سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 6 من المصحف
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 6
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوۤاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً الآية في قوله : {خَلِيفَةً} وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما : أن المراد بالخليفة أبونا ءادم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ؛ لأنه خليفة اللَّه في أرضه في تنفيذ أوامره . وقيل : لأنه صار خلفًا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبله ، وعليه فالخليفة : فعيلة بمعنى فاعل . وقيل : لأنه إذا مات يخلفه من بعده ، وعليه فهو من فعيلة بمعنى مفعول . وكون الخليفة هو ءادم هو الظاهر المتبادر من سياق الآية .
الثاني : أن قوله : {خَلِيفَةً} مفرد أريد به الجمع ، أي خلائف ، وهو اختيار ابن كثير . والمفرد إن كان اسم جنس يكثر في كلام العرب إطلاقه مرادًا به الجمع كقوله تعالىٰ : {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ} ؛ يعني وأنهار بدليل قوله : {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ} . وقوله : {وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَام} ، وقوله : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْس} ؛ ونظيره من كلام العرب قول عقيل بن عُلَّفَة المري :
وكان بنو فزارة شرعم وكنت لهم كشر بني الأخينا
وقول العباس بن مرداس السلمي : فقلنا اسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور
وأنشد له سيبويه قول علقمة بن عبدة التميمي : بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
وقول الآخر : كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل الوجهين المذكورين . فاعلم أنه قد دلت آيات أخر على الوجه الثاني ، وهو أن المراد بالخليفة : الخلائف من ءادم وبنيه لا ءادم نفسه وحده . كقوله تعالىٰ : {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء} .
ومعلوم أن ءادم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها ، ولا ممن يسفك الدماء . وكقوله : {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ فِى ٱلاْرْضِ} ، وقوله : {وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلاْرْضِ} ، وقوله : {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء} . ونحو ذلك من الآيات .
ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة ءادم ، وأن اللَّه أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد وسفك الدماء . فقالوا ما قالوا ، وأن المراد بخلافة ءادم الخلافة الشرعية ، وبخلافة ذريته أعم من ذلك ، وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر .
تنبيــه
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة ؛ يسمع له ويطاع ؛ لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم إلى أن قال : ودليلنا قول اللَّه تعالىٰ : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً} .
وقوله تعالىٰ : {مَـئَابٍ يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلاْرْضِ} . وقال : {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلاْرْضِ} . أي : يجعل منهم خلفاء إلى غير ذلك من الآي .
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين ، حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش . فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها . ولقال قائل : إنها غير واجبة لا في قريش ولا في غيرهم . فما لتنازعكم وجه ، ولا فائدة في أمر ليس بواجب ، ثم إن الصديق رضي اللَّه عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك . فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد للَّه رب العالمين . انتهى من القرطبي . قال مقيدة عفا اللَّه عنه : من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام اللَّه في أرضه . ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به كأبي بكر الأصم المعتزلي ، الذي تقدم في كلام القرطبي ، وكضرار ، وهشام القوطي ونحوهم .
كما وقع من أبي بكر لعمر رضي اللَّه عنهما .
ومن هذا القبيل ، جعل عمر رضي اللَّه عنه الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض .
الرابع : أن يتغلب على الناس بسيفه وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتب له الأمر وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم .
قال بعض العلماء : ومن هذا القبيل قيام عبد الملك بن مروان على عبد اللَّه بن الزبير وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف فاستتب الأمر له . كما قاله ابن قدامة في « المغني » .
ومن العلماء من يقول : تنعقد له الإمامة ببيعة واحد ، وجعلوا منه مبايعة عمر لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، ومال إليه القرطبي . وحكى عليه إمام الحرمين الإجماع وقيل : ببيعة أربعة . وقيل غير ذلك .
هذا ملخص كلام العلماء فيما تنعقد به الإِمامة الكبرى. ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية في « المنهاج » أنها إنما تنعقد بمبايعة من تقوى به شوكته ، ويقدر به
على تنفيذ أحكام الإِمامة ؛ لأن من لا قدرة له على ذلك كآحاد الناس ليس بإِمام .
واعلم أن الإمام الأعظم تشترط فيه شروط :
الأول : أن يكون قرشيًّا وقريش أولاد فهر بن مٰلك . وقيل : أولاد النضر بن كنانة . فالفهري قرشي بلا نزاع . ومن كان من أولاد مٰلك بن النضر أو أولاد النضر بن كنانة فيه خلاف . هل هو قرشي أو لا ؟ وما كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة في ذكر شرائط الإمام . الأول : أن يكون من صميم قريش لقوله صلى الله عليه وسلم : « الأئمة من قريش » وقد اختلف في هذا.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه : الاختلاف الذي ذكره القرطبي في اشتراط كون الإمام الأعظم قرشيًا ضعيف . وقد دلت الأحاديث الصحيحة على تقديم قريش في الإمامة على غيرهم . وأطبق عليه جماهير العلماء من المسلمين .
وحكى غير واحد عليه الإجماع ودعوى الإجماع تحتاج إلى تأويل ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال : « إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفته » . فذكر الحديث وفيه : « فإن أدركني أجلى وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل » .
ومعلوم أن معاذًا غير قرشي وتأويله بدعوى انعقاد الإجماع بعد عمر أو تغيير رأيه إلى موافقة الجمهور. فاشتراط كونه قرشيًا هو الحق ، ولكن النصوص الشرعية دلت على أن ذلك التقديم الواجب لهم في الإمامة مشروط بإقامتهم الدين وإطاعتهم للَّه ورسوله ، فإن خالفوا أمر اللَّه فغيرهم ممن يطيع اللَّه تعالىٰ وينفذ أوامره أولى منهم .
فمن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه البخاري في (صحيحه)، عن معاوية حيث قال : باب الأمراء من قريش . حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش : أن عبد اللَّه بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك قحطان فغضب ، فقام فأثنى على اللَّه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد : فإنه قد بلغني أن رجالاً منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب اللَّه ، ولا تؤثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأولئك جهالكم ، فإياكم والأماني التي تضل أهلها . فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه اللَّه على وجهه ما أقاموا الدين » . انتهى من « صحيح البخاري » بلفظه .
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم : «ما أقاموا الدين » لأن لفظة « ما » فيه مصدرية ظرفية مقيدة لقوله : «إن هذا الأمر في قريش» ؛ وتقرير المعنى إن هذا الأمر في قريش مدة إقامتهم الدين ، ومفهومه : أنهم إن لم يقيموه لم يكن فيهم . وهذا هو التحقيق الذي لا شك فيه في معنى الحديث .
وقال ابن حجر في « فتح الباري » في الكلام على حديث معاوية هذا، ما نصه : وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه نظير ما وقع في حديث معٰوية ، ذكره محمد بن إسحٰق في الكتاب الكبير . فذكر قصة سقيفة بني ساعدة ، وبيعة أبي بكر وفيها : فقال أبو بكر : وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا اللَّه واستقاموا على أمره . وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء :
الأول : وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به . كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال : « الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثًا : ما حكموا فعدلوا»، الحديث وفيه : « فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة اللَّه » .
وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم .
الثاني : وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم . فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه : «إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا ، فإذا غيرتم بعث اللَّه عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب » . ورجاله ثقات إلا أنه من رواية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه عبد اللَّه بن مسعود ولم يدركه ، هذه رواية صالح بن كيسان عن عبيد اللَّه ، وخالفه حبيب بن أبي ثابت فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمٰن عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة ، عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه : « لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته » الحديث .
وفي سماع عبيد اللَّه من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار ، أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ، ولفظه : قال لقريش : « أنتم أولى بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة » وليس في هذا تصريح بخروج الأمر عنهم ، وإن كان فيه إشعار به .
الثالث : الإذن في القيام عليهم وقتالهم ، والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي والطبراني من حديث ثوبان رفعه : « استقيموا لقريش ما استقاموا لكم ، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم ، فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء » . ورجاله تقات ، إلا أن فيه انقطاعًا ؛ لأن روايه سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه .
وأخرج أحمد من حديث ذي مِخْبَر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء ، وهو ابن أخي النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كان هذا الأمر في حمير فنزعه اللَّه منهم وصيره في قريش وسيعود لهم » وسنده جيد ، وهو شاهد قوي لحديث القحطاني فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان ، وبه يقوى أن مفهوم حديث معٰوية : « ما أقاموا الدين » أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم . انتهى.
واعلم أن قول عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، الذي أنكره عليه معاوية في الحديث المذكور ، إنه سيكون ملك من قطحان إذا كان عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما يعني به القحطاني الذي صحت الرواية بملكه ، فلا وجه لإنكاره لثبوت أمره في الصحيح ، من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه » . أخرجه البخاري في « كتاب الفتن » في « باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان » ، وفي « كتاب المناقب » في « باب ذكر قحطان » . وأخرجه مسلم في « كتاب الفتن وأشراط الساعة » في « باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء » وهذا القحطاني لم يعرف اسمه عند الأكثرين . وقال بعض العلماء اسمه جهجاه . وقال بعضهم : اسمه شعيب بن صالح . وقال ابن حجر في الكلام على حديث القطحاني هذا ما نصه : وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج : وتقدم الجمع بينه وبين حديث : « لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت . وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة » فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليهم القحطاني فأهلكهم ، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم ، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى ويتأخر أهل اليمن بعدها .
ويمكن أن يكون هذا مما يفسر به قوله : « الإيمانُ يمانٍ » أي : يتأخر الإيمان بها بعد فقده من جميع الأرض . وقد أخرج مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين فلعله رمز إلى هذا. انتهى منه بلفظه واللَّه أعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم .
الثاني : من شروط الإمام الأعظم : كونه ذكرًا ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، ويدل له ما ثبت في «صحيح البخاري» وغيره من حديث أبي بكر رضي اللَّه عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسًا ملّكوا ابنة كسرى قال : « لَنْ يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة » . الثالث : من شروط الإمام الأعظم كونه حرًّا . فلا يجوز أن يكون عبدًا ، ولا خلاف في هذا بين العلماء .
فإن قيل : ورد في الصحيح ما يدل على جواز إمامة العبد . فقد أخرج البخاري في (صحيحه) من حديث أنس بن مٰلك رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة » .
ولمسلم من حديث أم الحصين : اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللَّه .
ولمسلم أيضًا من حديث أبي ذر رضي اللَّه عنه أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع ، وإن كان عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف . فالجواب من أوجه :
الأول : أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود ؛ فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة ، وإن كان لا يتصور شرعًا أن يلي ذلك ، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي ، ويشبه هذا الوجه قوله تعالىٰ : {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} على أحد التفسيرات .
الوجه الثاني : أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمرًا من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد وهو أظهرها ، فليس هو الإمام الأعظم . الوجه الثالث : أن يكون أطلق عليه اسم العبد ؛ نظرًا لاتصافه بذلك سابقًا مع أنه وقت التولية حر ، ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقًا في قوله تعالىٰ : {وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ} ، وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار . أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإن طاعته تجب ؛ إخمادًا للفتنة وصونًا للدماء ما لم يأمر بمعصية كما تقدمت الإشارة إليه .
والمراد بالزبيبة في هذا الحديث ، واحدة الزبيب المأكول المعروف ، الكائن من العنب إذا جف ، والمقصود من التشبيه : التحقير وتقبيح الصورة ؛ لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال إلا في المعصية كما يأتي ويشبه قوله صلى الله عليه وسلم: « كأنه زبيبة » . قول الشاعر يهجو شخصًا أسود : دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا
الرابع : من شروطه أن يكون بالغًا . فلا تجوز إمامة الصبي إجماعًا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة .
الخامس : أن يكون عاقلاً فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه ، وهذا لا نزاع فيه .
السادس : أن يكون عدلاً فلا تجوز إمامة فاسق ، واستدل عليه بعض العلماء بقوله تعالىٰ : {قَالَ إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} ، ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام ؛ لأن العدل لا يكون غير مسلم .
السابع : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيًا من قضاة المسلمين ، مجتهدًا يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث .
الثامن : أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك ، ويدل لهذين الشرطين الأخيرين ، أعني : العلم وسلامة الجسم قوله تعالىٰ في طالوت : {إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ} .
التاسع : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب ، وتدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وحماية بيضة المسلمين ، وردع الأمة ، والانتقام من الظالم ، والأخذ للمظلوم . كما قال لقيط الإيادي : وقلدوا أمركم للَّه دركم رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا
العاشر : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ، ولا فزع من ضرب الرقاب ، ولا قطع الأعضاء ، ويدل ذلك إجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم على أن الإمام لا بد أن يكون كذلك . قاله القرطبي .
مسـائــل :
الأولى : إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة . هل يكون ذلك سببًا لعزله والقيام عليه أو لا ؟
قال بعض العلماء : إذا صار فاسقًا أو داعيًا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه ، والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرًا بوّاحًا عليه من اللَّه برهان .
فقد أخرج الشيخان في «صحيحيهما»، عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه قال : بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله . قال : « إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من اللَّه برهان » .
وفي « صحيح مسلم »، من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم » قالوا : قلنا يا رسول اللَّه أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلاّ من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية اللَّه فليكره ما يأتي من معصية اللَّه، ولا ينزعن يدًا من طاعة » .
وفي « صحيح مسلم »، أيضًا : من حديث أم سلمة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف بريء ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضى وتابع» . قالوا : يا رسول اللَّه أفلا نقاتلهم ؟ قال: « لا ما صلّوا » .
وأخرج الشيخان في « صحيحيهما » من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر ؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية » .
وأخرج مسلم في « صحيحه »، من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول : « من خلع يدًا من طاعة لقي اللَّه يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » ، والأحاديث في هذا كثيرة .
فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه ، ولو كان مرتكبًا لما لا يجوز ،
إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعي من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أنه كفر بواح ، أي : ظاهر باد لا لبس فيه .
وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول : بخلق القرءان وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك . ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة ، فأبطل المحنة ، وأمر بإظهار السنّة .
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية اللَّه تعالىٰ . وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن ، كحديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال : « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » أخرجه الشيخان وأبو داود .
وعن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار : « لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا ؛ إنما الطاعة في المعروف » . وفي الكتاب العزيز : {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} .
المسألة الثانية : هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقل دون الآخر ؟ . في ذلك ثلاثة أقوال :
الأول : قول الكرامية بجواز ذلك مطلقًا محتجين بأن عليًّا ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه ، وبأن ذلك يؤدي إلى كون كل واحد منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه .
وبأنه لما جاز بعث نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى . القول الثاني : قول جماهير العلماء من المسلمين : أنه لا يجوز تعدد الإمام الأعظم ، بل يجب كونه واحدًا، وأن لا يتولى على قطر من الأقطار إلا أمراؤه المولون من قبله ، محتجين بما أخرجه مسلم في «صحيحه» من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » .
ولمسلم أيضًا : من حديث عرفجة رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه » .
وفي رواية : « فاضربوه بالسيف كائنًا من كان » .
ولمسلم أيضًا من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما : « ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر » ، ثم قال : سمعته أذناي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ووعاه قلبي .
وأبطلوا احتجاج الكرامية بأن معٰوية أيام نزاعه مع عليّ لم يدع الإمامة لنفسه ، وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة ، ويدل لذلك :
إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما فقط لا كل منهما .
وأن الاستدلال بكون كل منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه ، وبجواز بعث نبيين في وقت واحد ، يرده قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقتلوا الآخر منهما» ؛ ولأن نصب خليفتين يؤدي إلى الشقاق وحدوث الفتن .
القول الثالث : التفصيل فيمنع نصب إمامين في البلد الواحد والبلاد المتقاربة ، ويجوز في الأقطار المتنائية كالأندلس وخراسان . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان ، جاز ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالىٰ . انتهى منه بلفظه .
والمشار إليه في كلامه : نصب خليفتين ، وممن قال بجواز ذلك :
الأستاذ أبو إسحٰق كما نقله عنه إمام الحرمين . ونقله عنه ابن كثير والقرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة .
وقال ابن كثير : قلت : وهذا يشبه حال الخلفاء : بني العباس بالعراق ، والفاطميين بمصر ، والأمويين بالمغرب .
المسألة الثالثة : هل للإمام أن يعزل نفسه ؟ .
قال بعض العلماء : له ذلك . قال القرطبي : والدليل على أن له عزل نفسه قول أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه : أقيلوني أقيلوني ، وقول الصحابة رضي اللَّه عنهم : لا نقيلك ولا نستقيلك . قدمك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك ؟ رضيك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك ؟ .
قال : فلو لم يكن له ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه . ولقالت له ليس لك أن تقول هذا .
وقال بعض العلماء : ليس له عزل نفسه ؛ لأنه تقلد حقوق المسلمين فليس له التخلي عنها .
قال مقيده عفا اللَّه عنه إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك كإخماد فتنة كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه ، أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة ، فلا نزاع في جواز عزل نفسه . ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، الحسن بن عليّ رضي اللَّه عنهما ، بعزل نفسه وتسليمه الأمر إلى معٰوية ، بعد أن بايعه أهل العراق ؛ حقنًا لدماء المسلمين وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه ، جده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله : « إن ابني هذا سيد ، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين » . أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي بكر رضي اللَّه عنه .
المسألة الرابعة : هل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ .
قال بعض العلماء : لا يجب ؛ لأن إيجاب الإشهاد يحتاج إلى دليل من النقل . وهذا لا دليل عليه منه .
وقال بعض العلماء : يجب الإشهاد عليه ؛ لئلا يدعي مدع أن الإمامة عقدت له سرًّا ، فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة .
والذين قالوا بوجوب الإشهاد على عقد الإمامة ، قالوا : يكفي شاهدان خلافًا للجبائي في اشتراطه أربعة شهود وعاقدًا ومعقودًا له ، مستنبطًا ذلك من ترك عمر الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد ، وهو عبد الرحمٰن بن عوف ومعقود له ، وهو عثمٰن وبقي الأربعة الآخرون شهودًا ، ولا يخفى ضعف هذا الاستنباط كما نبه عليه القرطبي وابن كثير والعلم عند اللَّه تعالىٰ
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ * قَالَ يَـاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاٌّرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ * وَقُلْنَا يَاءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ }
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ يعني مسميات الأسماء لا الأسماء كما يتوهم من ظاهر الآية .
وقد أشار إلى أنها المسميات بقوله : {أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ} الآية ، كما هو ظاهر .
{وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} لم يبيّن هنا هذا الذي كانوا يكتمون ، وقد قال بعض العلماء : هو ما كان يضمره إبليس من الكبر ، وعلى هذا القول فقد بيّنه قوله تعالىٰ : {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ} .
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ لم يبيّن هنا هل قال لهم ذلك قبل خلق ءَادم أو بعد خلقه ؟ وقد صرح في سورة «الحجر» و «صۤ» بأنه قال لهم ذلك قبل خلق ءَادم . فقال في «الحجر» : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّى خَـٰلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَـٰلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ} ، وقال في سورة «صۤ» : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّى خَـٰلِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ} .
{إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ} لم يبيّن هنا موجب استكباره في زعمه ، ولكنه بيّنه في مواضع أُخر كقوله : {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ، وقوله : {قَالَ لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَـٰلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} .
تنبيــه
مثل قياس إبليس نفسه على عنصره ، الذي هو النار وقياسه ءادم على عنصره ، الذي هو الطين واستنتاجه من ذلك أنه خير من ءادم . ولا ينبغي أن يؤمر بالسجود لمن هو خير منه ، مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تعالىٰ : {ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ} يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار . وإليه الإشارة بقول صاحب « مراقي السعود » :) والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى
فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسلفه في ذلك إبليس وقياس إبليس هذا لعنه اللَّه باطل من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه فاسد الاعتبار ؛ لمخالفة النص الصريح كما تقدم قريبًا .
الثاني : أنا لا نسلم أن النار خير من الطين ، بل الطين خير من النار ؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق ، وطبيعته الرزانة والإصلاح فتودعه الحبة فيعطيكها سنبلة والنواة فيعطيكها نخلة .
وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض الناضرة ، وما فيها من الثمار اللذيذة ، والأزهار الجميلة ، والروائح الطيبة . تعلم أن الطين خير من النار .
الثالث : أنّا لو سلمنا تسليمًا جدليًّا أن النار خير من الطين ، فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من ءادم ؛ لأن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع ، بل قد يكون الأصل رفيعًا الفرع وضيعًا ، كما قال الشاعر : إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
وقال الآخر : وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلةْ
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 6
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوۤاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً الآية في قوله : {خَلِيفَةً} وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما : أن المراد بالخليفة أبونا ءادم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ؛ لأنه خليفة اللَّه في أرضه في تنفيذ أوامره . وقيل : لأنه صار خلفًا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبله ، وعليه فالخليفة : فعيلة بمعنى فاعل . وقيل : لأنه إذا مات يخلفه من بعده ، وعليه فهو من فعيلة بمعنى مفعول . وكون الخليفة هو ءادم هو الظاهر المتبادر من سياق الآية .
الثاني : أن قوله : {خَلِيفَةً} مفرد أريد به الجمع ، أي خلائف ، وهو اختيار ابن كثير . والمفرد إن كان اسم جنس يكثر في كلام العرب إطلاقه مرادًا به الجمع كقوله تعالىٰ : {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ} ؛ يعني وأنهار بدليل قوله : {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ} . وقوله : {وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَام} ، وقوله : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْس} ؛ ونظيره من كلام العرب قول عقيل بن عُلَّفَة المري :
وكان بنو فزارة شرعم وكنت لهم كشر بني الأخينا
وقول العباس بن مرداس السلمي : فقلنا اسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور
وأنشد له سيبويه قول علقمة بن عبدة التميمي : بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
وقول الآخر : كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل الوجهين المذكورين . فاعلم أنه قد دلت آيات أخر على الوجه الثاني ، وهو أن المراد بالخليفة : الخلائف من ءادم وبنيه لا ءادم نفسه وحده . كقوله تعالىٰ : {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء} .
ومعلوم أن ءادم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها ، ولا ممن يسفك الدماء . وكقوله : {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ فِى ٱلاْرْضِ} ، وقوله : {وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلاْرْضِ} ، وقوله : {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء} . ونحو ذلك من الآيات .
ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة ءادم ، وأن اللَّه أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد وسفك الدماء . فقالوا ما قالوا ، وأن المراد بخلافة ءادم الخلافة الشرعية ، وبخلافة ذريته أعم من ذلك ، وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر .
تنبيــه
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة ؛ يسمع له ويطاع ؛ لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم إلى أن قال : ودليلنا قول اللَّه تعالىٰ : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً} .
وقوله تعالىٰ : {مَـئَابٍ يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلاْرْضِ} . وقال : {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلاْرْضِ} . أي : يجعل منهم خلفاء إلى غير ذلك من الآي .
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين ، حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش . فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها . ولقال قائل : إنها غير واجبة لا في قريش ولا في غيرهم . فما لتنازعكم وجه ، ولا فائدة في أمر ليس بواجب ، ثم إن الصديق رضي اللَّه عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك . فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد للَّه رب العالمين . انتهى من القرطبي . قال مقيدة عفا اللَّه عنه : من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام اللَّه في أرضه . ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به كأبي بكر الأصم المعتزلي ، الذي تقدم في كلام القرطبي ، وكضرار ، وهشام القوطي ونحوهم .
كما وقع من أبي بكر لعمر رضي اللَّه عنهما .
ومن هذا القبيل ، جعل عمر رضي اللَّه عنه الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض .
الرابع : أن يتغلب على الناس بسيفه وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتب له الأمر وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم .
قال بعض العلماء : ومن هذا القبيل قيام عبد الملك بن مروان على عبد اللَّه بن الزبير وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف فاستتب الأمر له . كما قاله ابن قدامة في « المغني » .
ومن العلماء من يقول : تنعقد له الإمامة ببيعة واحد ، وجعلوا منه مبايعة عمر لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، ومال إليه القرطبي . وحكى عليه إمام الحرمين الإجماع وقيل : ببيعة أربعة . وقيل غير ذلك .
هذا ملخص كلام العلماء فيما تنعقد به الإِمامة الكبرى. ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية في « المنهاج » أنها إنما تنعقد بمبايعة من تقوى به شوكته ، ويقدر به
على تنفيذ أحكام الإِمامة ؛ لأن من لا قدرة له على ذلك كآحاد الناس ليس بإِمام .
واعلم أن الإمام الأعظم تشترط فيه شروط :
الأول : أن يكون قرشيًّا وقريش أولاد فهر بن مٰلك . وقيل : أولاد النضر بن كنانة . فالفهري قرشي بلا نزاع . ومن كان من أولاد مٰلك بن النضر أو أولاد النضر بن كنانة فيه خلاف . هل هو قرشي أو لا ؟ وما كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة في ذكر شرائط الإمام . الأول : أن يكون من صميم قريش لقوله صلى الله عليه وسلم : « الأئمة من قريش » وقد اختلف في هذا.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه : الاختلاف الذي ذكره القرطبي في اشتراط كون الإمام الأعظم قرشيًا ضعيف . وقد دلت الأحاديث الصحيحة على تقديم قريش في الإمامة على غيرهم . وأطبق عليه جماهير العلماء من المسلمين .
وحكى غير واحد عليه الإجماع ودعوى الإجماع تحتاج إلى تأويل ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال : « إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفته » . فذكر الحديث وفيه : « فإن أدركني أجلى وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل » .
ومعلوم أن معاذًا غير قرشي وتأويله بدعوى انعقاد الإجماع بعد عمر أو تغيير رأيه إلى موافقة الجمهور. فاشتراط كونه قرشيًا هو الحق ، ولكن النصوص الشرعية دلت على أن ذلك التقديم الواجب لهم في الإمامة مشروط بإقامتهم الدين وإطاعتهم للَّه ورسوله ، فإن خالفوا أمر اللَّه فغيرهم ممن يطيع اللَّه تعالىٰ وينفذ أوامره أولى منهم .
فمن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه البخاري في (صحيحه)، عن معاوية حيث قال : باب الأمراء من قريش . حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش : أن عبد اللَّه بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك قحطان فغضب ، فقام فأثنى على اللَّه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد : فإنه قد بلغني أن رجالاً منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب اللَّه ، ولا تؤثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأولئك جهالكم ، فإياكم والأماني التي تضل أهلها . فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه اللَّه على وجهه ما أقاموا الدين » . انتهى من « صحيح البخاري » بلفظه .
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم : «ما أقاموا الدين » لأن لفظة « ما » فيه مصدرية ظرفية مقيدة لقوله : «إن هذا الأمر في قريش» ؛ وتقرير المعنى إن هذا الأمر في قريش مدة إقامتهم الدين ، ومفهومه : أنهم إن لم يقيموه لم يكن فيهم . وهذا هو التحقيق الذي لا شك فيه في معنى الحديث .
وقال ابن حجر في « فتح الباري » في الكلام على حديث معاوية هذا، ما نصه : وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه نظير ما وقع في حديث معٰوية ، ذكره محمد بن إسحٰق في الكتاب الكبير . فذكر قصة سقيفة بني ساعدة ، وبيعة أبي بكر وفيها : فقال أبو بكر : وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا اللَّه واستقاموا على أمره . وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء :
الأول : وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به . كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال : « الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثًا : ما حكموا فعدلوا»، الحديث وفيه : « فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة اللَّه » .
وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم .
الثاني : وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم . فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه : «إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا ، فإذا غيرتم بعث اللَّه عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب » . ورجاله ثقات إلا أنه من رواية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه عبد اللَّه بن مسعود ولم يدركه ، هذه رواية صالح بن كيسان عن عبيد اللَّه ، وخالفه حبيب بن أبي ثابت فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمٰن عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة ، عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه : « لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته » الحديث .
وفي سماع عبيد اللَّه من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار ، أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ، ولفظه : قال لقريش : « أنتم أولى بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة » وليس في هذا تصريح بخروج الأمر عنهم ، وإن كان فيه إشعار به .
الثالث : الإذن في القيام عليهم وقتالهم ، والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي والطبراني من حديث ثوبان رفعه : « استقيموا لقريش ما استقاموا لكم ، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم ، فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء » . ورجاله تقات ، إلا أن فيه انقطاعًا ؛ لأن روايه سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه .
وأخرج أحمد من حديث ذي مِخْبَر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء ، وهو ابن أخي النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كان هذا الأمر في حمير فنزعه اللَّه منهم وصيره في قريش وسيعود لهم » وسنده جيد ، وهو شاهد قوي لحديث القحطاني فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان ، وبه يقوى أن مفهوم حديث معٰوية : « ما أقاموا الدين » أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم . انتهى.
واعلم أن قول عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، الذي أنكره عليه معاوية في الحديث المذكور ، إنه سيكون ملك من قطحان إذا كان عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما يعني به القحطاني الذي صحت الرواية بملكه ، فلا وجه لإنكاره لثبوت أمره في الصحيح ، من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه » . أخرجه البخاري في « كتاب الفتن » في « باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان » ، وفي « كتاب المناقب » في « باب ذكر قحطان » . وأخرجه مسلم في « كتاب الفتن وأشراط الساعة » في « باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء » وهذا القحطاني لم يعرف اسمه عند الأكثرين . وقال بعض العلماء اسمه جهجاه . وقال بعضهم : اسمه شعيب بن صالح . وقال ابن حجر في الكلام على حديث القطحاني هذا ما نصه : وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج : وتقدم الجمع بينه وبين حديث : « لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت . وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة » فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليهم القحطاني فأهلكهم ، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم ، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى ويتأخر أهل اليمن بعدها .
ويمكن أن يكون هذا مما يفسر به قوله : « الإيمانُ يمانٍ » أي : يتأخر الإيمان بها بعد فقده من جميع الأرض . وقد أخرج مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين فلعله رمز إلى هذا. انتهى منه بلفظه واللَّه أعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم .
الثاني : من شروط الإمام الأعظم : كونه ذكرًا ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، ويدل له ما ثبت في «صحيح البخاري» وغيره من حديث أبي بكر رضي اللَّه عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسًا ملّكوا ابنة كسرى قال : « لَنْ يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة » . الثالث : من شروط الإمام الأعظم كونه حرًّا . فلا يجوز أن يكون عبدًا ، ولا خلاف في هذا بين العلماء .
فإن قيل : ورد في الصحيح ما يدل على جواز إمامة العبد . فقد أخرج البخاري في (صحيحه) من حديث أنس بن مٰلك رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة » .
ولمسلم من حديث أم الحصين : اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللَّه .
ولمسلم أيضًا من حديث أبي ذر رضي اللَّه عنه أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع ، وإن كان عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف . فالجواب من أوجه :
الأول : أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود ؛ فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة ، وإن كان لا يتصور شرعًا أن يلي ذلك ، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي ، ويشبه هذا الوجه قوله تعالىٰ : {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} على أحد التفسيرات .
الوجه الثاني : أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمرًا من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد وهو أظهرها ، فليس هو الإمام الأعظم . الوجه الثالث : أن يكون أطلق عليه اسم العبد ؛ نظرًا لاتصافه بذلك سابقًا مع أنه وقت التولية حر ، ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقًا في قوله تعالىٰ : {وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ} ، وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار . أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإن طاعته تجب ؛ إخمادًا للفتنة وصونًا للدماء ما لم يأمر بمعصية كما تقدمت الإشارة إليه .
والمراد بالزبيبة في هذا الحديث ، واحدة الزبيب المأكول المعروف ، الكائن من العنب إذا جف ، والمقصود من التشبيه : التحقير وتقبيح الصورة ؛ لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال إلا في المعصية كما يأتي ويشبه قوله صلى الله عليه وسلم: « كأنه زبيبة » . قول الشاعر يهجو شخصًا أسود : دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا
الرابع : من شروطه أن يكون بالغًا . فلا تجوز إمامة الصبي إجماعًا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة .
الخامس : أن يكون عاقلاً فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه ، وهذا لا نزاع فيه .
السادس : أن يكون عدلاً فلا تجوز إمامة فاسق ، واستدل عليه بعض العلماء بقوله تعالىٰ : {قَالَ إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} ، ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام ؛ لأن العدل لا يكون غير مسلم .
السابع : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيًا من قضاة المسلمين ، مجتهدًا يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث .
الثامن : أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك ، ويدل لهذين الشرطين الأخيرين ، أعني : العلم وسلامة الجسم قوله تعالىٰ في طالوت : {إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ} .
التاسع : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب ، وتدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وحماية بيضة المسلمين ، وردع الأمة ، والانتقام من الظالم ، والأخذ للمظلوم . كما قال لقيط الإيادي : وقلدوا أمركم للَّه دركم رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا
العاشر : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ، ولا فزع من ضرب الرقاب ، ولا قطع الأعضاء ، ويدل ذلك إجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم على أن الإمام لا بد أن يكون كذلك . قاله القرطبي .
مسـائــل :
الأولى : إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة . هل يكون ذلك سببًا لعزله والقيام عليه أو لا ؟
قال بعض العلماء : إذا صار فاسقًا أو داعيًا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه ، والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرًا بوّاحًا عليه من اللَّه برهان .
فقد أخرج الشيخان في «صحيحيهما»، عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه قال : بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله . قال : « إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من اللَّه برهان » .
وفي « صحيح مسلم »، من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم » قالوا : قلنا يا رسول اللَّه أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلاّ من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية اللَّه فليكره ما يأتي من معصية اللَّه، ولا ينزعن يدًا من طاعة » .
وفي « صحيح مسلم »، أيضًا : من حديث أم سلمة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف بريء ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضى وتابع» . قالوا : يا رسول اللَّه أفلا نقاتلهم ؟ قال: « لا ما صلّوا » .
وأخرج الشيخان في « صحيحيهما » من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر ؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية » .
وأخرج مسلم في « صحيحه »، من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول : « من خلع يدًا من طاعة لقي اللَّه يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » ، والأحاديث في هذا كثيرة .
فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه ، ولو كان مرتكبًا لما لا يجوز ،
إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعي من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أنه كفر بواح ، أي : ظاهر باد لا لبس فيه .
وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول : بخلق القرءان وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك . ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة ، فأبطل المحنة ، وأمر بإظهار السنّة .
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية اللَّه تعالىٰ . وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن ، كحديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال : « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » أخرجه الشيخان وأبو داود .
وعن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار : « لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا ؛ إنما الطاعة في المعروف » . وفي الكتاب العزيز : {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} .
المسألة الثانية : هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقل دون الآخر ؟ . في ذلك ثلاثة أقوال :
الأول : قول الكرامية بجواز ذلك مطلقًا محتجين بأن عليًّا ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه ، وبأن ذلك يؤدي إلى كون كل واحد منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه .
وبأنه لما جاز بعث نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى . القول الثاني : قول جماهير العلماء من المسلمين : أنه لا يجوز تعدد الإمام الأعظم ، بل يجب كونه واحدًا، وأن لا يتولى على قطر من الأقطار إلا أمراؤه المولون من قبله ، محتجين بما أخرجه مسلم في «صحيحه» من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » .
ولمسلم أيضًا : من حديث عرفجة رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه » .
وفي رواية : « فاضربوه بالسيف كائنًا من كان » .
ولمسلم أيضًا من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما : « ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر » ، ثم قال : سمعته أذناي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ووعاه قلبي .
وأبطلوا احتجاج الكرامية بأن معٰوية أيام نزاعه مع عليّ لم يدع الإمامة لنفسه ، وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة ، ويدل لذلك :
إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما فقط لا كل منهما .
وأن الاستدلال بكون كل منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه ، وبجواز بعث نبيين في وقت واحد ، يرده قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقتلوا الآخر منهما» ؛ ولأن نصب خليفتين يؤدي إلى الشقاق وحدوث الفتن .
القول الثالث : التفصيل فيمنع نصب إمامين في البلد الواحد والبلاد المتقاربة ، ويجوز في الأقطار المتنائية كالأندلس وخراسان . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان ، جاز ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالىٰ . انتهى منه بلفظه .
والمشار إليه في كلامه : نصب خليفتين ، وممن قال بجواز ذلك :
الأستاذ أبو إسحٰق كما نقله عنه إمام الحرمين . ونقله عنه ابن كثير والقرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة .
وقال ابن كثير : قلت : وهذا يشبه حال الخلفاء : بني العباس بالعراق ، والفاطميين بمصر ، والأمويين بالمغرب .
المسألة الثالثة : هل للإمام أن يعزل نفسه ؟ .
قال بعض العلماء : له ذلك . قال القرطبي : والدليل على أن له عزل نفسه قول أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه : أقيلوني أقيلوني ، وقول الصحابة رضي اللَّه عنهم : لا نقيلك ولا نستقيلك . قدمك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك ؟ رضيك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك ؟ .
قال : فلو لم يكن له ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه . ولقالت له ليس لك أن تقول هذا .
وقال بعض العلماء : ليس له عزل نفسه ؛ لأنه تقلد حقوق المسلمين فليس له التخلي عنها .
قال مقيده عفا اللَّه عنه إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك كإخماد فتنة كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه ، أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة ، فلا نزاع في جواز عزل نفسه . ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، الحسن بن عليّ رضي اللَّه عنهما ، بعزل نفسه وتسليمه الأمر إلى معٰوية ، بعد أن بايعه أهل العراق ؛ حقنًا لدماء المسلمين وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه ، جده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله : « إن ابني هذا سيد ، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين » . أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي بكر رضي اللَّه عنه .
المسألة الرابعة : هل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ .
قال بعض العلماء : لا يجب ؛ لأن إيجاب الإشهاد يحتاج إلى دليل من النقل . وهذا لا دليل عليه منه .
وقال بعض العلماء : يجب الإشهاد عليه ؛ لئلا يدعي مدع أن الإمامة عقدت له سرًّا ، فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة .
والذين قالوا بوجوب الإشهاد على عقد الإمامة ، قالوا : يكفي شاهدان خلافًا للجبائي في اشتراطه أربعة شهود وعاقدًا ومعقودًا له ، مستنبطًا ذلك من ترك عمر الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد ، وهو عبد الرحمٰن بن عوف ومعقود له ، وهو عثمٰن وبقي الأربعة الآخرون شهودًا ، ولا يخفى ضعف هذا الاستنباط كما نبه عليه القرطبي وابن كثير والعلم عند اللَّه تعالىٰ
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ * قَالَ يَـاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاٌّرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ * وَقُلْنَا يَاءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ }
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ يعني مسميات الأسماء لا الأسماء كما يتوهم من ظاهر الآية .
وقد أشار إلى أنها المسميات بقوله : {أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ} الآية ، كما هو ظاهر .
{وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} لم يبيّن هنا هذا الذي كانوا يكتمون ، وقد قال بعض العلماء : هو ما كان يضمره إبليس من الكبر ، وعلى هذا القول فقد بيّنه قوله تعالىٰ : {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ} .
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ لم يبيّن هنا هل قال لهم ذلك قبل خلق ءَادم أو بعد خلقه ؟ وقد صرح في سورة «الحجر» و «صۤ» بأنه قال لهم ذلك قبل خلق ءَادم . فقال في «الحجر» : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّى خَـٰلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَـٰلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ} ، وقال في سورة «صۤ» : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّى خَـٰلِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ} .
{إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ} لم يبيّن هنا موجب استكباره في زعمه ، ولكنه بيّنه في مواضع أُخر كقوله : {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ، وقوله : {قَالَ لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَـٰلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} .
تنبيــه
مثل قياس إبليس نفسه على عنصره ، الذي هو النار وقياسه ءادم على عنصره ، الذي هو الطين واستنتاجه من ذلك أنه خير من ءادم . ولا ينبغي أن يؤمر بالسجود لمن هو خير منه ، مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تعالىٰ : {ٱسْجُدُواْ لاًّدَمَ} يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار . وإليه الإشارة بقول صاحب « مراقي السعود » :) والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى
فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسلفه في ذلك إبليس وقياس إبليس هذا لعنه اللَّه باطل من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه فاسد الاعتبار ؛ لمخالفة النص الصريح كما تقدم قريبًا .
الثاني : أنا لا نسلم أن النار خير من الطين ، بل الطين خير من النار ؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق ، وطبيعته الرزانة والإصلاح فتودعه الحبة فيعطيكها سنبلة والنواة فيعطيكها نخلة .
وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض الناضرة ، وما فيها من الثمار اللذيذة ، والأزهار الجميلة ، والروائح الطيبة . تعلم أن الطين خير من النار .
الثالث : أنّا لو سلمنا تسليمًا جدليًّا أن النار خير من الطين ، فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من ءادم ؛ لأن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع ، بل قد يكون الأصل رفيعًا الفرع وضيعًا ، كما قال الشاعر : إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
وقال الآخر : وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلةْ
الصفحة رقم 6 من المصحف تحميل و استماع mp3