تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 440 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 440


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِير}

تقدم شرح هذه الأيه مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{يسۤ * وَٱلْقُرْءَانِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِىۤ أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً فَهِىَ إِلَى ٱلاٌّذْقَـٰنِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِىَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ فِىۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ * وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَـٰبَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ}
قوله تعالىٰ: {يسۤ}. التحقيق إنه من جملة الحروف المقطعة في أوائل السور، والياء المذكورة فيه ذكرت في فاتحة سورة «مريم»، في قوله تعالىٰ: {كهيعص}، والسين المذكورة فيه ذكرت في أول «الشعراء» و «القصص»، في قوله: {طسم} وفي أوّل «النمل»، في قوله: {طس}، وفي أوّل «الشورى»، في قوله تعالىٰ: {حـم * عسق}.
وقد قدّمنا الكلام مستوفى على الحروف المقطّعة في أوائل السورة في أوّل سورة «هود». {وَٱلْقُرْءَانِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }. قد بيَّنا أن موجب التوكيد لكونه من المرسلين، هو إنكار الكفار لذلك في قوله تعالىٰ: {وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَل}، في سورة «البقرة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {تِلْكَ آيَـٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ}. {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ }. لفظة {مَ} في قوله تعالىٰ: {مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ}، قيل: نافية، وهو الصحيح. وقيل: موصولة، وعليه فهو المفعول الثاني {لّتُنذِرَ}، وقيل: مصدرية.
وقد قدّمنا دلالة الآيات على أنها نافية، وأن مما يدلّ على ذلك ترتيبه بالفاء عليه قوله عبده: {فَهُمْ غَـٰفِلُونَ}؛ لأن كونهم غافلين يناسب عدم الإنذار لا الإنذار، وهذا هو الظاهر مع آيات أُخر دالَّة على ذلك؛ كما أوضحنا ذلك كلّه في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُول}. {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ }. الظاهر أن القول في قوله: {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ}، وفي قوله تعالىٰ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ}، وفي قوله تعالىٰ: {قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ رَبَّنَا هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَـٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَ}.
وفي قوله تعالىٰ: {وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ}، وقوله تعالىٰ: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ}، والكلمة في قوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ}، وفي قوله تعالىٰ: {قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ}، أن المراد بالقول والكلمة أو الكلمات على قراءة: {حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَـٰتُ رَبَّكَ} بصيغة الجمع، هو قوله تعالىٰ: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، كما دلّت على ذلك آيات من كتاب اللَّه تعالىٰ؛ كقوله تعالىٰ في آخر سورة «هود»: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، وقوله تعالىٰ في «السجدة»: {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
وقوله تعالىٰ في أُخريات «صۤ»: {قَالَ فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ * لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ}، يدلّ على أن أكثر الناس من أهل جهنّم، كما دلّت على ذلك آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}، {وَمَا أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلاْوَّلِينَ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ}.
وبيَّنا بالسنّة الصحيحة في أوّل سورة «الحجّ»: أن نصيب النار من الألف تسعة وتسعون وتسعمائة، وأن نصيب الجنّة منها واحد. {إِنَّا جَعَلْنَا فِىۤ أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً فَهِىَ إِلَى ٱلاٌّذْقَـٰنِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }. ٱلأَغلال: جمع غلّ وهو الذي يجمع الأيدي إلى الأعناق. والأذقان: جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين. والمقمح بصيغة اسم المفعول، وهو الرافع رأسه. والسدّ بالفتح والضمّ: هو الحاجز الذي يسدّ طريق الوصول إلى ما وراءه.
وقوله: {فَأغْشَيْنَـٰهُمْ}، أي: جعلنا على أبصارهم الغشاوة، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار، ومنه قوله تعالىٰ: {وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ}، وقوله تعالىٰ: {وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً}، وقول الشاعر وهو الحٰرث بن خالد بن العاص: هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلمّا انجلت قطّعت نفسي ألومها

والمراد بالآية الكريمة: أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم اللَّه المذكورين في قوله تعالىٰ: {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ}، صرفهم اللَّه عن الإيمان صرفًا عظيمًا مانعًا من وصوله إليهم؛ لأن من جعل في عنقه غلّ، وصار الغلّ إلى ذقنه، حتى صار رأسه مرفوعًا لا يقدر أن يطأطئه، وجعل أمامه سدّ، وخلفه سدّ، وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرّف، ولا في جلب نفع لنفسه، ولا في دفع ضرّ عنها، فالذين أشقاهم اللَّه بهذه المثابة لا يصل إليهم خير.
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جلَّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِـئَايِـٰتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَ}، وقوله تعالىٰ: {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ}، وقوله تعالىٰ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً}، وقوله تعالىٰ: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء}، وقوله تعالىٰ: {وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ * فَلاَ هَادِيَ لَهُ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ}.
وقوله تعالىٰ: {أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ}، وقوله تعالىٰ: {ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدّمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب، وكذلك الأغلال في الأعناق، والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان، ووصول الخير إلى القلوب أن اللَّه إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل، والتمادي على الكفر، فعاقبهم اللَّه على ذلك، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها، والغشاوة على الأبصار؛ لأن من شؤم السيئات أن اللَّه جلَّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه اللَّه بذلك على كفره جزاء وفّاقًا.
والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}، فالباء سببيّة. وفي الآية تصريح منه تعالىٰ أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم؛ وكقوله تعالىٰ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ}، ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل، أي: فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك، وقوله تعالىٰ: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وقوله تعالىٰ: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، وقوله تعالىٰ: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًاً}، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدّم إيضاحه.
وقد دلَّت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيّئات، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك، أن فعل الخير يؤدّي إلى التمادي في فعل الخير، وهو كذلك؛ كما قال تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَـٰهُمْ تَقُوَاهُمْ}، وقوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وقوله تعالىٰ: {وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُا}، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قول من قال من أهل العلم: إن معنى قوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة:
{إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلا}، أن المراد بذلك الأغلال التي يعذّبون بها في الآخرة؛ كقوله تعالىٰ: {إِذِ ٱلاْغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ وٱلسَّلَـٰسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِى ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ}، خلاف التحقيق، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم، وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا؛ كما أوضحنا. وقرأ هذا الحرف: حمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: {سَداّ}، بالفتح في الموضعين، وقرأه الباقون بضمّ السين، ومعناهما واحد على الصواب، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِىَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ}. تقدّم إيضاحه مع نظائره من الآيات في سورة «فاطر»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ}. {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ فِىۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أشياء:
الأول: أنه يحيـي الموتى، مؤكّدًا ذلك متكلّمًا عن نفسه بصيغة التعظيم.
الثاني: أنه يكتب ما قدّموا في دار الدنيا.
الثالث: أنه يكتب آثارهم.
الرابع: أنه أحصى كل شىء {فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ}، أي: في كتاب بيّن واضح، وهذه الأشياء الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أمّا الأوّل منها وهو كونه يحيـي الموتى بالبعث، فقد جاء في آيات كثيرة من كتاب اللَّه تعالىٰ، كقوله تعالىٰ: {قُلْ بَلَىٰ وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ}، وقوله تعالىٰ: {قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ}، وقوله تعالىٰ: {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا}، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدّمناها بكثرة في سورة «البقرة»، و سورة «النحل»، في الكلام على براهين البعث، وقدّمنا الإحالة على ذلك مرارًا.
وأمّا الثاني منها وهو كونه يكتب ما قدّموا في دار الدنيا، فقد جاء في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوٰهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}، وقوله تعالىٰ: {هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبً}، وقوله تعالىٰ: {وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَ}، وقوله تعالىٰ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. وقد قدّمنا بعض الكلام على هذا في سورة «الكهف».
وأمّا الثالث منها وهو كونهم تكتب آثارهم، فقد ذكر في بعض الآيات أيضًا.
واعلم أن قوله: {وَءاثَارَهُمْ}، فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء.
الأوّل منهما: أن معنى {مَاَ قَدَّمُوا}: ما باشروا فعله في حياتهم، وأن معنى {ءاثَـٰرِهِمْ}: هو ما سنّوه في الإسلام من سنّة حسنة أو سيّئة، فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم.
الثاني: أن معنى {ءاثَـٰرِهِمْ}: خطاهم إلى المساجد ونحوها من فعل الخير، وكذلك خطاهم إلى الشر، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم»، يعني: خطاكم من بيوتكم إلى مسجده صلى الله عليه وسلم.
أمّا على القول الأوّل: فاللَّه جلَّ وعلا قد نصّ على أنهم يحملون أوزار من أضلّوهم وسنّوا لهم السنن السيّئة؛ كما في قوله تعالىٰ: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وقوله تعالىٰ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}.
وقد أوضحنا ذلك في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وذكرنا حديث جرير وأبي هريرة، في صحيح مسلم في إيضاح ذلك.
ومن الآيات الدالَّة على مؤاخذة الإنسان بما عمل به بعده مما سنّه من هدى أو ضلالة، قوله تعالىٰ: {يُنَبَّأُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، بناء على أن المعنى {بِمَا قَدَّمَ}: مباشرًا له، {وَأَخَّرَ}: مما عمل به بعده مما سنّه من هدى أو ضلال، وقوله تعالىٰ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}، على القول بذلك.
وأمّا على التفسير الثاني: وهو أن معنى {ءاثَـٰرِهِمْ}: خطاهم إلى المساجد ونحوها، فقد جاء بعض الآيات دالاًّ على ذلك المعنى؛ كقوله تعالىٰ: {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ}، لأن ذلك يستلزم أن تكتب لهم خطاهم التي قطعوا بها الوادي في غزوهم.
وأمّا الرابع: وهو قوله تعالىٰ: {وَكُلَّ شىْء أَحْصَيْنَـٰهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ}، فقد تدلّ عليه الآيات الدالَّة على الأَمر الثاني، وهو كتابة جميع الأَعمال التي قدّموها بناء على أن المراد بذلك خصوص الأعمال.
وأمّا على فرض كونه عامًّا، فقد دلَّت عليه آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْء عَدَدا}، وقوله تعالىٰ: {مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن * شَىْء}، بناء على أن المراد بالكتاب اللّوح المحفوظ، وهو أصحّ القولين، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا}.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة عن الكفّار: {وَمَا أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ}، قد بيَّن أنهم قد قالوا ذلك في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَىْء}، وقد بيَّن تعالىٰ أن الذين أنكروا إنزال اللَّه الوحي كهؤلاء أنهم لم يقدروه حقّ قدره، أي : لن يعظّموه حق عظمته، وذلك في قوله تعالىٰ: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء}.