تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 353 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 353


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِىۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَٰتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ ٱلنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ فَكَـٰتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىۤ ءَاتَـٰكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَـٰتٍ مُّبَيِّنَـٰتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلاٌّمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلَيِمٌ * فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلاٌّصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـوٰةِ يَخَـٰفُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلاٌّبْصَـٰرُ * لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} . أمر اللَّه جلّ وعلا المؤمنين والمؤمنات بغضّ البصر، وحفظ الفرج، ويدخل في حفظ الفرج: حفظه من الزنى، واللواط، والمساحقة، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم، وقد دلّت آيات أُخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شىء إلا الزوجة والسرية، وذلك في قوله تعالىٰ في سورة «المؤمنون» و «سأل سائل»، {وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}.
فقد بيّنت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى، واللواط لازم، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك.
وقد بيّنا في سورة «البقرة» أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر، وذكرنا لذلك أدلّة كثيرة، وقد أوضحنا الكلام على آية: {وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ}، في سورة « قد أفلح ٱلمؤمنون»، وقد وعد اللَّه تعالىٰ من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة «الأحزاب»، وذلك في قوله تعالىٰ: {خَبِيراً إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ}، إلى قوله تعالىٰ: {وَٱلْحَـٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَـٰفِـظَـٰتِ وَٱلذكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذكِرٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيم}، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيل}، وقوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ}، إلى غير ذلك من الآيات. وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللّواط، وبيّن أنه عدوان في آيات متعدّدة في قصّة قوم لوط؛ كقوله: {أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْوٰجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللّواط في سورة «هود»، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة.
واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس. وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى؛ كما قال تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ}، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن: «احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك»، اهــ منه.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ}، قال الزمخشري في الكشاف: من للتبعيض والمراد غضّ البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحلّ، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه، فإن قلت: كيف دخلت في غضّ البصر دون حفظ الفرج؟ قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع، إلا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن، وصدورهن، وثديهن، وأعضادهن، وأسوقهن، وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين، وأمّا أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقًا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استنثي منه، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحلّ حفظها عن الإبداء.
وعن ابن زيد: كل ما في القرءان من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار، اهــ كلام الزمخشري.
وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتاء فيه نظر. بل يدخل فيه دخولاً أوّليًّا حفظه من الزنى واللّواط، ومن الأدلّة على ذلك تقديمه الأمر بغضُّ البصر على الأمر بحفظ الفرج؛ لأن النظر بريد الزنى، كما سيأتي إيضاحه قريبًا إن شاء اللَّه تعالىٰ. وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللَّه تعالىٰ وتفصيله في سورة «الأحزاب»، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة «الأحزاب».
وقول الزمخشري: إن {مِنْ} في قوله: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ} للتبعيض، قاله غيره، وقوّاه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها وعليه أن يغضّ بصره بعدها، ولا ينظر نظرًا عمدًا إلى ما لا يحلّ، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش، وذكره القرطبي وغيرهما من أن {مِنْ} زائدة، لا يعوّل عليه. وقال القرطبي: وقيل الغضّ: النقصان. يقال: غضّ فلان من فلان، أي: وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله، فهو موضوع منه ومنقوص، ف{مِنْ} صلة للغض، وليست للتبعيض، ولا للزيادة، اهــ منه.
والأظهر عندنا أن مادّة الغضّ تتعدّى إلى المفعول بنفسها وتتعدّى إليه أيضًا بالحرف الذي هو {مِنْ}، ومثل ذلك كثير في كلام العرب، ومن أمثله تعدّي الغض للمعقول بنفسه قول جرير:
فغضّ الطّرف إنك من نمير فلا كعبًا بلغت ولا كلابا

وقول عنترة:
وأغضُّ طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

وقول الآخر:
وما كان غضّ الطرف منا سجية ولكننا في مذحج غربان
لأن قوله: غضُّ الطرف مصدر مضاف إلى مفعوله بدون حرف.
ومن أمثلة تعدّي الغضّ ب{مِنْ} قوله تعالىٰ: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ} و {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ}، وما ذكره هنا من الأمر بغضُّ البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله، ولم يغضّ بصره عن الحرام، وهي قوله تعالىٰ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلاْعْيُنِ}.
وقد قال البخاري رحمه اللَّه: وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءُوسهن، قال: اصرف بصرك عنهن، يقول اللَّه عزّ وجلّ: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}، قال قتادة: عمّا لا يحلّ لهم، {وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، خائنة الأعين النظر إلى ما نهي عنه، اهــ محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أن قوله تعالىٰ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلاْعْيُنِ} فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحلّ له، وهذا الذي دلّت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحلّ جاء موضحًا في أحاديث كثيرة.
منها: ما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس بالطرقات»، قالوا: يا رسول اللَّهٰ ما لنا من مجالسنا بدّ نتحدث فيها، قال: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقّه»، قالوا: وما حقّ الطريق يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: «غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»، انتهى. هذا لفظ البخاري في «صحيحه».
ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما، قال: أردف النبيّ صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته،
وكان الفضل رجلاً وضيئًا فوقف النبيّ صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، الحديث.
ومحل الشاهد منه: أنه صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل عن النظر إليها، فدلّ ذلك على أن نظره إليها لا يجوز، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث، سيأتي إن شاء اللَّه الجواب عنه في الكلام على مسألة الحجاب في سورة «الأحزاب».
ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما: من أن نظر العين إلى ما لا يحلّ لها تكون به زانية، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس، أنّه قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّه كتب على ابن ءادم حظّه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين: النظر، وزنى اللسان: المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كلّه ويكذبه»، اهــ. هذا لفظ البخاري، والحديث متفق عليه، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا.
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: «فزنى العين النظر»، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحلّ دليل واضح على تحريمه والتحذير منه، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة.
ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلاً قد يتمكن بسببه حبّها من قلبه تمكّنًا يكون سبب هلاكه، والعياذ باللَّه، فالنظر بريد الزنى. وقال مسلم بن الوليد الأنصاري: كسبت لقلبي نظرة لتسرّه عيني فكانت شقوة ووبالا
ما مرّ بي شىء أشدّ من الهوى سبحان من خلق الهوى وتعالىٰ

وقال آخر: ألم ترَ أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف

وقال آخر: وأنت إذا أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلّه أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وقال أبو الطيب المتنبي: وأنا الذي اجتلب المنيّة طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل

وقد ذكر ابن الجوزي رحمه اللَّه في كتابه «ذمّ الهوى» فصولاً جيّدة نافعة أوضح فيها الآفات التي يسبّبها النظر وحذّر فيها منه، وذكر كثيرًا من أشعار الشعراء، والحكم النثرية في ذلك وكلّه معلوم، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. اعلم أولاً أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال:
الأول: أن الزينة هنا نفس شىء من بدن المرأة؛ كوجهها وكفيها.
الثاني: أن الزينة هي ما يتزيّن به خارجًا عن بدنها.
وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان:
أحدهما: أنها الزينة التي لا يتضمّن إبداؤها رؤية شىء من البدن؛ كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار.
والثاني: أنها الزينة التي يتضمّن إبداؤها رؤية شىء من البدن كالكحل في العين،
فإنه يتضمّن رؤية الوجه أو بعضه، وكالخضاب والخاتم، فإن رؤيتهما تستلزم رؤية اليد، وكالقرط والقلادة والسوار، فإن رؤية ذلك تستلزم رؤية محلّه من البدن؛ كما لا يخفى.
وسنذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك، ثم نبيّن ما يفهم من آيات القرءان رجحانه.
قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهاَ}، أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلّل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود: الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبرٰهيم النخغي وغيرهم، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها}، قال: وجهها وكفّيها والخاتم. وروي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبرٰهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبدائها؛ كما قال أبو إسحٰق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه قال في قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الزينة: القرط، والدملوج، والخلخال، والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد، قال: الزينة زينتان، فزينة لا يراها إلا الزوج الخاتم والسوار، وزينة يراها الأجانب، وهي الظاهر من الثياب، وقال الزهري: لا يبدو لهؤلاء الذين سمّى اللَّه ممن لا تحلّ له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأمّا عامّة الناس، فلا يبدو منها إلا الخواتم. وقال مٰلك، عن الزهري {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}:الخاتم والخلخال. ويحتمل أن ابن عباس، ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها: بالوجه والكفّين، وهذا هو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في «سننه»:
حدّثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي، ومؤمل بن الفضل الحراني، قالا: حدّثنا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك، عن عائشة رضي اللَّه عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا»، وأشار إلى وجهه وكفّيه. لكن قال أبو داود، وأبو حاتم الرازي: هو مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي اللَّه عنها، واللَّه أعلم، اهــ كلام ابن كثير.
وقال القرطبي في تفسيره لقوله تعالىٰ: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهاَ}: واختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير: الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضًا، وعطاء، والأوزاعي: الوجه والكفّان والثياب. وقال ابن عباس، وقتادة، والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا، فمباح أن تبديه المرأة لكلّ من دخل عليها من الناس. وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة رضي اللَّه عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هٰهنا»، وقبض على نصف الذراع.
قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بدّ منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدّي إليه الضرورة في النساء، فهو المعفوّ عنه.
قلت: وهذا قول حسن إلاّ أنه لما كان الغالب من الوجه والكفّين ظهورهما عادة، وعبادة وذلك في الصلاة والحجّ، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعًا إليهما يدلّ لذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي اللَّه عنها، ثم ذكر القرطبي حديث عائشة المذكور الذي قدّمناه قريبًا، ثم قال: وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوز أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفّيها، اهــ محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال الزمخشري: الزينة ما تزيّنت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرًا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب، فلا بأس به، وما خفي منها كالسوار، والخلخال، والدملج، والقلادة، والإكليل، والوشاح، والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصوّن والتستّر؛ لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحلّ النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع، والساق، والعضد، والعنق، والرأس، والصدر، والأذن. فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحلّ إليها لملابستها تلك المواقع، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حلّه، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكّنًا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهد على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتّقين اللَّه في الكشف عنها، إلى آخر كلامه.
وقال صاحب «الدرّ المنثور»: وأخرج عبد الرزاق والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصحّحه، وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه في قوله تعالىٰ: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}، قال: الزينة السوار والدملج والخلخال، والقرط، والقلادة {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَ}، قال: الثياب والجلباب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه، قال: الزينة زينتان،، زينة ظاهرة، وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج. فأمّا الزينة الظاهرة: فالثياب، وأمّا الزينة الباطنة: فالكحل، والسوار والخاتم. ولفظ ابن جرير: فالظاهرة منها الثياب، وما يخفى: فالخلخالان والقرطان والسواران.
وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهاَ}، قال: الكحل والخاتم.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها}، قال: الكحل والخاتم والقرط والقلادة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهاَ}، قال: هو خضاب الكفّ، والخاتم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال: وجهها، وكفّاها والخاتم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال: رقعة الوجه، وباطن الكفّ.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن عائشة رضي اللَّه عنها: أنها سئلت عن الزينة الظاهرة؟ فقالت: القلب والفتخ، وضمّت طرف كمّها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال: الوجه وثغرة النحر.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهاَ}، قال: الوجه والكفّ.
وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَ}، قال: الكفّان والوجه.
وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير، عن قتادة {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال: المسكتان والخاتم والكحل.
قال قتادة: وبلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر إلا إلى هٰهنا» ويقبض نصف الذراع. وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير، عن المسور بن مخرمة في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَ}، قال: القلبين، يعني السوار والخاتم والكحل.
وأخرج سعيد وابن جرير، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس في قوله تعالىٰ: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال: الخاتم والمسكة. قال ابن جريج: وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: القلب والفتخة. قالت عائشة: دخلت عليّ ابنة أخي لأُمّي عبد اللَّه بن الطفيل مزينة، فدخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعرض، فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: إنها ابنة أخي وجارية، فقال: «إذا عركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا»، وقبض على ذراعه نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى، اهــ محل الغرض من كلام صاحب «الدرّ المنثور».
وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال؛ كما ذكرنا.
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجًا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شىء من بدنها؛ كقول ابن مسعود، من وافقه: إنها ظاهر الثياب؛ لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار، كما ترى.
وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها، وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة: ما تتزيّن به، وليس من أصل خلقتها أيضًا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شىء من بدن المرأة، وذلك كالخضاب والكحل، ونحو ذلك؛ لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن، كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها؛ كقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفّان، وما تقدّم ذكره عن بعض أهل العلم.
وإذا عرفت هذا، فاعلم أننا قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمّنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، وتكون في نفس الآية قرينة دالَّة على عدم صحّة ذلك القول، وقدّمنا أيضًا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمّنها أن يكون الغالب في القرءان إرادة معنى معيّن في اللفظ، مع تكرّر ذلك اللفظ في القرءان، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب، يدلّ على أنه هو المراد في محل النزاع؛ لدلالة غلبة إرادته في القرءان بذلك اللفظ، وذكرنا له بعض الأمثلة في الترجمة.
وإذا عرفت ذلك، فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان للذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك، ومثلنا لهما بأمثلة متعدّدة كلاهما موجود في هذه الآية، التي نحن بصددها.
أمّا الأول منهما، فبيانه أن قول من قال في معنى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أن المراد بالزينة: الوجه والكفان مثلاً، توجد في الآية قرينة تدلّ على عدم صحة هذا القول، وهي أن الزينة في لغة العرب، هي ما تتزيّن به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها: كالحلى، والحلل. فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة: الوجه، والكفّان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه.
وأمّا نوع البيان الثاني المذكور، فإيضاحه: أن لفظ الزينة يكثر تكرّره في القرءان العظيم مرادًا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشىء المزيّن بها؛ كقوله تعالىٰ: {مُّهْتَدُونَ يَـٰبَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ}، وقوله تعالىٰ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلاْرْضِ زِينَةً لَّهَا}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء فَمَتَـٰعُ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوٰكِبِ}، وقوله تعالىٰ: {وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، وقوله تعالىٰ: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ}، وقوله تعالىٰ: {ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَ}، وقوله تعالىٰ: {ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌا}، وقوله تعالىٰ: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزّينَةِ}، وقوله تعالىٰ عن قوم موسى: {وَلَـٰكِنَّا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ}، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزيّن به الشىء وهو ليس من أصل خلقته، كما ترى. وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرءان، يدلّ على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرءان العظيم، وهو المعروف في كلام العرب؛ كقول الشاعر: يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل

وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفّين، فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرءان ما يتزيّن به مما هو خارج عن أصل الخلقة، وأن من فسّروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين، فقال بعضهم: هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شىء من بدن المرأة كظاهر الثياب. وقال بعضهم: هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة؛ كالكحل والخطاب، ونحو ذلك.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي اللَّه عنه: أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شىء من بدن المرأة الأجنبية، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر؛ لأنه هو أحوط الأقوال، وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها؛ كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم، هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي.
واعلم أن مسألة الحجاب وإيضاح كون الرجل لا يجوز له النظر إلى شىء من بدن الأجنبية، سواء كان الوجه والكفّين أو غيرهما قد وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك وغيرها من المواضع، بأننا سنوضح ذلك في سورة «الأحزاب»، في الكلام على آية الحجاب، وسنفي إن شاء اللَّه تعالىٰ بالوعد في ذلك بما يظهر به للمنصف ما ذكرنا.
واعلم أن الحديث الذي ذكرنا في كلام ابن كثير عند أبي داود، وهو حديث عائشة في دخول أسماء على النبيّ صلى الله عليه وسلم، في ثياب رقاق، وأنه قال لها: «إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا»، وأشار إلى وجهه وكفّيه، حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث؛ كما قدّمنا عن ابن كثير أنه قال فيه: قال أبو داود، وأبو حاتم الرازي: هو مرسل، وخالد بن دريك لم يسمع من عائشة،
والأمر كما قال، وعلى كل حال فسنبيّن هذه المسألة إن شاء اللَّه بيانًا شافيًا مع مناقشة أدلّة الجميع في سورة «الأحزاب»، ولذلك لم نطل الكلام فيها هٰهنا.
تنبيــه
قد ذكرنا في كلام أهل العلم في الزينة أسماء كثير من أنواع من الزينة، ولعلّ بعض الناظرين في هذا الكتاب، لا يعرف معنى تلك الأنواع من الزينة، فأردنا أن نبيّنها هٰهنا تكميلاً للفائدة.
أمّا الكحل والخضاب فمعروفان، وأشهر أنواع خضاب النساء الحناء، والقرط ما يعلق في شحمة الأذن، ويجمع على قرطة كقردة، وقراط، وقروط، وأقراط، ومنه قول الشاعر:
أكلت دمًا إن لم أرعك بضرّة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

والخاتم معروف، وهو حلية الأصابع. والفتخ: جمع فتخة بفتحات وهي حلقة من فضّة لا فصّ فيها، فإذا كان فيها فصّ، فهو الخاتم. وقيل: قد يكون للفتخة فصّ، وعليه فهي نوع من الخواتم، والفتخة تلبسها النساء في أصابع أيديهنّ، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها، ومن ذلك قول الراجزة، وهي الدهناء بنت مسحل زوجة العجاج:
واللَّه لا تخدعني بضم ولا بتقبيل ولا بشمّ
إلا بزعزاع يسلي همّي تسقط منه فتخي في كمّي

والخلخال، ويقال له:
الخلخل حلية معروفة تلبسها النساء في أرجلهنّ كالسوار في المعصم، والمخلخل: موضع الخلخال من الساق، ومنه قول امرىء القيس:
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت على هضيم الكشح ريا المخلخل

والدملج: ويقال له الدملوج: هو المعضد، وهو ما شدّ في عضد المرأة من الخرز وغيره، والعضد من المرفق إلى المنكب، ومنه قول الشاعر:
ما مركب وركوب الخيل يعجبني كمركب بين دملوج وخلخال

والسوار: حلية من الذهب، أو الفضة مستديرة كالحلقة تلبسها المرأة في معصمها، وهو ما بين مفصل اليد والمرفق، وهو القُلب بضمّ القاف.
وقال بعض أهل اللغة: إن القُلب هو السوار المفتول من طاق واحد؛ لا من طاقين أو أكثر، ومنه قول خالد بن يزيد بن معٰوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام رضي اللَّه عنه: تجول خلاخيل النساء ولا أرى لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا
أحبّ بني العوام من أجل حبّها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا

والمسكة بفتحات: السوار من عاج أو ذبل، والعاج سن الفيل، والذبل بالفتح شىء كالعاج، وهو ظهر السلحفاة البحرية، يتّخذ منه السوار، ومنه قول جرير يصف امرأة: ترى العبس الحولى جونا بكوعها لها مسكًا من غير عاج ولا ذبل

قاله الجوهري في «صحاحه»، والمسك بفتحتين: جمع مسكة.
وقال بعض أهل اللغة: المسك أسورة من عاج أو قرون أو ذبل، ومقتضى كلامهم أنها لا تكون من الذهب، ولا الفضّة، وقد قدّمنا في سورة «التوبة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ}، في مبحث زكاة الحلي المباح من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عند أبي داود النسائي: أن امرأة أتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، الحديث. وهو دليل على أن المسكة تكون من الذهب، كما تكون من العاج، والقرون، والذبل. وهذا هو الأظهر خلافًا لكلام كثير من اللغويين في قولهم: إن المسك لا يكون من الذهب، والفضّة، والقلادة معروفة، واللَّه تعالىٰ أعلم. {وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. لمّا أمر اللَّه تعالىٰ بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدّمة، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علم خلقه ما يتداركون به، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر، واجتناب النهي، وبيّن لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة، وهي الرجوع عن الذنب والإنابة إلى اللَّه بالاستغفار منه، وهي ثلاثة أركان:
الأول: الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسًا به.
والثاني: الندم على ما وقع منه من المعصية.
والثالث: النيّة ألاّ يعود إلى الذنب أبدًا، والأمر في قوله في هذه الآية: {وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعا}، الظاهر أنه للوجوب وهو كذلك، فالتوبة واجبة على كل مكلف، من كل ذنب اقترفه، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضًا.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، قد قدّمنا مرارًا أن أشهر معاني لعلّ في القرءان اثنان:
الأول: أنها على بابها من الترجّي، أي: توبوا إلى اللَّه رجاء أن تفلحوا، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد، أمّا اللَّه جلّ وعلا، فهو عالم بكل شىء، فلا يجوز في حقّه إطلاق الرجاء، وعلى هذا فقوله تعالىٰ لموسى وهٰرون في مخاطبة فرعون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}، وهو جلّ وعلا عالم بما سبق في الأزل من أنه لا يتذكّر ولا يخشى.
معناه: فقولا له قولاً ليّنًا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكّر أو يخشى.
والثاني: هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرءان للتعليل، إلاّ التي في سورة «الشعراء»، وهي في قوله تعالىٰ: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}، قالوا: فهي بمعنى كأنكم، وقد قدّمنا أن إطلاق لعلّ للتعليل معلوم في العربية، ومنه قول الشاعر: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكفّ ووثقتم لنا كل موثق

أي: كفّوا الحروب، لأجل أن نكف؛ كما تقدّم.
وعلى هذا القول، فالمعنى: وتوبوا إلى اللَّه جميعًا أيّها المؤمنون، لأجل أن تفلحوا، أي: تنالوا الفلاح، والفلاح في اللغة العربية: يطلق على معنيين:
الأول: الفوز بالمطلوب الأعظم، ومن هذا المعنى قول لبيد: فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل

أي: فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه اللَّه العقل.
المعنى الثاني: هو البقاء الدائم في النعيم والسرور، ومنه قول الأضبط بن قريع، وقيل: كعب بن زهير: لكل هم من الهموم سعه والمسى والصبح لا فلاح معه

يعني: أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه. وقول لبيد بن ربيعة أيضًا: لو أن حيًّا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح

يعني: لو كان أحد يدرك البقاء، ولا يموت لناله ملاعب الرماح، وهو عمّه عامر بن مٰلك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة. وقد قال فيه الشاعر يمدحه، ويذمّ أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور: فررت وأسلمت ابن أُمّك عامرًا يلاعب أطراف الوشيج المزعزع

وبكل من المعنيين اللذين ذكرناهما في الفلاح فسّر حديث الأذان والإقامة:
حيّ على الفلاح؛ كما هو معروف. ومن تاب إلى اللَّه كما أمره اللَّه نال الفلاح بمعنييه، فإنه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنّة، ورضى اللَّه تعالىٰ، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور، وما تضمّنته هذه الآية الكريمة من أمره جلّ وعلا لجميع المسلمين بالتوبة، مشيرًا إلى أنّها تؤدّي إلى فلاحهم في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، أوضحه في غير هذا الموضع، وبيّن أن التوبة التي يمحو اللَّه بها الذنوب، ويكفر بها السيّئات، أنها التوبة النصوح، وبيّن أنها يترتّب عليها تكفير السيّئات، ودخول الجنّة، ولا سيما عند من يقول من أهل العلم: إن عسى من اللَّه واجبة، وله وجه من النظر؛ لأنه عزّ وجلّ جواد كريم، رحيم غفور، فإذا أطمع عبده في شىء من فضله، فجوده وكرمه تعالىٰ وسعة رحمته يجعل ذلك الإنسان الذي أطعمه ربّه في ذلك الفضل يثق، بأنه ما أطعمه فيه، إلا ليتفضل به عليه.
ومن الآيات التي بيّنت هذا المعنى هنا، قوله تعالىٰ: {تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ}، فقوله في آية «التحريم» هذه: {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُو}؛ كقوله في آية «النور»: {أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ}، لأن من كفرت عنه سيّئاته وأدخل الجنّة، فقد نال الفلاح بمعنييه. وقوله في آية «التحريم»: {تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوح} موضح لقوله في «النور»: {وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعا}، ونداؤه لهم بوصف الإيمان في الآيتين فيه تهييج لهم، وحثّ على امتثال الأمر؛ لأن الاتّصاف بصفة الإيمان بمعناه الصحيح، يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر اللَّه، واجتناب نهيه، والرجاء المفهوم من لفظة عسى في آية «التحريم»، هو المفهوم من لفظة لعلّ في آية «النور»، كما لا يخفى.
تنبيهــات
الأول: التوبة النصوح: هي التوبة الصادقة.
وحاصلها أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح، بأن يقلع عن الذنب إن كان ملتبسًا به، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربّه جلّ وعلا، وينوي نيّة جازمة ألاّ يعود إلى معصية اللَّه أبدًا.
وأظهر أقوال أهل العلم أنه إن تاب توبة نصوحًا وكفّر اللَّه عنه سيّئاته بتلك التوبة النصوح، ثم عاد إلى الذنب بعد ذلك أن توبته الأولى الواقعة على الوجه المطلوب، لا يبطلها الرجوع إلى الذنب، بل تجب عليه التوبة من جديد لذنبه الجديد، خلافًا لمن قال: إن عوده للذنب نقض لتوبته الأولى.
الثاني: اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصحّ توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب، والإقلاع عنه، إن كان ملتبسًا به كما قدّمنا أنهما من أركان التوبة، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف، وإيضاحه في الأوّل الذي هو الندم، أن الندم ليس فعلاً، وإنما هو انفعال، ولا خلاف بين أهل العلم في أن اللَّه لا يكلف أحدًا إلا بفعل يقع باختيار المكلف، ولا يكلف أحدًا بشىء إلا شيئًا هو في طاقته؛ كما قال تعالىٰ: {لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهاَ}، وقال تعالىٰ: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ}.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلاً تحت قدرة العبد، فليس بفعل أصلاً، وليس في وسع المكلف فعله، والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا بما لا يطاق، كما بيّنا. قال في «مراقي السعود»:
ولا يكلف بغير الفعل باعث الأنبيا وربّ الفضل

وقال أيضًا:
والعلم والوسع على المعروف شرط يعمّ كل ذي تكليف

واعلم أن كلام الأصوليين في مسألة التكليف بما لا يطاق، واختلافهم في ذلك إنما هو بالنسبة إلى الجوار العقلي، والمعنى هل يجيزه العقل أو يمنعه.
أمّا وقوعه بالفعل فهو مجمعون على منعه؛ كما دلّت عليه آيات القرءان والأحاديث النبويّة، وبعض الأصوليين يعبّر عن هذه المسألة بالتكليف بالمحال هل يجوز عقلاً، أو لا؟ أمّا وقوع التكليف بالمحال عقلاً، أو عادة، فكلّهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم اللَّه تعالىٰ بعدم وقوعه أزلاً، ومثال المستحيل عقلاً أن يكلّف بالجمع بين الضدّين كالبياض والسواد، أو النقيضين كالعدم والوجود. والمستحيل عادة كتكليف المقعد بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران ونحو ذلك، فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعًا.
وأمّا المستحيل لأجل علم اللَّه في الأزل بأنه لا يقع، فهو جائز عقلاً ولا خلاف في التكليف به فإيمان أبي لهب مثلاً كان اللَّه عالمًا في الأزل بأنه لا يقع؛ كما قال اللَّه تعالىٰ عنه: {سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}، فوقوعه محال عقلاً لعلم اللَّه في الأزل، بأنه لا يوجد؛ لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلاً، وذلك مستحيل في حقّه تعالىٰ. ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلاً، إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب، ولو كان مستحيلاً لما كلّفه اللَّه بالإيمان، على لسانه نبيّه صلى الله عليه وسلم، فالإمكان عام، والدعوة عامّة، والتوفيق خاص.
وإيضاح مسألة الحكم العقلي أنه عند جمهور النظار، ثلاثة أقسام:
الأول: الواجب عقلاً.
الثاني: المستحيل عقلاً.
الثالث: الجائز عقلاً، وبرهان الحصر الحكم العقلي في الثلاثة المذكورة، أن الشىء من حيث هو شىء، لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات: إما أن يكون العقل يقبل وجوده، ولا يقبل عدمه بحال. وإمّا أن يكون يقبل عدمه ولا يقبل وجوده بحال. وإمّا أن يكون يقبل وجوده وعدمه معًا، فإن كان العقل يقبل وجوده دون عدمه، فهو الواجب عقلاً، وذلك كوجود اللَّه تعالىٰ متّصفًا بصفات الكمال والجلال. فإن العقل السليم لو عرض عليه وجود خالق هذه المخلوقات لقبله، ولو عرض عليه عدمه وأنها خلقت بلا خالق، لم يقبله، فهو واجب عقلاً. وأمّا إن كان يقبل عدمه، دون وجوده، فهو المستحيل عقلاً؛ كشريك اللَّه سبحانه وتعالىٰ عن ذلك علوًّا كبيرًا، فلو عرض على العقل السليم عدم شريك للَّه في ملكه، وعبادته لقبله، ولو عرض عليه وجوده لم يقبله بحال؛ كما قال تعالىٰ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَ}، وقال: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}، فهو مستحيل عقلاً. وأمّا إن كان العقل يقبل وجوده وعدمه معًا، فهو الجائز العقلي، ويقال له الجائز الذاتي، وذلك كإيمان أبي لهب، فإنه لو عرض وجوده على العقل السليم لقبله، ولو عرض عليه عدمه بدل وجوده لقبله أيضًا، كما لا يخفى، فهو جائز عقلاً جوازًا ذاتيًا، ولا خلاف في التكليف بهذا النوع الذي هو الجائز العقلي الذاتي.
وقالت جماعات من أهل الأهواء: إن الحكم العقلي قسمان فقط، وهما: الواجب عقلاً، والمستحيل عقلاً، قالوا: والجائز عقلاً لا وجود له أصلاً، وزعموا أن دليل الحصر في الواجب والمستحيل أن الأمر إما أن يكون اللَّه عالمًا في أزله، بأنه سيوجد فهو الواجب الوجود لاستحالة عدم وجوده مع سبق العلم الأزلي بوجوده
كإيمان أبي بكر فهو واجب عندهم عقلاً لعلم اللَّه بأنه سيقع، إذ لو لم يقع لكان علمه جهلاً سبحانه وتعالىٰ عن ذلك علوًّا كبيرًا، وذلك محال. وإمّا أن يكون اللَّه عالمًا في أزله، بأنه لا يوجد كإيمان أبي لهب، فهو مستحيل عقلاً، إذ لو وجد لانقلب العلم جهلاً، سبحانه وتعالىٰ عن ذلك علوًّا كبيرًا، وهذا القول لا يخفى بطلانه، ولا يخفى أن إيمان أبي لهب، وأبي بكر كلاهما يجيز العقل وجوده وعدمه، فكلاهما جائز إلاّ أن اللَّه تعالىٰ شاء وجود أحد هذين الجائزين، فأوجده وشاء عدم الآخر، فلم يوجده.
والحاصل أن المستحيل لغير علم اللَّه السابق بعدم وجوده؛ لأنه مستحيل استحالة ذاتية كالجمع بين النقيضين لا يقع التكليف به إجماعًا، وكذلك المستحيل عادة، كما لا يخفى.
أمّا الجائز الذاتي فالتكليف به جائز، وواقع إجماعًا كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلاً، وإن استحال من جهة علم اللَّه بعدم وقوعه، وهم يسمّون هذا الجائز الذاتي مستحيلاً عرضيًّا، ونحن ننزّه صفة علم اللَّه عن أن نقول إن الاستحالة بسببها عرضية.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي، كإيمان أبي لهب، وإن كان وقوعه مستحيلاً لعلم اللَّه بأنه لا يقع.
أمّا المستحيل عقلاً لذاته كالجمع بين النقيضين، والمستحيل عادة كمشي المقعد، وطيران الإنسان بغير آلة، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما؛ كما قال تعالىٰ: {لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ}، وقال تعالىٰ: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشىء فأْتوا منه ما استطعتم».
وأمّا المستحيل العقلي: فقالت جماعة من أهل الأصول: يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلاً، وبالمستحيل عادة. وقال بعضهم: لا يجوز عقلاً مع إجماعهم على أنه لا يصح وقوعه بالفعل. وحجّة من يمنعه عقلاً أنه عبث لا فائدة فيه؛ لأن المكلّف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال، فتكليفه بما هو عاجز عنه محقّقًا عبث لا فائدة فيه، قالوا فهو مستحيل؛ لأن اللَّه حكيم خبير. وحجّة من قال بجوازه أن فائدته امتحان المكلف، هل يتأسّف على عدم القدرة، ويظهر أنه لو كان قادرًا لا مثل، والامتحان سبب من أسباب التكليف، كما كلّف اللَّه إبرٰهيم بذبح ولده، وهو عالم أنه لا يذبحه، وبيّن أن حكمة هذا التكليف هي ابتلاء إبرٰهيم، أي: اختباره، هل يمتثل؟ فلما شرع في الامتثال فداه اللَّه بذبح عظيم؛ كما قال تعالىٰ عنه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَـٰدَيْنَـٰهُ أَن يٰإِبْرٰهِيمُ إِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
وقد أشار صاحب «مراقي السعود» إلى مسألة التكليف بالمحال وأقوال الأصوليين فيها، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلاً، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم اللَّه، بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية، بقوله: وجوّز التكليف بالمحال في الكلّ من ثلاثة الأحوال
وقيل بالمنع لما قد امتنع لغير علم اللَّه أن ليس يقع
وليس واقعًا إذا استحالا لغير علم ربّنا تعالىٰ

وقوله: وجوّز التكليف، يعني: الجواز العقلي.
وقوله: وقيل بالمنع، أي: عقلاً ومراده بالثلاثة الأحوال: ما استحال عقلاً وعادة، كالجمع بين النقيضين، وما استحال عادة كمشي المقعد، وطيران الإنسان، وإبصار الأعمى، وما استحال لعلم اللَّه بعدم وقوعه.
وإذا عرفت كلام أهل الأصول في هذه المسألة، فاعلم أن التوبة تجب كتابًا وسنّة وإجماعًا من كل ذنب اقترفه الإنسان فورًا، وأن الندم ركن من أركانها، وركن الواجب واجب، والندم ليس بفعل، وليس استطاعة المكلف؛ لأنه انفعال لا فعل والانفعالات ليست بالاختيار، فما وجه التكليف بالندم، وهو غير فعل للمكلف، ولا مقدور عليه.
والجواب عن هذا الإشكال: هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها، وهي في طوق المكلف، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة، ولم يحابها في معصية اللَّه لعلم أن لذّة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السمّ القاتل، والشراب الذي فيه السمّ القاتل لا يستلذّه عاقل لما يتبع لذّته من عظيم الضرر وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشدّ من السمّ القاتل، وهو ما تستلزمه معصية اللَّه جلّ وعلا من سخطه على العاصي، وتعذيبه له أشدّ العذاب، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه، وينغّص عليه لذّة الحياة، ولا شكّ أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم، أنه يتوصّل إلى حصول الندم على المعصية، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها.
فالحاصل أنه مكلّف بالأسباب المستوجبة للندم، وأنه إن استعملها حصل له الندم، وبهذا الاعتبار كان مكلّفًا بالندم، مع أنه انفعال لا فعل.
ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤديّة إلى الندم على المعصية، قول الشاعر وهو الحسين بن مطير:
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه حلاوته تفنى ويبقى مريرها

ونقل عن سفيٰن الثوري رحمه اللَّه أنه كان كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبّتها لا خير في لذّة من بعدها النار
وأمّا الإشكال الذي في الإقلاع عن الذنب، فحاصله أن من تاب من الذنب الذي هو متلبّس به، مع بقاء فساد ذلك الذنب، أي: أثره السيّىء هل تكون توبته صحيحة، نظرًا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه، وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقّق للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت، أو لا تكون توبته صحيحة؛ لأن الإقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقّق.
ومن أمثلة هذا، من كان على بدعة من البدع السيّئة المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب إذا بثّ بدعته، وانتشرت في أقطار الدنيا، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة، فندم على ذلك ونوى ألاّ يعود إليه أبدًا، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه، لانتشارها في أقطار الدنيا؛ ولأن من سنّ سنّة سيّئة، فعليه وزرها ووز من عمل بها إلى يوم القيامة، ففساد بدعته باقٍ.
ومن أمثلته: من غصب أرضًا، ثم سكن في وسطها، ثم تاب من ذلك الغصب نادمًا عليه، ناويًا أَلاّ يعود إليه، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة، وسلك أقرب طريق للخروج منها، فهل تكون توبته صحيحة، في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها؛ لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه، أو لا تكون صحيحة؛ لأن إقلاعه عن الغصب، لم يتمّ ما دام موجودًا في الأرض المغصوبة، ولو كان يسير فيها، ليخرج منها.
ومن أمثلته: من رمى مسلمًا بسهم، ثم تاب فندم على ذلك، ونوى ألاّ يعود قبل إصابة السهم للإنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقة إلى المرمى، هل تكون توبته صحيحة؛ لأنه فعل ما يقدر عليه، أو لا تكون صحيحة؛ لأن إقلاعه عن الذنب لم يتحقق وقت التوبة، لأن سهمه في طريقه إلى إصابة مسلم، فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة؛ لأن التوبة واجبة عليه، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه، وما لا قدرة له عليه معذور فيه؛ لقوله تعالىٰ: {لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهاَ}، إلى آخر الأدلّة التي قدمناها قريبًا.
وقال أبو هاشم، وهو من أكابر المعتزلة كابنه أبي علي الجبائي: إن التائب الخارج من الأرض المغصوبة آت بحرام، لأن ما أتى به من الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذن، كالمكث، والتوبة إنما تحقق عند انتهائه إذ لا إقلاع إلا حينئذ، والإقلاع ترك المنهي عنه، فالخروج عنده قبيح؛ لأنه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه، وهو مناف للإقلاع، فهو منهي عنه، مع أن الخروج المذكور مأمور به عنده أيضًا، لأنه انفصال عن المكث في الأرض المغصوبة، وهذا بناه على أصله الفاسد، وهو القبح العقلي، لكنه أخلّ بأصل له آخر، وهو منع التكليف بالمحال فإنه قال: إن خرج عصى، وإن مكث عصىٰ، فقد حرّم عليه الضدين كليهما، اهــ. قاله في «نشر البنود».
وإلى هذه المسألة أشار في «مراقي السعود» مقتصرًا على مذهب الجمهور، بقوله: من تاب بعد أن تعاطى السببا فقد أتى بما عليه وجبا
وإن بقي فساده كمن رجع عن بثّ بدعة عليها يتبع
أو تاب خارجًا مكان الغصب أو تاب بعد الرمي قبل الضرب
قوله تعالىٰ: {وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ}. الإنكاح هنا معناه: التزويج، {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ}، أي: زوّجوهم، والأيامى: جمع أَيِّم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة، والأيّم:هو من لا زوج له من الرجال والنساء، سواء كان قد تزوّج قبل ذلك، أو لم يتزوّج قطّ، يقال: رجل أيّم، وامرأة أيّم. وقد فسّر الشماخ بن ضرار في شعره: الأيم الأنثى بأنها التي لم تتزوج في حالتها الراهنة، وذلك في قوله: يقرّ بعيني أن أنبأ أنها وإن لم أنلها أيم لم تزوّج

فقوله: لم تزوّج تفسير لقوله: أنها أيم، ومن إطلاق الأيم على الذكر الذي لا زوج له قول أُميّة بن أبي الصلت الثقفيّ: للَّه دربني على أيّم منهم وناكح

ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر: أحبّ الأيامى إذ بثينة أيّم وأحببت لما أن غنيت الغوانيا

والعرب تقول: آم الرجل يئيم، وآمت المرأة تئيم، إذا صار الواحد منهما أيّمًا. وكذلك تقول: تأيّم إذا كان أيّمًا.
ومثاله في الأول قول الشاعر: لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت

ومن الثاني قوله: فإن تنكحي أنكح وأن تتأيّمي وإن كنت أفتى منكم أتأيّم

ومن الأول أيضًا، قول يزيد بن الحكم الثقفيّ: كل امرىء ستئيم منه العرس أو منها يئيم

وقول الآخر: نجوت بقوف نفسك غير أني إخال بأن سييتم أو تئيم

يعني: ييتم ابنك وتئيم امرأتك.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن قوله تعالىٰ في هذه الآية: {وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ} شامل للذكور والإناث، وقوله في هذه الآية: {مّنكُمْ}، أي: من المسلمين، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله: {مّنكُمْ}، أن الأيامى من غيركم، أي: من غير المسلمين، وهم الكفّار ليسوا كذلك.
وهذا المفهوم الذي فهم من هذه الآية جاء مصرّحًا به في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ في أيامى الكفّار الذكور: {وَلاَ تُنكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا}، وقوله في أياماهم الإناث: {وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ}، وقوله فيهما جميعًا: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـٰتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
وبهذه النصوص القرءانية الصريحة الموضحة لمفهوم هذه الآية، تعلم أنه لا يجوز تزويج المسلمة للكافر مطلقًا وأنه لا يجوز تزويج المسلم للكافرة إلاّ أن عموم هذه الآيات خصّصته آية «المائدة»، فأبانت أن المسلم يجوز له تزوج المحصنة الكتابية خاصة؛ وذلك في قوله تعالىٰ: {وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ}، فقوله تعالىٰ عاطفًا على ما يحلّ للمسلمين: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ}، صريح في إباحة تزويج المسلم للمحصنة الكتابية، والظاهر أنها الحرّة العفيفة.
فالحاصل أن التزويج بين الكفّار والمسلمين ممنوع في جميع الصور، إلاّ صورة واحدة، وهي تزوّج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية، والنصوص الدالّة على ذلك قرءانية، كما رأيت.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ}، يدلّ على لزوم تزويج الأيامى من المملوكين الصالحين، والإماء المملوكات، وظاهر هذا الأمر الوجوب؛ لما تقرّر في الأصول.
وقد بيّنا مرارًا من أن صيغة الأمر المجرّدة عن القرائن تقتضي الوجوب، وبذلك تعلم أن الخالية من زوج إذا خطبها كفء ورضيته، وجب على وليّها تزويجها إياه، وأن ما يقوله بعض أهل العلم من المالكية ومن وافقهم، من أن السيّد له منع عبده وأَمته من التزويج مطلقًا غير صواب لمخالفته لنصّ القرءان في هذه الآية الكريمة.
واعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة: {وَإِمائِكُمْ}، بيّنت آية «النساء» أن الأَمة لا تزوّج للحرّ إلا بالشروط التي أشارت إليها الآية، فآية «النساء» المذكورة مخصّصة بعموم آية «النور» هذه بالنسبة إلى الإيماء، وآية «النساء» المذكورة هي قوله تعالىٰ: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ} إلى قوله تعالىٰ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، فدلّت آية «النساء» هذه على أن الحرّ لا يجوز له أن يتزوّج المملوكة المؤمنة، إلا إذا كان غير مستطيع تزويج حرّة لعدم الطول عنده، وقد خاف الزنى فله حينئذ تزوّج الأَمة بإذن أهلها المالكين لها، ويلزمه دفع مهرها، وهي مؤمنة عفيفة ليست من الزانيات ولا متّخذات الأخدان، ومع هذا كلّه فصبره عن تزويجها خير له، وإذا كان الصبر عن تزويجها مع ما ذكرنا من الاضطرار خيرًا له فمع عدمه أولى بالمنع. وبما ذكرنا تعلم أن الصواب قول الجمهور من منع تزويج الحر الأَمَة، إلا بالشروط المذكورة في القرءان؛ كقوله تعالىٰ: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا}، وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ}، أي: الزنى إلى آخر ما ذكر في الآية خلافًا لأبي حنيفة القائل بجواز نكاحها مطلقًا، إلاّ إذا تزوّجها على حرة.
والحاصل أن قوله تعالىٰ في آية «النور» هذه: {وَإِمائِكُمْ} خصّصت عمومه آية «النساء» كما أوضحناه آنفًا، والعلماء يقولون: إن علّة منع تزويج الحر الأمة، أنها إن ولدت منه كان ولدها مملوكًا؛ لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها، فيلزمه ألاّ يتسبّب في رقّ أولاده ما استطاع، ووجهه ظاهر كما ترى.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، فيه وعد من اللَّه للمتزوّج الفقير من الأحرار، والعبيد بأن اللَّه يغنيه، واللَّه لا يخلف الميعاد، وقد وعد اللَّه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفقراء باليسر بعد ذلك العسر، وأنجز لهم ذلك، وذلكم في قوله تعالىٰ: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}، أي: ضيق عليه رزقه إلى قوله تعالىٰ: {سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا}، وهذا الوعد منه جلّ وعلا وعد به من اتّقاه في قوله تعالىٰ: {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}، ووعد بالرزق أيضًا من يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، وذلك في قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}، وقد وعد المستغفرين بالرزق الكثير على لسان نبيّه نوح في قوله تعالىٰ عنه: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَار}، وعلى لسان نبيّه هود في قوله تعالىٰ عنه: {تَعْقِلُونَ وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ}، وعلى لسان نبيّنا صلّى اللَّه عليه وعليهما جميعًا وسلّم: {وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى}.
ومن الآيات الدالّة على أن طاعة اللَّه تعالىٰ سبب للرزق، قوله تعالىٰ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ}، ومن بركات السماء المطر، ومن بركات الأرض النبات مما يأكل الناس والأنعام. وقوله تعالىٰ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}، وقوله تعالىٰ: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً}، أي: في الدنيا؛ كما قدمنا إيضاحه في سورة «النحل»، وكما يدلّ عليه قوله بعده في جزائه في الآخرة: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقد قدّمنا أنه جلَّ وعلا وعد بالغنى عند التزويج وعند الطلاق.
أمّا التزويج، ففي قوله هنا: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.
وأمّا الطلاق ففي قوله تعالىٰ: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ}، والظاهر أن المتزوّج الذي وعده اللَّه بالغنى، هو الذي يريد بتزويجه الإعانة على طاعة اللَّه بغضّ البصر، وحفظ الفرج؛ كما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج» الحديث، وإذا كان قصده بالتزويج طاعة اللَّه بغضّ البصر وحفظ الفرج، فالوعد بالغنى إنما هو على طاعة اللَّه بذلك.
وقد رأيت ما ذكرنا من الآيات الدالَّة على وعد اللَّه بالرزاق من أطاعه سبحانه جلَّ وعلا ما أكرمه، فإنه يجزي بالعمل بالصالح في الدنيا والآخرة، وما قاله أهل الظاهر من أن هذه الآية الكريمة تدلّ على أن العبد يملك ماله؛ لأن قوله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ} بعد قوله: {وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ}، يدلّ على وصف العبيد بالفقر والغنى، ولا يطلق الغنى إلاّ على من يملك المال الذي به صار غنيًّا، ووجهه قوي ولا ينافي أن لسيّده أَن ينتزع منهم ذلك المال الذي ملك له، والعلم عند اللَّه تعالىٰ.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.
هذا الاستعفاف المأمور به في هذه الآية الكريمة، هو المذكور في قوله: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيل}، ونحو ذلك من الآيات. {وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، قيل: غفور لهن، وقيل: غفور لهم، وقيل: غفور لهنّ ولهم.
وأظهرها أن المعنى غفور لهنّ لأن المكره لا يؤاخذ بما أُكره عليه، بل يغفره اللَّه له لعذره بالإكراه؛ كما يوضحه قوله تعالىٰ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ}، ويؤيّده قراءة ابن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه، وابن جبير، فإن اللَّه من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رحيم، ذكره عنه القرطبي، وذكره الزمخشري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهم جميعًا.
وقد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنّا لا نبيّن القرءان بقراءة شاذّة، وربما ذكرنا القراءة الشاذّة استشهادًا بها لقراءة سبعية كما هنا، فزيادة لفظة لهنّ في قراءة من ذكرنا استشهاد بقراءة شاذّة لبيان بقراءة غير شاذّة أن الموعود بالمغفرة والرحمة، هو المعذور بالإكراه دون المكره؛ لأنه غير معذور في فعله القبيح، وذلك بيان المذكور بقوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ}.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن؛ لأن المكرهة على الزنى، بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة.
قلت: لعلّ الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل، أو بما يخاف منه التلف، أو ذهاب العضو من ضرب عنيف أو غيره، حتى يسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحدّ الذي تعذّر فيه فتكون آثمة، انتهى منه.
والذي يظهر أنه لا حاجة إليه، لأن إسقاط المؤاخذة بالإكراه يصدق عليه أنه غفران ورحمة من اللَّه بعبده، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. قوله تعالى: {
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ. ذكر الله جلا وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل إلينا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم آيات مبينات، ويدخل فيها دخولاً أولياً الآيات التي بينت في هذه السورة الكريمة، وأوضحت في معاني الأحكام والحدود، ودليل ما ذكر من القرآن قوله تعالى:
{
سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون} ولا شك أن هذه الآيات المبينات المصرح بنزولها في هذه السورة الكريمة، داخلة في قوله تعالى هنا {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} الآية.
وبذلك تعلم أن قوله تعالى هنا {
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} معناه: أنزلناها إليكم لعلكم تذكرون: أي تتعظون بما فيها من الأوامر والنواهي، والمواعظ، ويدل لذلك قوله تعالى: {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون} فقد صرح في هذه الآية الكريمة بأن من حكم إنزالها، أن يتذكر الناس، ويتعظوا بما فيها، ويدل لذلك عموم قوله تعالى: {كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ * أُوْلُواْ ٱلالْبَـٰبِ} وقوله تعالى: {المص * كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ.ْ} معطوف على آيات: أي أنزلنا إليكم آيات، وأنزلنا إليكم مثلاً من الذين خلوا من قبلكم.
قال أبو حيان في البحر المحيط: ومثلاً معطوف على آيات، فيحتمل أن يكون المعنى ومثلاً من أمثال الذين من قبلكم: أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف، ومريم في براءتهما.
وقال الزمخشري: ومثلاً من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف، ومريم يعني قصة عائشة رضي الله عنها، وما ذكرنا عن أبي حيان والزمخشري ذكره غيرهما.
وإيضاحه: أن المعنى: وأنزلنا إليكم مثلاً أي قصة عجيبة غريبة في هذه السورة الكريمة، وتلك القصة العجيبة من أمثال الذين خلوا من قبلكم: أي من جنس قصصهم العجيبة، وعلى هذا الذي ذكرنا فالمراد بالقصة العجيبة التي أنزل إلينا، وعبر عنها بقوله: ومثلاً هي براءة عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك، وذلك مذكور في قوله تعالى: {
إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاءوا بِٱلإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ} إلى قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ} الآية. فقد بين في الآيات العشر المشار إليها أن أهل الإفك رموا عائشة، وأن الله برأها في كتابه مما رموها به، وعلى هذا:
فمن الآيات المبينة لبعض أمثال من قبلنا قوله تعالى في رمي امرأة العزيز يوسف بأنه أراد بها سوءاً تعني الفاحشة قالت: {
مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَـٰتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ} لأنهم سجنوه بضع سنين، بدعوى أنه كان أراد الفاحشة من امرأة العزيز، وقد برأه الله من تلك الفرية التي افتريت عليه بإقرار النسوة وامرأة العزيز نفسهاوذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنّسْوَةِ ٱلَّـٰتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ} وقال تعالى عن امرأة العزيز في كلامها مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن {قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ} الآية.
فقصة يوسف هذه مثل من أمثال من قبلنا، لأنه رمى بإرادة الفاحشة وبرأه الله من ذلك، والمثل الذي أنزله إلينا في هذه السورة، شبيه بقصة يوسف، لأنه هو وعائشة كلاهمارمى بما لا يليق، وكلاهما برأه الله تعالى، وبراءة كل منهما نزل بها هذا القرآن العظيم، وإن كانت براءة يوسف وقعت قبل نزول القرآن بإقرار امرأة العزيز، والنسوة كما تقدم قريباً بشهادة الشاهد من أهلها. {
إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} إلى قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} الآية.
ومن الآيات المبينة لبعض أمثال الذين من قبلنا ما ذكرنا تعالى عن قوم مريم من أنهم رموها بالفاحشة، لما ولدت عيسى من غير زوج كقوله تعالى: {
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَـٰناً عَظِيم} يعني فاحشة الزنى. وقوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ * مَرْيَمَ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياً} يعنون الفاحشة، ثم بين الله تعالى براءتها مما رموها به في مواضع من كتاب كقوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ ءاتَانِىَ ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً * وَجَعَلَنِى مُبَارَك} إلى قوله: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياً} فكلام عيسى، وهو رضيع ببراءتها، يدل على أنها بريئة. وقد أوضح الله براءتها مع بيان سبب حملها بعيسى، من غير زوج، وذلك في قوله تعالى: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ * لّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِياً} إلى آخر الآيات.
ومن الآيات التي بين الله فيها براءتها قوله تعالى في الأنبياء: {
وَٱلَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَـٰهَا وَٱبْنَهَا ءايَةً لّلْعَـٰلَمِينَ} وقوله تعالى في التحريم: {وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـٰتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَـٰنِتِينَ} وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}.
فهذه الآيات التي ذكرنا التي دلت على قذف يوسف وبراءته وقذف مريم وبراءتها من أمثال من قبلنا فهي ما يبين بعض ما دل عليه قوله: {
وَمَثَلاً مّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ}.
والآيات التي دلت على قذف عائشة وبراءتها بينت المثل الذي أنزل إلينا وكونه من نوع أمثال من قبلنا واضح، لأن كلام من عائشة، ومريم، ويوسف رمى بما لا يليق، وكل منهم برأه الله، وقصة كل منهم عجيبة، ولذا أطلق عليها اسم المثل في قوله: {
وَمَثَلاً مّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ}. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ}.
قال الزمخشري: وموعظة ما وعظ به في الآيات والمثل من نحو قوله تعالى {
وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱللَّهِ} لولا إذ سمعتموه، ولولا إذ سمعتموه. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً. ا هـــ كلام الزمخشري. والظاهر أن وجه خصوص الموعظة بالمتقين دون غيرهم أنهم هم المنتفعون بها.
ونظيره في القرآن قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ} وقوله تعالى: {
إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا} فخص الأنذار بمن ذكر في الآيات، لأنهم هم المنتفعون به مع أنه صلى الله عليه وسلم في الحقيقة منذر لجميع الناس كما قال تعالى: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيرا} ونظيره أيضاً قوله تعالى: {فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيد} ونحوها من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَـٰتٍ مُّبَيّنَـٰتٍ} قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عرو، وشعبة بن عاصم: مبينات بفتح الياء المثناة التحتية المشددة بصيغة اسم المفعول، وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: مبينات بكسر الياء المشددة بصيغة اسم الفاعل: فعلى قراءة من قرأ بفتح الياء فلا إشكال في الآية، لأن الله بينها، وأوضحها، وعلى قراءة من قرأ مبينات بكسر الياء بصيغة اسم الفاعل، ففي معنى الآية وجهان معروفاً.
أحدهما: أن قوله: مبينات اسم فاعل بين المتعدية وعليه فالمفعول محذوف أي مبينات الأحكام والحدود.
والثاني: أن قوله: مبينات وصف من بين اللازمة، وهو صفة مشبهة، وعليه فالمعنى آيات مبينات أي بينات واضحات، ويدل لهذا الوجه الأخير قوله تعالى: {
سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا وَأَنزَلْنَا}. وذكر الوجهين المذكورين الزمخشري، وأبو حيان وغيرهما ومثلوا لبين اللازمة بالمثل المعروف، وهو قول العرب: قد بين الصبح لذي عينين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: من المعروف في العربية أن بين مضعفا، وأبان كلتاهما تأتي متعدية للمفعول ولازمة، فتعدى بين للمفعول مشهور واضح كقوله تعالى: {
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـٰتِ} وتعدى أبان للمفعول مشهود واضح أيضاً كقولهم: أبان له الطريق: أي بينها له، وأوضحها، وأما ورود بين لازمة بمعنى تبين ووضح فمنه المثل المذكور: قد بين الصبح لذي عينين. أي تبين وظهر ومنه قول جرير: وجوه مجاشع طليت بلؤم يبين في المقلد والعذار

فقوله: يبين بكسر الياء بمعنى: يظهر، ويتضح وقول جرير أيضاً: رأى الناس البصيرة فاستقاموا وبينت المراض من الصحاح

ومنه أيضاً قول قيس بن ذريح: وللحب آيات تبين بالفتى شحوب وتعرى من يديه الأشاجع

على الرواية المشهورة برفع شحوب.
والمعنى: للحب علامات تبين بالكسر أي تظهر وتتضح بالفتى، وهي شحوب إلخ، وأنشد ثعلب هذا البيت فقال: شحوباً بالنصب، وعليه فلا شاهد في البيت، لأن شحوباً على هذا مفعول، تبين فهو على هذا من بين المتعدية، وأما ورود أبان لازمه بمعنى بان وظهر، فهو كثير في كلام العرب أيضاً ومنه قول جرير:
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
أي ظهرت المفرقات وتبينت، وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي.
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدود

أي لظهر وبان من آثارهن حدود أي ورم وقول كعب بن زهير:
قنواء في حريتها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل

فقوله: مبين وصف من أبانب اللازمة: أي عتق بين واضح، أي كرم ظاهر. قوله تعالى: {
يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ}.
قرأ هذا الحرف جميع السبعة غير ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح له فيها بكسر الباء الموحدة المشددة، مبنياً للفاعل، وفاعله رجال والمعنى واضح على هذه القراءة. وقرأه ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح له فيها بفتح الباء الموحدة المشددة، مبنياً للمفعول، وعلى هذه القراءة فالفاعل المحذوف قد دلت القراءة الأولى على أن تقديره: رجال فكأنه لما قال يسبح له فيها، قيل: ومن يسبح له فيها؟ قال رجال: أي يسبح له فيها رجال.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ما لفظه، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها إلى آخره، وإنما ذكرنا أن الآية يبين بعض القراءات فيها معنى بعض، لأن المقرر عند العلماء أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور: يسبح بكسر الباء وفاعله رجال، مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح بفتح الباء مبنياً للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى. والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل ليسبح، وحذف أيضاً الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة:
ويرفع الفاعل فعل أضمرا كمثل زيد في جواب من قرا

ونظير ذلك من كلام العرب قول ضرار بن نهشل يرثى أخاه يزيد أو غيره:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح

فقوله: ليبك يزيد بضم الياء المثناة التحتية، وفتح الكاف مبنياً للمفعول، فكأنه قيل ومن يبكيه فقال: يبكيه ضارع لخصومة الخ. وقراءة ابن عامر، وشعبة هنا كقراءة ابن كثير: كذلك يوحى إليك بفتح الحاء مبنياً للمفعول فقوله: الله فاعل يوحى المذحوفة، ووصفه تعالى لهؤلاء الرجال الذين يسبحون له بالغدو والآصال، بكونهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على سبيل مدحهم، والثناء عليهم. يدل على أن تلك الصفات لا ينبغي التساهل فيها بحال، لأن ثناء الله على المتصف بها يدل على أن من أجل بها يستحق الذم الذي هو ضد الثناء، ويوضح ذلك أن الله نهى عن الإخلال بها نهياً جازماً في قوله تعالى: {
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ} وقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ} الآية إلى غير ذلك من الآيات. مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أنه على قراءة ابن عامر، وشعبة: يسبح بفتح الباء يحسن الوقف على قوله: بالآصال، وأما على قراءة الجمهور يسبح بالكسر، فلا ينبغي الوقف على قوله: بالآصال، لأن فاعل يسبح رجال، والوقف دون الفاعل لا ينبغي كما لا يخفى.
المسألة الثانية: اعلم أن الضمير المؤنث في قوله: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَ} راجع إلى المساجد المعبر عنها بالبيوت في قوله: {
فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ} والتحقيق: أن البيوت المذكورة، هي المساجد.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن تخصيصه من يسبح له فيها بالرجال في قوله {
يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ رِجَالاٌ} يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن لا في المساجد، وقد يظهر للناظر أن مفهوم قوله: رجال مفهوم لقب، والتحقيق عند الأصوليين أنه لا يحتج به.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا شك أن مفهوم لفظ الرجال، مفهوم لقب بالنظر إلى مجرد لفظه، وأن مفهوم اللقب ليس بحجة على التحقيق، كما أوضحناه في غير هذا الموضع. ولكن مفهوم الرجال هنا معتبر، وليس مفهوم لقب على التحقيق، وذلك لأن لفظ الرجال، وإن كان بانلظر إلى مجرده اسم جنس جامد وهو لقب بلا نزاع، فإنه يستلزم من صفات الذكورة ما هو مناسب لإناطة الحكم به، والفرق بينه وبين النساء، لأن الرجال لا تخشى منهم الفتنة، وليسوا بعورة بخلاف النساء، ومعلوم أن وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد، والخروج إليها دون وصف الأنوثة.
والحاصل: أن لفظ الرجال في الآية، وإن كان في الاصطلاح لقباً فإنما يشتمل عليه من أوصاف الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإنثار، يقتضي اعتبار مفهوم المخالفة في لفظ رجال، فهو في الحقيقة مفهوم صفة لا مفهوم لقب، لأن لفظ الرجال مستلزم لأوصاف صالحة لإناطة الحكم به، والفرق في ذلك بين الرجال والنساء كما لا يخفى.
المسألة الثالثة: إذا علمت أن التحقيق أن مفهوم قوله: رجال مفهوم صفة باعتبار ما يستلزمه من صفات الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث، في حكم الخروج إلى المساجد لا مفهوم لقب، وأن مفهوم الصفة معتبر عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة.
فاعلم أن مفهوم قوله هنا: رجال فيه إجمال، لأن غاية ما يفهم منه أن النساء لسن كالرجال في الخروج للمساجد، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان القرآني إذا كان غير واف بالمقصود من تمام البيان. فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل، وتقدمت أمثلة لذلك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن السنة النبوية بينت مفهوم المخالفة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: رجال، فبينت أن المفهوم المذكور معتبر، وأن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد، وأوضحت أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لهن من الخروج إلى المساجد والصلاة فيها في الجماعة، بخلاف الرجال، وبينت أيضاً أنهن يجوز لهن الخروج إلى المساجد بشروط سيأتي إيضاحها إن شاء الله تعالى، وأنهن إذا استأذن أزواجهن في الخروج إلى المساجد فهم مأمورون شرعاً بلإذن لهن في ذلك مع التزام الشروط المذكورة.
أما أمر أزواجهن بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب النكاح: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها» وقال البخاري أيضاً في صحيحه في كتاب الصلاة: باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد: حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها» وقال البخاري رحمه الله في صحيحه أيضاً، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استأذكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن» تابعه شعبة عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عيينة قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري سمع سالماً يحدث عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها« وفي لفظ عند مسلم، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذكم إليها» وفي لفظ عند مسلم أيضاً، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وفي لفظ له عنه أيضاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذكم نساؤكم إلى المسجد فأذنوا لهن» وفي لفظ عنه أيضاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل» وفي رواية له عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد» وفي لفظ له عنه أيضاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم» وفي رواية «إذا استأذنوكم». قال النووي في شرح مسلم: وهو صحيح وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة، أخرجه أيضاً غيرهما وهو صريح في أن أزواج النساء مأمورون على لسانه صلى الله عليه وسلم بالإذن لهن في الخروج إلى الساجد، إذا طلبن ذلك، ومنهيون عن منعهن من الخروج إليها.
وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهن في الروايات المذكورة ليس للإيجاب، وإنما هو للندب، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن. قالوا: هو لكراهة التنزيه لا للتحريم.
قال ابن حجر في فتح الباري: وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجباً لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة أو الرد.
وقال النووي في شرح المذهب: فإن منعها لم يحرم عليه هذا مذهبنا، قال البيهقي: وبه قال عامة العلماء. ويجاب عن حديث «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» بأنه نهى تنزيه، لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه لفضيلة ا هـــ.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في هذه المسألة: أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد، وكانت غير متطيبة، ولا متلبسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، أنه يجب عليه الإذن لها، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه صلى الله عليه وسلم عن منعها من ذلك، وللأمر الصريح بالإذن لها وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك، وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم، وقد قال تعالى: {
فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» إلى غير ذلك من الأدلة، كما قدمنا. وقول ابن حجر: إن الإذن لا يتحقق إلا إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة، والرد غير مسلم، إذ لا مانع عقلاً، ولا شرعاً ولا عادة من أن يوجب الله عليه الإذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير، فإيجاب الإذن لا مانع منه. وكذلك تحريم المنع، وقد دل النص الصحيح على إيجابه فلا وجه لم لرده بأمر محتمل كما ترى. وقول النووي: لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه للفضيلة لا يصلح، لأن يرد به النص الصريح منه صلى الله عليه وسلم، فأمره صلى الله عليه وسلم الزوج بالإذن لها يلزمه ذلك، ويوجبه عليه، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى. وما ذكره النووي عن البيهقي: من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضاً، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر الأزواج بالإذن للنساء في الخروج إلى المساجد، وقال ابنه: لا ندعهن يخرجن، غضب وشتمه ودفع في صدره منكراً عليه، مخالفته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإذن لهن.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها» فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن، وفي لفظ عند مسلم: فزبره ابن عمر وقال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا ندعهن. وفي لفظ لمسلم أيضاً: فضرب في صدره.
واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر.
وفي رواية عند مسلم: أنه واقد بن عبد الله بن عمر. والحق تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال، وواقد ابني عبد الله بن عمر، وقد أنكر ابن عمر على كل منهما. كما جاءت به الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره، فكون ابن عمر رضي الله عنهما أقبل على ابنه بلال وسبه سباً سيئاً وقال منكراً عليه، أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لنمنعهن فيه دليل واضح أن ابن عمر يرى لزوم الإذن لهن، وأن منعهن لا يجوز، ولو كان يراه جائزاً ما شدد النكير على ابنيه كما لا يخفى.
وقال النووي في شرح مسلم: قوله: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً. وفي رواية فزبره. وفي رواية: فضرب في صدره، فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وكلام النووي هذا الذي رأيت اعتراف منه بأن مذهبه وهو مذهب الشافعي ومن قال بقوله، كما نقل عن البيهقي، أنه قول عامة العلماء، أن جميع القائلين بذلك مستحقون للتعزير، معترضون على السنة، معارضون لها برأيهم، والعجب منه كيف يقر بأن بلال بن عبد الله بن عمر مستحق للتعزير لاعتراضه على السنة، ومعارضته لها برأيه، مع أن مذهبه الذي ينصره وينقل أنه قول عامة العلماء عن البيهقي هو بعينه قول بلال ابن عبد الله بن عمر الذي صرح هو بأنه يستحق به العزير، وأنه اعتراض على السنة ومعارضة لها بالرأي. وقال النووي: قوله: فزبره: أي نهره. وقال ابن حجر في فتح الباري: ففي رواية بلال عند مسلم، فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً شديداً ما سمعته سبه مثله قط، وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات وفي رواية زائدة عن الأعمش فانتهره وقال: أف لك. وله عن ابن نمير عن الأعمش فعل الله بك وفعل، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس. ولمسلم من رواية أبي معاوية: فزبره. ولأبي داود من رواية جرير: فسبه وغضب عليه، إلى أن قال: وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب العترض على السنن برأيه، وهو اعتراف منه أيضاً بأن من خالف الحديث المذكور معترض على السنن برأيه.
وبه تعلم أن ما قدمنا عنه من كون الأمر بالإذن لهن إلى المساجد ليس للوجوب اعتراض على السنن بالرأي كما ترى.
وبما ذكرنا تعلم أن الدليل قد دل من السنة الصحيحة على وجوب الإذن للنساء في الخروج إلى المساجد كما ذكرنا، ويؤيده أن ابن عمر لم ينكر عليه أحد من الصحابة تشنيعه على ولديه كما أوضحناه آنفاً. والعلم عند الله تعالى.
وإذا علمت أن ما ذكرنا من النصوص الصريحة في الأمر بالإذن لهن يقتضى جواز خروجهن إلى المساجد، فاعلم أنه ثبت في الصحيح أنهن كن يخرجن إلى المسجد، فيصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها أخبرته قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر منلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس ا هـــ. وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم وغيره. وقد جاءت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما دالة على ما دل عليه حديث عائشة هذا المتفق عليه من كون النساء كن يشهدن الصلاة في المسجد معه صلى الله عليه وسلم. تنبيه
قد علمنا مما ذكرنا في روايات حديث ابن عمر المتفق عليه: أن في بعض رواياته المتفق عليها تقييد أمر الرجال بالإذن للنساء في الخروج إلى المسجد بالليل، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بالليل، وهو أكثر الروايات كما أشار له ابن حجر في الفتح.
وقد يتبادر للناظر أن الأزواج ليسوا مأمورين بالإذن للنساء إلا في خصوص الليل، لأنه أستر، ويترجح عنده هذا بما هو مقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد، فتحمل روايات الإطلاق على التقييد بالليل، فيختص الإذن المذكور بالليل.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي تقديم روايات الإطلاق وعدم التقييد بالليل لكثرة الأحاديث الصحيحة الدالة على حضور النساء الصلاة معه صلى الله عليه وسلم في غير الليل، كحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفاً الدال على حضورهن معه صلى الله عليه وسلم الصبح، وهي صلاة نهار لا ليل، ولا يكون لها حكم صلاة الليل، بسبب كونهن يرجعن لبيوتهن، لا يعرفن من الغلس، لأن ذلك الوقت من النهار قطعاً، لا من الليل، وكونه من النهار مانع من التقييد بالليل، والعلم عند الله تعالى. وأما ما يشترط في جواز خروج النساء إلى المساجد فهو المسألة الرابعة.
اعلم أن خروج المرأة إلى المسجد يشترط فيه عند أهل العلم شروط يرجع جميعها إلى شيء واحد، وهو كون المرأة وقت خروجها للمسجد ليست متلبسة بما يدعو إلى الفتنة مع الأمن من الفساد.
قال النووي في شرح مسلم في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ما نصه: هذا وما أشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد، ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهي ألا تكون متطيبة، ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها. ممن يفتن بها، وألا يكون في الطريق ما يخاف منه مفسدة ونحوها. انتهى محل الغرض من كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذه الشروط التي ذكرها النووي وغيره منها ما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لا نص فيه، ولكنه ملحق بالنصوص لمشاركته له في علته، وإلحاق بعضها لا يخلو من مناقشة كما سترى إيضاح ذلك كله إن شاء تعالى. أما ما هو ثابت عند صلى الله عليه وسلم من تلك الشروط، فهو عدم التطيب، فشرط جواز خروج المرأة إلى المسجد ألا تكون متطيبة.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا مرون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني مخرمة، عن أبيه عن بسر بن سعيد أن زينب الثقفية كانت تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا شهدت إحداكن العشاء، فلا تطيب تلك الليلة».
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن زينب امرأة عبد الله قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً».
حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم، قال يحيى: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة، عن يزيد بن حصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة» ا هـــ.
فهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن صحابيين، وهما: أبو هريرة، وزينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، صريح في أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات» ا هـــ. وقوله: وهن تفلات: أي غير متطيبات. وقال النووي في شرح المهذب. في هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. وتفلات بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء: أي تاركات الطيب ا هـــ. ومنه قول امرىء القيس: إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها تميل عليه هونة غير متغالى

وهذا الحديث أخرجه أيضاً الإمام أحمد وابن خزيمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه ابن حبان من حديث زيد بن خالد. قاله الشوكاني وغيره.
وإذا علمت أن هذه الأحاديث دلت على أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد، لأنها تحرك شهوة الرجال بريح طيبها.
فاعلم أن أهل العلم ألحقوا بالطيب ما في معناه كالزينة الظاهرة، وصوت الخلخال والثياب الفاخرة، والاختلاط بالرجال، ونحو ذلك بجامع أن الجميع سبب الفتنة بتحريك شهوة الرجال، ووجهه ظاهر كما ترى. وألحق الشافعية بذلك الشابة مطلقاً، لأن الشاب مظنة الفتنة، وخصصوا الخروج إلى المساجد بالعجائز. والأظهر أن الشابة إذا خرجت مستترة غير متطيبة، ولا متلبسة بشيء آخر من أسباب الفتنة أن لها الخروج إلى المسجد لعموم النصوص المتقدمة. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: اعمل أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من الصلاة في المساجد، ولو كان المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه تعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» خاص بالرجال، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن من الصلاة في الجماعة في المسجد.
قال أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حوشب، حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن» وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: وحديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود بلفظه هذا، بإسناد صحيح على شرط البخاري ا هـــ.
وهذا الحديث أخرجه أيضاً الإمام أحمد. وقال ابن حجر في فتح الباري: وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث وغيره، ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر بلفظ: «لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن» أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، فقال: «قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة» وإسناد أحمد حسن وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود، ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة. انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر.
وحديث ابن مسعود الذي أشار له هو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا ابن المثنى، أن عمرو بن عاصم حدثهم قال: ثنا همام عن قتادة، عن مورق عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها». ا هـــ.
وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، وقد روى أحمد عن أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن».
وبما ذكرنا من النصوص تعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من صلاتهن في الجماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره من المساجد لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يؤكد صلاتهن في بيوتهن ما أحدثنه من دخول المسجد في ثياب قصيرة هي مظنة الفتنة، ومزاحمتهن للرجال في أبواب المسجد عند الدخول والخروج، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا، لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها.
وقد علمت مما ذكرنا من الأحاديث أن مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {
يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ رِجَالاٌ} الآية معتبر، وأنه ليس مفهوم لقب، وقد أوضحنا المفهوم المذكور بالسنة كما رأيت. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {يَخَـٰفُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلاْبْصَـٰر}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الرجال الذين يسبحون له في المساجد بالغدو والآصال، إلى آخر ما ذكر من صفاتهم: أنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهو يوم القيامة لشدة هوله، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من عظم هول ذلك اليوم، وتأثيره في القلوب والأبصار، جاء في آيات كثيرة من كتاب الله العظيم كقوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌ} وقوله تعالى {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلابْصَـٰرُ} وقوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلاْزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِر} الآية. ونحو ذلك من الآيات الدالة على عظم ذلك اليوم كقوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدٰنَ شِيباً * السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِا} الآية. وقوله تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرا} إلى غير ذلك من الآيات. وفي معنى تقلب القلوب والأبصار أقوال متعددة لأهل التفسير، ذكرها القرطبي وغيره.
وأظهرها عندي: أن تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف كما قال تعالى: {
إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِر} وأن تقلب الأبصار هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاء ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ}لآية. وكقوله تعالى {وَإِذَا زَاغَتِ ٱلاْبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ} فالدوران والزيغوغة المذكوران يعلم بهما معنى تقلب الأبصار، وإن كانا مذكورين في الخوف من المكروه في الدنيا. قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ}.
الظاهر أن اللام في قوله: ليجزيهم، متعلقة بقوله: يسبح: أي يسبحون له، ويخافون يوماً ليجزيهم الله أحسن ما عملوا. وقوله في هذه الآية الكريمة: ويزيدهم من فضله، الظاهر أن هذه الزيادة من فضله تعالى، هي مضاعفة الحسنات، كما دل عليه قوله تعالى:
{مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَ}ا وقوله تعالى {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا}وقوله تعالى {وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاء}.
وقال بعض أهل العلم: الزيادة هنا كالزيادة في قوله: {
لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} والأصح: أن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}.
وقد قدمنا قول بعض أهل العلم: أن قوله تعالى:
{لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} ونحوها من الآيات يدل على أن المباح حسن، لأن قوله: أحسن ما عملوا صيغة تفضيل، وصيغة التفضيل المذكورة تدل على أن من أعمالهم حسناً لم يجزوه وهو المباح. قال في مراقي السعود:
ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن