وقوله في «القصص»: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} إلى قوله {يَحْذَرونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا: {وَوَاعَدْنَـٰكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلاٌّيْمَنَ} الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله: {وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} ، وقوله: {وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، وقوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن} وهو الرعد بإنزال التوراة. وقيل فيه غير ذلك.
وقوله هنا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ} قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع. كقوله في «البقرة»: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ} وقوله في «الأعراف» {فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَـٰمَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ} وأكثر العلماء على أن المن: الترنجبين، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض. والسلوى: طائر يشبه السمانى. وقيل هو السمانى. وهذا قول الجمهور في المن والسلوى. وقيل: السلوى العسل. وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل. والتحقيق: أن «السلوى» يطلق على العسل لغة. ومنه قول خالد بن زهير الهذلي: وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها
يعني ألذ من العسل إذا ما نستخرجها. لأن النشور: استخراج العسل. قال مؤرج بن عمر السدوسي: إطلاق السلوى على العسل لغة كنانة. سمي به لأنه يسلي. قاله القرطبي. إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية. واختلفوا في السلوى. هل هو جمع أو مفرد؟ فقال بعضهم: هو جمع، واحده سلواة، وأنشد الخليل لذلك قول الشاعر: وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر

ويروى هذا البيت: * كما انتفض العصفور بلله القطر *
وعليه فلا شاهد في البيت. وقال الكسائي: السلوى مفرد وجمعه سلاوى. وقال الأخفش: هو جمع لا واحد له من لفظه. مثل الخير والشر، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته. كما قالوا: دفلى وسمانى وشكاعى في الواحد والجمع. والدفلى كذكرى: شجر أخضر مر حسن المنظر، يكون في الأودية. والشكاعى كحبارى وقد تفتح: نوع من دقيق النبات صغيراً أخضر، دقيق العيدان يتداوى به. والسمانى: طائر معروف.
قال مقيده عفا الله عنه: والأظهر عندي في المن: أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كد ولا تعب، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله بل على بني إسرائيل في التيه. ويشمل غير ذلك مما يماثله. ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين».
والأظهر عندي في السلوى: أنه طائر، سواء قلنا إنه السمانى،
أو طائر يشبهه، لإطباق جمهور العلماء من السلف والخلف على ذلك. مع أن السلوى، يطلق لغة على العسل، كما بينا.
وقوله في آية «طه» هذه: {كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ} أي من المن والسلوى، والأمر فيه للإباحة والامتنان.
وقد ذكر ذلك أيضاً في غير هذا الموضع، كقوله في «البقرة» {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله في «الأعراف»: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَـٰمَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله: {كُلُو} في هذه الآيات مقول قول محذوف، أي وقلنا لهم كلوا، والضمير المجرور في قوله: {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} راجع إلى الموصول الذي هو «ما» أي كلوا من طيبات الذي رزقناكم {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} أي فيما رزقناكم. ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم، وهو أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي، أو يستعينوا به على المعصية، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه، ونحو ذلك.
وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا، لأن الفاء في قوله {فَيَحِلَّ} سببية، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، لأنه بعد النهي وهو طلب محض، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب

وقرأ هذا الحرف الكسائي {فَيَحِلَّ} بضم الحاء {وَمَن يَحْلِلْ} بضم اللام. والباقون قرؤوا {يَحِلَّ} بكسر الحاء و{يَحْلِلْ} بكسر اللام. وعلى قراءة الكسائي {فَيَحِلَّ} بالضم أي ينزل بكم غضبي. وعلى قراءة الجمهور فهو من حل يحل بالكسر: إذا وجب، ومنه حل دينه إذا وجب أداؤه. ومنه {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} . وقوله: {فَقَدْ هَوَىٰ} أي هلك وصار إلى الهاوية، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك، ومنه قول الشاعر: هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده

ويقولون: هوت أمه، أي سقط سقوطاً لا نهوض بعده. ومنه قول كعب بن سعد الغنوي: هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يرد الليل حين يؤوب

ونحو هذا هو أحد التفسيرات في قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} وعن شفى بن مانع الأصبحي قال: إن في جهنم جبلاً يدعى صعوداً يطلع فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يرقاه. قال الله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُود} وإن في جهنم قصراً يقال له هوى، يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفاً قبل أن يبلغ أصله، قال الله تعالى: {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَىٰ} قال القرطبي وابن كثير، والله تعالى أعلم.
واعلم أن الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته، تظهر آثارها في المغضوب عليهم. نعوذ بالله من غضبه جل وعلا. ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك. مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة «الأعراف» وقرأ حمزة والكسائي في هذه الآية {قَدْ} بتاء المتكلم فيهما. وقرأه الباقون {وَوَاعَدْنَـٰكُمْ} بالنون الدالة على العظمة، فصيغة الجمع في قراءة الجمهور للتعظيم. وقرأ أبو عمرو {وَوَعَدْنَاكُمْ} بلا ألف بعد الواو الثانية بصيغة الفعل المجرد، من الوعد لا من المواعدة مع نون التعظيم. قوله تعالى: {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ}.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه غفار أي كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره، وآمن به وعمل صالحاً ثم اهتدى. وقد أوضح هذا المعنى في مواضع متعددة من كتابه، كقوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} . وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وقوله تعالى: {قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ} ، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا معنى التوبة والعمل الصالح.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ} أي استقام وثبت على ما ذكر من التوبة والإيمان والعمل الصالح ولم ينكث. ونظير ذلك قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُوا} ، وفي الحديث: «قل آمنت بالله ثم استقم». وقال تعالى: {فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} . قوله تعالى: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰقَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ}. أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة وذهابه إلى الميقات، واستعجاله إليه قبل قومه. وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه، استعجل إلى الميقات فقال له ربه {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ}. وهذه القصة التي أجملها هنا أشار لها في غير هذا الموضع. كقوله في «الأعراف»: {وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَـٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لاًّخِيهِ هَـٰرُونَ ٱخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِىۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ} .
وفي هذه الآية سؤال معروف: وهو أن جواب موسى ليس مطابقاً للسؤال الذي سأله ربه، لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه، والجراب لم يأت مطابقاً لذلك. لأنه أجاب بقوله: {هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ}.
وأجيب عن ذلك بأجوبة: (منها) أن قوله: {هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِى} يعني هم قريب وما تقدمتهم إلا بيسير يغتفر مثله، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم. (ومنها) أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ} داخله من الهيبة والإجلال والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق.
والله أعلم.
وقوله {هُمْ أُوْلاۤءِ} المد فيه لغة الحجازيين. ورجحها ابن مالك في الخلاصة بقوله:
والمد أولى..
ولغة التميميين «أولا» بالقصر، ويجوز دخول اللام على لغة التميميين في البعد، ومنه قول الشاعر: أولا لك قومي لم يكونوا أشابة وهل يعظ الضليل إلا أولالكا

وأما على لغة الحجازيين بالمد فلا يجوز دخول اللام عليها. قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ}. الظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل. فهي فتنة إضلال. كقوله: {إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ} . وهذه الفتنة بعبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة. كقوله: {وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَـٰلِمُونَ} ونحو ذلك من الآيات.
قوله هنا: {وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ} أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع. كقوله: {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} ـ إلى قوله ـ {ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ} أي اتخذوه إلهاً وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته. وقوله هنا {فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِىُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِىَ} والسامري: قيل اسمه هارون، وقيل اسمه موسى بن ظفر، وعن ابن عباس: أنه من قوم كانوا يعبدون البقر. وقيل: كان رجلاً من القبط. وكان جاراً لموسى آمن به وخرج معه.
وقيل: كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان. والفتنة أصلها في اللغة: وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف. وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة: (منها) الوضع في النار، كقوله {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يحرقون بها، وقوله {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ} . أي أحرقوهم بنار الأخدود. (ومنها) الاختبار وهو الأغلب في استعمال الفتنة. كقوله {أَنَّمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ} ، وقوله {وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لاّسْقَيْنَـٰهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} . (ومنها) نتيجة الاختيار إذا كانت سيئة. ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك، كقوله {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، وقوله هنا {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ}. (ومنها) الحجة، كقوله {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي لم تكن حجتهم.
وقوله تعالى في هذه الآية: {وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ} أسند إضلالهم إليه، لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورميه عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل، فجعله الله بسبب ذلك عجلاً جسداً له خوار، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة:
{فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِىُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} ، وقال في «الأعراف» {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} . والخوار: صوت البقر. قال بعض العلماء: جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسداً من لحم ودم، وهذا هو ظاهر قوله {عِجْلاً جَسَد}. وقال بعض العلماء: لم تكن تلك الصورة لحماً ولا دماً، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل. والأول أقرب لظاهر الآية، والله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحماً ودماً، كما جعل آدم لحماً ودماً وكان طيناً. قوله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ أَسِف}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفاً على قومه من أجل عبادتهم العجل.
وقوله {ٱلْحَدِيثِ أَسَف} أي شديد الغضب. فالأسف هنا: شدة الغضب، وعلى هذا فقوله {غَضْبَـٰنَ أَسِف} أي غضبان شديد الغضب. ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن قوله تعالى في «الزخرف» {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم. وقال بعض العلماء: الأسف هنا الحزن والجزع. أي رجع موسى في حال كونه غضبان حزيناً جزعاً لكفر قومه بعبادتهم للعجل. وقيل: أسفاً أي مغتاظاً. وقائل هذا يقول: الفرق بين الغضب والغيظ: أن الله وصف نفسه بالغضب، ولم يجز وصفه بالغيظ. حكاه الفخر الرازي. ولا يخفى عدم اتجاهه في تفسير هذه الآية، لأنه راجع إلى القول الأول، ولا حاجة في ذلك إلى التفصيل المذكور.
وقوله {غَضْبَـٰنَ أَسِف} حالان. وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحداً. كما أشار له في الخلاصة بقوله: والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد

وما ذكره جل وعلا في آية «طه» هذه من كون موسى رجع إلى قومه {غَضْبَـٰنَ أَسِف} ذكره في غير هذا الموضع، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور، كقوله في «الأعراف»: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِىۤ} . وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، كما قال في «الأعراف»: {وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ، وقال في «طه» مشيراً لأخذه برأس أخيه: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى}. وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان، لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله: {قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ} وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه لم يلق الألواح، ولكنه لما عاين قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثراً لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك، فألقى الألواح حتى تكسرت، وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تعالى.
وقال ابن كثير في تفسيره في سورة «الأعراف»: وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح». قوله تعالى: {قَالَ يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَ} . ذكر جل في هذه الآية الكريمة: أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رجع إلى قومه، ووجدهم قد عبدوا العجل من بعده قال لهم: {يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن}.
وأظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن: أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون إليه من خير الدنيا والآخرة. وهذا الوعد الحسن المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَـٰكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلاٌّيْمَنَ} ، وفيه أقوال غير ذلك.
وقوله: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ} الاستفهام فيه للإنكار، يعني لم يطل العهد. كما يقال في المثل: (وما بالعهد من قدم). لأن طول العهد مظنة النسيان، والعهد قريب لم يطل فكيف نسيتم؟
وقوله: {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} قال بعض العلماء: «أم» هنا هي المنقطعة، والمعنى: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم، ومعنى إرادتهم حلول الغضب: أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم. فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه، وهو الكفر بعبادة العجل.
وقوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى} كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى. فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى. فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره، {قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَ} قرأنه نافع وعاصم «بِمَلْكِنا» بفتح الميم. وقرأه حمزة والكسائي «بِمُلِكْنَا» بضم الميم، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «بِمُلِكْنَا» بكسر الميم. والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك. وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده. وهو اعتذار بارد ساقط كما ترىٰ! ولقد صدق من قال: إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر

وأما على قول من قال: إن الذين قالوا لموسى: {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَ} هم الذين لم يعبدوا العجل. لأنهم وعدوه أن يتبعوه، ولما وقع ما وقع من عبادة أكثرهم للعجل تأخروا عن اتباع موسى بسبب ذلك، ولم يتجرؤوا على مفارقتهم خوفاً من الفرقة ـ فالعذر له وجه في الجملة، كما يشير إليه قوله تعالى في القصة في هذه السورة الكريمة {قَالَ يٰهَـٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِىقَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِىۤ إِسْرءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} .
والمصدر في قوله {بِمَلْكِنَ} مضاف إلى فاعله ومفعوله محذوف، أي بملكنا أمرنا. وقال القرطبي: كأنه قال بملكنا الصواب بل أخطأنا. فهو اعتراف منهم بالخطأ. وقال الزمخشري: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ}: الزمان، يريد مدة مفارقته لهم.
تنبيه
كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ«لم» إذا تقدمتها همزة استفهام. كقوله هنا: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن} فيه وجهان معروفان عند العلماء:
الأول ـ أن مضارعته تنقلب ماضوية، ونفيه ينقلب إثباناً. فيصير قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ} بمعنى وعدكم، وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} بمعنى شرحنا، وقوله: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ}، جعلنا له عينين. وهكذا. ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر، لأن «لم» حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي كما هو معروف. ووجه انقلاب النفي إثباتاً أن الهمزة إنكارية، فهي مضمنة معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في «لم» فينفيه، ونفي النفي إثبات فيؤول إلى معنى الإثبات.
الوجه الثاني ـ أن الاستفهام في ذلك التقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول «بلى» وعليه فالمراد من قوله {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن} حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا بلى هكذا. ونظير هذا من كلام العرب قول جرير:
ألستم خير من يركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
فإذا عرفت أن قوله هنا {فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ أَسِف} ـ إلى قوله ـ {بِمَلْكِنَ} قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ} ـ فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا، وكذلك بعض فعله، ولكنه بينه في غير هذا الموضع. كقوله في «الأعراف» في القصة بعينها: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِىۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} ، وبين بعض ما فعل بقوله في «الأعراف»: {وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ، وقد أشار إلى ذلك هنا في «طه» في قوله: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى} . قوله تعالى: {وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِىُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِىَ}. قرأ هذا الحرف أبو عمرو وشعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي {حُمّلْنَ} بفتح الحاء والميم المخففة مبيناً للفاعل مجرداً. وقرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم «حملنا» بضم الحاء وكسر الميم المشددة مبيناً للمفعول. و«نا» على القراءة الأولى فاعل «حمل» وعلى الثانية نائب فاعل «حمل» بالتضعيف. والأوزار في قوله {أَوْزَار}قال بعض العلماء: معناها الأثقال. وقال بعض العلماء: معناها الآثام. ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم. ووجه الثاني أنها آثام وتبعات. لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي، ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم. والتعليل الأخير أقوى.
وقوله: {مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ} المراد بالزينة الحلي، كما يوضحه قوله تعالى: {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ} أي ألقياناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة، وأمرنا أن نطرح الحلي فيها. وأظهر الأقوال عندي في ذلك: هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة. لأن ذلك أسهل لحفظه حتى يرى نبي الله موسى فيه رأيه. والسامري يريد تدبير خطة لم يطلعوا عليها. وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات وكان على فرس، أخذ السامري تراباً مسه حافر تلك الفرس، ويزعمون في القصة أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة، فأخذ تلك القبضة من التراب واحتفظ بها، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب وجعلوه فيها، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكورة، وقال له: كن عجلاً جسداً له خوار. فجعله الله عجلاً جسداً له خوار. فقال لهم: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَـٰمِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} .
وقوله في هذه الآية: {وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ} هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد، وهو يدل على أن ذلك الاعتذار من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم، ولا يبعد معه احتمال أنه من غيرهم. لأنه ليس فيه ما يعين كون الاعتذار منهم تعيناً غير محتمل. ومعلوم أن هذا العذر عذر لا وجه له على كل حال.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَنَسِىَ} أي نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر. قاله ابن عباس في حديث الفتون. وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أيضاً من طريق عكرمة {فَنَسِىَ} أي نسي أن يذكركم به. وعن ابن عباس أيضاً {فَنَسِىَ} أي السامري ما كان عليه من الإسلام، وصار كافراً بادعاء ألوهية العجل وعبادته. قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْع}. بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعاً لمن عبده، ولا ضراً لمن عصاه. وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجراً عن النفع والضرر ورد الجواب. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله في «الأعراف» في القصة بعينها: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ} ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ولا يهديه سبيلاً إلهاً أنه من أظلم الظالمين. ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم: {يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئ} ، وقوله تعالى عنه أيضاً: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} ، وقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَ} وقوله تعالى:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَـٰفِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـٰفِرِينَ} ، وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . وقد قدمنا الكلام مستوفى في همزة الاستفهام التي بعدها أداة عطف كالفاء والواو، كقوله هنا: {أَفَلاَ يَرَوْنَ} فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ هذا الحرف جماهير القراء {أَلاَّ يَرْجِعُ} بالرفع لأن «أن» مخففة من الثقيلة. والدليل على أنها مخففة من الثقيلة تصريحه تعالى بالثقيلة في قوله في المسألة بعينها في «الأعراف»: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ} ، ورأى في آية «طه، والأعراف» علمية على التحقيق، لأنهم يعلمون علماً يقيناً أن ذلك العجل المصوغ من الحلي لا ينفع ولا يضر ولا يتكلم.
واعلم أن المقرر في علم النحو أن: «أن» لها ثلاث حالات: الأولى ـ أن تكون مخففة من الثقيلة قولاً واحداً. ولا يحتمل أن تكون «أن» المصدرية الناصبة للفعل المضارع. وضابط هذه: أن تكون بعد فعل العلم وما جرى مجراه من الأفعال الدالة على اليقين. كقوله تعالى: {أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَءَاخَرُونَ} ، وقوله: {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّهِمْ} ، ونحو ذلك من الآيات، وقول الشاعر: واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا

وقول الآخر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل

وإذا جاء بعد هذه المخففة من الثقيلة فعل مضارع فإنه يرفع ولا ينصب كقوله: علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل

و«أن» هذه المخففة من الثقيلة يكون اسمها مستكناً غالباً، والأغلب أن يكون ضمير الشأن. وقيل لا يكون إلا ضمير الشأن، وخبرها الجملة التي بعدها، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: وإن تخفف أن فاسمها استكن والخبر اجعل جملة من بعد أن

وما سمع في شعر العرب من بروز اسمها في حال كونه غير ضمير الشأن فمن ضرورة الشعر. كقول جنوب أخت عمر عمرو ذي الكلب: لقد علم الضيف والمرملون إذا اغبر أفق وهبت شمالا
بأن ربيع وغيث مربع وأنك هناك تكون الثمالا

وقول الآخر: فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق

الحالة الثانية ـ أن تكون محتملة لكونها المصدرية الناصبة للمضارع. ومحتملة لأن تكون هي المخففة من الثقيلة.
وإن جاء بعدها فعل مضارع جاز نصبه للاحتمال الأول، ورفعه للاحتمال الثاني، وعليه القراءتان السبعيتان في قوله {وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} بنصب «تكون» ورفعه، وضابط «أن» هذه أن تكون بعد فعل يقتضي الظن ونحوه من أفعال الرجحان. وإذا لم يفصل بينها وبين الفعل فاصل فالنصب أرجح، ولذا اتفق القراء على النصب في قوله تعالى {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤ} . وقيل: إن «أن» الواقعة بعد الشك ليس فيها إلا النصب. نقله الصبان في حاشيته عن أبي حيان بواسطة نقل السيوطي.
الحالة الثالثة ـ أن تكون «أن» ليست بعد ما يقتضي اليقين ولا الظن ولم يجر مجراهما، فهي المصدرية الناصبة للفعل المضارع قولاً واحداً. وإلى الحالات الثلاث المذكورة أشار بقوله في الخلاصة: وبان انصبه وكى كذا بأن لا بعد علم والتي من بعد ظن
فانصب بها والرفع صحح واعتقد تخفيفها من أن فهو مطرد

تنبيه
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً. لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط ـ انتهى كلامه. وما ذكره مقرر في الأصول. فكل ما توقف على شرطين فصاعداً لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط. فلو قلت لعبدك: إن صام زيد وصلى وحج فأعطه ديناراً. لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة. ومحل هذا ما لم يكن تعليق الشروط على سبيل البدل فإنه يكفي فيه واحد. فلو قلت لعبدك: إن صام زيد أو صلى فأعطه درهماً. فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله: وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين
وما على البدل قد تعلقا فبحصول واحد تحققا

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري: أن هذا العجل اسمه يهموت. وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة: أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر: أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب. يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما:
انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني الحسين رضي الله عنه) وهم يسألون عن دم البعوضة ـ انتهى منه. قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَـٰرُونُ مِن قَبْلُ يٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوۤاْ أَمْرِىقَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ} . بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: أن بني إسرائيل لما فتهم السامري وأضلهم بعبادة العجل، نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين لهم عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها. أي كفر وضلال ارتكبوه بذلك، وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا، وأن عجلاً مصطنعاً من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر. وأمرهم باتباعه في توحيد الله تعالى، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وأن يطيعوه في ذلك. فصارحوه بالنمرد والعصيان والديمومة على الكفر حتى يرجع موسى. وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه.
وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في «الأعراف»: {قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} . فقوله عنهم في خطابهم له {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـٰكِفِينَ} يدل على استضعافهم له وتمردهم عليه المصرح به في «الأعراف» كما بينا. وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ واعلم حرس الله مدته: أنه اجتمع جماعة من رجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه، ويحضرون شيئاً يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ افتونا مأجورين. وهذا القول الذي يذكرونه:
يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحا ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله: مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما الرقص والتواجد: فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، قاموا يرقصون حواليه، ويتواجدون، فهو دين الكفار وعبادة العجل. وأما القضيب: فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى. وإنما كان يجلس النَّبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار. فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد وغيرها. ولا يحل لأحد أن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا أن يعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق ـ انتهى منه بلفظه.
قال مقيده ـ عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا في سورة «مريم» ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق. ولا شك أن منهم ما هو على الطريق المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها، وراقبوها وعرفوا أحوالها، وتكلموا على أحوال القلوب كلاماً مفصلاً كما هو معلوم، كعبد الرحمن بن عطية، أو ابن أحمد بن عطية، أو ابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني، وكعون بن عبد الله الذي كان يقال له حكم الأمة، وأضرابهما، وكسهل بن عبد الله التستري، أبي طالب المكي، وأبي عثمان النيسابوري، ويحيى بن معاذ الرازي، والجنيد بن محمد، ومن سار على منوالهم، لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع. فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ولا يصح على إطلاقه، والميزان الفارق بين الحق والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن كان منهم متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وهديه وسمته، كمن ذكرنا وأمثالهم، فإنهم من جملة العلماء العاملين، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال. وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال.
نعم، صار المعروف في الآونة الأخيرة، وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء، أن عاملة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا إلا من شاء الله منهم دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم، ليتخذوا بذلك أتباعاً وخدماً، وأموالاً وجاهاً، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق، لا يعلمون بكتاب الله ولا بسنة نبيه، واستعمارهم لأفكار ضعاف القول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين. فيجب التباعد عنهم، والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق، ولقد صدق من قال: إذا رأيت رجلاً يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي

والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيف} ، فمن كان عمله مخالفاً للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال. ومن كان عمله موافقاً لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي. نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين، وألا يزيغنا ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي حجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.