تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 528 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 528


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلاٌّرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ * أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ * وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ * أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ * أَلاَّ تَزِرُ وَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ * وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلاٍّنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ * وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلاٍّخْرَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلاٍّولَىٰ * وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ * وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ * فَغَشَّـٰهَا مَا غَشَّىٰ * فَبِأَىِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ * هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلاٍّوْلَىٰ * أَزِفَتِ ٱلاٌّزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَـٰمِدُونَ * فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُوا}
قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}. قوله تعالى: {إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلاٌّرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ}، وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ  وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَىٰ وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ أَلاَّ تَزِرُ وَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ}. قوله {تَوَلَّىٰ}: أي رجع وأدبر عن الحق. وقوله: {وَأَعْطَىٰ قَلِيل}، قال بعضهم قليلاً من المال. وقال بعضهم: أعطى قليلاً من الكلام الطيب. وقوله: {وَأَكْدَىٰ} أي قطع ذلك العطاء ولم يتمه، وأصله من أكدى صاحب الحفر. إذا انتهى في حفره إلى صخرة لا يقدر على الحفر فيها، وأصله من الكدية وهي الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه فتمنعه الحفر، وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى، اختلف فيه العلماء، فقيل هو الوليد بن المغيرة قارب أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين، فقال: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيَّره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه ثمامة. فأنزل الله عز وجل الآية. وعلى هذا فقوله: {تَوَلَّىٰ}: أي الوليد عن الإسلام بعد أن قارب، وأعطى قليلاً من المال للذي ضمن له أن يتحمل عنه ذنوبه. {وَأَكْدَىٰ}: أي بخل عليه بالباقي، وقيل أعطى قليلاً من الكلام الطيب كمدحه للقرآن، واعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأكدى أي انقطع عن ذلك ورجع عنه. وقيل: هو العاص بن وائل السهمي، كان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وذلك هو معنى إعطائه القليل ثم انقطع عن ذلك، وهو معنى إكدائه، وهذا قول السدي ولم ينسجم مع قوله بعده: {أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ}.
وعن محمد بن كعب القرظي أنه أبو جهل، قال: والله ما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا بمكارم الأخلاق، وذلك معنى إعطائه قليلاً، وقطعه لذلك معروف.
واقتصر الزمخشري على أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو أخوه من الرضاعة: يوشك ألا يبقى لك شيء. فقال عثمان: إن لي ذنوباً وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى، وأرجو عفوه، فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن العطاء فنزلت الآية.
ومعنى تولى ترك المركز يوم أحد، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل. انتهى منه.
ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة سبعة أمور:
الأول: إنكار علم الغيب المدلول عليه بالهمزة في قوله: {أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ} والمراد نفي علمه للغيب.
الثاني: أن لكل من إبراهيم وموسى صحفاً لم ينبأ بما فيها هذا الكافر.
الثالث: أن إبراهيم وفَّى أي أتم القيام بالتكاليف التي كلفه ربه بها.
الرابع: أن في تلك الصحف، أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
الخامس: أن فيها أيضاً أنه ليس للإنسان إلا ما سعى.
السادس: أن سعيه سوف يُرى.
السابع: أنه يجزاه جزاء الأوفى، أي الأكمل الأتم.
وهذه الأمور السبعة قد جاءت كلها موضحة في غير هذا الموضع.
أما الأول منها، وهو عدم علمهم الغيب، فقد ذكره تعالى في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}. وقوله: {أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْدا}. وقوله: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ} {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ} الآية. وقوله تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلاٌّرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ} والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد قدمناها مراراً.
والثاني: الذي هو أن لإبراهيم وموسى صحفاً لم يكن هذا المتولي المعطي قليلاً المكدي عالماً بها، ذكره تعالى في قوله: {إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰصُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ}.
والثالث: منها وهو إبراهيم وفي تكاليفه، فقد ذكره تعالى في قوله: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}، وقد قدمنا أن الأصح في الكلمات التي ابتلى بها أنها التكاليف.
وأما الرابع منها: وهو أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـٰيَـٰكُمْ وَمَا هُمْ بِحَـٰمِلِينَ مِنْ خَطَـٰيَـٰهُمْ مِّن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ} وقوله تعالى {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ}.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا، والجواب عما يرد عليها من الإشكال، في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولا} وذكرنا وجه الجمع بين الآيات الواردة في ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ}.
وأما الخامس منها: وهو أنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فقد جاء موضحاً في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}. وقوله: {مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} وقوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلاًّنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ} يدل على أن الإنسان لا يستحق أجراً إلا على سعيه بنفسه، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات، لأن قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ} قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق ولا يملك شيئاً إلا بسعيه، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكاً له ولا مستحقاً له.
وقد جاءت آية من كتاب الله تدل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره وهي قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَـٰهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ}.
وقد أوضحنا وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ} وبين قوله: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـٰنٍ}. في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة النجم، وقلنا فيه ما نصه: والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه. ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره، لأنه لم يقل: وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى، وإنما قال وأن ليس للإنسان، وبين الأمرين فرق ظاهر، لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإن شاء أبقاه لنفسه.
وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه.
الثاني: أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم، إذ لو كانوا كفاراً لما حصل لهم ذلك. فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين، كما وقع في الصلاة في الجماعة، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفرداً، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى: {وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـٰنٍ}.
الثالث: أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ} ولكن من سعي الآباء فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه، بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم.
فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها، لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد، فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين، والخلق الذين ينشؤهم للجنة. والعلم عند الله تعالى. ا هـ منه.
والأمر السادس والسابع: وهما أن عمله سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، فقد جاءا موضحين في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُون َوَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُم}.
وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُوَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
وقوله تعالى: {وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَـٰسِبِينَ}.
وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبً} والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَهُوَ يَرَىٰ} أي يعلم ذلك الغيب، والآية تدل على أن سبب النزول لا يخلو من إعطاء شيء في مقابلة تحمل الذنوب عمن أعطى لأن فاعل ذلك ليس عنده علم الغيب، فيعلم به أن الذي ضمن له تحمل ذنوبه بفعل ذلك، ولم ينبأ بما في الصحف الأولى، من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى.
وقد قدمنا تفسيره موضحاً في سورة بني إسرائيل، وأنه لا يملك الإنسان ولا يستحق إلا سعي نفسه، وقد اتضح بذلك أنه لا يمكن أن يتحمل إنسان ذنوب غيره، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة معلومة.
وقال أبو حيان في البحر: أفرأيت بمعنى أخبرني، والمفعول الأول هو الموصول وصلته. والمفعول الثاني هو جملة {أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ}. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلاٍّنثَىٰمِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه خلق الزوجين أي النوعين الذكر والأنثى من نطفة، وهي نطفة المني إذا تمنى أي تصب وتراق في الرحم، على أصح القولين.
ويدل قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُون َأَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَـٰلِقُونَ} وقوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَىٰ}.
والعرب تقول: أمنى الرجل ومني إذا أراق المني وصبه.
وقال بعض العلماء: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ} أي تقدر بأن يكون الله قدر أن ينشأ منها حمل، من قول العرب: منى الماني إذا قدر. ومن هذا المعنى قول أبي قلابة الهذلي، وقيل سويد بن عامر المصطلقي: لا تأمن الموت في حل وفي حرم إن المنايا توافي كل إنسان
واسلك سبيلك فيها غير محتشم حتى تلاقي ما يمني لك الماني

وقد قدمنا الكلام على النطفة مستوفىً من جهات في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ}. وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ}، وفي كل من الموضعين زيادة ليست في الآخر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الاستدلال بخلق النوعين، أعني الذكر والأنثى من النطفة جاء موضحاً في غير هذا الموضع، وأنه يستدل به على أمرين: هما قدرة الله على البعث، وأنه ما خلق الإنسان إلا ليكلفه ويجازيه، وقد جمع الأمرين قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَىٰ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلاٍّنثَىٰأَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ} فذكر دلالة ذلك على البعث في قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ}، وذكر أنه ما خلقه ليهمله من التكليف والجزاء، منكراً على من ظن ذلك بقوله: {أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} أي مهملاً من التكليف والجزاء.
وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِير}. قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلاٍّخْرَىٰ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له، وأحلنا عليها مراراً كثيرة. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلاٍّولَىٰ وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ}. وقد قدمنا الآيات الموضحة لما أهلك به عاداً، والآيات الموضحة لما أهلك به ثمود في سورة فصلت في قوله تعالى في الكلام في شأن عاد: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَر}. وقوله في شأن ثمود: {فَأَخَذَتْهُمْ صَـٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ}: قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ}. قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ} معطوف على قوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلاٍّولَىٰ} أي وأهلك قوم نوح ولم يبين هنا كيفية إهلاكهم، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من كتابه كقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَـٰهُمْ}.
وقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ}.
وقوله تعالى: {وَنَصَرْنَـٰهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَـٰتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وقوله تعالى: {مِّمَّا خَطِيۤئَـٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَار}.
وقوله تعالى: {وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون قوم نوح أظلم وأطغى، أي أشد ظلماً وطغياناً من غيرهم، قد بينه تعالى في آيات أخر كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِىۤ إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَـٰبِعَهُمْ فِىۤ ءَاذَٰنِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَارا}.
وقوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِىٰ وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّار} ـ إلى قوله ـ {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيرا}.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّار}.
وقوله: {وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ}.
ومن أعظم الأدلة على ذلك قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَام} لأن قوماً لم يتأثروا بدعوة نبي كريم ناصح في هذا الزمن الطويل، لا شك أنهم أظلم الناس وأطغاهم. قوله تعالى: {وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ}. المؤتفكة، مفتعلة من الإفك، وهو القلب والصرف، والمراد بها قرى قوم لوط بدليل قوله في غير هذا الموضع: {وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ} بالجمع. فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كما أوضحناه مراراً، وأكثرنا من أمثلته في القرآن وفي كلام العرب وأحلنا عليه مراراً، وإنما قيل لها: مؤتفكة، لأن جبريل أفكها فأتفكت، ومعنى أفكها أنه رفعها نحو السماء ثم قلبها جاعلاً أعلاها أسفلها، وجعل عاليها أسفلها، هو ائتفاكها وإفكها.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة هود في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً}.
وقوله تعالى في سورة الحجر: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}.
وقد بينا قصة قوم لوط في هود والحجر، وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَهْوَىٰ}. تقول العرب: هوى الشيء إذا انحدر من عال إلى أسفل. وأهواه: غيره إذا ألقاه من العلو إلى السفل، لأن الملك رفع قراهم ثم أهواها أي ألقاها تهوى إلى الأرض، منقلبة أعلاها أسفلها. قوله تعالى: {أَزِفَتِ ٱلاٌّزِفَةُ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ}، وفي سورة المؤمن في قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلاٌّزِفَةِ}. قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ}. قد قدمنا الآيات التي فيها إطلاق اسم الحديث على القرآن في سورة الطور. في الكلام على قوله تعالى: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ}.

تم بحمد الله تفسير سورة النجم

تفسير بدايه سوره القمر في الصفحة تاليه ان شاء الله تعالى