تفسير الطبري تفسير الصفحة 6 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 6
007
005
 الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قال أبو جعفر: زعم بعض الـمنسوبـين إلـى العلـم بلغات العرب من أهل البصرة أن تأويـل قوله: وَإذْ قَالَ رَبكَ وقال ربك, وأن «إذ» من الـحروف الزوائد, وأن معناها الـحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه فـي ذلك ببـيت الأسود بن يعفر:
فإذَا وَذَلِكَ لامَهاهَ لِذِكْرِهِوَالدّهْرُ يُعْقِبُ صَالِـحا بِفَسادِ
ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره. وببـيت عبد مناف بن ربع الهذلـي:
حَتّـى إذَا أسْلَكُوهُمْ فـي قُتائِدَةٍشَلاّ كمَا تَطْرُدُ الـجَمّالَةُ الشّرُدَا
وقال: معناه: حتـى أسلكوهم.
قال أبو جعفر: والأمر فـي ذلك بخلاف ما قال وذلك أن «إذ» حرف يأتـي بـمعنى الـجزاء, ويدل علـى مـجهول من الوقت, وغير جائز إبطال حرف كان دلـيلاً علـى معنى فـي الكلام. إذ سواء قـيـلُ قائلٍ هو بـمعنى التطوّل, وهو فـي الكلام دلـيـل علـى معنى مفهوم. وقـيـلُ آخر فـي جميع الكلام الذي نطق به دلـيلاً علـى ما أريد به وهو بـمعنى التطول. ولـيس لـمدّعي الذي وصفنا قوله فـي بـيت الأسود بن يعفر, أن «إذا» بـمعنى التطوّل وجه مفهوم بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل الـمعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:
فإذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرِهِ
وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نـحن فـيه, وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله ذلك إلـى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فـيه لامهاه لذكره, يعنـي لا طعم له ولا فضل, لإعقاب الدهر صالـح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع:
حتّـى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِـي قُتائِدَةٍشَلاّت
لو أسقط منه «إذا» بطل معنى الكلام لأن معناه: حتـى إذا أسلكوهم فـي قتائدة سلكوا شلاّ. فدل قوله: «أسلكوهم شلاّ» علـى معنى الـمـحذوف, فـاستغنى عن ذكره بدلالة «إذا» علـيه, فحذف. كما قد ذكرنا فـيـما مضى من كتابنا علـى ما تفعل العرب فـي نظائر ذلك, وكما قال النـمر بن تولب:
فإنّ الـمَنِـيّةَ مَنْ يَخْشَهَافَسَوْفَ تُصَادِفُه أيْنـما
وهو يريد: أينـما ذهب. وكما تقول العرب: أتـيتك من قبل ومن بعد تريد: من قبل ذلك ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك فـي «إذا» كما يقول القائل: إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا فلا يريد: وإذا لـم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الاَخر:
فإذَا وَذَلِكَ لاَ يَضُرّكَ ضُرّهُفـي يَوْمِ أسألُ أوْ أُنْكَرُ
نظير ما ذكرنا من الـمعنى فـي بـيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: وَإذْ قالَ رَبّكَ للْـمَلاَئِكَة لو أبطلت «إذ» وحذفت من الكلام, لاستـحال عن معناه الذي هو به وفـيه «إذ».
فإن قال قائل: فما معنى ذلك؟ وما الـجالب ل«إذْ», إذ لـم يكن فـي الكلام قبله ما يعطف به علـيه؟ قـيـل له: قد ذكرنا فـيـما مضى أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بـالله وكُنْتُـمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ بهذه الاَيات والتـي بعدها موبخهم مقبحا إلـيهم سوء فعالهم ومقامهم علـى ضلالهم مع النعم التـي أنعمها علـيهم وعلـى أسلافهم, ومذكرهم بتعديد نعمه علـيهم وعلـى أسلافهم بأسه أن يسلكوا سبـيـل من هلك من أسلافهم فـي معصية الله, فـيسلك بهم سبـيـلهم فـي عقوبته ومعرّفهم ما كان منه من تعطفه علـى التائب منهم استعتابـا منه لهم. فكان مـما عدد من نعمه علـيهم, أنه خـلق لهم ما فـي الأرض جميعا, وسخر لهم ما فـي السموات من شمسها وقمرها ونـجومها وغير ذلك من منافعها التـي جعلها لهم ولسائر بنـي آدم معهم منافع, فكان فـي قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بـاللّهِ وكُنْتُـمْ أمْواتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُـمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِـيكُمْ ثُمّ إلَـيْهِ تُرْجَعُونَ معنى: اذكروا نعمتـي التـي أنعمت علـيكم, إذ خـلقتكم ولـم تكونوا شيئا, وخـلقت لكم ما فـي الأرض جميعا, وسوّيت لكم ما فـي السماء. ثم عطف بقوله: وَإذْ قالَ رَبكَ للـمَلائِكَةِ علـى الـمعنى الـمقتضَى بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِـاللّهِ إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله: اذكروا نعمتـي إذْ فعلت بكم وفعلت, واذكروا فعلـى بأبـيكم آدم, إذ قلت للـملائكة إنـي جاعل فـي الأرض خـلـيفة.
فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير فـي كلام العرب نعلـم به صحة ما قلت؟ قـيـل: نعم, أكثر من أن يحصى, من ذلك قول الشاعر:
أجِدّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْـلَبـاتٍوَلا بَـيْدَانَ ناجيَةً ذَمُولاَ
وَلا مُتَدَارِكٍ وَالشّمْسُ طِفْلٌببَعْضِ نَوَاشغِ الوَادي حُمُولا
فقال: ولا متدارك, ولـم يتقدمه فعل بلفظه يعطف علـيه, ولا حرف معرّب إعرابه فـيردّ «متدارك» علـيه فـي إعرابه. ولكنه لـما تقدمه فعل مـجحود ب«لن» يدل علـى الـمعنى الـمطلوب فـي الكلام وعلـى الـمـحذوف, استغنى بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف, وعاملَ الكلامَ فـي الـمعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو مـحذوف منه ظاهرا. لأن قوله:
أجِدّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْـلبَـاتٍ
بـمعنى: أجدك لست براءٍ, فردّ «متداركا» علـى موضع «ترى» كأن «لست» والبـاء موجودتان فـي الكلام, فكذلك قوله: وَإذْ قَالَ رَبكَ لـما سلف قبله تذكير الله الـمخاطبـين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبـائهم من أياديه وآلائه, وكان قوله: وَإذْ قَالَ رَبّكَ للـمَلائِكَةِ مع ما بعده من النعم التـي عدّدها علـيهم ونبههم علـى مواقعها, ردّ إذ علـى موضع: وكُنتـم أمواتا فأحياكم لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي, وهذه التـي قلت فـيها للـملائكة. فلـما كانت الأولـى مقتضية «إذ» عطف ب«إذْ» علـى موضعها فـي الأولـى كما وصفنا من قول الشاعر فـي «ولا متدارك».
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: للْـمَلائِكَةِ.
قال أبو جعفر: والـملائكة جمع ملك, غير أن واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر فـي كلام العرب منه بـالهمز, وذلك أنهم يقولون فـي واحدهم مَلَك من الـملائكة, فـيحذفون الهمز منه, ويحرّكون اللام التـي كانت مسكنة لو همز الاسم. وإنـما يحركونها بـالفتـح, لأنهم ينقلون حركة الهمزة التـي فـيه بسقوطها إلـى الـحرف الساكن قبلها, فإذا جمعوا واحدهم ردّوا الـجمع إلـى الأصل وهمزوا, فقالوا: ملائكة. وقد تفعل العرب نـحو ذلك كثـيرا فـي كلامها, فتترك الهمز فـي الكلـمة التـي هي مهموزة فـيجري كلامهم بترك همزها فـي حال, وبهمزها فـي أخرى, كقولهم: رأيت فلانا, فجرى كلامهم بهمز رأيت, ثم قالوا: نرى وترى ويرى, فجرى كلامهم فـي يفعل ونظائرها بترك الهمز, حتـى صار الهمز معها شاذّا مع كون الهمز فـيها أصلاً. فكذلك ذلك فـي مَلَك وملائكة, جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم, وبـالهمز فـي جميعهم. وربـما جاء الواحد مهموزا كما قال الشاعر:
فَلَسْتَ لانْسِيّ وَلَكِنْ لِـمِءَلاكٍتَـحَدّرَ مِنْ جَوّ السمّاءِ يَصُوبُ
وقد يقال فـي واحدهم: مألك, فـيكون ذلك مثل قولهم: جبذ وجذب, وشأمل وشمأل, وما أشبه ذلك من الـحروف الـمقلوبة. غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم مألك, أن يجمع إذ جمع علـى ذلك: مآلك, ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا, ولكنهم قد يجمعون ملائك وملائكة, كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثه, ومسمع: مسامع ومسامعة. قال أمية بن أبـي الصلت فـي جمعهم كذلك:
وَفِـيها مِنْ عِبـادِ اللّهِ قَوْمٌمَلائِكُ ذلّلُوا وَهُمُ صِعابُ
وأصل الـملأك: الرسالة, كما قال عديّ بن زيد العبـادي:
أبْلِغِ النّعْمَانَ عَنّـي مَلأكاأنّهُ قَدْ طالَ حَبْسِي وَانْتِظارِي
وقد ينشد «مألكا» علـى اللغة الأخرى, فمن قال: ملأكا, فهو مفعل من لأك إلـيه يلأكُ: إذا أرسل إلـيه رسالة ملأكة. ومن قال: مألكا, فهو مفعل من ألكت إلـيه آلكُ: إذا أرسلت إلـيه مألكة وأَلوكا, كما قال لبـيد بن ربـيعة:
وَغُلامٍ أرْسَلَتْهُ أمّهُبَألُوكٍ فَبَذَلْنا ما سألْ
فهذا من ألكت. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان:
ألِكْنِـي يا عُيَـيْنَ إلَـيْكَ قَوْلاًسَتُهْدِيهِ الرّوَاةُ إلَـيْكَ عَنّـي
وقال عبد بنـي الـحسحاس:
ألِكْنِـي إلَـيْها عَمْرَكَ اللّهُ يا فَتَـىبِآيَةِ ما جاءَتْ إلَـيْنَا تَهادِيا
يعنـي بذلك: أبلغها رسالتـي. فسميت الـملائكة ملائكة بـالرسالة, لأنها رسل الله بـينه وبـين أنبـيائه ومن أرسلت إلـيه من عبـاده.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إِنّـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ.
اختلف أهل التأويـل فـي قوله: إنّـي جاعِلٌ, فقال بعضهم: إنـي فـاعل. ذكر من قال ذلك:
378ـ حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن جرير بن حازم, ومبـارك عن الـحسن, وأبـي بكر, يعنـي الهذلـي عن الـحسن وقتادة, قالوا: قال الله للـملائكة: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قال لهم: إنـي فـاعل.
وقال آخرون: إنـي خالق. ذكر من قال ذلك:
379ـ حدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, قال: كل شيء فـي القرآن «جعل» فهو خـلق.
قال أبو جعفر: والصواب فـي تأويـل قوله: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَة أي مستـخـلف فـي الأرض خـلـيفة ومصير فـيها خـلفـا, وذلك أشبه بتأويـل قول الـحسن وقتادة. وقـيـل إن الأرض التـي ذكرها الله فـي هذه الآية هي مكة. ذكر من قال ذلك:
380ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن ابن سابط أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: «دُحِيَتْ الأرْضُ مِنْ مَكّةَ. وكانت الـملائكة تطوف بـالبـيت, فهي أول من طاف به, وهي الأرض التـي قال الله: إنـي جاعل فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً, وكان النبـي إذا هلك قومه ونـجا هو والصالـحون أتـى هو ومن معه فعبدوا الله بها حتـى يـموتوا, فإن قبر نوح وهود وصالـح وشعيب بـين زمزم والركن والـمقام».
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: خَـلِـيفَةً.
والـخـلـيفة الفعلـية, من قولك: خـلف فلان فلانا فـي هذا الأمر إذا قام مقامه فـيه بعده, كما قال جل ثناؤه: ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فـي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يعنـي بذلك: أنه أبدلكم فـي الأرض منهم فجعلكم خـلفـاء بعدهم ومن ذلك قـيـل للسلطان الأعظم: خـلـيفة, لأنه خـلف الذي كان قبله, فقام بـالأمر مقامه, فكان منه خـلفـا, يقال منه: خـلف الـخـلـيفة يخـلُف خلافة وخـلـيفـا, وكان ابن إسحاق يقول بـما:
381ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خـلقا لـيس منكم. ولـيس الذي قال ابن إسحاق فـي معنى الـخـلـيفة بتأويـلها, وإن كان الله جل ثناؤه إنـما أخبر ملائكته أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة يسكنها, ولكن معناها ما وصفت قبل.
فإن قال لنا قائل: فما الذي كان فـي الأرض قبل بنـي آدم لها عامرا فكان بنو آدم بدلاً منه وفـيها منه خـلفـا؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك.
382ـ فحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: أوّل من سكن الأرض الـجنّ, فأفسدوا فـيها, وسفكوا فـيها الدماء, وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إلـيهم إبلـيس فـي جند من الـملائكة, فقتلهم إبلـيس ومن معه, حتـى ألـحقهم بجزائر البحور وأطراف الـجبـال ثم خـلق آدم فأسكنه إياها, فلذلك قال: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً.
فعلـى هذا القول إنـي جاعل فـي الأرض خـلـيفة من الـجنّ يخـلفونهم فـيها فـيسكنونها ويعمرونها.
383ـ وحدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس فـي قوله: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً الآية, قال: إن الله خـلق الـملائكة يوم الأربعاء, وخـلق الـجن يوم الـخميس, وخـلق آدم يوم الـجمعة, فكفر قوم من الـجن, فكانت الـملائكة تهبط إلـيهم فـي الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماء وكان الفساد فـي الأرض.
وقال آخرون فـي تأويـل قوله: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَة أي خـلفـا يخـلف بعضهم بعضا, وهم ولد آدم الذين يخـلفون أبـاهم آدم, ويخـلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله.
وهذا قول حكي عن الـحسن البصري, ونظير له ما:
384ـ حدثنـي به مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان عن عطاء بن السائب, عن ابن سابط فـي قوله: إنـي جاعلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قالُوا أتـجْعَلُ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ قال: يعنون به بنـي آدم.
385ـ وحدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال الله للـملائكة: إنـي أريد أن أخـلق فـي الأرض خـلقا, وأجعل فـيها خـلـيفة, ولـيس لله يومئذ خـلق إلا الـملائكة والأرض لـيس فـيها خـلق.
وهذا القول يحتـمل ما حُكي عن الـحسن, ويحتـمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الـملائكة أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة له, يحكم فـيها بـين خـلقه بحكمه, نظير ما:
386ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: أن الله جل ثناؤه قال للـملائكة: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قالوا: ربنا وما يكون ذلك الـخـلـيفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويتـحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فكان تأويـل الآية علـى هذه الرواية التـي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عبـاس: إنـي جاعل فـي الأرض خـلـيفة منـي يخـلفنـي فـي الـحكم بـين خـلقـي, وذلك الـخـلـيفة هو آدم ومن قام مقامه فـي طاعة الله والـحكم بـالعدل بـين خـلقه.
وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خـلفـائه, ومن غير آدم ومن قام مقامه فـي عبـاد الله لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لـملائكته إذ سألوه: ما ذاك الـخـلـيفة: إنه خـلـيفة يكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويتـحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلـى ذرية خـلـيفته دونه وأخرج منه خـلـيفته.
وهذا التأويـل وإن كان مخالفـا فـي معنى الـخـلـيفة ما حُكي عن الـحسن من وجه, فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه فصرف متأوّلـيه إضافة الإفساد فـي الأرض وسفك الدماء فـيها إلـى غير الـخـلـيفة. وأما مخالفته إياها فإضافتهما الـخلافة إلـى آدم بـمعنى استـخلاف الله إياه فـيها, وإضافة الـحسن الـخلافة إلـى ولده بـمعنى خلافة بعضهم بعضا, وقـيام قرن منهم مقام قرن قبلهم, وإضافة الإفساد فـي الأرض وسفك الدماء إلـى الـخـلـيفة. والذي دعا الـمتأوّلـين قوله: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً فـي التأويـل الذي ذكر عن الـحسن إلـى ما قالوا فـي ذلك أنهم قالوا إن الـملائكة إنـما قالت لربها إذ قال لهم ربهم: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قَالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفكُ الدّماءَ إخبـارا منها بذلك عن الـخـلـيفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه جاعله فـي الأرض لا غيره لأن الـمـحاورة بـين الـملائكة وبـين ربها عنه جرت. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك, وكان الله قد برأ آدم من الإفساد فـي الأرض وسفك الدماء وطهره من ذلك, علـم أن الذي عنى به غيره من ذرّيته, فثبت أن الـخـلـيفة الذي يفسد فـي الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم, وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك, وأن معنى الـخلافة التـي ذكرها الله إنـما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لـما وصفنا. وأغفل قائلو هذه الـمقالة ومتأوّلو الآية هذا التأويـل سبـيـل التأويـل, وذلك أن الـملائكة إذ قال لها ربها: إنّـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً لـم تضف الإفساد وسفك الدماء فـي جوابها ربها إلـى خـلـيفته فـي أرضه, بل قالت: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها, وغير منكر أن يكون ربها أعلـمها أنه يكون لـخـلـيفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء, فقالت: يا ربنا أتـجعل فـيها من يفسد فـيها ويسفك الدماء؟ كما قال ابن مسعود وابن عبـاس, ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويـل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ.
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف قالت الـملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ ولـم يكن آدم بعد مخـلوقا ولا ذرّيته, فـيعلـموا ما يفعلون عيانا؟ أعلـمت الغيب فقالت ذلك, أم قالت ما قالت من ذلك ظنّا, فذلك شهادة منها بـالظن وقول بـما لا تعلـم, وذلك لـيس من صفتها, فما وجه قـيـلها ذلك لربها؟ قـيـل: قد قالت العلـماء من أهل التأويـل فـي ذلك أقوالاً ونـحن ذاكرو أقوالهم فـي ذلك, ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة.
فروي عن ابن عبـاس فـي ذلك ما:
387ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: كان إبلـيس من حيّ من أحياء الـملائكة, يقال لهم «الـجن» خـلقوا من نار السموم من بـين الـملائكة, قال: وكان اسمه الـحرث. قال: وكان خازنا من خزان الـجنة. قال: وخـلقت الـملائكة كلهم من نور غير هذا الـحيّ. قال: وخـلقت الـجنّ الذين ذكروا فـي القرآن من مارج من نار, وهو لسان النار الذي يكون فـي طرفها إذ ألهبت. قال: وخـلق الإنسان من طين, فأوّل من سكن الأرض الـجنّ, فأفسدوا فـيها وسفكوا الدماء, وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إلـيهم إبلـيس فـي جند من الـملائكة, وهم هذا الـحيّ الذين يقال لهم «الـجنّ», فقتلهم إبلـيس ومن معه حتـى ألـحقهم بجزائر البحور وأطراف الـجبـال. فلـما فعل إبلـيس ذلك اغترّ فـي نفسه, وقال: قد صنعت شيئا لـم يصنعه أحد. قال: فـاطلع الله علـى ذلك من قلبه, ولـم تطلع علـيه الـملائكة الذين كانوا معه فقال الله للـملائكة الذين معه: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً فقالت الـملائكة مـجيبـين له: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماء كما أفسدت الـجن وسفكت الدماء؟ وإنـما بُعثنا علـيهم لذلك. فقال: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يقول: إنـي قد اطلعت من قلب إبلـيس علـى ما لـم تطلعوا علـيه من كبره واغتراره, قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت, فخـلق الله آدم من طين لازب واللازب: اللزج الصلب من حمأ مسنون منتن. قال: وإنـما كان حمأ مسنونا بعد التراب. قال: فخـلق منه آدم بـيده. قال فمكث أربعين لـيـلة جسدا ملقـى, فكان إبلـيس يأتـيه فـيضربه برجله فـيصلصل أي فـيصوّت قال: فهو قول الله: مِنْ صلْصَالٍ كالفَخّارِ يقول: كالشيء الـمنفوخ الذي لـيس بـمُصْمِتٍ, قال: ثم يدخـل فـي فـيه ويخرج من دبره, ويدخـل من دبره ويخرج من فـيه, ثم يقول: لست شيئا للصلصلة, ولشيء ما خـلقت لئن سلطت علـيك لأهلكنك, ولئن سلطت علـيّ لأعصينك. قال: فلـما نفخ الله فـيه من روحه, أتت النفخة من قِبَل رأسه, فجعل لا يجري شيء منها فـي جسده إلا صار لـحما ودما. فلـما انتهت النفخة إلـى سرّته نظر إلـى جسده, فأعجبه ما رأى من حسنه, فذهب لـينهض فلـم يقدر, فهو قول الله: وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً قال: ضَجِرا لا صبر له علـى سرّاء ولا ضرّاء. قال: فلـما تـمت النفخة فـي جسده, عطس فقال: الـحمد لله ربّ العالـمين, بإلهام من الله تعالـى. فقال الله له: يرحمك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للـملائكة الذين كانوا مع إبلـيس خاصة دون الـملائكة الذين فـي السموات: اسجدوا لاَدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبلـيس أبى واستكبر لـما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره, فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنّا وأقوى خـلقا, خـلقتنـي من نار وخـلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلـما أبى إبلـيس أن يسجد أبلسه الله, وآيسه من الـخير كله, وجعله شيطانا رجيـما عقوبة لـمعصيته, ثم علّـم آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التـي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار, وأشبـاه ذلك من الأمـم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء علـى أولئك الـملائكة, يعنـي الـملائكة الذين كانوا مع إبلـيس الذين خـلقوا من نار السموم, وقال لهم: أنْبئُونِـي بأسْماءِ هَولاءِ يقول: أخبرونـي بأسماء هؤلاء إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إن كنتـم تعلـمون أنـي لِـمَ أجعل فـي الأرض خـلـيفة. قال: فلـما علـمت الـملائكة مؤاخذة الله علـيهم فـيـما تكلـموا به من علـم الغيب الذي لا يعلـمه غيره الذي لـيس لهم به علـم, قالوا: سبحانك تنزيها لله من أن يكون أحد يعلـم الغيب غيره, تبنا إلـيك لا علـم لنا إلا ما علـمتنا تبريا منهم من علـم الغيب, إلا ما علـمتنا كما علـمت آدم. فقال: يا آدَمُ أنْبئْهُمْ بأسْمَائِهمْ يقول: أخبرهم بأسمائهم فَلَـمّا أنْبأهُمْ بأسْمائِهمْ قالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ أيها الـملائكة خاصة إنّـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ولا يعلـمه غيري وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ يقول: ما تظهرون وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ يقول: أعلـم السرّ كما أعلـم العلانـية, يعنـي ما كتـم إبلـيس فـي نفسه من الكبر والاغترار.
وهذه الرواية عن ابن عبـاس تنبىء عن أن قول الله جل ثناؤه: وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْـمَلاَئِكَةِ إنّـي جَاعل فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً خطاب من الله جل ثناؤه لـخاصّ من الـملائكة دون الـجميع, وأن الذين قـيـل لهم ذلك من الـملائكة كانوا قبـيـلة إبلـيس خاصة, الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خـلق آدم. وأن الله إنـما خصهم بقـيـل ذلك امتـحانا منه لهم وابتلاءً لـيعرفهم قصور علـمهم وفضل كثـير مـمن هو أضعف خـلقا منهم من خـلقه علـيهم, وأن كرامته لا تنال بقوى الأبدان وشدة الأجسام كما ظنه إبلـيس عدوّ الله. ويصرّح بأن قـيـلهم لربهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فـيها وَيَسفِكُ الدّماءَ كانت هفوة منهم ورجما بـالغيب, وأن الله جل ثناؤه أطلعهم علـى مكروه ما نطقوا به من ذلك, ووقـفهم علـيه حتـى تابوا وأنابوا إلـيه مـما قالوا ونطقوا من رجم الغيب بـالظنون, وتبرّءوا إلـيه أن يعلـم الغيب غيره, وأظهر لهم من إبلـيس ما كان منطويا علـيه من الكبر الذي قد كان عنهم مستـخفـيا.
وقد رُوي عن ابن عبـاس خلاف هذه الرواية, وهو ما:
388ـ حدثنـي به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: لـما فرغ الله من خـلق ما أحبّ, استوى علـى العرش, فجعل إبلـيس علـى ملك سماء الدنـيا, وكان من قبـيـلة من الـملائكة يقال لهم الـجنّ وإنـما سموا الـجنّ لأنهم خزّان الـجنة. وكان إبلـيس مع ملكه خازنا, فوقع فـي صدره كبر وقال: ما أعطانـي الله هذا إلا لـمزية لـي هكذا قال موسى بن هارون, وقد حدثنـي به غيره, وقال: لـمزية لـي علـى الـملائكة فلـما وقع ذلك الكبر فـي نفسه, اطلع الله علـى ذلك منه, فقال الله للـملائكة: إنّـي جاعِل فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قالوا: ربنا وما يكون ذلك الـخـلـيفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويتـحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالُوا رَبّنا أتـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ ونَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إنّـي أعْلَـمُ مَا لاَ تَعْلَـمُونَ يعنـي من شأن إبلـيس. فبعث جبريـل إلـى الأرض لـيأتـيه بطين منها, فقالت الأرض: إنـي أعوذ بـالله منك أن تنقص منـي أو تشيننـي فرجع ولـم يأخذ وقال: ربّ إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث الله ميكائيـل, فعاذت منه فأعاذها, فرجع فقال كما قال جبريـل. فبعث ملك الـموت, فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بـالله أن أرجع ولـم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخـلط, فلـم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تربة حمراء وبـيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفـين, فصعد به فبلّ التراب حتـى عاد طينا لازبـا واللازب: هو الذي يـلتزق بعضه ببعض ثم ترك حتـى أنتن وتغير, وذلك حين يقول: مِنْ حَمأٍ مَسْنُونٍ قال: منتن, ثم قال للـملائكة إنّـي خالِق بَشَرا مِن طِين فإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِـيهِ منْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ سَاجدِينَ فخـلقه الله بـيديه لكيلا يتكبر إبلـيس علـيه لـيقول له: تتكبر عما عملت بـيدي ولـم أتكبر أنا عنه؟ فخـلقه بشرا, فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الـجمعة. فمرّت به الـملائكة ففزعوا منه لـما رأوه, وكان أشدّهم منه فزعا إبلـيس, فكان يـمرّ فـيضربه, فـيصوّت الـجسد كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة, فذلك حين يقول: مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارٍ ويقول لأمر مّا خُـلقت ودخـل فـيه فخرج من دبره, فقال للـملائكة: لا ترهبوا من هذا, فإن ربكم صَمَد وهذا أجوف, لئن سلطت علـيه لأهلكنّه فلـما بلغ الـحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فـيه الروح, قال للـملائكة: إذا نفخت فـيه من روحي فـاسجدوا له فلـما نفخ فـيه الروح, فدخـل الروح فـي رأسه عطس, فقالت له الـملائكة: قل الـحمد لله فقال: الـحمد لله, فقال له الله: رحمك ربك فلـما دخـل الروح فـي عينـيه, نظر إلـى ثمار الـجنة, فلـما دخـل فـي جوفه اشتهَى الطعام, فوثب قبل أن تبلغ الروح رجلـيه عجلان إلـى ثمار الـجنة, فذلك حين يقول: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فَسَجَدَ الـمَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ إلاّ إبْلِـيسَ أبى أنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ أي اسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرينَ قال الله له: ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ إذ أمرتك لِـمَا خَـلَقْتُ بِـيَدَيّ قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ لـم أكن لأسجد لبشر خـلقته من طين, قال الله له: اخْرُجْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ يعنـي ما ينبغي لك أنْ تَتَكّبَر فِـيها فـاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ والصغار هو الذلّ. قال: وعلّـم آدم الأسماء كلها, ثم عرض الـخـلق علـى الـملائكة فقال: أنْبِئُونِـي بأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أن بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء, فقالوا له: سُبْحَانَكَ لا عِلْـمَ لَنا إِلاّ مَا عَلّـمْتَنا إنّكَ أنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ قالَ الله: يا آدَمُ أنْبِئُهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ إنـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وأعْلَـمُ مَا تُبْدِونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: قولهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها فهذا الذي أبدوا, وأعلـم ما كنتـم تكتـمون, يعنـي ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه من الكبر.
قال أبو جعفر: فهذا الـخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التـي رويت عن ابن عبـاس من رواية الضحاك التـي قد قدمنا ذكرها قبل, وموافق معنى آخره معناها وذلك أنه ذكر فـي أوله أن الـملائكة سألت ربها: ما ذاك الـخـلـيفة؟ حين قال لها: إنـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً فأجابها أنه تكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويتـحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فقالت الـملائكة حينئذٍ: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ؟ فكان قول الـملائكة ما قالت من ذلك لربها بعد إعلام الله إياها أن ذلك كائن من ذرية الـخـلـيفة الذي يجعله فـي الأرض, فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه.
وأما موافقته إياه فـي آخره, فهو قولهم فـي تأويـل قوله: أنْبِئُونِـي بأسْمَاءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أن بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء. وأن الـملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك, تبرّيا من علـم الغيب: سُبْحَانَكَ لا عِلْـمَ لَنا إلاّ ما عَلّـمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العلِـيـمُ الـحَكِيـمُ. وهذا إذا تدبره ذو الفهم, علـم أن أوله يفسد آخره, وأن آخره يبطل معنى أوله وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الـملائكة أن ذرية الـخـلـيفة الذي يجعله فـي الأرض تفسد فـيها وتسفك الدماء, فقالت الـملائكة لربها: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفكُ الدّماءَ فلا وجه لتوبـيخها علـى أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد فـي الأرض ويسفك الدماء بـمثل الذي أخبرها عنهم ربها, فـيجوز أن يقال لها فـيـما طوي عنها من العلوم إن كنتـم صادقـين فـيـما علـمتـم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور, فأخبرتـم به, فأخبرونا بـالذي قد طَوَى الله عنكم علـمه, كما قد أخبرتـمونا بـالذي قد أطلعكم الله علـيه. بل ذلك خـلف من التأويـل, ودعوى علـى الله ما لا يجوز أن يكون له صفة. وأخشى أن يكون بعضُ نَقَلَةِ هذا الـخبر هو الذي غلط علـى من رواه عنه من الصحابة, وأن يكون التأويـل منهم كان علـى ذلك: أنبئونـي بأسماء هؤلاء إن كنتـم صادقـين فـيـما ظننتـم أنكم أدركتـموه من العلـم بخبري إياكم أن بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء, حتـى استـجزتـم أن تقولوا: أتَـجْعَلُ فـيها مَنْ يُفْسدُ فـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ فـيكون التوبـيخ حينئذٍ واقعا علـى ماظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم: إنه يكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء, لا علـى إخبـارهم بـما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرية خـلـيفته فـي الأرض ما يكون منه فـيها من الفساد وسفك الدماء, فقد كان طوى عنهم الـخبر عما يكون من كثـير منهم ما يكون من طاعتهم ربهم وإصلاحهم فـي أرضه وحقن الدماء ورفعه منزلتهم وكرامتهم علـيه, فلـم يخبرهم بذلك, فقالت الـملائكة: أتَـجْعَلُ فـيها مَنْ يُفْسِدُ فـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ علـى ظنّ منها علـى تأويـل هذين الـخبرين اللذين ذكرت, وظاهرهما أن جميع ذرية الـخـلـيفة الذي يجعله فـي الأرض يفسدون فـيها ويسفكون فـيها الدماء. فقال الله لهم إذ علّـم آدم الأسماء كلها: أنْبئونِـي بأسماءِ هَؤلاء إن كنتـمْ صَادقِـين أنكم تعلـمون أن جميع بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء علـى ما ظننتـم فـي أنفسكم, إنكارا منه جل ثناؤه لقـيـلهم ما قالوا من ذلك علـى الـجميع والعموم, وهو من صفة خاص ذرية الـخـلـيفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفة منا لتأويـل الـخبر لا القول الذي نـختاره فـي تأويـل الآية.
ومـما يدل علـى ما ذكرنا من توجيه خبر الـملائكة عن إفساد ذرية الـخـلـيفة وسفكها الدماء علـى العموم, ما:
389ـ حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن عبد الرحمن بن سابط, قوله: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسدُ فـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ قال: يعنون الناس.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
390ـ حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْـمَلائِكَةِ إنّـي جَاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً فـاستـخار الـملائكة فـي خـلق آدم, فقالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وقد علـمت الـملائكة من علـم الله أنه لا شيء أكره إلـى الله من سفك الدماء والفساد فـي الأرض وَنَـحْنُ نَسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ فكان فـي علـم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الـخـلـيفة أنبـياء ورسل, وقوم صالـحون, وساكنوا الـجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عبـاس كان يقول: إن الله لـما أخذ فـي خـلق آدم قالت الـملائكة: ما الله خالق خـلقا أكرم علـيه منا ولا أعلـم منا فـابتلوا بخـلق آدم, وكل خالق مبتلًـى, كما ابتلـيت السموات والأرض بـالطاعة فقال الله: ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَـيْنا طَائِعِينَ.
وهذا الـخبر عن قتادة يدل علـى أن قتادة كان يرى أن الـملائكة قالت ما قالت من قولها: أتَـجْعَلُ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ علـى غير يقـين علـم تقدم منها بأن ذلك كائن ولكن علـى الرأي منها والظن, وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قـيـلها وردّ علـيها ما رأت بقوله: إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ من أنه يكون من ذرّية ذلك الـخـلـيفة الأنبـياء والرسلُ والـمـجتهدُ فـي طاعة الله.
وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويـل, وهو ما:
391ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها قال: كان الله أعلـمهم إذا كان فـي الأرض خـلق أفسدوا فـيها وسفكوا الدماء, فذلك قوله: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها. وبـمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويـل, منهم الـحسن البصري.
392ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن جرير بن حازم, ومبـارك عن الـحسن, وأبـي بكر عن الـحسن, وقتادة قالا: قال الله لـملائكته: إنّـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قال لهم إنـي فـاعل. فعرضوا برأيهم, فعلـمهم علـما وطوى عنهم علـما عَلِـمَه لا يعلـمونه. فقالوا بـالعلـم الذي علّـمهم: أتَـجْعَل فِـيها مَنْ يُفْسِد فِـيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وقد كانت الـملائكة علـمت من علـم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء وَنَـحْن نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّس لَكَ قالَ إنّـي أعْلَـم ما لا تَعْلَـمُونَ. فلـما أخذ فـي خـلق آدم, همست الـملائكة فـيـما بـينها, فقالوا: لـيخـلق ربنا ما شاء أن يخـلق, فلن يخـلق خـلقا إلا كنا أعلـم منه, وأكرم علـيه منه. فلـما خـلقه ونفخ فـيه من روحه, أمرهم أن يسجدوا له لـما قالوا, ففضله علـيهم, فعلـموا أنهم لـيسوا بخير منه, فقالوا: إن لـم نكن خيرا منه فنـحن أعلـم منه, لأنا كنا قبله, وخـلقت الأمـم قبله, فلـما أعجبوا بعلـمهم ابتلوا فعلـم آدمَ الأسماءَ كلّها ثمّ عرَضهُمْ علَـى الـملائكةِ فقال أنْبِئُونِـي بأسْماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أنـي لا أخـلق خـلقا إلا كنتـم أعلـم منه, فأخبرونـي بأسماء هؤلاء إن كنتـم صادقـين قال: ففزع القوم إلـى التوبة وإلـيها يفزع كل مؤمن فقالوا: سُبْحانَكَ لا عِلْـمَ لَنا إِلاّ مَا عَلّـمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ العَلِـيـم الـحَكِيـم قالَ يا آدمَ أنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ فَلَـمّا أنْبأهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَـمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّـي أعْلَـمُ غَيْب السّمَوَاتِ وَالأرْض وأعْلَـمُ ما تُبْدونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ لقولهم: لـيخـلق ربنا ما شاء فلن يخـلق خـلقا أكرم علـيه منا ولا أعلـم منّا.
قال: علـمه اسم كل شيء, هذه الـجبـال, وهذه البغال, والإبل, والـجنّ, والوحش, وجعل يسمي كل شيء بـاسمه, وعرضت علـيه كل أمة فقالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ إنّـي أعْلَـمُ غَيْب السّمَوَاتِ مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ. وأما ما كتـموا فقول بعضهم لبعض: نـحن خير منه وأعلـم.
393ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه عن الربـيع بن أنس فـي قوله: إنّـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً الآية. قال: إن الله خـلق الـملائكة يوم الأربعاء, وخـلق الـجن يوم الـخميس, وخـلق آدم يوم الـجمعة. قال: فكفر قوم من الـجن, فكانت الـملائكة تهبط إلـيهم فـي الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماء, وكان الفساد فـي الأرض. فمن ثم قالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِد فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ... الآية.
394ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: أخبرنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, بـمثله. ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ إِنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إلـى قوله: إنّكَ أَنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ قال: وذلك حين قالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيهَا وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَك قال: فلـما عرفوا أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة قالوا بـينهم: لن يخـلق الله خـلقا إلا كنا نـحن أعلـم منه وأكرم فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل علـيهم آدم, وعلّـم آدم الأسماء كلها, فقال للـملائكة: أنْبِئونِـي بِأسْمَاءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إلـى قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ وكان الذي أبدوا حين قَالُوا أتَـجْعَلُ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ وكان الذي كتـموا بـينهم قولهم: لن يخـلق الله خـلقا إلا كنا نـحن أعلـم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل علـيهم آدم فـي العلـم والكرم.
وقال ابن زيد بـما:
395ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لـما خـلق الله النار ذعرت منها الـملائكة ذعرا شديدا, وقالوا: ربنا لـم خـلقت هذه النار, ولأيّ شيء خـلقتها؟ قال: لـمن عصانـي من خـلقـي. قال: ولـم يكن لله خـلق يومئذٍ إلا الـملائكة والأرض, لـيس فـيها خـلق, إنـما خـلق آدم بعد ذلك. وقرأ قول الله: هَلْ أتَـى علـى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ لَـمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا. قال: قال عمر بن الـخطاب: يا رسول الله لـيت ذلك الـحين. ثم قال: قالت الـملائكة: يا رب أو يأتـي علـينا دهر نعصيك فـيه لا يرون له خـلقا غيرهم. قال: لا, إنـي أريد أن أخـلق فـي الأرض خـلقا وأجعل فـيها خـلـيقة يسفكون الدماء ويفسدون فـي الأرض. فقالت الـملائكة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفكُ الدّماءَ وقد اخترتنا؟ فـاجعلنا نـحن فـيها فنـحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فـيها بطاعتك وأعظمت الـملائكة أن يجعل الله فـي الأرض من يعصيه. فقال: إنـي أعلـم ما لا تعلـمون, يا آدم أنبئهم بأسمائهم فقال: فلان, وفلان. قال: فلـما رأوه ما أعطاه الله من العلـم, أقرّوا لاَدم بـالفضل علـيهم, وأبى الـخبـيث إبلـيس أن يقرّ له, قال: أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَـلَقْتَنِـي مِنْ نارٍ وَخَـلَقْتَهُ مِنْ طِينِ قالَ فـاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِـيها.
وقال ابن إسحاق بـما:
396ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, قال: لـما أراد الله أن يخـلق آدم بقدرته لـيبتلـيه ويبتلـي به, لعلـمه بـما فـي ملائكته وجميع خـلقه وكان أول بلاء ابتلـيت به الـملائكة مـما لها فـيه ما تـحبّ وما تكره للبلاء والتـمـحيص لـما فـيهم مـما لـم يعلـموا وأحاط به علـم الله منهم جمع الـملائكة من سكان السموات والأرض, ثم قال: إنّـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلَـيفَةً يقول: عامر أو ساكن يسكنها ويعمرها خـلقا لـيس منكم. ثم أخبرهم بعلـمه فـيهم, فقال: يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بـالـمعاصي, فقالوا جميعا: أتَـجْعَلُ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لا نعصي ولا نأتـي شيئا كرهته؟ قال: إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ قال: إنـي أعلـم فـيكم ومنكم, ولـم يبدها لهم من الـمعصية والفساد وسفك الدماء وإتـيان ما أكره منهم, مـما يكون فـي الأرض, مـما ذكرت فـي بنـي آدم.
قال الله لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: ما كانَ لِـيَ منْ عِلْـمٍ بـالـمَلأ الأعْلَـى إذْ يَخْتَصِمُونَ إنْ يُوحَى إلـيّ إلاّ أنّـمَا أنا نَذِيرٌ مُبِـينٌ إلـى قوله: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فذكر لنبـيه صلى الله عليه وسلم الذي كان من ذكره آدم حين أراد خـلقه ومراجعة الـملائكة إياه فـيـما ذكر لهم منه. فلـما عزم الله تعالـى ذكره علـى خـلق آدم قال للـملائكة: إنّـي خالِقٌ بَشَرا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمِأٍ مَسْنُونٍ بـيدّي تكرمةً له, وتعظيـما لأمره, وتشريفـا له حفظت الـملائكة عهده, ووعوا قوله, وأجمعوا الطاعة, إلا ما كان من عدوّ الله إبلـيس, فإنه صمت علـى ما كان فـي نفسه من الـحسد والبغي والتكبر والـمعصية. وخـلق الله آدم من أَدَمة الأرض, من طين لازب من حمأ مسنون, بـيديه تكرمة له وتعظيـما لأمره وتشريفـا له علـى سائر خـلقه.
قال ابن إسحاق: فـيقال والله أعلـم: خـلق الله آدم ثم وضعه ينظر إلـيه أربعين عاما قبل أن ينفخ فـيه الروح حتـى عاد صلصالاً كالفخار, ولـم تـمسه نار. قال: فـيقال والله أعلـم: إنه لـما انتهى الروح إلـى رأسه عطس, فقال: الـحمد لله فقال له ربه: يرحمك ربك ووقع الـملائكة حين استوى سجودا له حفظا لعهد الله الذي عهد إلـيهم, وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ الله إبلـيس من بـينهم, فلـم يسجد مكابرا متعظما بغيا وحسدا, فقال له: يا إبْلِـيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِـمَا خَـلَقْتُ بِـيَدَيّ إلـى: لأَمْلأَنّ جَهَنّـمَ مِنْكَ وَمِـمّنْ تَبعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قال: فلـما فرغ الله من إبلـيس ومعاتبته وأبى إلـى الـمعصية, أوقع علـيه اللعنة وأخرجه من الـجنة. ثم أقبل علـى آدم, وقد علـمه الأسماء كلها, فقال: يا آدَمُ أنْبِئُهُمْ بأسْمَائِهِمْ فَلَـمّا أنْبأهُمْ بأسْمَائِهِمْ قالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ إنّـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْـمَ لَنا إلا مَا عَلّـمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ أي إنـما أجبناك فـيـما علـمتنا, فأما ما لـم تعلـمنا فأنت أعلـم به. فكان ما سمى آدمُ من شيء كان اسمه الذي هو علـيه إلـى يوم القـيامة.
وقال ابن جريج بـما:
397ـ حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج, قال: إنـما تكلـموا بـما أعلـمهم أنه كائن من خـلق آدم, فقالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَن يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ.
وقال بعضهم: إنـما قالت الـملائكة ما قالت: أتَـجْعَلُ فِـيها مَن يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ لأن الله أذن لها فـي السؤال عن ذلك بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بنـي آدم, فسألته الـملائكة فقالت علـى التعجب منها: وكيف يعصونك يا ربّ وأنت خالقهم فأجابهم ربهم: إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يعنـي أن ذلك كائن منهم وإن لـم تعلـموه أنتـم, ومن بعض من ترونه لـي طائعا. يعرّفهم بذلك قصور علـمهم عن علـمه.
وقال بعض أهل العربـية: قول الـملائكة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها علـى غير وجه الإنكار منهم علـى ربهم, وإنـما سألوه لـيعلـموا, وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى الله, لأن الـجنّ قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وقال بعضهم: ذلك من الـملائكة علـى وجه الاسترشاد عما لـم يعلـموا من ذلك, فكأنهم قالوا: يا ربّ خبرنا مسألة استـخبـار منهم لله لا علـى وجه مسألة التوبـيخ.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه مخبرا عن ملائكته قـيـلها له: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ تأويـل من قال: إن ذلك منها استـخبـار لربها بـمعنى: أعلـمنا يا ربنا, أجاعل أنت فـي الأرض من هذه صفته وتارك أن تـجعل خـلفـاءك منا, ونـحن نسبح بحمدك, ونقدّس لك؟ لا إنكارٌ منها لـما أعلـمها ربها أنه فـاعل, وإن كانت قد استعظمت لـما أخبرت بذلك أن يكون لله خـلق يعصيه.
وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بـالسؤال عن ذلك فسألته علـى وجه التعجب, فدعوى لا دلالة علـيها فـي ظاهر التنزيـل ولا خبر بها من الـحجة يقطع العذر, وغير جائز أن يقال فـي تأويـل كتاب الله بـما لا دلالة علـيه من بعض الوجوه التـي تقوم بها الـحجة.
وأما وصف الـملائكة من وصفت فـي استـخبـارها ربها عنه بـالفساد فـي الأرض وسفك الدماء, فغير مستـحيـل فـيه ما رُوي عن ابن عبـاس وابن مسعود من القول الذي رواه السدّي ووافقهما علـيه قتادة من التأويـل. وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا, فقالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها علـى ما وصفت من الاستـخبـار.
فإن قال لنا قائل: وما وجه استـخبـارها والأمر علـى ما وصفت من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن؟ قـيـل: وجه استـخبـارها حينئذٍ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك, وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الـخـلفـاء فـي الأرض حتـى لا يعصوه.
وغير فـاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عبـاس وتابعه علـيه الربـيع بن أنس من أن الـملائكة قالت ذلك لـما كان عندها من علـم سكان الأرض قبل آدم من الـجن, فقالت لربها: أجاعل فـيها أنت مثلهم من الـخـلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون؟ علـى وجه الاستعلام منهم لربهم, لا علـى وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك, فـيكون ذلك منها إخبـارا عما لـم تطلع علـيه من علـم الغيب.
وغير خطأ أيضا ما قاله ابن زيد من أن يكون قـيـل الـملائكة ما قالت من ذلك علـى وجه التعجب منها من أن يكون لله خـلق يعصي خالقه.
وإنـما تركنا القول بـالذي رواه الضحاك عن ابن عبـاس ووافقه علـيه الربـيع بن أنس وبـالذي قاله ابن زيد فـي تأويـل ذلك لأنه لا خبر عندنا بـالذي قالوه من وجه يقطع مـجيئه العذر ويـلزم سامعه به الـحجة. والـخبر عما مضى وما قد سلف, لا يدرك علـم صحته إلا بـمـجيئه مـجيئا يـمتنع منه التشاغب والتواطؤ, ويستـحيـل منه الكذب والـخطأ والسهو. ولـيس ذلك بـموجود كذلك فـيـما حكاه الضحاك عن ابن عبـاس ووافقه علـيه الربـيع, ولا فـيـما قاله ابن زيد. فأولـى التأويلات إذ كان الأمر كذلك بـالآية, ما كان علـيه من ظاهر التنزيـل دلالةٌ مـما يصحّ مخرجه فـي الـمفهوم.
فإن قال قائل: فإن كان أولـى التأويلات بـالآية هو ما ذكرتَ من أن الله أخبر الـملائكة بأن ذرية خـلـيفته فـي الأرض يفسدون فـيها ويسفكون فـيها الدماء, فمن أجل ذلك قالت الـملائكة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيهَا فأين ذكر إخبـار الله إياهم فـي كتابه بذلك؟ قـيـل له: اكتفـي بدلالة ما قد ظهر من الكلام علـيه عنه, كما قال الشاعر:
فَلاَ تَدْفِنُونِـي إنّ دَفْنِـي مُـحَرّمٌعَلَـيْكُمْ وَلَكِنْ خامِرِي أُمّ عامِرِ
فحذف قوله دعونـي للتـي يقال لها عند صيدها خامري أم عامر, إذ كان فـيها أظهر من كلامه دلالة علـى معنى مراده. فكذلك ذلك فـي قوله: قالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها لـما كان فـيه دلالة علـى ما ترك ذكره بعد قوله: إنّـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً من الـخبر عما يكون من إفساد ذريته فـي الأرض اكتفـى بدلالته وحذف, فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك فـي القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلـما ذكرنا من ذلك اخترنا ما اخترنا من القول فـي تأويـل قوله: قالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ.
قال أبو جعفر: أما قوله: وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ فإنه يعنـي: إنا نعظمك بـالـحمد لك والشكر, كما قال جل ثناؤه: فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وكما قال: وَالـمَلائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وكل ذكر لله عند العرب فتسبـيح وصلاة, يقول الرجل منهم: قضيت سبحتـي من الذكر والصلاة. وقد قـيـل إن التسبـيح صلاة الـملائكة.
398ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبـي الـمغيرة, عن سعيد بن جبـير قال: «كان النبـي صلى الله عليه وسلم يصلـي, فمرّ رجل من الـمسلـمين علـى رجل من الـمنافقـين, فقال له: النبـي صلى الله عليه وسلم يصلـي وأنت جالس فقال له: امض إلـى عملك إن كان لك عمل, فقال: ما أظنّ إلا سيـمرّ علـيك من ينكر علـيك. فمرّ علـيه عمر بن الـخطاب, فقال له: يا فلان النبـي صلى الله عليه وسلم يصلـي وأنت جالس فقال له مثلها. فقال: هذا من عملـي. فوثب علـيه فضربه حتـى انتهى. ثم دخـل الـمسجد فصلـى مع النبـي صلى الله عليه وسلم, فلـما انفتل النبـي صلى الله عليه وسلم قام إلـيه عمر, فقال: يا نبـيّ الله مررت آنفـا علـى فلان وأنت تصلـي, فقلت له: النبـي صلى الله عليه وسلم يصلـي وأنت جالس فقال: سر إلـى عملك إن كان لك عمل. فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «فهلاّ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ» فقام عمر مسرعا. فقال: «يا عُمَرُ ارْجِعْ فإنّ غَضَبَكَ عز وَرِضَاكَ حُكْمٌ, إنّ لِلّهِ فِـي السّمَوَاتِ السّبْعِ مَلائِكَةً يُصَلُونَ, لَهُ غِنًى عَنْ صَلاةِ فُلانٍ». فقال عمر: يا نبـيّ الله وما صلاتهم؟ فلـم يردّ علـيه شيئا. فأتاه جبريـل, فقال: يا نبـي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: «نَعَمْ», فقال: اقرأ علـى عمر السلام, وأخبره أن أهل السماء الدنـيا سجود إلـى يوم القـيامة يقولون: سبحان ذي الـملك والـملكوت, وأهل السماء الثانـية ركوع إلـى يوم القـيامة يقولون: سبحان ذي العزّة والـجبروت, وأهل السماء الثالثة قـيام إلـى يوم القـيامة يقولون: سبحان الـحيّ الذي لا يـموت.
قال أبو جعفر:
399ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, وسهل بن موسى الرازي, قالا: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا الـجريري, عن أبـي عبد الله الـجسري, عن عبد الله بن الصامت, عن أبـي ذرّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده أو أن أبـا ذرّ عاد النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بأبـي أنت, أيّ الكلام أحبّ إلـى الله؟ فقال: «ما اصْطَفَـى اللّهُ لِـمَلائِكَتِهِ: سُبْحَانَ رَبـي وَبِحَمْدِهِ, سُبْحانَ رَبـي وَبَحمْدِهِ». فـي أشكال لـما ذكرنا من الأخبـار كرهنا إطالة الكتاب بـاستقصائها. وأصل التسبـيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما لـيس من صفـاته إلـيه والتبرئة له من ذلك, كما قال أعشى بنـي ثعلبة:
أقُولُ لَـمّا جاءَنِـي فَخْرُهُسُبْحانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفـاخِرِ
يريد: سبحان الله من فخر علقمة أي تنزيها لله مـما أتـى علقمة من الافتـخار علـى وجه النكير منه لذلك.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى التسبـيح والتقديس فـي هذا الـموضع.
فقال بعضهم: قولهم: نسبح بحمدك: نصلـي لك. ذكر من قال ذلك:
400ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: ونَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال: يقولون: نصلـي لك.
وقال آخرون: نسبح بحمدك التسبـيح الـمعلوم. ذكر من قال ذلك:
401ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: ونَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ قال التسبـيحَ التسبـيحَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَنُقَدّسُ لَكَ.
قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيـم ومنه قولهم: سبّوح قدّوس, يعنـي بقولهم سبوح: تنزيه لله وبقولهم قدوس: طهارة له وتعظيـم ولذلك قـيـل للأرض: أرض مقدسة, يعنـي بذلك الـمطهرة. فمعنى قول الـملائكة إذا: وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ ننزّهك ونبرّئك مـما يضيفه إلـيك أهل الشرك بك, ونصلـي لك. ونقدس لك: ننسبك إلـى ما هو من صفـاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إلـيك أهل الكفر بك.
وقد قـيـل: إن تقديس الـملائكة لربها صلاتها له كما:
402ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَنُقَدّسُ لَكَ قال: التقديس: الصلاة.
وقال بعضهم: نقدّس لك: نعظمك ونـمـجدك. ذكر من قال ذلك:
403ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هاشم بن القاسم, قال: حدثنا أبو سعيد الـمؤدّب, قال: حدثنا إسماعيـل, عن أبـي صالـح فـي قوله: وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال: نعظمك ونـمـجدك.
404ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى. وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَنُقَدّسُ لَكَ قال: نعظمك ونكبرك.
405ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن ابن إسحاق: وَنَـحنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لا نعصي ولا نأتـي شيئا تكرهه.
406ـ وحدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك فـي قوله: وَنُقَدّسُ لَكَ قال: التقديس: التطهير.
وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيـم, فإن معنى قوله ذلك راجع إلـى الـمعنى الذي ذكرناه من التطهير من أجل أن صلاتها لربها تعظيـم منها له وتطهير مـما ينسبه إلـيه أهل الكفر به.
ولو قال مكان: «ونقدس لك»: «ونقدسك», كان فصيحا من الكلام, وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدسه, ويسبح لله ويقدس له بـمعنى واحد, وقد جاء بذلك القرآن, قال الله جل ثناؤه: كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِـيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِـيرا وقال فـي موضع آخر: يُسَبّحُ لِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي أَلارْضِ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قالَ إنّـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك فقال بعضهم: يعنـي بقوله: أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ مـما اطلع علـيه من إبلـيس, وإضماره الـمعصية لله وإخفـائه الكبر, مـما اطلع علـيه تبـارك وتعالـى منه وخفـي علـى ملائكته. ذكر من قال ذلك:
407ـ حدثنا مـحمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يقول: إنـي قد اطلعت من قلب إبلـيس علـى ما لـم تطلعوا علـيه من كبره واغتراره.
408ـ وحدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي خبر ذكره عن أبـي مالك وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: إنـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ يعنـي من شأن إبلـيس.
409ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد. وحدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قالا جميعا: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إنـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها.
وحدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي, قال: حدثنا مـحمد بن بشر, قال: حدثنا سفـيان, عن علـيّ بن بذيـمة, عن مـجاهد بـمثله.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن علـيّ بن بذيـمة, عن مـجاهد, مثله.
وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بزّة عن مـجاهد فـي قوله: إنـي أعلـم ما لا تعلـمون قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها.
وحدثنـي جعفر بن مـحمد البُزُوري, قال: حدثنا حسن بن بشر عن حمزة الزيات, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: إنـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبْلِـيسَ كتـمانه الكبر أن لا يسجد لاَدم.
وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, قال: وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: إنّـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية.
وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد, مثله.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن سفـيان, قال: قال مـجاهد فـي قوله: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها. وقال مرة آدم.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت عبد الوهاب بن مـجاهد يحدّث عن أبـيه فـي قوله: إنّـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها, وعلـم من آدم الطاعة وخـلقه لها.
وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبـيه والثوري عن علـيّ بن بذيـمة, عن مـجاهد فـي قوله: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها.
410ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ أي فـيكم ومنكم ولـم يبدها لهم من الـمعصية والفساد وسفك الدماء.
وقال آخرون: معنى ذلك أنـي أعلـم ما لا تعلـمون من أنه يكون من ذلك الـخـلـيفة أهل الطاعة والولاية لله. ذكر من قال ذلك:
411ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قال: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ فكان فـي علـم الله أنه سيكون من ذلك الـخـلـيفة أنبـياء ورسل وقوم صالـحون وساكنوا الـجنة.
وهذا الـخبر من الله جل ثناؤه, ينبىء عن أن الـملائكة التـي قالت: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ استفظعت أن يكون لله خـلق يعصيه, وعجبت منه إذ أخبرت أن ذلك كائن فلذلك قال لهم ربهم: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يعنـي بذلك: والله أعلـم أنك لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه وأنا أعلـم أنه فـي بعضكم, وتصفون أنفسكم بصفة أعلـم خلافها من بعضكم وتعرّضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الـملائكة لـما أخبرها ربها بـما هو كائن من ذرية خـلـيفته من الفساد وسفك الدماء قالت لربها: يا رب أجاعل أنت فـي الأرض خـلـيفة من غيرنا يكون من ذريته من يعصيك أم منا؟ فإنا نعظمك ونصلـي لك ونطيعك ولا نعصيك ولـم يكن عندها علـم بـما قد انطوى علـيه كشحا إبلـيسُ من استكبـاره علـى ربه. فقال لهم ربهم: إنـي أعلـم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورا عنهم من أمر إبلـيس وانطوائه علـى ما قد كان انطوى علـيه من الكبر. وعلـى قـيـلهم ذلك ووصفهم أنفسهم بـالعموم من الوصف عوتبوا.
الآية : 31
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـَؤُلآءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قال أبو جعفر:
412ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبـي الـمغيرة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قال: بعث ربّ العزّة ملك الـموت, فأخذ من أديـم الأرض من عذبها ومالـحها, فخـلق منه آدم. ومن ثم سُمي آدم لأنه خـلق من أديـم الأرض.
413ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبـيه, عن جده, عن علـيّ, قال: إن آدم خـلق من أديـم الأرض فـيه الطيب والصالـح والرديء, فكل ذلك أنت راء فـي ولده الصالـح والرديء.
414ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا مسعر, عن أبـي حصين, عن سعيد بن جبـير, قال: خـلق آدم من أديـم الأرض فسمي آدم.
وحدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي حصين, عن سعيد بن جبـير قال: إنـما سمي آدم لأنه خـلق من أديـم الأرض.
415ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: إن ملك الـموت لـما بعث لـيأخذ من الأرض تربة آدم, أخذ من وجه الأرض وخـلط فلـم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تربة حمراء وبـيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفـين, ولذلك سمي آدم, لأنه أخذ من أديـم الأرض.
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يحقق ما قال من حكينا قوله فـي معنى آدم, وذلك ما:
416ـ حدثنـي به يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن عوف, وحدثنا مـحمد بن بشار وعمر بن شبة, قالا: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا عوف, وحدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ ومـحمد بن جعفر وعبد الوهاب الثقـفـي قالوا: حدثنا عوف, وحدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا إسماعيـل بن أبـان, قال: حدثنا عنبسة, عن عوف الأعرابـي, عن قسامة بن زهير, عن أبـي موسى الأشعري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ اللّهَ خَـلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرْضِ, فَجَاءَ بَنُو آدَمَ علـى قَدْرِ الأرْضِ جاءَ مِنْهُمْ أَلاحْمَرُ وَالأسْوَدُ وَالأبْـيَضُ وَبَـيْنَ ذلكَ وَالسّهْلُ وَالـحَزْنُ وَالـخَبِـيثُ وَالطّيّبُ».
فعلـى التأويـل الذي تأول آدم من تأوله بـمعنى أنه خـلق من أديـم الأرض, يجب أن يكون أصل آدم فعلاً سمي به أبو البشر, كما سمي أحمد بـالفعل من الإحماد, وأسعد من الإسعاد, فلذلك لـم يجرّ, ويكون تأويـله حينئذٍ: آدم الـملك الأرضَ, يعنـي به أبلغ أَدَمتها, وأدمتها وجهها الظاهر لرأي العين, كما أن جلدة كل ذي جلدة له أدمة, ومن ذلك سمي الإدام إداما, لأنه صار كالـجلدة العلـيا مـما هي منه, ثم نقل من الفعل فجعل اسما للشخص بعينه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: الأسْمَاءَ كُلّها.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي الأسماء التـي علـمها آدم ثم عرضها علـى الـملائكة. فقال ابن عبـاس ما:
417ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: علـم الله آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التـي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة, وأرض, وسهل, وبحر, وجبل, وحمار, وأشبـاه ذلك من الأمـم وغيرها.
418ـ وحدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علـمه اسم كل شيء.
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن خصيف, عن مـجاهد: وَعَلّـمَ آدمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علـمه اسم كل شيء.
419ـ وحدثنا علـي بن الـحسن, قال: حدثنا مسلـم الـحرمي, عن مـحمد بن مصعب, عن قـيس بن الربـيع, عن خصيف, عن مـجاهد, قال: علـمه اسم الغراب والـحمامة, واسم كل شيء.
420ـ وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن شريك, عن سالـم الأفطس, عن سعيد بن جبـير, قال: علـمه اسم كل شيء, حتـى البعير والبقرة والشاة.
421ـ وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي عن شريك, عن عاصم بن كلـيب, عن سعيد بن معبد, عن ابن عبـاس, قال: علـمه اسم القصعة والفسوة والفسية.
وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن عاصم بن كلـيب, عن الـحسن بن سعد, عن ابن عبـاس: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّها قال: حتـى الفسوة والفسية.
حدثنا علـيّ بن الـحسن, قال: حدثنا مسلـم, قال: حدثنا مـحمد بن مصعب, عن قـيس, عن عاصم بن كلـيب, عن سعيد بن معبد, عن ابن عبـاس فـي قول الله: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علـمه اسم كل شيء حتـى الهنة والهنـية والفسوة والضرطة.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا علـيّ بن مسهر, عن عاصم بن كلـيب, قال: قال ابن عبـاس: علـمه القصعة من القصيعة, والفسوة من الفسية.
422ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها حتـى بلغ: إنّكَ أنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فأنبأ كل صنف من الـخـلق بـاسمه وألـجأه إلـى جنسه.
423ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: حدثنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علـمه اسم كل شيء: هذا جبل, وهذا بحر, وهذا كذا وهذا كذا, لكل شيء, ثم عرض تلك الأشياء علـى الـملائكة فقال: أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ إِنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ.
424ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن جرير بن حازم ومبـارك, عن الـحسن, وأبـي بكر عن الـحسن وقتادة قالا: علـمه اسم كل شيء: هذه الـخيـل, وهذه البغال, والإبل, والـجنّ, والوح5 وجعل يسمي كل شيء بـاسمه.
425ـ وحدثت عن عمار, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر عن أبـيه, عن الربـيع, قال: اسم كل شيء.
وقال آخرون: علـم آدم الأسماء كلها, أسماء الـملائكة. ذكر من قال ذلك:
426ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: وَعَلـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلها قال: أسماء الـملائكة.
وقال آخرون: إنـما علـمه أسماء ذريته كلها. ذكر من قال ذلك:
427ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَعَلـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال: أسماء ذرّيته أجمعين.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب وأشبهها بـما دلّ علـى صحته ظاهر التلاوة قول من قال فـي قوله: وَعَلّـمَ آدمَ الأسْماءَ كُلّها إنها أسماء ذرّيته وأسماء الـملائكة, دون أسماء سائر أجناس الـخـلق. وذلك أن الله جل ثناؤه قال: ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ يعنـي بذلك أعيان الـمسمين بـالأسماء التـي علـمها آدم, ولا تكاد العرب تكنـي بـالهاء والـميـم إلا عن أسماء بنـي آدم والـملائكة وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الـخـلق, سوى من وصفنا, فإنها تكنـي عنها بـالهاء والألف, أو بـالهاء والنون, فقالت: عرضهن, أو عرضها. وكذلك تفعل إذا كنت عن أصناف من الـخـلق, كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمـم, وفـيها أسماء بنـي آدم والـملائكة, فإنها تكنـي عنها بـما وصفنا من الهاء والنون, أو الهاء والألف. وربـما كنت عنها إذ كان كذلك بـالهاء والـميـم, كما قال جل ثناؤه: وَاللّهُ خَـلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَـمْشِي علـى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَـمْشِي علـى رِجْلَـيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَـمْشِي علـى أرْبَعٍ فكنـي عنها بـالهاء والـميـم, وهي أصناف مختلفة فـيها الاَدميّ وغيره. وذلك وإن كان جائزا فإن الغالب الـمستفـيض فـي كلام العرب ما وصفنا من إخراجهم كناية أسماء أجناس الأمـم إذا اختلطت بـالهاء والألف, أو الهاء والنون. فلذلك قلت: أولـى بتأويـل الآية أن تكون الأسماء التـي علـمها آدم أسماء أعيان بنـي آدم وأسماء الـملائكة. وإن كان ما قال ابن عبـاس جائزا علـى مثال ما جاء فـي كتاب الله من قوله: وَاللّهُ خَـلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَـمْشِي علـى بَطْنِهِ الآية. وقد ذكر أنها فـي حرف ابن مسعود: «ثم عرضهن», وأنها فـي حرف أبـيّ: «ثم عرضها».
ولعلّ ابن عبـاس تأوّل ما تأوّل من قوله: علـمه اسم كل شيء حتـى الفسوة والفسية علـى قراءة أبـيّ, فإنه فـيـما بلغنا كان يقرأ قراءة أبـيّ. وتأويـل ابن عبـاس علـى ما حكي عن أبـيّ من قراءته غير مستنكر, بل هو صحيح مستفـيض فـي كلام العرب علـى نـحو ما تقدم وصفـي ذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ.
قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويـل الذي هو أوْلـى بـالآية علـى قراءتنا ورسم مصحفنا, وأن قوله: ثُمّ عَرَضَهُمْ بـالدلالة علـى بنـي آدم والـملائكة أولـى منه بـالدلالة علـى أجناس الـخـلق كلها, وإن كان غير فـاسد أن يكون دالاّ علـى جميع أصناف الأمـم للعلل التـي وصفنا.
ويعنـي جل ثناؤه بقوله: ثُمّ عَرَضَهُمْ ثم عرض أهل الأسماء علـى الـملائكة.
وقد اختلف الـمفسرون فـي تأويـل قوله: ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلاَئِكَةِ نـحو اختلافهم فـي قوله: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها وسأذكر قول من انتهى إلـينا عنه فـيه قول.
428ـ حدثنا مـحمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق عن الضحاك, عن ابن عبـاس: ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ ثم عرض هذه الأسماء يعنـي أسماء جميع الأشياء التـي علـمها آدم من أصناف جميع الـخـلق.
429ـ وحدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: ثُمّ عَرَضَهُمْ ثم عرض الـخـلق علـى الـملائكة.
430ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلها أخذهم من ظهره. قال: ثم عرضهم علـى الـملائكة.
431ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة: ثُمّ عَرَضَهُمْ قال: علـمه اسم كل شيء ثم عرض تلك الأسماء علـى الـملائكة.
432ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: ثُمّ عَرَضَهُمْ عرض أصحاب الأسماء علـى الـملائكة.
433ـ وحدثنا علـيّ بن الـحسن, قال: حدثنا مسلـم, قال: حدثنا مـحمد بن مصعب, عن قـيس, عن خصيف عن مـجاهد ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ يعنـي عرض الأسماء الـحمامة والغراب.
434ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن جرير بن حازم, ومبـارك عن الـحسن, وأبـي بكر عن الـحسن, وقتادة قالا: علـمه اسم كل شيء هذه الـخيـل وهذه البغال وما أشبه ذلك, وجعل يسمي كل شيء بـاسمه, وعرضت علـيه أمة أمة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فقالَ أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ.
قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: أنْبِئُونِـي أخبرونـي, كما:
435ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: أنْبِئُونِـي يقول: أخبرونـي بأسماء هؤلاء. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان:
وأنْبأهُ الـمُنَبّىء أنّ حَيّاحُلُولٌ مِنْ حَرَامٍ أوْ جُذَامِ
يعنـي بقوله أنبأه: أخبره وأعلـمه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: بِأسْماءِ هَولاءِ.
قال أبو جعفر:
436ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: بِأسْماءِ هَؤلاءِ قال: بأسماء هذه التـي حدثت بها آدم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: أنْبئُونِـي بأسماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينَ يقول: بأسماء هؤلاء التـي حدثت بها آدم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنْ كُنْتُـمِ صَادِقِـينَ.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي ذلك.
437ـ فحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إن كنتـم تعلـمون لِـمَ أجعل فـي الأرض خـلـيفة.
438ـ وحدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أن بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء.
439ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن جرير بن حازم, ومبـارك عن الـحسن وأبـي بكر, عن الـحسن وقتادة قالا: أنْبِئُونِـي بِأسْمَاءِ هَولاَءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أنـي لـم أخـلق خـلقا إلا كنتـم أعلـم منه, فأخبرونـي بأسماء هؤلاء إن كنتـم صادقـين.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية تأويـل ابن عبـاس ومن قال بقوله.
ومعنى ذلك فقال: أنبئونـي بأسماء من عرضته علـيكم أيتها الـملائكة القائلون: أتَـجْعَل فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ من غيرنا, أم منّا؟ فنـحن نسبح بحمدك ونقدس لك إن كنتـم صادقـين فـي قـيـلكم أنـي إن جعلت خـلـيفتـي فـي الأرض من غيركم عصانـي ذريته, وأفسدوا فـيها, وسفكوا الدماء, وإن جعلتـم فـيها أطعتـمونـي, واتبعتـم أمري بـالتعظيـم لـي والتقديس. فإنكم إن كنتـم لا تعلـمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم علـيكم من خـلقـي وهم مخـلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم, وعلـمه غيركم بتعلـيـمي إياه, فأنتـم بـما هو غير موجود من الأمور الكائنة التـي لـم توجد بعد, وبـما هو مستتر من الأمور التـي هي موجودة عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالـمين, فلا تسألونـي ما لـيس لكم به علـم, فإنـي أعلـم بـما يصلـحكم ويصلـح خـلقـي.
وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بـملائكته الذين قالوا له: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها من جهة عتابه جل ذكره إياهم, نظير قوله جل جلاله لنبـيه نوح صلوات الله علـيه, إذ قال: رَبّ إنّ ابْنِـي مِنْ أهْلِـي وَإِنّ وَعْدَكَ الـحَقّ وَأنْتَ أحْكَمُ الـحاكِمينَ: لا تَسْألْنِ ما لَـيْسَ لَكَ بهِ عِلْـمٌ إنّـي أعظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ. فكذلك الـملائكة سألت ربها أن تكون خـلفـاءه فـي الأرض يسبحوه ويقدسوه فـيها, إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعله فـي الأرض خـلـيفة, يفسدون فـيها, ويسفكون الدماء, فقال لهم جل ذكره: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يعنـي بذلك أنـي أعلـم أن بعضكم فـاتـح الـمعاصي وخاتـمها وهو إبلـيس منكرا بذلك تعالـى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هفوتهم فـي قـيـلهم ما قالوا من ذلك, بتعريفهم قصور علـمهم عما هم له شاهدون عيانا, فكيف بـما لـم يروه ولـم يخبروا عنه بعرضه ما عرض علـيهم من خـلقه الـموجودين يومئذٍ, وقـيـله لهم: أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أنكم إن استـخـلفتكم فـي أرضي سبحتـمونـي وقدستـمونـي, وإن استـخـلفت فـيها غيركم عصانـي ذريته, وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلـما اتضح لهم موضع خطأ قـيـلهم, وبدت لهم هفوة زلتهم أنابوا إلـى الله بـالتوبة فقالوا: سُبحانَكَ لا علـمَ لنَا إِلاّ ما علـمتنا فسارعوا الرجعة من الهفوة, وبـادروا الإنابة من الزلة, كما قال نوح حين عوتب فـي مسألته, فقـيـل له: لا تَسألْنِ ما لَـيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ: رَبّ إنّـي أعُوذُ بِكَ أنْ أسألَكَ مَا لَـيْسَ لِـي بِهِ عِلْـمٌ وإلا تَغْفِرْ لِـي وَتَرْحَمْنِـي أكُنْ مِنَ الـخاسِرِينَ وكذلك فعل كل مسدد للـحق موفق له, سريعة إلـى الـحقّ إنابته, قريبة إلـيه أوبته.
وقد زعم بعض نـحويـي أهل البصرة أن قوله: أنْبِئُونِـي بِأسْمَاءِ هَولاَءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ لـم يكن ذلك لأن الـملائكة ادّعوا شيئا, إنـما أخبر الله عن جهلهم بعلـم الغيب وعلـمه بذلك وفضله, فقال: أنبئونـي إن كنتـم صادقـين كما يقول الرجل للرجل: أنبئنـي بهذا إن كنت تعلـم, وهو يعلـم أنه لا يعلـم يريد أنه جاهل. وهذا قول إذا تدبره متدبر علـم أن بعضه مفسد بعضا, وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للـملائكة إذ عرض علـيهم أهل الأسماء: أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَؤلاءِ وهو يعلـم أنهم لا يعلـمون, ولا هم ادّعوا علـم شيء يوجب أن يوبخوا بهذا القول. وزعم أن قوله: إِنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ نظير قول الرجل للرجل: أنبئنـي بهذا إن كنت تعلـم, وهو يعلـم أنه لا يعلـم يريد أنه جاهل. ولا شك أن معنى قوله: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إنـما هو إن كنتـم صادقـين, إما فـي قولكم, وإما فـي فعلكم لأن الصدق فـي كلام العرب إنـما هو صدق فـي الـخبر لا فـي العلـم وذلك أنه غير معقول فـي لغة من اللغات أن يقال صدق الرجل بـمعنى علـم. فإذا كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للـملائكة علـى تأويـل قول هذا الذي حكينا قوله فـي هذه الآية: أنْبِئُونِـي بِأسْمَاءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ وهو يعلـم أنهم غير صادقـين, يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره, لأن زعم أن الـملائكة لـم تدع شيئا, فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتـم صادقـين فأنبئونـي بأسماء هؤلاء؟ هذا مع خروج هذا القول الذي حكيناه عن صاحبه من أقوال جميع الـمتقدمين والـمتأخرين من أهل التأويـل والتفسير.
وقد حكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأوّل قوله: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ بـمعنى: إذ كنتـم صادقـين. ولو كانت «إن» بـمعنى «إذ» فـي هذا الـموضع لوجب أن تكون قراءتها بفتـح ألفها, لأن «إذ» إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة للفعل وسببـا له, وذلك كقول القائل: أقوم إذ قمت, فمعناه: أقوم من أجل أنك قمت, والأمر بـمعنى الاستقبـال. فمعنى الكلام: لو كانت إن بـمعنى إذ أنبئونـي بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وضعت «إن» مكان ذلك, قـيـل: «أنبئونـي بأسماء هؤلاء أنْ كنتـم صادقـين مفتوحة الألف, وفـي إجماع جميع قرّاء أهل الإسلام علـى كسر الألف من «إن» دلـيـل واضح علـى خطأ تأويـل من تأوّل «إنْ» بـمعنى «إذ» فـي هذا الـموضع.
الآية : 32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته بـالأوبة إلـيه, وتسلـيـم علـم ما لـم يعلـموه له, وتبريهم من أن يعلـموا أو يعلـم أحد شيئا إلا ما علـمه تعالـى ذكره.
وفـي هذه الاَيات الثلاث العبرة لـمن اعتبر, والذكرى لـمن اذّكر, والبـيان لـمن كان له قلب أو ألقـى السمع وهو شهيد, عما أودع الله جل ثناؤه آي هذا القرآن من لطائف الـحكم التـي تعجز عن أوصافها الألسن. وذلك أن الله جل ثناؤه احتـجّ فـيها لنبـيه صلى الله عليه وسلم علـى من كان بـين ظهرانـيه من يهود بنـي إسرائيـل بـاطلاعه إياه من علوم الغيب التـي لـم يكن جل ثناؤه أطلع علـيها من خـلقه إلا خاصّا, ولـم يكن مدركا علـمه إلا بـالإنبـاء والإخبـار, لتتقرّر عندهم صحة نبوّته, ويعلـموا أن ما أتاهم به فمن عنده, ودلّ فـيها علـى أن كل مخبر خبرا عما قد كان أو عما هو كائن مـما لـم يكن ولـم يأته به خبر ولـم يوضع له علـى صحته برهان فمتقوّل ما يستوجب به من ربه العقوبة.
ألا ترى أن الله جل ذكره ردّ علـى ملائكته قـيـلهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قالَ إنّـي أعْلَـمُ مَا لاَ تَعْلَـمُونَ وعرّفهم أن قـيـل ذلك لـم يكن جائزا لهم بـما عرّفهم من قصور علـمهم عند عرضه ما عرض علـيهم من أهل الأسماء, فقال: أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ فلـم يكن لهم مفزع إلا الإقرار بـالعجز والتبرّي إلـيه أن يعلـموا إلا ما علـمهم بقولهم: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْـمَ لَنَا إِلاّ ما عَلـمْتَنَا فكان فـي ذلك أوضح الدلالة وأبـين الـحجة علـى كذب مقالة كل من ادّعى شيئا من علوم الغيب من الـحزاة والكهنة والقافة والـمنـجمة. وذكر بها الذين وصفنا أمرهم من أهل الكتاب سوالف نعمه علـى آبـائهم, وأياديه عند أسلافهم, عند إنابتهم إلـيه, وإقبـالهم إلـى طاعته مستعطفهم بذلك إلـى الرشاد, ومستعتبهم به إلـى النـجاة, وحذّرهم بـالإصرار والتـمادي فـي البغي والضلال, حلولَ العقاب بهم نظير ما أحلّ بعدوّه إبلـيس, إذ تـمادى فـي الغيّ والـخسار.
قال: وأما تأويـل قوله: سُبْحانَكَ لا عِلْـمَ لَنَا إِلاّ ما عَلـمْتَنَا فهو كما:
440ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: قالوا: سُبْحانَكَ تنزيها لله من أن يكون أحد يعلـم الغيب غيره, تبنا إلـيك, لا علـم لنا إلا ما علـمتنا: تبرّءوا منهم من علـم الغيب, إلا ما علـمتنا كما علـمت آدم. وسبحان مصدر لا تصرّف له, ومعناه: نسبحك, كأنهم قالوا: نسبحك تسبـيحا, وننزّهك تنزيها, ونبرّئك من أن نعلـم شيئا غير ما علـمتنا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنكَ أنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ.
قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك: أنك أنت يا ربنا العلـيـم من غير تعلـيـم بجميع ما قد كان وما وهو كائن, والعالـم للغيوب دون جميع خـلقك. وذلك أنهم نفوا عن أنفسهم بقولهم: لا عِلْـمَ لَنا إِلاّ ما عَلّـمْتَنَا أن يكون لهم علـم إلا ما علـمهم ربهم, وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم: إنكَ أنْتَ العَلِـيـمُ يعنون بذلك العالـم من غير تعلـيـم, إذ كان من سواك لا يعلـم شيئا إلا بتعلـيـم غيره إياه. والـحكيـم: هو ذو الـحكمة. كما:
441ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, العلـيـم: الذي قد كمل فـي علـمه والـحكيـم: الذي قد كمل فـي حكمه.
وقد قـيـل: إن معنى الـحكيـم: الـحاكم, كما أن العلـيـم بـمعنى العالـم, والـخبـير بـمعنى الـخابر.
الآية : 33
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنِيَ أَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
قال أبو جعفر: إن الله جل ثناؤه عرّف ملائكته الذين سألوه أن يجعلهم الـخـلفـاء فـي الأرض ووصفوا أنفسهم بطاعته والـخضوع لأمره دون غيرهم الذين يفسدون فـيها ويسفكون الدماء, أنهم من الـجهل بـمواقع تدبـيره ومـحل قضائه, قبل إطلاعه إياهم علـيه, علـى نـحو جهلهم بأسماء الذين عرضهم علـيهم, إذْ كان ذلك مـما لـم يعلـمهم فـيعلـموه, وأنهم وغيرهم من العبـاد لا يعلـمون من العلـم إلا ما علـمهم إياه ربهم, وأنه يخصّ بـما شاء من العلـم من شاء من الـخـلق ويـمنعه منهم من شاء كما علـم آدم أسماء ما عرض علـى الـملائكة ومنعهم من علـمها إلا بعد تعلـيـمه إياهم.
فأما تأويـل قوله: قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ يقول: أخبر الـملائكة. والهاء والـميـم فـي قوله: أنْبِئْهُمْ عائدتان علـى الـملائكة, وقوله: بِأسْمَائِهِمْ يعنـي بأسماء الذين عرضهم علـى الـملائكة. والهاء والـميـم اللتان فـي «أسمائهم» كناية عن ذكر هؤلاء التـي فـي قوله: أنْبِئُونِـي بِأسْمَاءِ هَؤلاءِ. فلـما أنبـاهم يقول: فلـما أخبر آدم الـملائكة بأسماء الذين عرضهم علـيهم, فلـم يعرفوا أسماءهم, وأيقنوا خطأ قـيـلهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ ونَـحْن نَسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وأنهم قد هفوا فـي ذلك وقالوا: ما لا يعلـمون كيفـية وقوع قضاء ربهم فـي ذلك, لو وقع علـى ما نطقوا به, قال لهم ربهم: ألَـمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلـم يعاينوه توبـيخا من الله جل ثناؤه لهم بذلك علـى ما سلف من قـيـلهم وفرط منهم من خطأ مسألتهم, كما:
442ـ حدثنا به مـحمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك عن ابن عبـاس: قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمَائِهِمْ يقول: أخبرهم بأسمائهم, فَلَـمّا أنْبَأهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ أيها الـملائكة خاصة إنـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ولا يعلـمه غيري.
443ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قصة الـملائكة وآدم, فقال الله للـملائكة: كما لـم تعلـموا هذه الأسماء فلـيس لكم علـم, إنـما أردت أن أجعلهم لـيفسدوا فـيها, هذا عندي قد علـمته فكذلك أخفـيت عنكم أنـي أجعل فـيها من يعصينـي ومن يطيعنـي. قال: وسبق من الله: لأمْلأَنّ جَهَنّـمَ مِنَ الـجِنّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ قال: ولـم تعلـم الـملائكة ذلك ولـم يدروه. قال: فلـما رأوا ما أعطى الله آدم من العلـم أقرّوا لاَدم بـالفضل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأعُلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكتُـمُونَ.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فروى عن ابن عبـاس فـي ذلك ما:
444ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وأعْلَـمُ ما تُبْدُون يقول: ما تظهرون وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ يقول: أعلـم السرّ كما أعلـم العلانـية. يعنـي ما كتـم إبلـيس فـي نفسه من الكبر والاغترار.
445ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: وَأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال قولهم: أتَـجْعَلُ فـيها مَنْ يُفْسِدُ فـيها فهذا الذي أبدوا, وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ يعنـي ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه من الكبر.
446ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبـيه, عن سعيد بن جبـير قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه.
447ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان فـي قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمونَ قال: ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه من الكبر أن لا يسجد لاَدم.
448ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: أخبرنا الـحجاج الأنـماطي, قال: حدثنا مهدي بن ميـمون, قال: سمعت الـحسن بن دينار, قال للـحسن ونـحن جلوس عنده فـي منزله: يا أبـا سعيد أرأيت قول الله للـملائكة: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ ما الذي كتـمت الـملائكة؟ فقال الـحسن: إن الله لـما خـلق آدم رأت الـملائكة خـلقا عجيبـا, فكأنهم دخـلهم من ذلك شيء, فأقبل بعضهم إلـى بعض, وأسرّوا ذلك بـينهم, فقالوا: وما يهمكم من هذا الـمخـلوق إن الله لـم يخـلق خـلقا إلا كنا أكرم علـيه منه.
449ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وأعْلَـم ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: أسرّوا بـينهم فقالوا: يخـلق الله ما يشاء أن يخـلق, فلن يخـلق خـلقا إلا ونـحن أكرم علـيه منه.
450ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: وَأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ فكان الذي أبدوا حين قالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَن يُفْسِدُ فـيها وكان الذي كتـموا بـينهم قولهم: لن يخـلق ربنا خـلقا إلا كنا نـحن أعلـم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل علـيهم آدم فـي العلـم والكرم.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية ما قاله ابن عبـاس, وهو أن معنى قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وأعلـم مع علـمي غيب السموات والأرض ما تظهرون بألسنتكم وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ وما كنتـم تـخفونه فـي أنفسكم, فلا يخفـى علـيّ شيء سواء عندي سرائركم وعلانـيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه, وهو قولهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ والذي كانوا يكتـمونه ما كان منطويا علـيه إبلـيس من الـخلاف علـى الله فـي أمره والتكبر عن طاعته لأنه لا خلاف بـين جميع أهل التأويـل أن تأويـل ذلك غير خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت, وهو ما قلنا. والاَخر ما ذكرنا من قول الـحسن وقتادة.
ومن قال: إن معنى ذلك كتـمان الـملائكة بـينهم لن يخـلق الله خـلقا إلا كنا أكرم علـيه منه فإذْ كان لا قول فـي تأويـل ذلك إلا أحد القولـين اللذين وصفت ثم كان أحدهما غير موجودة علـى صحته الدلالة من الوجه الذي يجب التسلـيـم له صحّ الوجه الاَخر.
فـالذي حكي عن الـحسن وقتادة ومن قال بقولهما فـي تأويـل ذلك غير موجودة الدلالة علـى صحته من الكتاب ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عبـاس يدلّ علـى صحته خبر الله جل ثناؤه عن إبلـيس وعصيانه إياه إذ دعاه إلـى السجود لاَدم, فأتـى واستكبر, وإظهاره لسائر الـملائكة من معصيته وكبره ما كان له كاتـما قبل ذلك.
فإن ظنّ ظانّ أن الـخبر عن كتـمان الـملائكة ما كانوا يكتـمونه لـما كان خارجا مخرج الـخبر عن الـجميع كان غير جائز أن يكون ما رُوي فـي تأويـل ذلك عن ابن عبـاس ومن قال بقوله من أن ذلك خبر عن كتـمان إبلـيس الكبر والـمعصية صحيحا, فقد ظنّ غير الصواب وذلك أن من شأن العرب إذا أخبرت خبرا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه أن تـخرج الـخبر عنه مخرج الـخبر عن جميعهم, وذلك كقولهم: قتل الـجيش وهزموا, وإنـما قتل الواحد أو البعض منهم, وهزم الواحد أو البعض, فتـخرج الـخبر عن الـمهزوم منه والـمقتول مخرج الـخبر عن جميعهم كما قال جل ثناؤه: إنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الـحُجُرَاتِ أكْثُرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ذكر أن الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الآية فـيه, كان رجلاً من جماعة بنـي تـميـم, كانوا قدموا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخرج الـخبر عنه مخرج الـخبر عن الـجماعة, فكذلك قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ أخرج الـخبر مخرج الـخبر عن الـجميع, والـمراد به الواحد منهم.
الآية : 34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
قال أبو جعفر: أما قوله: وإذْ قُلْنَا فمعطوف علـى قوله: وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْـمَلاَئِكَةِ كأنه قال جل ذكره للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنـي إسرائيـل معدّدا علـيهم نعمه, ومذكرهم آلاءه علـى نـحو الذي وصفنا فـيـما مضى قبل: اذكروا فعلـي بكم إذ أنعمت علـيكم, فخـلقت لكم ما فـي الأرض جميعا, وإذ قلت للـملائكة إنـي جاعل فـي الأرض خـلـيفة, فكرّمت أبـاكم آدم بـما آتـيته من علـمي وفضلـي وكرامتـي, وإذ أسجدت له ملائكتـي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبلـيس, فدل بـاستثنائه إياه منهم علـى أنه منهم, وأنه مـمن قد أُمِرَ بـالسجود معهم, كما قال جل ثناؤه: إلاّ إبْلِـيسَ لَـمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ قالَ مَا مَنَعَكَ أنْ لاَ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبلـيس فـيـمن أمره من الـملائكة بـالسجود لاَدم. ثم استثناءه جل ثناؤه مـما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لاَدم, فأخرجه من الصفة التـي وصفهم بها من الطاعة لأمره ونَفَـى عنه ما أثبته لـملائكته من السجود لعبده آدم.
ثم اختلف أهل التأويـل فـيه هل هو من الـملائكة أم هو من غيرهم؟ فقال بعضهم بـما:
451ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: كان إبلـيس من حيّ من أحياء الـملائكة, يقال لهم «الـجنّ», خـلقوا من نار السموم من بـين الـملائكة. قال: فكان اسمه الـحارث. قال: وكان خازنا من خزان الـجنة. قال: وخـلقت الـملائكة من نور غير هذا الـحيّ. قال: وخـلقت الـجنّ الذين ذكروا فـي القرآن من مارج من نار, وهو لسان النار الذي يكون فـي طرفها إذا التهبت.
452ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن خلاد, عن عطاء, عن طاوس, عن ابن عبـاس, قال: كان إبلـيس قبل أن يركب الـمعصية من الـملائكة اسمه عزازيـل, وكان من سكان الأرض وكان من أشدّ الـملائكة اجتهادا وأكثرهم علـما, فذلك دعاه إلـى الكبر, وكان من حيّ يسمون جنّا.
453ـ وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن خلاد, عن عطاء, عن طاوس, أو مـجاهد أبـي الـحجاج, عن ابن عبـاس وغيره بنـحوه, إلا أنه قال: كان ملكا من الـملائكة اسمه عزازيـل, وكان من سكان الأرض وعمّارها, وكان سكان الأرض فـيهم يسمون الـجنّ من بـين الـملائكة.
454ـ وحدثنـي موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: جعل إبلـيس علـى ملك سماء الدنـيا, وكان من قبـيـلة من الـملائكة يقال لهم الـجنّ, وإنـما سموا الـجن لأنهم خزّان الـجنة, وكان إبلـيس مع ملكه خازنا.
455ـ وحدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا حسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: كان إبلـيس من أشراف الـملائكة وأكرمهم قبـيـلة, وكان خازنا علـى الـجنان, وكان له سلطان سماء الدنـيا, وكان له سلطان الأرض. قال: قال ابن عبـاس: وقوله: كانَ منَ الـجنّ, إنـما يسمى بـالـجنان أنه كان خازنا علـيها, كما يقال للرجل: مكي, ومدنـي, وكوفـي, وبصري. قال ابن جريج: وقال آخرون: هم سبط من الـملائكة قبـيـلة, فكان اسم قبـيـلته الـجن.
456ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن صالـح مولـى التوأمة وشريك بن أبـي نـمر أحدهما أو كلاهما, عن ابن عبـاس, قال: إن من الـملائكة قبـيـلة من الـجن, وكان إبلـيس منها, وكان يسوس ما بـين السماء والأرض.
وحدثت عن الـحسن بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم, يقول فـي قوله: فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ قال: كان ابن عبـاس يقول: إن إبلـيس كان من أشرف الـملائكة وأكرمهم قبـيـلة, ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء.
457ـ وحدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنـي شيبـان, قال: حدثنا سلام بن مسكين, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب, قال: كان إبْلِـيس رئيس ملائكة سماء الدنـيا.
458ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَإذْ قُلْنا للْـمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِـيسَ كَانَ مِنَ الـجِنّ كان من قبـيـل من الـملائكة يقال لهم الـجن. وكان ابن عبـاس يقول: لو لـم يكن من الـملائكة لـم يؤمر بـالسجود, وكان علـى خزانة سماء الدنـيا. قال: وكان قتادة يقول: جنّ عن طاعة ربه.
وحدثنا الـحسين بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ قال: كان من قبـيـل من الـملائكة يقال لهم الـجنّ.
459ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: أما العرب فـيقولون: ما الـجنّ إلا كلّ من اجتنّ فلـم ير. وأما قوله: إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ أي كان من الـملائكة, وذلك أن الـملائكة اجتنّوا فلـم يروا, وقد قال الله جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَـيْنَهُ وَبَـيْنَ الـجِنةِ نَسَبـا وَلَقدْ علـمتِ الـجنّةُ أنهم لَـمُـحْضَرُونَ وذلك لقول قريش: إن الـملائكة بنات الله. فـيقول الله: إن تكن الـملائكة بناتـي فإبلـيس منها, وقد جعلوا بـينـي وبـين إبلـيس وذرّيته نسبـا. قال: وقد قال الأعشى, أعشى بنـي قـيس بن ثعلبة البكري, وهو يذكر سلـيـمان بن داود وما أعطاه الله:
وَلَوْ كانَ شَيْء خالِدا أوْ مُعَمّرالَكانَ سُلَـيْـمَانُ البَرِيّ مِنَ الدّهْرِ
بَرَاهُ إلهي واصْطَفَـاهُ عبـادَهُوَمَلّكَهُ مَا بَـيْنَ ثُرْيَا إلـى مِصْرِ
وَسَخّرَ مِنْ جِنّ الـمَلائِكِ تِسْعَةًقِـياما لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أجْرِ
قال: فأبت العرب فـي لغتها إلا أن «الـجنّ» كل ما اجتنّ. يقول: ما سمي الله الـجن إلا أنهم اجتنوا فلـم يُرَوْا, وما سمي بنـي آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلـم يجتنّوا, فما ظهر فهو إنس, وما اجتنّ فلـم يُرَ فهو جنّ. وقال آخرون بـما:
460ـ حدثنا به مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن عوف, عن الـحسن, قال: ما كان إبلـيس من الـملائكة طرفة عين قط, وإنه لأصل الـجن كما أن آدم أصل الإنس.
461ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الـحسن يقول فـي قوله: إلا إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ إلـجاءٌ إلـى نسبه, فقال الله: أفَتَتّـخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِـي الآية... وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم.
462ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا أبو سعيد الـيحمدي, حدثنا إسماعيـل بن إبراهيـم, قال: حدثنا سوار بن الـجعد الـيحمدي, عن شهر بن حوشب قوله: مِنَ الـجِنّ قال: كان إبلـيس من الـجنّ الذين طردتهم الـملائكة, فأسره بعض الـملائكة فذهب به إلـى السماء.
463ـ وحدثنـي علـيّ بن الـحسين, قال: حدثنـي أبو نصر أحمد بن مـحمد الـخلال, قال: حدثنـي سنـيد بن داود, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى, عن موسى بن نـمير, وعثمان بن سعيد بن كامل, عن سعد بن مسعود, قال: كانت الـملائكة تقاتل الـجنّ, فسُبـي إبلـيس وكان صغيرا, فكان مع الـملائكة فتعبّد معها. فلـما أمروا بـالسجود لاَدم سجدوا, فأبى إبلـيس فلذلك قال الله: إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ.
464ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: حدثنا الـمبـارك بن مـجاهد أبو الأزهر, عن شريك بن عبدالله بن أبـي نـمرطط, عن صالـح مولـى التوأمة, عن ابن عبـاس, قال: إن من الـملائكة قبـيلاً يقال لهم الـجنّ, فكان إبلـيس منهم, وكان إبلـيس يسوس ما بـين السماء والأرض فعصى, فمسخه الله شيطانا رجيـما.
465ـ قال: وحدثنا يونس, عن ابن وهب, قال: قال ابن زيد: إبلـيس أبو الـجنّ, كما آدم أبو الإنس.
وعلة من قال هذه الـمقالة, أن الله جل ثناؤه أخبر فـي كتابه أنه خـلق إبلـيس من نار السموم ومن مارج من نار, ولـم يخبر عن الـملائكة أنه خـلقها من شيء من ذلك. وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الـجن. فقالوا: فغير جائز أن ينسب إلـى غير ما نسبه الله إلـيه. قالوا: ولإبلـيس نسل وذرّية, والـملائكة لا تتناسل ولا تتوالد.
466ـ حدثنا مـحمد بن سنان القزاز, قال: حدثنا أبو عاصم, عن شريك, عن رجل, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: إن الله خـلق خـلقا, فقال: اسجدوا لاَدم فقالوا: لا نفعل. فبعث الله علـيهم نارا تـحرقهم. ثم خـلق خـلقا آخر, فقال: إنـي خالق بشرا من طين, اسجدوا لاَدم فأبوا, فبعث الله علـيهم نارا فأحرقتهم. قال: ثم خـلق هؤلاء, فقال: اسجدوا لاَدم فقالوا: نعم. وكان إبلـيس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لاَدم.
قال أبو جعفر: وهذه علل تنبىء عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خـلق أصناف ملائكته من أصناف من خـلقه شتـى, فخـلق بعضا من نور, وبعضا من نار, وبعضا مـما شاء من غير ذلك. ولـيس فـي ترك الله جل ثناؤه الـخبر عما خـلق منه ملائكته وإخبـاره عما خـلق منه إبلـيس ما يوجب أن يكون إبلـيس خارجا عن معناهم, إذ كان جائزا أن يكون خـلق صنفـا من ملائكته من نار كان منهم إبلـيس, وأن يكون أفرد إبلـيس بأن خـلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الـملائكة بأن كان له نسل وذرية لـما ركب فـيه من الشهوة واللذّة التـي نزعت من سائر الـملائكة لـما أراد الله به من الـمعصية.
وأما خبر الله عن أنه من الـجن, فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جِنّا, كما قد ذكرنا قبلُ فـي شعر الأعشى, فـيكون إبلـيس والـملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بنـي آدم.
القول فـي معنى إبلـيس.
قال أبو جعفر: وإبلـيس «إفعيـل» من الإبلاس: وهو الإياس من الـخير والندم والـحزن. كما:
467ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: إبلـيس أبلسه الله من الـخير كله وجعله شيطانا رجيـما عقوبة لـمعصيته.
468ـ وحدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي, قال: كان اسم إبلـيس الـحارث, وإنـما سمي إبلـيس حين أبلس متـحيرا.
قال أبو جعفر: وكما قال الله جل ثناؤه: فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ يعنـي به أنهم آيسون من الـخير, نادمون حزنا, كما قال العجاج:
يا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْما مُكْرَسَاقالَ نَعَمْ أعْرِفُهُ وأبْلَسا
وقال رؤبة:
وَحَضَرَتْ يَوْمَ الـخَمِيسِ الأخْماسوَفِـي الوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإبْلاسْ
يعنـي به اكتئابـا وكسوفـا.
فإن قال لنا قائل: فإن كان إبلـيس كما قلت «إفعيـل» من الإبلاس, فهلاّ صرف وأُجري؟ قـيـل: ترك إجراؤه استثقالاً إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب, فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التـي لا تـجري, وقد قالوا: مررت بإسحاق, فلـم يجروه, وهو من أسحقه الله إسحاقا, إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ثم تسمت به العرب فجرى مـجراه, وهو من أسماء العجم فـي الإعراب, فلـم يصرف. وكذلك أيوب إنـما هو فـيعول من آب يئوب.
وتأويـل قوله: أبى يعنـي جل ثناؤه بذلك إبلـيس أنه امتنع من السجود لاَدم فلـم يسجد له. واستكبر يعنـي بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله فـي السجود لاَدم. وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبلـيس, فإنه تقريع لضربـائه من خـلق الله الذين يتكبرون عن الـخضوع لأمر الله والانقـياد لطاعته فـيـما أمرهم به وفـيـما نهاهم عنه, والتسلـيـم له فـيـما أوجب لبعضهم علـى بعض من الـحقّ. وكان مـمن تكبر عن الـخضوع لأمر الله والتذلل لطاعته والتسلـيـم لقضائه فـيـما ألزمهم من حقوق غيرهم الـيهودُ الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأحبـارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفـين وبأنه لله رسول عالـمين, ثم استكبروا مع علـمهم بذلك عن الإقرار بنبوّته والإذعان لطاعته, بغيا منهم له وحسدا, فقرّعهم الله بخبره عن إبلـيس الذي فعل فـي استكبـاره عن السجود لاَدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم فـي التكبر عن الإذعان لـمـحمد نبـي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته, إذ جاءهم بـالـحقّ من عند ربهم حسدا وبغيا. ثم وصف إبلـيس بـمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلاً فـي الاستكبـار والـحسد والاستنكاف عن الـخضوع لـمن أمره الله بـالـخضوع له, فقال جل ثناؤه: وكان يعنـي إبلـيس من الكافرين من الـجاحدين نعم الله علـيه وأياديه عنده بخلافه علـيه فـيـما أمره به من السجود لاَدم, كما كفرت الـيهود نعم ربها التـي آتاها وآبـاءها قبل: من إطعام الله أسلافهم الـمنّ والسلوى, وإظلال الغمام علـيهم وما لا يحصى من نعمه التـي كانت لهم, خصوصا ما خصّ الذين أدركوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة الله علـيهم فجحدت نبوّته بعد علـمهم به, ومعرفتهم بنبوّته حسدا وبغيا. فنسبه الله جل ثناؤه إلـى الكافرين, فجعله من عدادهم فـي الدين والـملة, وإن خالفهم فـي الـجنس والنسبة, كما جعل أهل النفـاق بعضهم من بعض لاجتـماعهم علـى النفـاق, وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم, فقال: الـمُنافِقُونَ والـمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعنـي بذلك أن بعضهم من بعض فـي النفـاق والضلال, فكذلك قوله فـي إبلـيس: كانَ مِنَ الكَافِرِينَ كان منهم فـي الكفر بـالله ومخالفته أمره وإن كان مخالفـا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم. ومعنى قوله: وكانَ مِنَ الكَافِرينَ أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ.
وقد رُوي عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية أنه كان يقول فـي تأويـل قوله: وكانَ مِنَ الكافِرِينَ فـي هذا الـموضع وكان من العاصين.
469ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وكانَ مِنَ الكافِرِينَ يعنـي العاصين.
وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بـمثله.
وذلك شبـيه بـمعنى قولنا فـيه. وكان سجود الـملائكة لاَدم تكرمة لاَدم وطاعة لله, لا عبـادة لاَدم. كما:
470ـ حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَإذْ قُلْنَا للْـمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فكانت الطاعة لله, والسجدة لاَدم, أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته.
الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ }
قال أبو جعفر: وفـي هذه الآية دلالة واضحة علـى صحة قول من قال: إن إبلـيس أخرج من الـجنة بعد الاستكبـار عن السجود لاَدم, وأسكنها آدم قبل أن يهبط إبلـيس إلـى الأرض ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول: وَقُلْنَا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الـجَنةَ وكُلا مِنْهَا رَغدا حَيْثُ شِئْتُـمَا وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ فأزَلّهُما الشّيْطانُ عَنْها فأخْرَجَهُما مِـمّا كانا فِـيهِ. فقد تبـين أن إبلـيس إنـما أزلّهما عن طاعة الله, بعد أن لُعن وأظهر التكبر لأن سجود الـملائكة لاَدم كان بعد أن نفخ فـيه الروح, وحينئذٍ كان امتناع إبلـيس من السجود له, وعند الامتناع من ذلك حلت علـيه اللعنة. كما:
471ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: أن عدوّ الله إبلـيس أقسم بعزّة الله لـيغوينّ آدم وذريته وزوجه, إلا عبـاده الـمخـلصين منهم, بعد أن لعنه الله, وبعد أن أخرج من الـجنة, وقبل أن يهبط إلـى الأرض, وعلّـم الله آدم الأسماء كلها.
472ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما فرغ الله من إبلـيس ومعاتبته, وأبى إلا الـمعصية, وأوقع علـيه اللعنة, ثم أخرجه من الـجنة أقبل علـى آدم وقد علّـمه الأسماء كلها, فقال: يا آدَمُ أنْبئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ إلـى قوله: إنكَ أنْتَ العَلِـيـم الـحَكِيـم.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـحال التـي خـلقت لاَدم زوجته والوقت الذي جعلت له سكنا. فقال ابن عبـاس بـما:
473ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: فأخرج إبلـيس من الـجنة حين لعن, وأسكن آدم الـجنة, فكان يـمشي فـيها وَحْشا لـيس له زوج يسكن إلـيها. فنام نومة فـاستـيقظ, وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خـلقها الله من ضلعه, فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة, قال: ولـم خـلقت؟ قالت: تسكن إلـيّ. قالت له الـملائكة ينظرون ما بلغ علـمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء, قالوا: ولـم سميت حوّاء؟ قال: لأنها خُـلقت من شيء حيّ. فقال الله له: يا آدَمَ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الـجَنّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـمَا. فهذا الـخبر ينبىء عن أن حوّاء خـلقت بعد أن سكن آدم الـجنة فجُعلت له سكنا.
وقال آخرون: بل خـلقت قبل أن يسكن آدم الـجنة. ذكر من قال ذلك:
474ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق, قال: لـما فرغ الله من معاتبة إبلـيس أقبل علـى آدم وقد علـمه الأسماء كلها, فقال: يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمَائِهِمْ إلـى قوله: إنّكَ أَنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ. قال: ثم ألقـى السّنة علـى آدم فـيـما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلـم, عن عبد الله بن عبـاس وغيره ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لـحما وآدم نائم لـم يهبّ من نومته حتـى خـلق الله من ضلعه تلك زوجته حوّاء, فسوّاها امرأة لـيسكن إلـيها. فلـما كشف عنه السنة وهبّ من نومته رآها إلـى جنبه, فقال فـيـما يزعمون والله أعلـم: لـحمي ودمي وزوجتـي. فسكن إلـيها. فلـما زوّجه الله تبـارك وتعالـى وجعل له سكنا من نفسه, قال له, فتلا: يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَجُكَ الـجَنّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـمَا وَلاَ تَقْرَبـا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ.
قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل زوجه وزوجته, والزوجة بـالهاء أكثر فـي كلام العرب منها بغير الهاء, والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزد شنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فـيه بـين العرب فهو زوج الـمرأة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـمَا.
قال أبو جعفر: أما الرغد, فإنه الواسع من العيش, الهنـيء الذي لا يُعَنّـي صاحبه, يقال: أرغد فلان: إذا أصاب واسعا من العيش الهنـيء, كما قال امرؤ القـيس بن حجر:
بَـيْنَـمَا الـمَرْؤُ تَرَاهُ ناعِمايَأمَنُ الأحْدَاثَ فِـي عَيْش رَغَدْ
475ـ وحدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: وكُلاَ مِنْهَا رَغَدا قال: الرغد: الهنـيء.
476ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: رَغَدا قال: لا حساب علـيهم.
وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بزة, عن مـجاهد: وكُلا مِنْهَا رَغَدا أي لا حساب علـيهم.
477ـ وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وكُلا مِنْها رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـمَا قال: الرغد: سعة الـمعيشة.
فمعنى الآية: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الـجنة, وكلا من الـجنة رزقا واسعا هنـيئا من العيش حيث شئتـما. كما:
478ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: يا آدَم اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الـجَنّةَ وكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـما ثم إن البلاء الذي كتب علـى الـخـلق كتب علـى آدم كما ابتُلـي الـخـلق قبله أن الله جل ثناؤه أحلّ له ما فـي الـجنة أن يأكل منها رغدا حيث شاء غير شجرة واحدة نُهي عنها. وقدم إلـيه فـيها, فما زال به البلاء حتـى وقع بـالذي نُهي عنه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلاَ تَقْرَبـا هَذِهِ الشجرَةَ.
قال أبو جعفر: والشجر فـي كلام العرب: كل ما قام علـى ساق, ومنه قول الله جل ثناؤه: وَالنّـجمُ وَالشّجَرُ يَسْجُدَانِ يعنـي بـالنـجم: ما نـجم من الأرض من نبت. وبـالشجر: ما استقلّ علـى ساق.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي عين الشجرة التـي نُهي عن أكل ثمرها آدم, فقال بعضهم هي السنبلة. ذكر من قال ذلك:
479ـ حدثنـي مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي. قال: حدثنا عبد الـحميد الـحمانـي, عن النضر, عن عكرمة, عن ابن عبـاس قال: الشجرة التـي نُهي عن أكل ثمرها آدمُ هي السنبلة.
480ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, حدثنا هشيـم, وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمران بن عتـيبة جميعا, عن حصين, عن أبـي مالك فـي قوله: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: هي السنبلة.
وحدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قالا جميعا: حدثنا سفـيان عن حصين عن أبـي مالك, مثله.
481ـ وحدثنا أبو كريب وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت أبـي عن عطية فـي قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: السنبلة.
482ـ وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة قال: الشجرة التـي نُهي عنها آدم هي السنبلة.
483ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم. قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنـي رجل من بنـي تـميـم أن ابن عبـاس كتب إلـى أبـي الـجَلْد يسأله عن الشجرة التـي أكل منها آدم والشجرة التـي تاب عندها, فكتب إلـيه أبو الـجلد: سألتنـي عن الشجرة التـي نُهي عنها آدم, وهي السنبلة. وسألتنـي عن الشجرة التـي تاب عندها آدم, وهي الزيتونة.
وحدثنا ابن حميد. قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن رجل من أهل العلـم, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, أنه كان يقول: الشجرة التـي نُهي عنها آدم: البُرّ.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة. وابن الـمبـارك, عن الـحسن بن عمارة, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قال: كانت الشجرة التـي نُهي الله عنها آدم وزوجته السنبلة.
484ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة. عن ابن إسحاق, عن بعض أهل الـيـمن, عن وهب بن منبه الـيـمانـي أنه كان يقول: هي البرّ ولكن الـحبة منها فـي الـجنة ككُلَـى البقر ألـين من الزبد وأحلـى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البرّ.
485ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق, عن يعقوب بن عتبة: أنه حدث أنها الشجرة التـي تـحتكّ بها الـملائكة للـخُـلْد.
486ـ وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن يـمان عن جابر بن يزيد بن رفـاعة, عن مـحارب بن دثار قال: هي السنبلة.
487ـ وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن يزيد بن إبراهيـم, عن الـحسن, قال: هي السنبلة التـي جعلها الله رزقا لولده فـي الدنـيا.
قال أبو جعفر, وقال آخرون: هي الكرمة. ذكر من قال ذلك:
488ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الله, عن إسرائيـل, عن السدي, عمن حدثه, عن ابن عبـاس, قال: هي الكرمة.
489ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي, فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: هي الكرمة. وتزعم الـيهود أنها الـحنطة.
490ـ وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: الشجرة هي الكرم.
491ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, عن مغيرة, عن الشعبـي, عن جعدة بن هبـيرة, قال: هو العنب فـي قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ.
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنـي أبـي, عن خلاد الصفـار, عن بـيان, عن الشعبـي, عن جعدة بن هبـيرة: وَلا تَقْرَبـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: الكرم.
وحدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنـي الـحسين, قال: حدثنا خالد الواسطي, عن بـيان, عن الشعبـي, عن جعدة بن هبـيرة: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: الكرم.
492ـ وحدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبـي, عن جعدة بن هبـيرة, قال: الشجرة التـي نُهي عنها آدم: شجرة الـخمر.
493ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا عبـاد بن العوّام, قال: حدثنا سفـيان بن حسين, عن يعلـى بن مسلـم, عن سعيد بن جبـير قوله: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: الكرم.
وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن السدي, قال: العنب.
494ـ وحدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن قـيس, قال: عنب.
وقال آخرون: هي التّـينة. ذكر من قال ذلك:
495ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن بعض أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم قال: تـينة.
قال أبو جعفر: والقول فـي ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عبـاده أن آدم وزوجته أكلا من الشجرة التـي نهاهما ربهما عن الأكل منها, فأتـيا الـخطيئة التـي نهاهما عن إتـيانها بأكلهما ما أكلا منها, بعد أن بـين الله جل ثناؤه لهما عين الشجرة التـي نهاهما عن الأكل منها وأشار لهما إلـيها بقوله: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ. ولـم يضع الله جل ثناؤه لعبـاده الـمخاطبـين بـالقرآن دلالة علـى أيّ أشجار الـجنة كان نهيه آدم أن يقربها بنصّ علـيها بـاسمها ولا بدلالة علـيها. ولو كان لله فـي العلـم بأيّ ذلك من أيّ رضا لـم يُخْـلِ عبـادَه من نصب دلالة لهم علـيها يصلون بها إلـى معرفة عينها, لـيطيعوه بعلـمهم بها, كما فعل ذلك فـي كل ما بـالعلـم به له رضا.
فـالصواب فـي ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الـجنة دون سائر أشجارها, فخالفـا إلـى ما نهاهما الله عنه, فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علـم عندنا أيّ شجرة كانت علـى التعيـين, لأن الله لـم يضع لعبـاده دلـيلاً علـى ذلك فـي القرآن ولا فـي السنة الصحيحة, فأنى يأتـي ذلك من أتـى؟
وقد قـيـل: كانت شجرة البرّ. وقـيـل: كانت شجرة العنب. وقـيـل: كانت شجرة التـين. وجائز أن تكون واحدة منها, وذلك إن علـمه عالـم لـم ينفع العالـم به علـمه, وإن جهله جاهل لـم يضرّه جهله به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ.
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربـية فـي تأويـل قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ فقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: تأويـل ذلك: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ فإنكما إن قربتـماها كنتـما من الظالـمين. فصار الثانـي فـي موضع جواب الـجزاء, وجواب الـجزاء يعمل فـيه أوّله كقولك: إن تقم أقم, فتـجزم الثانـي بجزم الأول. فكذلك قوله: فتكونا لـما وقعت الفـاء فـي موضع شرط الأول نصب بها, وصيرت بـمنزلة «كي» فـي نصبها الأفعال الـمستقبلة للزومها الاستقبـال, إذ كان أصل الـجزاء الاستقبـال.
وقال بعض نـحويـي أهل البصرة: تأويـل ذلك: لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالـمين. غير أنه زعم أنّ «أن» غير جائز إظهارها مع «لا», ولكنها مضمرة لا بد منها لـيصح الكلام بعطف اسم وهي «أن» علـى الاسم, كما غير جائز فـي قولهم «عسى أن يفعل». عسى الفعل, ولا فـي قولك: «ما كان لـيفعل». ما كان لأن يفعل.
وهذا القول الثانـي يفسده إجماع جميعهم علـى تـخطئة قول القائل: سرّنـي تقوم يا هذا, وهو يريد: سرّنـي قـيامك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ علـى هذا الـمذهب قول القائل: لا تقم, إذا كان الـمعنى: لا يكن منك قـيام. وفـي إجماع جميعهم علـى صحة قول القائل: لا تقم, وفساد قول القائل: سرّنـي تقوم بـمعنى سرّنـي قـيامك, الدلـيـل الواضح علـى فساد دعوى الـمدعي أن مع «لا» التـي فـي قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ ضمير «أن», وصحة القول الاَخر.
وفـي قوله: فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ وجهان من التأويـل: أحدهما أن يكون «فتكونا» فـي نـية العطف علـى قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا فـيكون تأويـله حينئذ: ولا تقربـا هذه الشجرة, ولا تكونا من الظالـمين. فـيكون «فتكونا» حينئذ فـي معنى الـجزم مـجزوم بـما جزم به وَلاَ تَقْرَبَـا, كما يقول القائل: لا تكلـم عمرا ولا تؤذه, وكما قال امرؤ القـيس:
فَقُلْتُ لَهُ صَوّبْ وَلاَ تَـجْهَدَنّهُفَـيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ
فجزم «فـيذرك» بـما جزم به «لا تـجهدنه», كأنه كرر النهي.
والثانـي أن يكون: فتكونَا منَ الظالـمينَ بـمعنى جواب النهي, فـيكون تأويـله حينئذ: لا تقربـا هذه الشجرة, فإنكما إن قربتـماها كنتـما من الظالـمين كما تقول: لا تشتـم عمرا فـيشتـمك مـجازاة. فـيكون «فتكونا» حينئذ فـي موضع نصب إذ كان حَرْفَ عطف علـى غير شكله لـمّا كان فـي ولا تقْربَـا حرف عامل فـيه, ولا يصلـح إعادته فـي «فتكونا», فنصب علـى ما قد بـينت فـي أول هذه الـمسألة.
وأما تأويـل قوله: فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ فإنه يعنـي به فتكونا من الـمتعدّين إلـى غير ما أذن لهم وأبـيح لهم فـيه. وإنـما عنى بذلك أنكما إن قربتـما هذه الشجرة كنتـما علـى منهاج من تعدّى حدودي وعصى أمري واستـحلّ مـحارمي لأن الظالـمين بعضهم أولـياء بعض, والله ولـيّ الـمتقـين. وأصل الظلـم فـي كلام العرب وضع الشيء فـي غير موضعه ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان:
إلا أُلاوَارِيّ لأْيا ما أُبَـيّنُهاوَالنّؤْيُ كالـحَوْضِ بـالـمَظْلُومَةِ الـجَلَدِ
فجعل الأرض مظلومة, لأن الذي حفر فـيها النوى حفر فـي غير موضع الـحفر, فجعلها مظلومة لوضع الـحفرة منها فـي غير موضعها. ومن ذلك قول ابن قميئة فـي صفة غيث:
ظَلَـمَ البِطَاحَ بِها انْهلالُ حَرِيصَةٍفَصَفـا النّطافُ لَهُ بُعَيْدَ الـمُقْلَعِ
وظلـمه إياه: مـجيئه فـي غير أوانه, وانصبـابه فـي غير مصبه. ومنه: ظلـم الرجل جَزوره, وهو نـحره إياه لغير علة وذلك عند العرب: وضع النـحر فـي غير موضعه.
وقد يتفرع الظلـم فـي معان يطول بإحصائها الكتاب, وسنبـينها فـي أماكنها إذا أتـينا علـيها إن شاء الله تعالـى وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء فـي غير موضعه.
الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ }
قال أبو جعفر: اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك فقرأته عامتهم: فأزلّهما بتشديد اللام, بـمعنى استزلهما من قولك: زلّ الرجل فـي دينه: إذا هفـا فـيه وأخطأ فأتـى ما لـيس له إتـيانه فـيه, وأزلّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من آجله فـي دينه أو دنـياه. ولذلك أضاف الله تعالـى ذكره إلـى إبلـيس خروج آدم وزوجته من الـجنة فقال: فأخْرَجَهُما يعنـي إبلـيس مِـمّا كانا فِـيهِ لأنه كان الذي سبب لهما الـخطيئة التـي عاقبهما الله علـيها بإخراجهما من الـجنة.
وقرأه آخرون: «فأزالهما», بـمعنى إزالة الشيء عن الشيء, وذلك تنـحيته عنه.
وقد رُوي عن ابن عبـاس فـي تأويـل قوله فأزَلّهما ما:
496ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج: قال: قال ابن عبـاس فـي تأويـل قوله تعالـى: فأزَلّهُما الشّيطان قال: أغواهما.
وأولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ: فأزَلّهُما لأن الله جل ثناؤه قد أخبر فـي الـحرف الذي يتلوه بأن إبلـيس أخرجهما مـما كانا فـيه, وذلك هو معنى قوله فأزالهما, فلا وجه إذ كان معنى الإزالة معنى التنـحية والإخراج أن يقال: «فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مـما كانا فـيه», فـيكون كقوله: «فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مـما كانا فـيه», ولكن الـمعنى الـمفهوم أن يقال: فـاستزلهما إبلـيس عن طاعة الله, كما قال جل ثناؤه: فأزلّهُما الشّيْطانُ وقرأت به القراء, فأخرجهما بـاستزلاله إياهما من الـجنة.
فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبلـيس آدم وزوجته حتـى أضيف إلـيه إخراجهما من الـجنة؟ قـيـل: قد قالت العلـماء فـي ذلك أقوالاً سنذكر بعضها. فحكي عن وهب بن منبه فـي ذلك ما:
497ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرب, قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لـما أسكن الله آدم وذرّيته, أو زوجته, الشك من أبـي جعفر, وهو فـي أصل كتابه: وذرّيته ونهاه عن الشجرة, وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها فـي بعض, وكان لها ثمر تأكله الـملائكة لـخـلدهم, وهي الثمرة التـي نهى الله آدم عنها وزوجته. فلـما أراد إبلـيس أن يستزلهما دخـل فـي جوف الـحية, وكانت للـحية أربع قوائم كأنها بُخْتـية من أحسن دابة خـلقها الله. فلـما دخـلت الـحية الـجنة, خرج من جوفها إبلـيس, فأخذ من الشجرة التـي نهى الله عنها آدم وزوجته, فجاء بها إلـى حوّاء, فقال: انظري إلـى هذه الشجرة, ما أطيب ريحها, وأطيب طعمها, وأحسن لونها فأخذت حوّاء فأكلت منها, ثم ذهبت بها إلـى آدم, فقالت: انظر إلـى هذه الشجرة, ما أطيب ريحها, وأطيب طعمها, وأحسن لونها فأكل منها آدم, فبدت لهما سوآتهما, فدخـل آدم فـي جوف الشجرة, فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب, قال: ألا تـخرج: قال: أستـحيـي منك يا ربّ, قال: ملعونة الأرض التـي خـلقت منها لعنة يتـحوّل ثمرها شوكا. قال: ولـم يكن فـي الـجنة ولا فـي الأرض شجرة كان أفضل من الطلـح والسدر ثم قال: يا حوّاء أنت التـي غررت عبدي, فإنك لا تـحملـين حملاً إلا حملته كرها, فإذا أردت أن تضعي ما فـي بطنك أشرفت علـى الـموت مرارا. وقال للـحية: أنت التـي دخـل الـملعون فـي جوفك حتـى غرّ عبدي, ملعونة أنت لعنة تتـحوّل قوائمك فـي بطنك, ولا يكن لك رزق إلا التراب, أنت عدوة بنـي آدم وهم أعداؤك حيث لقـيت أحدا منهم أخذت بعقبه, وحيث لقـيك شدخ رأسك.
قال عمر: قـيـل لوهب: وما كانت الـملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء.
ورُوي عن ابن عبـاس نـحو هذه القصة.
498ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: لـما قال الله لاَدم: اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الـجَنّةَ وكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شئْتُـما وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِـمِينَ أراد إبلـيس أن يدخـل علـيهما الـجنة فمنعته الـخزنة, فأتـى الـحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير, وهي كأحسن الدوابّ, فكلـمها أن تدخـله فـي فمها حتـى تدخـل به إلـى آدم, فأدخـلته فـي فمها, فمرّت الـحية علـى الـخزنة فدخـلت ولا يعلـمون لـما أراد الله من الأمر, فكلـمه من فمها فلـم يبـال بكلامه, فخرج إلـيه فقال: يا آدم هَلْ أَدُلّكَ علـى شَجَرَةِ الـخُـلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَـى يقول: هل أدلك علـى شجرة إن أكلت منها كنت ملكا مثل الله عزّ وجل, أو تكونا من الـخالدين فلا تـموتان أبدا. وحلف لهما بـالله إنـي لَكُمَا لَـمِنَ النّاصِحِينَ. وإنـما أراد بذلك لـيبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما بهتك لبـاسهما. وكان قد علـم أن لهما سوأة لـما كان يقرأ من كتب الـملائكة, ولـم يكن آدم يعلـم ذلك, وكان لبـاسهما الظفر. فأبى آدم أن يأكل منها, فتقدمت حوّاء فأكلت, ثم قالت: يا آدم كل فإنـي قد أكلت فلـم يضرّنـي. فلـما أكل آدم بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهما وَطَفِقَا يَخْصِفـانِ عَلَـيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الـجَنّةِ.
499ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: حدثنـي مـحدّث أن الشيطان دخـل الـجنة فـي صورة دابة ذات قوائم, فكان يرى أنه البعير. قال: فلعن فسقطت قوائمه, فصار حية.
500ـ وحدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: وحدثنـي أبو العالـية أن من الإبل ما كان أولها من الـجنّ, قال: فأبـيحت له الـجنة كلها إلا الشجرة, وقـيـل لهما: لا تَقْرَبـا هذهِ الشّجرَةَ فتكُونا منَ الظالـمينَ قال: فأتـى الشيطان حوّاء فبدأ بها فقال: أنهيتـما عن شيء؟ قالت: نعم, عن هذه الشجرة. فقال: ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الـخالِدِينَ. قال: فبدأت حوّاء فأكلت منها, ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرة من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون فـي الـجنة حدث. قال: فأزَلّهُما الشّيْطَانُ عَنْها فأخْرجَهُما مِـمّا كانَا فِـيهِ قال: فـاخرج آدم من الـجنة.
501ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم: أن آدم حين دخـل الـجنة ورأى ما فـيها من الكرامة وما أعطاه الله منها, قال: لو أن خُـلْدا كان فـاغتنـمها منه الشيطان لـما سمعها منه, فأتاه من قِبَل الـخُـلْد.
502ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حدثت أن أوّل ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح علـيهما نـياحة أحزنتهما حين سمعاها, فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي علـيكما تـموتان فتفـارقان ما أنتـما فـيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك فـي أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إلـيهما, فقال: يا آدمَ هَلْ أدُلّكَ عَلـى شَجَرَةِ الـخُـلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَـى وقال: مَا نَهاكُما رَبّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الـخالِدِينَ وقاسَمَهُما إنّـي لَكُما لـمِنَ النّاصِحِينَ أي تكونا ملكين أو تـخـلدا إن لـم تكونا ملكين فـي نعمة الـجنة فلا تـموتان, يقول الله جل ثناؤه: فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ.
503ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلـى حوّاء فـي الشجرة حتـى أتـى بها إلـيها, ثم حسّنها فـي عين آدم. قال: فدعاها آدم لـحاجته, قالت: لا, إلا أن تأتـي ههنا. فلـما أتـى قالت: لا, إلا أن تأكل من هذه الشجرة, قال: فأكلا منها فبدت لـما سوآتهما. قال: وذهب آدم هاربـا فـي الـجنة, فناداه ربه: يا آدم أمنـي تفرّ؟ قال: لا يا ربّ, ولكن حياءً منك. قال: يا آدم أنّى أُتـيت؟ قال: من قبل حوّاء أي ربّ. فقال الله: فإن لها علـيّ أن أدميها فـي كل شهر مرة كما أدميت هذه الشجرة, وأن أجعلها سفـيهة, فقد كنت خـلقتها حلـيـمة, وأن أجعلها تـحمل كرها وتضع كرها, فقد كنت جعلتها تـحمل يسرا وتضع يسرا.
قال ابن زيد: ولولا البلـية التـي أصابت حوّاء لكان نساء الدنـيا لا يحضن, ولكنّ حلـيـمات, وكنّ يحملن يُسْرا ويضعن يُسْرا.
504ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن سعيد بن الـمسيب, قال: سمعته يحلف بـالله ما يستثنـي ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل, ولكن حوّاء سقته الـخمر حتـى إذا سكر قادته إلـيها فأكل.
505ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن لـيث بن أبـي سلـيـم, عن طاوس الـيـمانـي, عن ابن عبـاس, قال: إن عدوّ الله إبلـيس عرض نفسه علـى دوابّ الأرض أنها تـحمله حتـى يدخـل الـجنة معها, ويكلـم آدم وزوجته, فكل الدوابّ أبى ذلك علـيه, حتـى كلـم الـحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم, فأنت فـي ذمتـي إن أنت أدخـلتنـي الـجنة فجعلته بـين نابـين من أنـيابها, ثم دخـلت به. فكلـمهما من فـيها, وكانت كاسية تـمشي علـى أربع قوائم, فأعراها الله, وجعلها تـمشي علـى بطنها. قال: يقول ابن عبـاس: اقتلوها حيث وجدتـموها, اخفروا ذمة عدوّ الله فـيها.
506ـ وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرسون: إنـما كلّـم آدم الـحية, ولـم يفسروا كتفسير ابن عبـاس.
507ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن قـيس, قال: نهى الله آدم وحوّاء أن يأكلا من شجرة واحدة فـي الـجنة ويأكلا منها رغدا حيث شاآ. فجاء الشيطان فدخـل فـي جوف الـحية, فكلـم حواء, ووسوس الشيطان إلـى آدم, فقال: ما نَهاكُما رَبكُما عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلا أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الـخالِدِينَ وَقَاسَمَهُما إنّـي لَكُما لـمِنَ النّاصِحِينَ قال: فعضت حواء الشجرة, فدميت الشجرة وسقط عنهما رياشهما الذي كان علـيهما وَطَفِقا يَخْصِفـانِ عَلَـيْهِما منْ وَرَقِ الـجَنةِ وَنادَاهُما رَبهُما ألَـمْ أنْهَكُما عَنْ تلْكُما الشجَرَةِ وأقُلْ لَكُما إنّ الشّيْطانَ لَكُما عَدوّ مُبـينٌ لـم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا ربّ أطعمتنـي حوّاء. قال لـحوّاء: لـم أطعمته؟ قالت: أمرتنـي الـحية. قال للـحية: لـم أمرتها؟ قالت: أمرنـي إبلـيس. قال: ملعون مدحور أما أنت يا حوّاء فكما أدميت الشجرة فتَدْمين فـي كل هلال. وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتـمشين جريا علـى وجهك, وسيشدخ رأسك من لقـيك بـالـحجر اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ.
قال أبو جعفر: وقد رويت هذه الأخبـار عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم فـي صفة استزلال إبلـيس عدوّ الله آدم وزوجته حتـى أخرجهما من الـجنة.
وأولـى ذلك بـالـحقّ عندنا, ما كان لكتاب الله موافقا, وقد أخبر الله تعالـى ذكره عن إبلـيس أنه وسوس لاَدم وزوجته لـيبدي لهما ما وورى عنهما من سوآتهما, وأنه قال لهما: ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الـخالِدِينَ وأنه قاسمهما إنـي لكما لـمن الناصحين مدلّـيا لهما بغرور. ففـي إخبـاره جل ثناؤه عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقـيـله لهما: إنّـي لَكُما لـمِنَ الناصِحِينَ الدلـيـل الواضح علـى أنه قد بـاشر خطابهما بنفسه, إما ظاهرا لأعينهما, وإما مستـجنّا فـي غيره. وذلك أنه غير معقول فـي كلام العرب أن يقال: قاسم فلان فلانا فـي كذا وكذا, إذا سبب له سببـا وصل به إلـيه دون أن يحلف له. والـحلف لا يكون بتسبب السبب, فكذلك قوله: فوسوس إلـيه الشيطان, لو كان ذلك كان منه إلـى آدم علـى نـحو الذي منه إلـى ذريته من تزيـين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة بغير مبـاشرة خطابه إياه بـما استزله به من القول والـحيـل, لـما قال جل ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إنّـي لَكُمَا لَـمِنَ النّاصِحِينَ كما غير جائز أن يقول الـيوم قائل مـمن أتـى معصية: قاسمنـي إبلـيس أنه لـي ناصح فـيـما زين لـي من الـمعصية التـي أتـيتها, فكذلك الذي كان من آدم وزوجته لو كان علـى النـحو الذي يكون فـيـما بـين إبلـيس الـيوم وذرية آدم لـمّا قال جل ثناؤه: وَقَاسَمَهُما إنّـي لَكُما لَـمِنَ الناصِحِينَ ولكن ذلك كان إن شاء الله علـى نـحو ما قال ابن عبـاس ومن قال بقوله.
فأما سبب وصوله إلـى الـجنة حتـى كلـم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها, فلـيس فـيـما رُوي عن ابن عبـاس ووهب بن منبه فـي ذلك معنى يجوز لذي فهم مدافعته, إذ كان ذلك قولاً لا يدفعه عقلٌ ولا خبرٌ يـلزم تصديقه من حجة بخلافه, وهو من الأمور الـمـمكنة. والقول فـي ذلك أنه قد وصل إلـى خطابهما علـى ما أخبرنا الله جل ثناؤه, ومـمكن أن يكون وصل إلـى ذلك بنـحو الذي قاله الـمتأوّلون بل ذلك إن شاء الله كذلك لتتابع أقوال أهل التأويـل علـى تصحيح ذلك, وإن كان ابن إسحاق قد قال فـي ذلك ما:
508ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: قال ابن إسحاق فـي ذلك, والله أعلـم, كما قال ابن عبـاس وأهل التوراة: أنه خـلص إلـى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل الله له لـيبتلـي ب.ه آدم وذريته, وأنه يأتـي ابن آدم فـي نومته وفـي يقظته, وفـي كل حال من أحواله, حتـى يخـلص إلـى ما أراد منه حتـى يدعوه إلـى الـمعصية, ويوقع فـي نفسه الشهوة وهو لا يراه, وقد قال الله: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيْطانُ فأخْرَجُهُما مِـما كانا فِـيهِ. وقال: يا بَنِـي آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطانُ كَما أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الـجَنّةِ يَنْزِع عَنْهُما لِبـاسَهُما لِـيُريَهُما سوآتِهِما إنه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِـيـلُه مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنا جَعَلْنَا الشياطينَ أوْلِـياءَ للذينَ لا يُؤْمِنْونَ وقد قال الله لنبـيه علـيه الصلاة والسلام: قُلْ أعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مَلِكِ النّاسِ إلـى آخر السورة. ثم ذكر الأخبـار التـي رويت عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مـجرَى الدّمِ» قال ابن إسحاق: وإنـما أمر ابن آدم فـيـما بـينه وبـين عدوّ الله, كأمره فـيـما بـينه وبـين آدم, فقال الله: اهْبِطْ مِنْها فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِـيها فـاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ. ثم خـلص إلـى آدم وزوجته حتـى كلـمهما, كما قصّ الله علـينا من خبرهما, قال: فَوَسْوَسَ إلَـيْهِ الشّيْطَانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أدُلّكَ علـى شَجَرَةِ الـخُـلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَـى فخـلص إلـيهما بـما خـلص إلـى ذريته من حيث لا يريانه, والله أعلـم أيّ ذلك كان فتابـا إلـى ربهما.
قال أبو جعفر: ولـيس فـي يقـين ابن إسحاق لو كان قد أيقن فـي نفسه أن إبلـيس لـم يخـلص إلـى آدم وزوجته بـالـمخاطبة بـما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به ما يجوز لذي فهم الاعتراض به علـى ما ورد من القول مستفـيضا من أهل العلـم مع دلالة الكتاب علـى صحة ما استفـاض من ذلك بـينهم, فكيف بشكه؟ والله نسأل التوفـيق.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فأخْرَجَهُما مِـمّا كانا فِـيه.
قال أبو جعفر: وأما تأويـل قوله: فأخْرَجَهُما فإنه يعنـي: فأخرج الشيطان آدم وزوجته مـما كانا, يعنـي مـما كان فـيه آدم وزوجته من رغد العيش فـي الـجنة, وسعة نعيـمها الذي كانا فـيه. وقد بـينا أن الله جل ثناؤه إنـما أضاف إخراجهما من الـجنة إلـى الشيطان, وإن كان الله هو الـمخرج لهما لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان, وأضيف ذلك إلـيه لتسبـيبه إياه كما يقول القائل لرجل وصل إلـيه منه أذى حتـى تـحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه: ما حوّلنـي من موضعي الذي كنت فـيه إلا أنت, ولـم يكن منه له تـحويـل, ولكنه لـما كان تـحوّله عن سبب منه جاز له إضافة تـحويـله إلـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ.
قال أبو جعفر: يقال: هبط فلان أرض كذا ووادي كذا: إذا حلّ ذلك كما قال الشاعر:
ما زِلْتُ أرْمُقُهُمْ حَتّـى إذَا هَبَطَتْأيْدِي الرّكابِ بِهِمْ مِنْ رَاكسٍ فَلَقا
وقد أبـان هذا القول من الله جل ثناؤه عن صحة ما قلنا من أن الـمخرج آدم من الـجنة هو الله جلّ ثناؤه, وأن إضافة الله إلـى إبلـيس ما أضاف إلـيه من إخراجهما كان علـى ما وصفنا. ودل بذلك أيضا علـى أن هبوط آدم وزوجته وعدوّهما إبلـيس كان فـي وقت واحد. بجَمْعِ الله إياهم فـي الـخبر عن إهبـاطهم, بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته, وتسبب إبلـيس ذلك لهما, علـى ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى بقوله: اهْبِطُوا مع إجماعهم علـى أن آدم وزوجته مـمن عُنـي به.
509ـ فحدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن أبـي عوانة, عن إسماعيـل بن سالـم, عن أبـي صالـح: اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم, وحوّاء, وإبلـيس, والـحية.
510ـ حدثنا ابن وكيع وموسى بن هارون, قالا: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال: فلعن الـحية وقطع قوائمها وتركها تـمشي علـى بطنها وجعل رزقها من التراب, وأهبط إلـى الأرض آدم وحوّاء وإبلـيس والـحية.
511ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم, وإبلـيس, والـحية.
وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ آدم, وإبلـيس, والـحية, ذرية بعضهم أعداء لبعض.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم وذريته, وإبلـيس وذريته.
512ـ وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم بن أبـي إياس, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: بَعُضكُمْ لبَعْضٍ عَدُوّ قال: يعنـي إبلـيس, وآدم.
513ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, عن إسرائيـل, عن السدي, عمن حدثه عن ابن عبـاس فـي قوله: اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال: بعضهم عدوّ آدم, وحوّاء, وإبلـيس, والـحية.
وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن وهب, قال: حدثنـي عبد الرحمن بن مهديّ, عن إسرائيـل, عن إسماعيـل السدي, قال: حدثنـي من سمع ابن عبـاس يقول: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم, وحوّاء, وإبلـيس, والـحية.
514ـ وحدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال: لهما ولذرّيتهما.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بـين آدم وزوجته, وإبلـيس, والـحية؟ قـيـل: أما عداوة إبلـيس آدم وذرّيته, فحسده إياه, واستكبـاره عن طاعة الله فـي السجود له حين قال لربه: أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَـلَقْتَنِـي مِنْ نارٍ وَخَـلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. وأما عداوة آدم وذرّيته إبلـيس, فعداوة الـمؤمنـين إياه لكفره بـالله وعصيانه لربه فـي تكبره علـيه ومخالفته أمره وذلك من آدم ومؤمنـي ذرّيته إيـمان بـالله. وأما عداوة إبلـيس آدم, فكفر بـالله. وأما عداوة ما بـين آدم وذرّيته, والـحية, فقد ذكرنا ما رُوي فـي ذلك عن ابن عبـاس ووهب بن منبه, وذلك هي العداوة التـي بـيننا وبـينها, كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما سالَـمْنَاهُن مُنْذُ حارَبْناهُن فَمَنْ تَرَكَهُنّ خَشْيَةَ ثَأْرِهِن فَلَـيْسَ مِنّا».
515ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنـي حجاج بن رشد, قال: حدثنا حيوة بن شريح, عن ابن عجلان, عن أبـيه, عن أبـي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما سالَـمْناهُنّ مُنْدُ حارَبْناهُنّ, فَمَنْ تَرَكَ شَيْئا مِنْهُنّ خِيفَةً فَلَـيْسَ مِنّا».
قال أبو جعفر: وأحسب أن الـحرب التـي بـيننا كان أصله ما ذكره علـماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم فـي إدخالها إبلـيس الـجنة بعد أن أخرجه الله منها حتـى استزله عن طاعة ربه فـي أكله ما نهى عن أكله من الشجرة.
516ـ وحدثنا أبو كريب, قال حدثنا معاوية بن هشام, وحدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي, قال: حدثنـي آدم جميعا, عن شيبـان, عن جابر, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الـحيات, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُـلِقَتْ هِيَ وَالإنْسانُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدُوّ لِصَاحِبِهِ, إنْ رآها أفْزَعَتْه, وَإنْ لَذَغَتْه أوْجَعَتْه, فـاقْتُلْها حَيْثُ وَجَدْتَها».
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَكم فـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك. فقال بعضهم بـما:
517ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وَلَكُمْ فـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: هو قوله: الّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشا.
518ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَلَكُمْ فِـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: هو قوله: جَعَلَ لَكُم الأرْضَ قَرَارا.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم فـي الأرض قرار فـي القبور. ذكر من قال ذلك:
519ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَلَكُمْ فِـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ يعنـي القبور.
520ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنـي عبد الرحمن بن مهدي, عن إسرائيـل, عن إسماعيـل السدي, قال: حدثنـي من سمع ابن عبـاس قال: وَلَكُمْ فـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: القبور.
521ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَلَكُمْ فِـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: مقامهم فـيها.
قال أبو جعفر: والـمستقرّ فـي كلام العرب هو موضع الاستقرار. فإذا كان ذلك كذلك, فحيث كان من فـي الأرض موجودا حالاّ, فذلك الـمكان من الأرض مستقرّه.
إنـما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أن لهم فـي الأرض مستقرّا ومنزلاً بأماكنهم ومستقرّهم من الـجنة والسماء, وكذلك قوله وَمَتَاعٌ يعنـي به أن لهم فـيها متاعا بـمتاعهم فـي الـجنة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك فقال بعضهم: ولكم فـيها بلاغ إلـى الـموت. ذكر من قال ذلك:
522ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي قوله: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ قال يقول: بلاغ إلـى الـموت.
523ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيـل, عن إسماعيـل السدي, قال: حدثنـي من سمع ابن عبـاس: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ قال: الـحياة.
وقال آخرون: يعنـي بقوله: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ: إلـى قـيام الساعة. ذكر من قال ذلك:
524ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ قال: إلـى يوم القـيامة إلـى انقطاع الدنـيا.
وقال آخرون إلـى حين, قال: إلـى أجل. ذكر من قال ذلك:
525ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ قال: إلـى أجل.
والـمتاع فـي كلام العرب: كل ما استـمتع به من شيء من معاش استـمتع به أو رياش أو زينة أو لذّة أو غير ذلك. فإذا كان ذلك كذلك, وكان الله جل ثناؤه قد جعل حياة كل حيّ متاعا له يستـمتع بها أيام حياته, وجعل الأرض للإنسان متاعا أيام حياته بقراره علـيها, واغتذائه بـما أخرج الله منها من الأقوات والثمار, والتذاذه بـما خـلق فـيها من الـملاذ وجعلها من بعد وفـاته لـجثته كِفـاتا, ولـجسمه منزلاً وقرارا, وكان اسم الـمتاع يشمل جميع ذلك كان أولـى التأويلات بـالآية. إذْ لـم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالّة علـى أنه قصد بقوله: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ بعضا دون بعض, وخاصّا دون عام فـي عقل ولا خبر أن يكون ذلك فـي معنى العام, وأن يكون الـخبر أيضا كذلك إلـى وقت يطول استـمتاع بنـي آدم وبنـي إبلـيس بها, وذلك إلـى أن تبدّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولـى التأويلات بـالآية لـما وصفنا, فـالواجب إذا أن يكون تأويـل الآية: ولكن فـي الأرض منازل ومساكن, تستقرّون فـيها استقراركم كان فـي السموات, وفـي الـجنات فـي منازلكم منها, واستـمتاع منكم بها وبـما أخرجت لكم منها, وبـما جعلت لكم فـيها من الـمعاش والرياش والزّيْن والـملاذ, وبـما أعطيتكم علـى ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفـاتكم لأرماسكم وأجداثكم, تُدفنون فـيها وتبلغون بـاستـمتاعكم بها إلـى أن أبدّلكم بها غيرها.
الآية : 37
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ }
قال أبو جعفر: أما تأويـل قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ فقـيـل إنه أخذ وقبل, وأصله التفعل من اللقاء كما يتلقـى الرجل الرجل يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر, فكذلك ذلك فـي قوله: فَتَلَقّـى كأنه استقبله فتلقاه بـالقبول, حين أوحى إلـيه, أو أخبر به. فمعنى ذلك إذا: فلقّـى الله آدمَ كلـمات توبة فتلقاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبـا فتاب الله علـيه بقـيـله إياها وقبوله إياها من ربه. كما:
526ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ الآية, قال: لقاهما هذه الآية: ربنا ظلـمنا أنفسنا وإن لـم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الـخاسرين.
وقد قرأ بعضهم: «فَتَلَقّـى آدَمَ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٌ» فجعل الكلـمات هي الـمتلقـية آدم. وذلك وإن كان من وجهة العربـية جائزا إذ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له متلق وما لقـيه فقد لقـيه, فصار للـمتكلـم أن يوجه الفعْل إلـى أيهما شاء ويخرج من الفعل أيهما أحب, فغير جائز عندي فـي القراءة إلا رفع «آدم» علـى أنه الـمتلقـي الكلـمات لإجماع الـحجة من القراء وأهل التأويـل من علـماء السلف والـخـلف علـى توجيه التلقـي إلـى آدم دون الكلـمات, وغير جائز الاعتراض علـيها فـيـما كانت علـيه مـجمعة بقول من يجوز علـيه السهو والـخطأ.
واختلف أهل التأويـل فـي أعيان الكلـمات التـي تلقاها آدم من ربه, فقال بعضهم بـما:
527ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, عن قـيس, عن ابن أبـي لـيـلـى, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ فَتابَ عَلَـيْهِ قال: أي ربّ ألـم تـخـلقنـي بـيدك؟ قال: بلـى, قال: أي ربّ ألـم تنفخ فـيّ من روحك؟ قال: بلـى, قال: أي ربّ ألـم تسكنـي جنتك؟ قال: بلـى, أي ربّ ألـم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلـى, قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت أراجعي أنت إلـى الـجنة؟ قال: نعم. قال: فهو قوله: فَتَلَقّـى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ.
وحدثنـي علـيّ بن الـحسن, قال: حدثنا مسلـم, قال: حدثنا مـحمد بن مصعب, عن قـيس بن الربـيع, عن عاصم بن كلـيب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس نـحوه.
528ـ وحدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلـماتٍ فَتابَ عَلَـيْهِ قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه ربّ أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت؟ فقال له ربه: إنـي راجعك إلـى الـجنة.
529ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ منْ رَبّهِ كَلِـماتٍ ذكر لنا أنه قال: يا ربّ أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت؟ قال: إنـي إذا راجعك إلـى الـجنة. قال: وقال الـحسن إنهما قالا: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ.
530ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا أبو جعفر عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلـماتٍ قال: إن آدم لـما أصاب الـخطيئة, قال: يا ربّ أرأيت إن تبت وأصلـحت؟ فقال الله: إذا أرجعك إلـى الـجنة. فهي من الكلـمات. ومن الكلـمات أيضا: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخَاسِرِينَ.
531ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: ربّ ألـم تـخـلقنـي بـيدك؟ قـيـل له: بلـى, قال: ونفخت فـيّ من روحك؟ قـيـل له: بلـى, قال: وسبقت رحمتك غصبك؟ قـيـل له: بلـى, قال: ربّ هل كنت كتبت هذا علـيّ؟ قـيـل له: نعم, قال: ربّ إن تبت وأصلـحت هل أنت راجعي إلـى الـجنة؟ قـيـل له: نعم. قال الله تعالـى: ثُمّ اجْتَبـاهُ رَبهُ فَتابَ عَلَـيْهِ وَهَدَى.
وقال آخرون بـما:
532ـ حدثنا به مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن عبد العزيز بن رفـيع, قال: حدثنـي من سمع عبـيد بن عمير, يقول: قال آدم: يا ربّ خطيئتـي التـي أخطأتها أشيء كتبته علـيّ قبل أن تـخـلقنـي, أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بلـى شيء كتبته علـيك قبل أن أخـلقك. قال: فكما كتبته علـيّ فـاغفره لـي قال: فهو قول الله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كلِـماتٍ.
وحدثنا ابن سنان, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن عبد العزيز بن رفـيع, قال: أخبرنـي من سمع عبـيد بن عمير بـمثله.
وحدثنا ابن سنان, قال: حدثنا وكيع بن الـجرّاح, قال: حدثنا سفـيان, عن عبد العزيز بن رفـيع, عمن سمع عبـيد بن عمير يقول: قال آدم, فذكر نـحوه.
وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن عبد العزيز بن رفـيع, قال: أخبرنـي من سمع عبـيد الله بن عمير بنـحوه.
وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن عبد العزيز, عن عبـيد بن عمير بـمثله.
وقال آخرون بـما:
533ـ حدثنـي به أحمد بن عثمان بن حكيـم الأودي, قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن, عن حميد بن نبهان, عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية أنه قال: قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ فَتاب عَلَـيْهِ قال آدم: اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, أستغفرك وأتوب إلـيك, تب علـيّ إنك أنت التوّاب الرحيـم.
534ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو غسان, قال: أنبأنا أبو زهير, وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: أخبرنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان وقـيس جميعا عن خصيف, عن مـجاهد فـي قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال قوله: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسنَا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا حتـى فرغ منها.
535ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنـي شبل, عن ابن نـجيح, عن مـجاهد, كان يقول فـي قول الله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ الكلـمات: اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, ربّ إنـي ظلـمت نفسي فـاغفر لـي إنك خير الغافرين. اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, ربـي إنـي ظلـمت نفسي فـارحمنـي إنك خير الراحمين. اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, ربّ إنـي ظلـمت نفسي فتب علـيّ إنك أنت التوّاب الرحيـم.
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن النضر بن عربـي, عن مـجاهد: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: هو قوله: ربنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لـمْ تَغفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا الآية.
536ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: أي ربّ أتتوب علـيّ إن تبت؟ قال: نعم فتاب آدم, فتاب علـيه ربه.
537ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فَتَلَقّـى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: هو قوله: ربّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وإن لـمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخَاسِرِينَ.
538ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: هو قوله: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ.
وهذه الأقوال التـي حكيناها عمن حكيناها عنه وإن كانت مختلفة الألفـاظ, فإن معانـيها متفقة فـي أن الله جل ثناؤه لقّـى آدم كلـمات, فتلقاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن وتاب بقـيـله إياهن وعمله بهن إلـى الله من خطيئته, معترفـا بذنبه, متنصلاً إلـى ربه من خطيئته, نادما علـى ما سلف منه من خلاف أمره. فتاب الله علـيه بقبوله الكلـمات التـي تلقاهن منه وندمه علـى سالف الذنب منه.
والذي يدلّ علـيه كتاب الله أن الكلـمات التـي تلقاهن آدم من ربه هنّ الكلـمات التـي أخبر الله عنه أنه قالها متنصلاً بقـيـلها إلـى ربه معترفـا بذنبه, وهو قوله: رَبّنا ظَلَـمْنَا أَنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكونَن مِنَ الـخَاسِرِينَ ولـيس ما قاله من خالف قولنا هذا من الأقوال التـي حكيناها بـمدفوع قوله, ولكنه قول لا شاهد علـيه من حجة يجب التسلـيـم لها فـيجوز لنا إضافته إلـى آدم, وأنه مـما تلقاه من ربه عند إنابته إلـيه من ذنبه.
وهذا الـخبر الذي أخبر الله عن آدم من قـيـله الذي لقاه إياه فقاله تائبـا إلـيه من خطيئته, تعريف منه جل ذكره جميع الـمخاطبـين بكتابه كيفـية التوبة إلـيه من الذنوب, وتنبـيه للـمخاطبـين بقوله: كَيْفَ تَكْفُرونَ بـاللّهِ وكُنْتُـمْ أَمْوَاتا فأحْياكُمْ علـى موضع التوبة مـما هم علـيه من الكفر بـالله, وأن خلاصهم مـما هم علـيه مقـيـمون من الضلالة نظير خلاص أبـيهم آدم من خطيئته مع تذكيره إياهم من السالف إلـيهم من النعم التـي خصّ بها أبـاهم آدم وغيره من آبـائهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَتابَ عَلَـيْهِ.
قال أبو جعفر: وقوله: فَتابَ عَلَـيْهِ يعنـي علـى آدم, والهاء التـي فـي «علـيه» عائدة علـى «آدم». وقوله: فَتابَ عَلَـيْهِ يعنـي رزقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلـى الله والأوبة إلـى طاعته مـما يكره من معصيته.
قال أبو جعفر وتأويـل قوله: إنّهُ هُوَ التَوّابُ الرّحِيـمُ أن الله جل ثناؤه هو التواب علـى من تاب إلـيه من عبـاده الـمذنبـين من ذنوبه التارك مـجازاته بإنابته إلـى طاعته بعد معصيته بـما سلف من ذنبه.
وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلـى ربه: إنابته إلـى طاعته, وأوبته إلـى ما يرضيه بتركه ما يسخطه من الأمور التـي كان علـيها مقـيـما مـما يكرهه ربه, فكذلك توبة الله علـى عبده هو أن يرزقه ذلك, ويتوب من غضبه علـيه إلـى الرضا عنه, ومن العقوبة إلـى العفو والصفح عنه.
وأما قوله: الرّحِيـمُ فإنه يعنـي أنه الـمتفضل علـيه مع التوبة بـالرحمة, ورحمته إياه إقالة عثرته وصفحه عن عقوبة جرمه