تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 95 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 95

 {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَٰحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
. وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ قال بعض العلماء : المراد بالقصر في قوله : {أَن تَقْصُرُو} في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها ومعنى قصر كيفيتها أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن ، كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة ، ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى وكصلاتهم إيماء رجالاً وركبانًا وغير متوجهين إلى القبلة ، فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها .
قوله تعالىٰ بعده يليه مبينًا له : {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ} ، وقوله تعالىٰ : {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانً} ، ويزيده إيضاحًا أنه قال هنا : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُو} ، وقال في آية البقرة : {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} ؛ لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف .
وعلى هذا التفسير الذي دلّ له القرءان ، فشرط الخوف في قوله : {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُو} ، معتبر أي : وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها ، بل صلوها على أكمل الهيئات ، كما صرح به في قوله : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُو} ، وصرّح باشتراط الخوف أيضًا لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله : {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانً}، ثم قال : {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم} ، يعني : فإنه أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتكم بركوعها وسجودها ، وقيامها وقعودها ، على أكمل هيئة وأتمها ، وخير ما يبيّن القرءان القرءان ، ويدلّ على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا ، أن البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله : باب صلاة الخوف وقوله اللَّه تعالىٰ : {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ} ، وما ذكره ابن حجر وغيره من أن البخاري ساق الآيتين في الترجمة ليشير إلى خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولاً ، وبالسنة فعلاً ، لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُو} ، ويؤيّده أيضًا أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن ، كما وقع في حجة الوداع وغيرها ، وكما قال صلى الله عليه وسلم لأهل مكة : « أتموا فإنا قوم سفر » .
وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية : مجاهد ، والضحاك ، والسدي ، نقله عنهم ابن كثير وهو قول أبي بكر الرازي الحنفي . ونقل ابن جرير نحوه عن ابن عمر ولما نقل ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال : واعتضدوا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر» .
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد اللَّه بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيىٰ بن يحيىٰ وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا : « فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية ؟ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ}.
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ، ما رواه الإمام أحمد ، حدّثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمٰن عن زبيد اليامي ، عن عبد الرحمٰن بن أبي ليلى ، عن عمر رضي اللَّه عنه قال : « صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم » .
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه» من طرق عن زبيد اليامي به ، وهذا إسناد على شرط مسلم ، وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر ، وقد جاء مصرّحًا به في هذا الحديث وغيره وهو الصواب أن شاء اللَّه تعالىٰ ، وإن كان يحيىٰ بن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه .
وعلى هذا أيضًا فقال : فقد وقع في بعض طرق أبي يعلىٰ الموصليّ ، من طريق الثوري عن زبيد عن عبد الرحمٰن بن أبي ليلى ، عن الثقة عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيدعن عبد الرحمٰن عن كعب بن عجرة عن عمر ، فاللَّه أعلم .
وقد روى مسلم في «صحيحه» ، وأبو داود والنسائي ، وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد اللَّه اليشكري زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ ، كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عباس قال : « فرض اللَّه الصلاة على لسان نبيّكم محمّد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة فكما يصلّى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلّى في السفر» .
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه ، فهذا ثابت عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي اللَّه عنها ؛ لأنها أخبرت « أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع » ، كما قاله ابن عباس ، واللَّه أعلم .
ولكن اتّفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي اللَّه عنه واعلم أن حديث عائشة المذكور تكلم فيه من ثمان جهات :
الأولى : أنه معارض بالإجماع . قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه المسمى «بالقبس» .
قال علماؤنا هذا الحديث مردود بالإجماع .
الثانية : أنها هي خالفته ، والراوي من أعلم الناس بما روى فهي رضي اللَّه عنها كانت تتم في السفر ، قالوا : ومخالفتها لروايتها توهن الحديث .
الثالثة : إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم .
الرابعة : أن غيرها من الصحابة خالفها كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم فقالوا : « إن الصلاة فرضت في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة » ، وقد قدمنا رواية مسلم وغيره له عن ابن عباس .
الخامسة : دعوى أنه مضطرب ؛ لأنه رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت : « فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين » ، وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : « فرض اللَّه الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين » الحديث . قالوا : فهذا اضطراب .
السادسة : أنه ليس على ظاهره ؛ لأن المغرب ، والصبح لم يزد فيهما ، ولم ينقص .
السابعة : أنه من قول عائشة لا مرفوع .
الثامنة : قول إمام الحرمين : لو صح لنقل متواترًا .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : وهذه الاعتراضات الموردة على حديث عائشة المذكور كلها ساقطة ، أما معارضته بالإجماع فلا يخفى سقوطها ؛ لأنه لا يصح فيه إجماع وذكر ابن العربي نفسه الخلاف فيه .
وقال القرطبي بعد ذكر دعوى ابن العربي الإجماع المذكور قلت : وهذا لا يصح ، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع .
وأما معارضته بمخالفة عائشة له فهي أيضًا ظاهرة السقوط ؛ لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور ، وقد بينّاه في سورة «البقرة» في الكلام على حديث طاوس المتقدم في الطلاق .
وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم ، فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد ، والنية ، واحتجوا بحديث : « لا تختلفوا على إمامكم » وممن ذهب إلى ذلك الشعبي وطاوس وداود الظاهري وغيرهم .
وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها كابن عباس ، فجوابه ما قدمناه آنفًا عن ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال ابن عباس .
وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط ؛ لأنه ليس فيه اضطراب أصلاً ، ومعنى فرض اللَّه وفرض رسول اللَّه واحد ؛ لأن اللَّه هو الشارع والرسول هو المبيّن ، فإذا قيل فرض رسول اللَّه كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن اللَّه فلا ينافي أن اللَّه هو الذي فرض ذلك كما قال تعالىٰ : {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ} ، ونظيره حديث : «إن إبراهيم حرّم مكة » مع حديث : « إن مكة حرّمها اللَّه » الحديث .
وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضًا ؛ لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر ، مع أن بعض الروايات عن عائشة عند ابن خزيمة ، وابن حبان ، والبيهقي . قالت : « فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين ، فلما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زِيدَ في صلاة الحضر ركعتان ركعتان ، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب ؛ لأنها وتر النهار » وعند أحمد من طريق ابن كيسان في حديث عائشة المذكور « إلا المغرب فإنها كانت ثلاثًا » .
وهذه الروايات تبيّن أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر ، وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط ؛ لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع ،
ولو سلمنا أن عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم في زمنها معه ، ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل .
وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت لنقل متواترًا فهو ظاهر السقوط ؛ لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر ، فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن عائشة وابن عباس وعمر ـ رضي اللَّه عنهم فاعلم أن ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن عمر ، وابن عباس ، وعائشة قال ما نصه :
وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}، أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ؛ ولهذا قال: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُو} الآية . ولهذا قال بعدها : {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ} . فبيّن المقصود من القصر ها هنا ، وذكر صفته وكيفيته .اهـ محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جدًا فيما ذكرنا وهو اختيار ابن جرير .
وعلى هذا القول ، فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرءان ، وفي معنى الآية الكريمة أقوال أُخر:
أحدها : أن معنى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ} ، الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفًا من حديث ابن عباس عند مسلم ، والنسائي ، وأبي داود ، وابن ماجه ، وقدمنا أنه رواه ابن ماجه عن طاوس .
وقد روى نحوه أبو داود ، والنسائي من حديث حذيفة قال : « فصلّى بهؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة ولم يقضوا » ورواه النسائي أيضًا من حديث زيد بن ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة ، الثوري وإسحٰق ومن تبعهما . وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، والضحاك .
وقال بعضهم : يصلّى الصبح في الخوف ركعة ، وإليه ذهب ابن حزم ، ويحكى عن محمد بن نصر المروزي وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف .
قال أبو هريرة : وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف .
وعلى هذا القول ، فالقصر في قوله تعالىٰ : {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ} ، قصر كمية .
وقال جماعة : إن المراد بالقصر في قوله : {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ}، هو قصر الصلاة في السفر . قالوا : ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله : {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُو}؛ لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة .
وقد تقرر في الأصول ، أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب ، ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله : {ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ} ؛ لجريانه على الغالب .
قال في « مراقي السعود » : في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة :
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
واستدل من قال : إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في « صحيحه » ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة ، عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُو}، فقد أمن الناس، قال : عجبت ما عجبت منه ، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : « صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » . فهذا الحديث الثابت في « صحيح مسلم »، وغيره يدل على أن يعلى بن أمية ، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما ، كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أقر عمر على فهمه لذلك ، وهو دليل قوي ، ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال : « صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم » ويؤيده حديث عائشة ، وحديث ابن عباس المتقدمان .
وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية في صلاة الخوف ، كما قدمنا ، واللَّه تعالىٰ أعلم ، وهيئات صلاة الخوف كثيرة ، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة ، وتارة إلى غيرها ، والصلاة قد تكون رباعية ، وقد تكون ثلاثية ، وقد تكون ثنائية ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم القتال ، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالاً ، وركبانًا مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها ، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة ، وهيئاتها ، وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع ، وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء اللَّه .
أما مالك بن أنس ، فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلّي مع الإمام ركعة في الثنائية ، وركعتين في الرباعية والثلاثية ، ثم تتم باقي الصلاة ، وهو اثنتان في الرباعية ، وواحدة في الثنائية والثلاثية ، ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو ، وتأتي الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائمًا ينتظرهم ، وهو مخير في قيامه بين القراءة ، والدعاء ، والسكوت إن كانت ثنائية ، وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية ، وقيل : ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالسًا فيصلي بهم باقي الصلاة ، وهو ركعة في الثنائية ، والثلاثية ، وركعتان في الرباعية ، ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه ، وهو ركعة في الثنائية ، وركعتان في الرباعية والثلاثية . فتحصل أن هذه الصورة ، أنه يصلّي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين ، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ، ويقفون في وجه العدو ، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي ، ويسلم ويتمون لأنفسهم .
قال ابن يونس في هذه الصورة التي ذكرنا: وحديث القاسم أشبه بالقرءان، وإلى الأخذ به رجع مالك. اهـ.
قال مقيده عفا اللَّه عنه مراد ابن يونس ، أن الحديث الذي رواه مالك في « الموطأ »، عن يحيىٰ بن سعيد ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، بالكيفية التي ذكرنا ، هو الذي رجح إليه مالك ، ورجحه أخيرًا على ما رواه ، أعني مالكًا ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمّن صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف . الحديث ، والفرق بين رواية القٰسم بن محمد ، وبين رواية يزيد بن رومان ، أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وقد عرفت أن رواية القٰسم عند مالك في « الموطأ »، أنه يصلّي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم .
قال ابن عبد البرّ مشيرًا إلى الكيفية التي ذكرنا ، وهي رواية القاسم بن محمد ، عند مالك ، وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان ، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات : إن الإمام لا ينتظر المأموم ، وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام ، وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في (الموطأ) موقوف على سهل ، إلا أن له حكم الرفع ؛ لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي ؛ لأن سهلاً كان صغيرًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وجزم الطبري ، وابن حبان ، وابن السكن ، وغيرهم بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم توفِيِّ وسهل المذكور ابن ثمان سنين ، وزعم ابن حزم ، أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك ، ورواها في « موطئه » عن القٰسم بن محمد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف . قال أولاً : بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ، ثم تتم لأنفسها ، ثم تسلم ، ثم يصلّي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم ، ثم يسلم بها ورجع إلى أن الإمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى ، ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه ، كما بينّا .
والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات ، عمّن صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، الحديث ، أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي ، رضي اللَّه عنه ، لا سهل بن أبي حثمة ، كما قاله بعضهم .
قال الحافظ في « الفتح »: ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير ؛ لأن أبا أويس ، روى هذا الحديث ، عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال : عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، أخرجه ابن منده في « معرفة الصحابة » من طريقه ، وكذلك أخرجه البيهقي ، من طريق عبيد اللَّه بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، وجزم النووي في « تهذيبه » بأنه أبوه خوات ، وقال : إنه محقق من رواية مسلم وغيره ، قلت : وسبقه إلى ذلك الغزالي ، فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير .اهـ محل الغرض منه بلفظه .
ولم يفرّق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها ، وأما إذا اشتدّ الخوف والتحم القتال ، ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالاً وركبانًا إبماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، كما نصّ عليه تعالىٰ بقوله : {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانً} .
وأما الشافعي رحمه اللَّه فإنه اختار من هيئات صلاة الخوف أربعًا :
إحداها : هي التي ذكرنا آنفًا عند اشتداد الخوف والتحام القتال ، حتى لا يمكن لأحد منهم ترك القتال ، فإنهم يصلون كما ذكرنارجالاً وركبانًا إلخ الهيئة .
الثانية : هي التي صلاها صلى الله عليه وسلم ببطن نخل ، وهي أن يصلّي بالطائفة الأولى صلاتهم كاملة ثم يسلمون جميعهم : الإمام والمأمومون ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت في وجه العدو فيصلّي بهم مرة أخرى هي لهم فريضة وله نافلة ، وصلاة بطن نخله هذه رواها جابر وأبو بكرة ، فأما حديث جابر فرواه مسلم أنه صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين ثم صلّى بالطائفة الأخرى ركعتين ، فصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وصلّى بكل طائفة ركعتين .
وذكره البخاري مختصرًا ورواه الشافعي والنسائي وابن خزيمة من طريق الحسن عن جابر وفيه أنه سلم من الركعتين أولاً ثم صلّى ركعتين بالطائفة الأخرى .
وأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والدارقطني ، وفي رواية بعضهم أنها الظهر ، وفي رواية بعضهم أنها المغرب ، وإعلال ابن القطان لحديث أبي بكرة هذا بأنه أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة ، مردود بأنا لو سلمنا أنه لم يحضر صلاة الخوف فحديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لهم حكم الوصل كما هو معلوم ، واعلم أن حديث أبي بكرة ليس فيه أن ذلك كان ببطن نخل .
وقد استدل الشافعية بصلاة بطن نخل هذه على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل .
واعلم أن هذه الكيفية التي ذكرنا أنها هي كيفية صلاة بطن نخل كما ذكره النووي وابن حجر وغيرهما ، قد دلّ بعض الروايات عند مسلم والبخاري وغيرهما ، على أنهاهي صلاة ذات الرقاع ، وجزم ابن حجر بأنهما صلاتان ، واللَّه تعالىٰ أعلم .
وقد دلّ بعض الروايات على أن صلاة نخل هي صلاة عسفان ، واللَّه تعالىٰ أعلم .
الهيئة الثالثة : من الهيئات التي اختارها الشافعي : صلاة عسفان ، وكيفيتها كما قال جابر رضي اللَّه عنه قال : « شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فصفنا صفين ، صف خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والعدوّ بيننا وبين القبلة ، فكبّر النبيّ صلى الله عليه وسلم وكبّرنا جميعًا ثم ركع وركعنا جميعًا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا ، ثم انحذر بالسجود والصفّ الذي يليه ، وقام الصف المؤخّر في نحر العدو ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصفّ الذي يليه انحدر الصفّ المؤخر بالسجود وقاموا ، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم ، ثم ركع النبيّ صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعًا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه ، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ، ثم سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعًا » ، هذا لفظ مسلم في « صحيحه »، وأخرج النسائي والبيهقي من رواية ابن عباس ورواه أبو داود النسائي وابن حبان والحاكم من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت وهو صحابي .
وقول ابن حجر في « التقريب » في الكنى : إنه تابعي، الظاهر أنه سهو منه رحمه اللَّه ، وإنما قلنا : إن هذه الكيفية من الكيفيات التي اختارها الشافعي مع أنها مخالفة للصورة التي صحت عنه في صلاة عسفان ؛ لأنه أوصى على العمل بالحديث إذا صح ، وأنه مذهبه ، والصورة التي صحت عن الشافعي رحمه اللَّه في « مختصر المزني » « والأم » أنه قال : صلّى بهم الإمام وركع وسجد بهم جميعًا إلا صفًا يليه إو بعض صف ينتظرون العدو ، فإذا قاموا بعد السحدتين سجد الصف الذي حرسهم ، فإذا ركع ركع بهم جميعًا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولاً إلا صفًا أو بعض صف يحرسه منهم ، فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوا ثم يتشهدون ثم سلّم بهم جميعًا معًا ، وهذا نحو صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعسفان ، قال : ولو تأخر الصف الذي حرس إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرس فلا بأس. انتهى بواسطة نقل النووي .
والظاهر أن الشافعي رحمه اللَّه يرى أن الصورتين أعني : التي ذكرنا في حديث جابر وابن عباس وأبي عياش الزرقي والتي نقلناها عن الشافعي كلتاهما جائزة واتباع ما ثبت في الصحيح أحق من غيره ، وصلاة عسفان المذكورة صلاة العصر .
وقد جاء في بعض الروايات عند أبي داود وغيره أن مثل صلاة عسفان التي ذكرنا صلاّها أيضًا صلى الله عليه وسلم يوم بني سليم .
الرابعة : من الهيئات التي اختارها الشافعي رحمه اللَّه هي : صلاة ذات الرقاع ، والكيفية التي اختارها الشافعي منها هي التي قدمنا رواية مالك لها عن يزيد بن رومان ، وهي أن يصلّي بالطائفة الأولى ركعة ثم يفارقونه ويتمّون لأنفسهم ويسلّمون ، ويذهبون إلى وجوه العدو وهو قائم في الثانية يطيل القراءة حتى يأتي الآخرون فيصلي بهم الركعة الباقية ويجلس ينتظرهم حتى يصلوا ركعتهم الباقية ، ثم يسلّم بهم ، وهذه الكيفية قد قدمنا أن مالكًا رواها عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمّن صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، وأخرجها الشيخان من طريقه ، فقد رواه البخاري عن قتيبة عن مالك ومسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو ما ذكرنا ، وقد قدمنا أن مالكًا قال بهذه الكيفية أولاً ثم رجع عنها إلى أن الإمام يسلم ولا ينتظر إتمام الطائفة الثانية صلاتهم حتى يسلّم بهم . وصلاة ذات الرقاع لها كيفية أخرى غير هذه التي اختيار الشافعي وهي ثابتة في « الصحيحين » من حديث ابن عمر قال : صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم ، مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ثم صلّى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ركعة ، ثم سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة .
وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري بمعناه ، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا ، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب، وهوالراجح من حيث المعنى ؛ لأن إتمامهم في حالة واحدة يستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ، ويرجّحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه : ثم سلم فقام هؤلاء أي : الطائفة الثانية فصلّوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلّموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلّموا . وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها ، واعلم أن ما ذكره الرافعي وغيره من كتب الفقه من أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا مخالف للروايات الثابتة في « الصحيحين » وغيرهما.
وقال ابن حجر في (الفتح): إنه لم يقف عليه في شىء من الطرق ، وأما الإمام أحمد رحمه اللَّه فإن جميع أنواع صلاة الخوف الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم جائزة عنده ، والمختار منها عنده صلاة ذات الرقاع التي قدمنا اختيار الشافعي لها أيضًا ، وهي أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ثم يتمّون لأنفسهم ويسلّمون ويذهبون إلى وجوه العدو ؛ ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلّي بهم الركعة الأخرى ثم يصلّون ركعة فإذا أتموها وتشهدوا سلّم بهم .
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه فالمختار منها عنده ، أن الإمام يصلّي بالطائفة الأولى ركعة إن كان مسافرًا ، أو كانت صبحًا مثلاً ، واثنتين إن كان مقيمًا ، ثم تذهب هذه الطائفة الأولى إلى وجوه العدو ، ثم تجىء الطائفة الأخرى ويصلّي بهم ما بقي من الصلاة ويسلّم ، وتذهب هذه الطائفة الأخيرة إلى وجوه العدو ، وتجىء الطائفة الأولى ، وتتم بقيّة صلاتها بلا قراءة ؛ لأنهم لاحقون ، ثم يذهبون إلى وجوه العدو ، وتجىء الطائفة الأخرى فيتمّون بقية صلاتهم بقراءة ؛ لأنهم مسبوقون ، واحتجّوا لهذه الكيفية بحديث ابن عمر المتقدم وقد قدمنا أن هذه الكيفية ليست في رواية « الصحيحين » وغيرهما لحديث ابن عمر .
وقد قدمنا أيضًا من حديث ابن مسعود عند أبي داود أن الطائفة الأخرى لما صلّوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعة الأخرى أتمّوا لأنفسهم فوالوا بين الركعتين ، ثم ذهبوا إلى وجوه العدو فجاءت الطائفة الأولى فصلّوا ركعتهم الباقية ، هذا هو حاصل المذاهب الأربعة في صلاة الخوف .
وقال النووي في « شرح المهذب » صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على أصح الوجهين ؛ لأنها أعدل بين الطائفتين ؛ ولأنها صحيحة بالإجماع وتلك صلاة مفترض خلف متنفل وفيها خلاف للعلماء .والثاني ، وهو قول أبي إسحٰق صلاة بطن نخل أفضل لتحصل كل طائفة فضيلة جماعة تامة . واعلم أن الإمام في الحضرية يصلّي بكل واحدة من الطائفتين ركعتين ، وفي السفرية ركعة ركعة ، ويصلّى في المغرب بالأولى ركعتين عند الأكثر .
وقال بعضهم : يصلّي بالأولى في المغرب ركعة ، واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر ، وإن جزم جماعة كثيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع قبل خيبر ، والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع .
قال البخاري في « صحيحه »: حدثني محمد بن العلاء ، حدثنا أبو سامة ، حدثنا بريد بن عبد اللَّه عن أبي بردة ؛ عن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال : « بلغنا مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم ، أحدهما أبو بردة ، والآخر أبو رهم ، إما قال بضع ، وإما قال في ثلاثة وخمسين ، أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي ، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا ، فوافقنا النبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر » الحديث ... ، وفيه التصريح بأن قدوم أبي موسى حين افتتاح خيبر .
وقد قال البخاري أيضًا : حدّثنا محمد بن العلاء ، حدّثنا أبو أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بريدة عن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال : « خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري ، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع » الحديث . فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر ، وقد قال البخاري رحمه اللَّه : باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلاً وهي بعد خيبر ؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر الخ . وإنما بيّنا هذا ليعلم به أنه لا حجة في عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق على انهامشروعة في الحضر بدعوى أن ذات الرقاع قبل الخندق وأن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل غزوة الأحزاب التي هي غزوة الخندق ، وأنه صلى الله عليه وسلم ما تركها مع أنهم شغلوه وأصحابه عن صلاة الظهر والعصر إلى الليل إلا لأنها لم تشرع في الحضر ، بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق وأشار أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات الرقاع بقوله:
ثم إلى محارب وثعلبة ذات الرقاع ناهزوا المضاربة
ولم يكن حرب وغورث جرى بها له الذي لدعثور جرى
مع النبي وعلى المعتمد جرت لواحد بلا تعدد

والناظم هذا يرى أنها قبل خيبر تبعًا لابن سيد الناس ومن وافقه ، ومما اختلف فيه العلماء من كيفيات صلاة الخوف صلاة ذي قرد ، وهي أن تصلّى كل واحدة مع الإمام ركعة واحدة وتقتصر عليها ، وقد قدمنا ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه . ومن حديث حذيفة عند أبي داود ، والنسائي ، وهذه الكيفية هي التي صلاّها حذيفة بن اليمان لما قال سعيد بن العاص بطبرستان : أيّكم صلّى صلاة الخوف مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال حذيفة : أنا ، وصلّى بهم مثل ما ذكرنا كما أخرجه النسائي عنه ، وعن زيد بن ثابت ورواه أبو داود عن ثعلبة بن زهدم وهو الذي رواه من طريقه النسائي ، ولفظ أبي داود عن ثعلبة بن زهدم ، قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال : أيكم صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا .
قال أبو داود : وكذا رواه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ومجاهد عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعبد اللَّه بن شقيق عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويزيد الفقير وأبو موسى .
قال أبو داود : رجل من التابعين ليس بالأشعري جميعًا عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد قال بعضهم عن شعبة في حديث يزيد الفقير إنهم قضوا ركعة أخرى ، وكذلك رواه سماك الحنفي عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكذلك رواه زيد بن ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : فكانت للقوم ركعة ركعة ، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين .اهـ منه بلفظه .
وقال القرطبي في « تفسيره » ما نصّه : قال السدي إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام ، والقصر لا يحلّ إلاّ أن تخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئًا ؛ ويكون للإمام ركعتان ، وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد اللَّه وكعب وفعله حذيفة بطبرستان ، وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك ، وروي عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا ، وروي عن جابر بن عبد اللَّه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه كذلك يوم غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة ، وروى أبو هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك بين ضجنان وعسفان ، وبكون كل من الطائفتين تقتصر على ركعة واحدة .
قال أيضًا إسحٰق : وروي عن الإمام أحمد وجمهور العلماء على أن الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لا يجوز ، وأجابوا عن الأحاديث الواردة بذلك من وجهين :
الأول : أن المراد بقول الصحابة الذين رووا ذلك ولم يقضوا أنهم بعدما أمنوا وزال الخوف ، لم يقضوا تلك الصلاة التي صلّوها في حالة الخوف وتكون فيه فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضى ما صلّى على تلك الهيئة المخالفة لهيئة صلاة الأمن ولهذا القول له وجه من النظر .
الوجه الثاني : أن قولهم في الحديث ولم يقضوا ، أي في علم من روى ذلك ؛ لأنه قد روى أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها ، ورواية من زاد أولى قاله القرطبي وابن عبد البر ، ويدلّ له ما تقدم من رواية يزيد الفقير عن جابر من طريق شعبة عند أبي داود ، أنهم قضوا ركعة أخرى والمثبت مقدم على النافي ويؤيد هذه الرواية كثرة الروايات الصحيحة بعدم الاقتصار على واحدة في كيفيات صلاة الخوف ، واللَّه تعالىٰ أعلم .
وحاصل ما تقدم بيانه من كيفيات صلاة الخوف خمس ، وهي صلاة المسايفة الثابتة في صريح القرءان، وصلاة بطن نخل ، وصلاة عسفان ، وصلاة ذات الرقاع ، وصلاة ذي قرد . وقد أشار الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات قرد بقوله : فغزوة الغابة وهي ذو قرد خرج في إثر لقاحه وجد
وناشها سلمة بن الأكوع وهو يقول اليوم يوم الرضع
وفرض الهادي له سهمين لسبقه الخيل على الرجلين
واستنقذوا من ابن حصن عشرا وقسم النبيّ فيهم جزرا

وقد جزم البخاري في « صحيحه » بأن غزوة ذات قرد قبل خيبر بثلاثة ليال ،
وأخرج نحو ذلك مسلم في « صحيحه » عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : فرجعنا من الغزوة إلى المدينة ، فواللَّه ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر ، فما في الصحيح أثبت مما يذكره أهل السير مما يخالف ذلك ، كقول ابن سعد : إنها كانت في ربيع الأول سنة ستّ قبل الحديبية ، وكقول ابن إسحٰق : إنها كانت في شعبان من سنة ستّ بعد غزوة لحيان بأيام .
ومال ابن حجر في (فتح الباري) إلى الجمع بين ما في الحديث الصحيح وبين ما ذكره أهل السير بتكرر الخروج إلى ذي قرد ، وقرد بفتحتين في رواية الحديث وأهل اللغة يذكرون أنه بضم ففتح أو بضمتين ، وقد وردت صلاة الخوف على كيفيات أُخر غير ما ذكرنا .
قال ابن القصار المالكي : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاّها في عشرة مواضع .
وقال ابن العربي المالكي : روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلّى صلاة الخوف أربعًا وعشرين مرة .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : الذي يظهر واللَّه تعالىٰ أعلم ، أن أفضل الكيفيات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف ، ما كان أبلغ في الاحتياط للصلاة والتحفظ من العدوّ .
تنبيهــان
الأول : آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة ؛ لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم ؛ إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف ؛ لأنه عذر ظاهر .
الثاني : لا تختص صلاة الخوف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بل مشروعيتها باقية إلى يوم القيامة ، والاستدلال على خصوصها به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالىٰ : {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ} ، استدلال ساقط ، وقد أجمع الصحابة وجميع المسلمين على ردّ مثله في قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ} ، واشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم ، إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده ، والتقدير بيّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره ، وشذّ عن الجمهور أبو يوسف والمزني وقال بقولهما الحسن بن زياد واللؤلؤي وإبراهيم بن علية فقالوا : أن صلاة الخوف لم تشرع بعده صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله : {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ}، وردّ عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده صلى الله عليه وسلم ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، وعموم منطوق هذا الحديث مقدّم على ذلك المفهوم .
تنبيــه
قد قررتم ترجيح أن آية : {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ} ، في صلاة الخوف لا صلاة السفر ، وإذن فمفهوم الشرط في قوله : {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ}، يفهم منه أن صلاة الخوف لا تشرع في الحضر .
فالجواب : أن هذا المفهوم قال به ابن الماجشون ، فمنع صلاة الخوف في الحضر ، واستدلّ بعضهم أيضًا لمنعها فيه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّها يوم الخندق ، وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب ، وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّها إلاّ في سفر ، وجمهور العلماء على أنها تصلّى في الحضر أيضًا ، وأجابوا بأن الشرط لا مفهوم مخالفة له أيضًا ، لجريه على الغالب كما تقدم ، أو لأنه نزل في حادثة واقعة مبينًا حكمها .
كما روي عن مجاهد قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان ، فتوافقوا ، فصلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة تامّة بركوعها وسجودها ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم فنزلت ،
وهذه الحادثة وقعت وهم مسافرون ضاربون في الأرض ، وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون المنطوق نازلاً على حادثة واقعة ، ولذا لم يعتبر مفهوم المخالفة في قوله : {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّن} ، ولا في قوله : {لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} ؛ لأن كلاًّ منهما نزل على حادثة واقعة :
فالأول : نزل في إكراه ابن أبي جواريه على الزنا ، وهن يردن التحصن من ذلك .
والثاني : نزل في قوم من الأنصار والوا اليهود من دون المؤمنين ، فنزل القرءان في كل منهما ناهيًا عن الصورة الواقعة من غير إرادة التخصيص بها ، وأشار إليه في « المراقي » بقوله في تعداد موانع اعتبار مفهوم المخالفة : أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع

وأجابوا عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلّها يوم الخندق بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف ، كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي ، وبه تعلم عدم صحة قول من قال : إن غزوة ذات الرقاع التي صلّى فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، كانت قبل الخندق ، وأجابوا عن كونه لم يصلّها إلا في السفر ، بأن السفر بالنسبة إلى صلاة الخوف وصف طردي ، وعلّتها هي الخوف لا السفر ، فمتى وجد الخوف وجد حكمها ، كما هو ظاهر .
نكتــة
فإن قيل : لم لا تكون كل هيئة من هيئات صلاة الخوف ناسخة للتي قبلها ؛ لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث ، فالجواب من وجهين:
الأول : هو ما تقدم من أن العدو تارة يكونون إلى جهة القبلة وتارة إلى غير جهتها إلى آخر ما تقدم ، وكل حالة تفعل فيها الهيئة المناسبة لها كما هو ظاهر .
الثاني : هو ما حققه بعض الأصوليين كابن الحاجب والرهوني وغيرهما من أن الأفعال لا تعارض بينها أصلاً ، إذ الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيًا لا كليًّا حتى ينافي فعلاً آخر ، فليس للفعل الواقع قدر مشترك بينه وبين غيره ، فيجوز أن يقع الفعل واجبًا في وقت ، وفي وقت آخر بخلافه ، وإذن فلا مانع من جواز الفعلين المختلفين في الهيئة لعبادة واحدة وعقده في « مراقي السعود » بقوله : ولم يكن تعارض الأفعال في كل حالة من الأحوال

وما ذكره المحلي من دلالة الفعل على الجواز المستمر دون القول بحث فيه صاحب (نشر البنود) في شرح البيت المتقدم آنفًا ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة : {أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤ} ، معناه : ينالونكم بسوء . فروع تتعلق بهذه الآية الكريمة على القول بأنها في قصر الرباعية كما يفهم من حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عند مسلم وأحمد وأصحاب السنن كما تقدم .
الفرع الأول : أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعية في السفر خلافًا لمن شذ وقال : لا قصر إلا في حج أو عمرة ، ومن قال : لا قصر إلا في خوف ، ومن قال : لا قصر إلا في سفر طاعة خاصة ، فإنها أقوال لا معول عليها عند أهل العلم ، واختلف العلماء في الإتمام في السفر ، هل يجوز أو لا ؟ فذهب بعض العلماء إلى أن القصر في السفر واجب .
وممن قال بهذا القول : أبو حنيفة رحمه اللَّه وهو قول علي ، وعمر ، وابن عمر ، ويروى عن ابن عباس وجابر ، وبه قال الثوري وعزاه الخطابي في المعالم لأكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار ، ونسبه إلى علي وعمر وابن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن قال : وقال حماد بن أبي سليمان : يعيد من صلّى في السفر أربعًا .اهـ. منه بواسطة نقل الشوكاني رحمه اللَّه وحجة هذا القول الذي هو وجوب القصر ما قدمنا من الأحاديث عن عائشة ، وابن عباس ، وعمر رضي اللَّه عنهم بأن الصلاة فرضت ركعتين ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ، ودليل هؤلاء واضح ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الإتمام والقصر ، كما يجوز الصوم والإفطار ، إلا أنهم اختلفوا هل القصر أو الإتمام أفضل ؟ وبهذا قال عثمان بن عفان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة رضي اللَّه عنهم .
قال النووي في « شرح المهذب » وحكاه العبدري عن هؤلاء يعني من ذكرنا وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد وأبي ثور وداود ، وهو مذهب أكثر العلماء ، ورواه البيهقي عن سلمان الفارسي في اثني عشر من الصحابة . وعن أنس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمٰن بن الأسود وابن المسيب وأبي قلابة ، واحتجّ أهل هذا القول بأمور :
الأول : قوله تعالىٰ : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ} ؛ لأن التعبير برفع الجناح دليل لعدم اللزوم .
الأمر الثاني : هو ما قدمنا في حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في القصر في السفر : « صدقة تصدق اللَّه بها عليكم » الحديث ، فكونه صدقة وتخفيفًا يدلّ على عدم اللزوم .
الأمر الثالث : هو ما رواه النسائي والبيهقي والدارقطني عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها اعتمرت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأفطر هو صلى الله عليه وسلم وقصّر الصلاة وصامت هي وأتمت الصلاة ، فأخبرته بذلك ، فقال لها : « أحسنت » .
قال النووي في « شرح المهذب »: هذا الحديث رواه النسائي والدارقطني والبيهقي بإسناد حسن أو صحيح ، قال : وقال البيهقي في « السنن الكبرى ».
قال الدارقطني : إسناده حسن ، وقال في « معرفة السنن » والآثار : هو إسناد صحيح .
قال مقيده ـ عفا اللَّه عنه ـ : الظاهر أن ما جاء في هذا الحديث من أن عمرة عائشة المذكورة في رمضان لا يصح ؛ لأن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ؛ لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر :
الأولى : عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام ، عام ستّ .
الثانية : عمرة القضاء التي وقع عليها عقد الصلح في الحديبية ، وهي عام سبع .
الثالثة : عمرة الجعرانة بعد فتح مكة ، عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في شهر ذي القعدة بالإجماع وبالروايات الصحيحة .
الرابعة : عمرته مع حجة في حجة الوداع ، ورواية النسائي ليس فيها أن العمرة المذكورة في رمضان ولفظه : أخبرني أحمد بن يحيىٰ الصوفي ، قال : حدّثنا أبو نعيم ، قال : حدّثنا العلاء بن زهير الأزدي ، قال : حدّثنا عبد الرحمٰن بن الأسود عن عائشة : « أنها اعتمرت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول اللَّه ، بأبي أنت وأمي قصرتَ وأتممت وأفطرت وصمت . قال : « أحسنت يا عائشة »، وما عاب علي » .اهـ .
الأمر الرابع : ما روي عن عائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصّر في السفر ، ويتمّ ويفطر ويصوم .
قال النووي في « شرح المهذب »: رواه الدارقطني ، والبيهقي وغيرهما .
قال البيهقي : قال الدارقطني إسناده صحيح وضبطه ابن حجر في « التلخيص » بلفظ يقصر بالياء ، وفاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وتتم بتائين وفاعله ضمير يعود إلى عائشة فيكون بمعنى الحديث الأول ، ولكن جاء في بعض روايات الحديث التصريح بإسناد الإتمام المذكور للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
قال البيهقي : أخبرنا أبو بكر بن الحارث (الفقيه ، أنبأنا علي بن عمر الحافظ ، حدّثنا المحاملي ، حدّثنا سعيد بن محمد بن ثواب ، حدّثنا أبو عاصم ، حدّثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصّر في الصلاة ويتمّ ويفطر ويصوم . قال عليّ : هذا إسناد صحيح .اهـ .
قال البيهقي : وله شاهد من حديث دلهم بن صالح ، والمغيرة بن زياد ، وطلحة بن عمرو وكلهم ضعيف .
الخامس : إجماع العلماء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام ، ولو كان القصر واجبًا حتمًا لما جاز صلاة أربع خلف الإمام .
وأجاب أهل هذا القول عن حديث عمر وعائشة وابن عباس بأن المراد بكون صلاة السفر ركعتين أي : لمن أراد ذلك ، وعن قول عمر في الحديث : تمام غير قصر بأن معناه أنها تامة في الأجر قاله النووي ، ولا يخلو من تعسف وأجاب أهل القول الأول عن حجج هؤلاء قالوا : إن قوله تعالىٰ : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ} ، في صلاة الخوف كما قدمنا ، فلا دليل فيه لقصر الرباعية ، قالوا : ولو سلّمنا أنه في قصر الرباعية فالتعبير بلفظ {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، لا ينافي الوجوب كما اعترفتم بنظيره في قوله تعالىٰ : {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَ}، لأن السعي فرض عند الجمهور . وعن قوله في الحديث : « صدقة تصدّق اللَّه بها عليكم » ، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقبولها في قوله : « فاقبوا صدقته » ، والأمر يقتضي الوجوب فليس لنا عدم قبولها مع قوله صلى الله عليه وسلم : « فاقبلوها » ، وأجابوا عن الثالث والرابع بأن حديثي عائشة المذكورين لا يصح واحد منها واستدلّوا على عدم صحة ذلك بما ثبت في الصحيح عن عروة أنها تأولت في إتمامها ما تأول عثمٰن ، فلو كان عندها في ذلك رواية من النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل عنها عروة أنها تأولت .
وقال ابن القيم في «زاد المعاد» ما نصّه : وسمعت ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة لتصلّي بخلاف صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب ، كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض اللَّه وتخالف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وقال الزهري لهشام بن عروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ، فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال : تأوّلت كما تأوّل عثمان فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر ، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون . وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم ، فإنها أتمت كما أتمّ عثمٰن ، وكلاهما تأوّل تأويلاً . والحجّة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له ، واللَّه أعلم .اهـ. محل الغرض منه بلفظه .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : إما استبعاد مخالفة عائشة رضي اللَّه عنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته مع الاعتراف بمخالفتها له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ،
فإنه يوهم أن مخالفته بعد وفاته سائغة ، ولا شكّ أن المنع من مخالفته في حياته باق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، فلا يحلّ لأحد البتة مخالفة ما جاء به من الهدى إلى يوم القيامة : فعلاً كان أو قولاً أو تقريرًا ، ولا يظهر كل الظهور أن عائشة تخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاد ورواية من روى أنها تأولت تقتضي نفي روايتها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا في ذلك ، والحديث المذكور فيه إثبات أنها روت عنه ذلك ، والمثبت مقدم على النافي ، فبهذا يعتضد الحديث الذي صححه بعضهم وحسنه بعضهم كما تقدم .
والتحقيق أن سند النسائي المتقدم الذي روى به هذا الحديث صحيح ، وإعلال ابن حبان له بأن فيه العلاء بن زهير الأزدي ، وقال فيه : إنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به ، مردود بأن العلاء المذكور ثقة كما قاله ابن حجر في « التقريب » وغيره وإعلال بعضهم له بأن عبد الرحمٰن بن الأسود لم يدرك عائشة مردود بأنه أدركها .
قال الدارقطني وعبد الرحمٰن أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق وذكر الطحاوي عن عبد الرحمٰن أنه دخل على عائشة بالاستئذان بعد احتلامه ، وذكر صاحب « الكمال » أنه سمع منها ، وذكر البخاري في « تاريخه » وابن أبي شيبة ما يشهد لذلك ، قاله ابن حجر وإعلال الحديث المذكور بأنه مضطرب ؛ لأن بعض الرواة يقول عن عبد الرحمٰن بن الأسود عن أبيه عن عائشة ، وبعضهم يقول عن عبد الرحمٰن عن عائشة مردود أيضًا ، بأن رواية من قال عن أبيه خطأ والصواب عن عبد الرحمٰن بن الأسود عن عائشة .
قال البيهقي بعد أن ساق أسانيد الروايتين : قال أبو بكر النيسابوري : هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمٰن عن عائشة ، ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقط أخطأ .اهـ .
فالظاهر ثبوت هذا الحديث وهو يقوي حجة من لم يمنع إتمام الرباعية في السفر وهم أكثر العلماء ، وذهب الإمام مالك بن أنس إلى أن قصر الرباعية في السفر سنّة ، وأن من أتم أعاد في الوقت ؛ لأن الثابت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يواظب على القصر في أسفاره وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان في غير أيام منى ولم يمنع مالك الإتمام ؛ للأدلة التي ذكرنا والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
الفرع الثاني : اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة . فقال مالك والشافعي وأحمد : هي أربعة برد ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، وتقريبه بالزمان مسيرة يومين سيرًا معتدلاً ، وعندهم اختلاف في قدر الميل معروف واستدلّ من قال بهذا القول بما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللَّه عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك .
قال مالك : وذلك نحو من أربعة برد ، وريم موضع . قال بعض شعراء المدينة : فكم من حرة بين المنقى إلى أُحد إلى جنبات ريم

وبما رواه مالك عن نافع عن سالم بن عبد اللَّه ، أن عبد اللَّه بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك .
قال مالك : وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد ، وبما قال مالك : إنه بلغه أن عبد اللَّه بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف ، وفي مثل ما بين مكة وعسفان ، وفي مثل ما بين مكّة وجدّة .
قال مالك : وذلك أربعة برد وذلك أحب ما تقصر فيه الصلاة إليّ ، وبما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة . كل هذه الآثار المذكورة في « الموطأ » ، وممن قال بهذا ابن عمر وابن عباس كما ذكرناه عنهما .
وقال البخاري رحمه اللَّه في « صحيحه »: وكان ابن عمر وابن عباس رضي اللَّه عنهم يقصّران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستّة عشر فرسخًا .ا هـ. وبه قال الحسن البصري والزهري والليث بن سعد وإسحٰق وأبو ثور ، نقله عنهم النووي ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مسافة ثلاثة أيام ، وممن قال به أبو حنيفة ، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود ، وسويد بن غفلة ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن بن صالح ، والثوري ، وعن أبي حنيفة أيضًا يومان وأكثر الثالث ، واحتجّ أهل هذا القول بحديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الثابتين في الصحيح : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم » ، وبحديث : « مسح المسافر على الخفّ ثلاثة أيام ولياليهن » ، ووجه الاحتجاج بهذا الحديث الأخير أنه يقتضي أن كل مسافر يشرع له مسح ثلاثة أيام ولا يصح العموم في ذلك إلا إذا قدر أقلّ مدّة السفر بثلاثة أيام ؛ لأنها لو قدرت بأقل من ذلك لا يمكنه استيفاء مدته ؛ لانتهاء سفره فاقتضى ذلك تقديره بالثلاثة وإلا لخرج بعض المسافرين عنه .ا هـ.
والاستدلال بالحديثين غير ظاهر فيما يظهر لي ؛ لأن المراد بالحديث الأول : أن المرأة لا يحل لها سفر مسافة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ، وهذا لا يدلّ على تحديد أقل ما يسمى سفرًا ، ويدلّ له أنه ورد في بعض الروايات الصحيحة لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم .
وفي بعض الروايات الصحيحة : « لا يحلّ لإمرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة » ، وفي رواية لمسلم « مسيرة يوم »، وفي رواية له « ليلة » ، وفي رواية أبي داود لا « تسافر بريدًا »، ورواه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .
وقال البيهقي في « السنن الكبرى »: وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة ، وكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم : سئل عن المرأة تسافر ثلاثًا من غير محرم ، فقال : « لا »، وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم ، فقال : « لا »، ويومًا فقال : « لا » ، فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حدًّا للسفر . اهـ منه بلفظه .
فظهر من هذا أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لا سيما أن ابن عمر راويه قد خالفه كما تقدم ، والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى . وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضًا غير متجه ، لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيمًا وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لا بد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف مدة ثلاثة أيام ، فإن مكثها مسافرًا فذلك ، وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك ، وذهب جماعة من أهل العلم : إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام ، وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجّوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر ، وبما رواه مالك في « الموطأ » عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد اللَّه ، أن عبد اللَّه بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام ، وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة ؛ لأنه قال: « باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا وليلة سفرًا »؛ لأن قوله: وسمى النبيُّ الخ... بعد قوله: « في كم يقصر الصلاة » ، يدلّ على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر .
وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله ، وممن قال بهذا داود الظاهري ، قال عنه بعض أهل العلم : حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر ، واحتجّ أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة ، وبما رواه مسلم في « صحيحه » عن يحيىٰ بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، شعبة الشَّاك، صلّى ركعتين » ، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضًا في « الصحيح » عن جبير بن نفير قال : « خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلّى ركعتين فقلت له . فقال : رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين فقلت له ، فقال : إنما أفعل كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل » ، وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين ؛ لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر ، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرًا طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر ؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة ، وكذلك حديث شرحبيل المذكور . فقوله إن عمر رضي اللَّه عنه صلّى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرًا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلّى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره ، قاله النووي وغيره ، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم القصر صريحًا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي .
قال مقيده عفا اللَّه عنه قال ابن حجر في « تلخيص الحبير »: وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال : « كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة وسكت عليه » ، فإن كان صحيحًا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورًا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر ، والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح ، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولاً ، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ياأهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد » ضعيف ؛ لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك ، وكذبه الثوري .
وقال الأزدي : لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش ، وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي ، والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح ، ورواه عنه مالك في « الموطأ » بلاغًا ، وقد قدمناه .
والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط ، فكل ما كان يطلق عليه إسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه ؛ لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرًا ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أُحد ولم يقصر الصلاة ، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا ؟ فإن كان صحيحًا كان نصًّا قويًّا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة ، وقصر أهل مكّة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة ، وبعضهم يقول : القصر في مزدلفة ، ومنى ، وعرفات ، من مناسك الحجّ ، واللَّه تعالىٰ أعلم .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة ، هو قول من قال : إن كل ما يسمى سفرًا ولو قصيرًا تقصر فيه الصلاة ؛ لإطلاق السفر في النصوص ، ولحديثي مسلم المتقدمين ، وحديث سعيد بن منصور ، وروى ابن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن مسعر ، عن محارب ، سمعت ابن عمر يقول : « إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر » .
وقال الثوري : سمعت جبلة بن سحيم ، سمعت ابن عمر يقول : « لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة » .
قال ابن حجر في « الفتح » : إسناد كل منهما صحيح .اهـ والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
الفرع الثالث : يبتدىء المسافر القصر ، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله ، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر ، ولا في وسط البلد ، وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة ، وأكثر فقهاء الأمصار ، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة ، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد ، فلا يقصر حتى يجاوزها ، واستدل الجمهور ؛ على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد ، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض ، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله ، وذكر ابن المنذر ، عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلىّ بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد ، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال : وروينا معناه عن عطاء ، وسليمان بن موسى قال : وقال مجاهد : لا يقصر المسافر نهارًا حتى يدخل الليل ، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار ، وعن عطاء ، أنه قال : إذا جاوز حيطان داره فله القصر .
قال النووي : فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة ، حين خرج من المدينة ، ومذهب عطاء ، وموافقيه منابذ للسفر .اهـ. منه ، وهو ظاهر كما ترى .
الفرع الرابع : اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام ، فذهب مٰلك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد في إحدىٰ الروايتين إلى أنها أربعة أيام ، والشافعية يقولون : لا يحسب فيها يوم الدخول ، ولا يوم الخروج ، ومٰلك يقول : إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم .
وقال ابن القاسم : في العتيبة يلغى يوم دخوله ولا يحسبه ، والرواية المشهورة عن أحمد ، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة .
وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه : هي نصف شهر ، واحتجّ من قال بأنها أربعة أيام ، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي اللَّه عنه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : « ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر» ، هذا لفظ مسلم ، وفي رواية له عنه : « للمهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة » ، وفي رواية له عنه : « يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا » ، وأخرجه البخاري في المناقب ، عن العلاء بن الحضرمي أيضًا بلفظ : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « ثلاث للمهاجر بعد الصدر » اهـ . قالوا فإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في ثلاثة أيام يدلّ على أن من أقامها في حكم المسافر ، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام ، وبما أخرجه مالك في « الموطأ » بسند صحيح ، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز ، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرًا أن يقيم ثلاثًا » ، وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف ، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رخص لهم في الثلاث ؛ لأنها مظنة قضاء حوائجهم ، وتهيئة أحوالهم للسفر ، وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة أيام ، والاستدلال المذكور له وجه من النظر ؛ لأنه يعتضد بالقياس ؛ لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر ، ومن أقام أربعة أيام ، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه ، واحتجّ الإمام أحمد ، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر ، وابن عباس رضي اللَّه عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « قدم مكة في حجّة الوداع صبح رابعة ، فأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع ، والخامس ، والسادس ، والسابع ، وصلّى الفجر بالأبطح يوم الثامن ، فكان يقصّر الصلاة في هذه الأيام ، وقد أجمع على إقامتها ، وهي إحدى وعشرون صلاة ؛ لأنها أربعة أيام كاملة ، وصلاة الصبح من الثامن » ، قال : فإذا أجمع أن يقيم ، كما أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم قصّر ، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتمّ .
وروى الأثرم ، عن أحمد رحمه اللَّه أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس ، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجّة الوداع عشرًا يقصّر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه ، وأن أنسًا أراد مدة إقامته بمكّة ومنى ومزدلفة .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه ، ووضوح أنه الحق .
تنبيــه
حديث أنس هذا الثابت في الصحيح ، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضًا ، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : « أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر » ، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا ، وإن زدنا أتممنا ؛ لأن حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما في غزوة الفتح ، وحديث أنس ، في حجة الوداع ، وحديث ابن عباس ، محمول على أنه صلى الله عليه وسلم ، ما كان ناويًا الإقامة؛ والإقامة المجرّدة عن نيْة لا تقطع حكم السفر عند الجمهور ، واللَّه تعالىٰ أعلم .
واحتجّ أبو حنيفة رحمه اللَّه لأنها نصف شهر ، بما روى أبو داود من طريق ابن إسحٰق ، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : « أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكّة عام الفتح خمسة عشر ، يقصّر الصلاة » وضعف النووي في الخلاصة ، رواية خمسة عشر .
قال الحافظ ابن حجر في « الفتح »: وليس بجيد ؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد ابن إسحٰق ، فقد أخرجها النسائي ، من رواية عراك بن مالك ، عن عبيد اللَّه ، عن ابن عباس كذلك ، واختار أبو حنيفة رواية خمسة عشر ، عن رواية سبعة عشر ، ورواية ثمانية عشر ، ورواية تسعة عشر ؛ لأنها أقل ما ورد فيحمل غيرها على أنه وقع اتفاقًا ، وأرجح الروايات ، وأكثرها ورودًا في الروايات الصحيحة رواية تسعة عشر وبها أخذ إسحاق بن راهويه ، وجمع البيهقي بين الروايات ، بأن من قال : تسعة عشر ، عدّ يوم الدخول ، ويوم الخروج ، ومن قال : سبع عشرة حذفهما ، ومن قال : ثماني عشرة حذف أحدهما .
أما رواية خمسة عشر ، فالظاهر فيها أن الراوي ظن ، أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها ، يوم الدخول ، ويوم الخروج ، فصار الباقي خمسة عشر ، واعلم أن الإقامة المجردة عن النية فيها أقوال للعلماء :
أحدها : أنه يتم بعد أربعة أيام .
والثاني : بعد سبعة عشر يومًا .
والثالث : ثمانية عشر .
والرابع : تسعة عشر .
والخامس : عشرين يومًا .
والسادس : يقصر أبدًا حتى يجمع على الإقامة .
والسابع : للمحارب أن يقصر ، وليس لغيره القصر بعد إقامة أربعة أيام .
وأظهر هذه الأقوال أنه لا يقصر حتى ينوي الإقامة ولو طال مقامه من غير نية الإقامة ، ويدلّ له قصر النبيّ صلى الله عليه وسلم مدّة إقامته في مكة عام الفتح ، كما ثبت في الصحيح ، وما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي عن جابر قال : « أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة » . وقد صحح هذا الحديث النووي وابن حزم ، وأعلّه الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع ، وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيىٰ بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمٰن بن ثوبان مرسلاً ، وأن الأوزاعي رواه عن يحيىٰ عن أنس فقال : « بضع عشرة » وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف .
قال البيهقي بعد إخراجه له : ولا أراه محفوظًا ، وقد روي من وجه آخر عن جابر : « بضع عشرة » .اهـ. وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال : الصحيح عن الأوزاعي عن يحيىٰ أن أنسًا كان يفعله . قال ابن حجر : ويحيىٰ لم يسمع من أنس .
وقال النووي في « شرح المهذب »: قلت ورواية المسند تفرّد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، فالحديث صحيح ؛ لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند .اهـ. منه وعقده صاحب « المراقي » بقوله : والرفع والوصول وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ

الخ ...
واستدل أيضًا من قال بأن الإقامة المجردة عن النية لا تقطع حكم السفر بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن حصين رضي اللَّه عنهما قال : « غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكّة ثماني عشرة ليلة لا يصلّي إلا ركعتين يقول : (يا أهل البلدة صلوا أربعًا فإنا سفر » ، فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث « فإنا سفر » مع إقامته ثماني عشرة يدلّ دلالة واضحة على أن المقيم من غير نية الإقامة يصدق عليه إسم المسافر ، ويؤيّده حديث : « إنما الأعمال بالنيات » ، وهذا الحديث حسنه الترمذي ، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف .
قال ابن حجر : وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما علم من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق .اهـ. وعلي بن زيد المذكور أخرج له مسلم مقرونًا بغيره .
وقال الترمذي في حديثه في السفر : حسن صحيح، وقال : صدوق ربما رفع الموقوف ووثقه يعقوب بن شيبة .
وقال بعض أهل العلم : اختلط في كبره ، وقد روى عنه شعبة ، والثوري ، وعبد الوارث ، وخلق .
وقال الدارقطني : إنما فيه لين ، والظاهر أن قول الدارقطني هذا أقرب للصواب فيه ، لكن يتقى منه ما كان بعد الإختلاط .اهـ. إلى غير ذلك من الأدلّة على أن الإقامة دون نيتها لا تقطع حكم السفر ، « وقد أقام الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة » . رواه البيهقي بإسناد صحيح ، وتضعيفه بعكرمة بن عمار مردود بأن عكرمة المذكور من رجال مسلم في « صحيحه ».
وقد روى أحمد في « مسنده » عن ثمامة بن شراحيل عن ابن عمر أنه قال : « كنت بأذربيجان لا أدري قال : أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين » ، وأخرجه البيهقي .
وقال ابن حجر في « التلخيص » : إن إسناده صحيح .اهـ.
ومذهب مالك الفرق بين العسكر بدار الحرب فلا يقصر وبين غيره فيقصر بنية إقامة أربعة أيام صحاح .
الفرع الخامس : إذا تزوج المسافر ببلد أو مر على بلد فيه زوجته أتم الصلاة ؛ لأن الزوجة في حكم الوطن ، وهذا هو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ، وأحمد ، وبه قال ابن عباس : وروي عن عثمان بن عفان ، واحتجّ من قال بهذا القول بما رواه الإمام أحمد وعبد اللَّه بن الزبير الحميدي في « مسنديهما » عن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه أنه صلّى بأهل منى أربعًا وقال : يا أيها الناس ، لمّا قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : «إذا تأهل الرجل ببلده فإنه يصلّي بها صلاة المقيم » .
قال ابن القيم في « زادالمعاد » ، بعد أن ساق هذا الحديث : وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان ، يعني : فدي مخالفته النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في قصر الصلاة في منى ، وأعلّ البيهقي حديث عثمان هذا بانقطاعه وأن في إسناده عكرمة بن إبراهيم ، وهو ضعيف .
قال ابن القيم : قال أبو البركات بن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاري ذكره في « تاريخه » ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نصّ أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك وأصحابهما .اهـ. منه بلفظه .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : الذي يظهر لي ، واللَّه تعالىٰ أعلم ، أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان ، وعائشة في الإتمام في السفر أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة ، كما ثبت في « صحيح مسلم » «أنه صدقة تصدق اللَّه بها».اهـ. وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر ويدلّ لذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : « أنها كانت تصلّي أربعًا قال : فقلت لها : لو صلّيت ركعتين ، فقالت : يا ابن أختي إنه لا يشقّ عليّ » ، وهذا أصرح شىء عنها في تعيين ما تأوّلت به ، واللَّه أعلم .
الفرع السادس : لا يجوز للمسافر في معصية القصر ؛ لأن الترخيص له والتخفيف عليه إعانة له على معصيته ، ويستدلّ لهذا بقوله تعالىٰ : {فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} ، فشرط في الترخيص بالاضطرار إلى أكل الميتة كونه غير متجانف لإثم ، ويفهم من مفهوم مخالفته أن المتجانف لإثم لا رخصة له والعاصي بسفره متجانف لإثم ، والضرورة أشدّ في اضطرار المخمصة منها في التخفيف بقصر الصلاة ومنع ما كانت الضرورة إليه ألجأ بالتجانيف للإثم يدلّ على منعه به فيما دونه من باب أولى ، وهذا النوع من مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ عند الجمهور لا من القياس خلافًا للشافعي وقوم كما بينّاه مرارًا في هذا الكتاب وهو المعروف بإلغاء الفارق وتنقيح المناط ، ويسمّيه الشافعي القياس في معنى الأصل ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأحمد وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه اللَّه فقال : يقصّر العاصي بسفره كغيره لإطلاق النصوص ؛ ولأن السفر الذي هو مناط القصر ليس معصية بعينه ، وبه قال الثوري والأوزاعي، والقول الأول أظهر عندي ، واللَّه تعالىٰ أعلم .
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰباً مَّوْقُوتاً }
، إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰباً مَّوْقُوتاً ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابًا ، أي : شيئًا مكتوبًا عليهم واجبًا حتمًا موقوتًا ، أي : له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات ، ولكنه أشار لها في مواضع أُخر كقوله : {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً} ، فأشار بقوله : {لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ} وهو زوالها عن كبد السماء على التحقيق إلى صلاة الظهر والعصر ؛ وأشار بقوله : {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ} وهو ظلامه إلى صلاة المغرب والعشاء ؛ وأشار بقوله : {وَقُرْءانَ ٱلْفَجْرِ} إلى صلاة الصبح ، وعبّر عنها بالقرءان بمعنى القراءة ؛ لأنها ركن فيها من التعبير عن الشىء بإسم بعضه .
وهذا البيان أوضحته السنة إيضاحًا كليًا ، ومن الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلاة كما قاله جماعة من العلماء، قوله تعالىٰ : {فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، قالوا : المراد بالتسبيح في هذه الآية الصلاة ، وأشار بقوله : {حِينَ تُمْسُونَ} إلى صلاة المغرب والعشاء ، وبقوله : {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى صلاة الصبح ، وبقوله : {وَعَشِيّ} إلى صلاة العصر ، وبقوله : {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إلى صلاة الظهر . وقوله تعالىٰ : {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ} ، وأقرب الأقوال في الآية أنه أشار بطرفي النهار إلى صلاة الصبح أوله وصلاة الظهر والعصر آخره أي : في النصف الأخير منه وأشار بزلف من الليل إلى صلاة المغرب والعشاء .
وقال ابن كثير : يحتمل أن الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ، وكان الواجب قبلها صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس ، وصلاة قبل غروبها ، وقيام الليل ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس ، وعلى هذا فالمراد بطرفي النهار بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، والمراد بزلف من الليل قيام الليل . قال مقيده عفا اللَّه عنه : الظاهر أن هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ ابن كثير ـ رحمه اللَّه ـ بعيد ؛ لأن الآية نزلت في أبي اليسر في المدينة بعد فرض الصلوات بزمن فهي على التحقيق مشيرة لأوقات الصلاة ، وهي آية مدنية في سورة مكية وهذه تفاصيل أوقات الصلاة بأدلّتها المبيّنة لها من السنة ، ولا يخفى أن لكل وقت منها أولاً وآخرًا ، أما أول وقت الظهر فهو زوال الشمس عن كبد السماء بالكتاب والسنّة والإجماع ، أما الكتاب فقوله تعالىٰ : {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ} ، فاللام للتوقيت ودلوك الشمس زوالها عن كبد السماء على التحقيق .
وأما السنة فمنها حديث أبي برزة الأسلمي عند الشيخين كان : النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس ... الحديث ، ومعنى تدحض : تزول عن كبد السماء .
وفي رواية لمسلم : حين تزول ، وفي «الصحيحين» عن جابر رضي اللَّه عنه : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّى الظهر بالهاجرة ، وفي «الصحيحين» من حديث أنس رضي اللَّه عنه أنه خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر ، وفي حديث ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أمّني جبريل عند باب البيت مرّتين فصلّى بي الظهر حين زالت الشمس » الحديث ، أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد ، وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم في « المستدرك » ، وقال : هو حديث صحيح .
وقال الترمذي : حديث حسن ، فإن قيل في إسناده عبد الرحمٰن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، وعبد الرحمٰن بن أبي الزناد ، وحكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف وكلهم مختلف فيهم ، فالجواب : أنهم توبعوا فيه فقد أخرجه عبد الرزّاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه .
قال ابن دقيق العيد : هي متابعة حسنة ، وصححه ابن العربي ، وابن عبد البرّ ، مع أن بعض رواياته ليس في إسنادها عبد الرحمٰن بن أبي الزناد بل سفيان ، عن عبد الرحمٰن بن الحارث المذكور ، عن حكيم بن حكيم المذكور ، فتسلم هذه الرواية من التضعيف بعبد الرحمٰن بن أبي الزناد ، ومن هذه الطريق أخرجه ابن عبد البر ، وقال : إن الكلام في إسناده لا وجه له ، وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود ، وابن خزيمة ، والبيهقي ، وعن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « جاءه جبريل ، عليه السلام ، فقال له : « قم فصله » ، فصلّى الظهر حين زالت الشمس » الحديث ، أخرجه
الإمام أحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وابن حبان ، والحاكم .
وقال الترمذي : قال محمد : يعني البخاري ، حديث جابر ، أصحّ شىء في المواقيت .
قال عبد الحقّ : يعني في إمامة جبريل ، وهو ظاهر ، وعن بريدة رضي اللَّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « سأله رجل عن وقت الصلاة ، فقال : « صلّ معنا هذين اليومين » ، فلمّا زالت الشمس أمر بلالاً رضي اللَّه عنه فأذّن ثم أمره فأقام الظهر » . الحديث أخرجه مسلم في « صحيحه » ، وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي اللَّه عنه ـ « أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة ، إلى أن قال : ثم أمره ، فأقام بالظهر حين زالت الشمس ، والقائل يقول : قد انتصف النهار ، وهو كان أعلم منهم » الحديث ، رواه مسلم أيضًا ، والأحاديث في الباب كثيرة جدًا .
وأما الإجماع ، فقد أجمع جميع المسلمين على أن أول وقت صلاة الظهر هو زوال الشمس عن كبد السماء ، كما هو ضروري من دين الإسلام .
وأما آخر وقت صلاة الظهر ، فالظاهر من أدلة السنة فية ، أنه عندما يصير ظلّ كلّ شىء مثله من غير اعتبار ظلّ الزوال ، فإن في الأحاديث المشار إليها آنفًا ، أنه في اليوم الأول صلّى العصر عندما صار ظلّ كل شىء مثله في إمامة جبريل ، وذلك عند انتهاء وقت الظهر ، وأصرح شىء في ذلك ما أخرجه مسلم في« صحيحه» عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر » ، وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه إذا جاء وقت العصر ، فقد ذهب وقت الظهر ، والرواية المشهور عن مالك رحمه اللَّه تعالىٰ أن هذا الذي ذكرنا تحديده بالأدلّة ، هو وقت الظهر الاختياري ، وأن وقتها الضروري يمتدّ بالاشتراك مع العصر إلى غروب الشمس .
وروي نحوه عن عطاء ، وطاوس ، والظاهر أن حجّة أهل هذا القول الأدلّة الدالّة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت ، فمن حديث ابن عباس المشار إليه سابقًا « فصلّى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلّى فيه العصر في الأول » ، وعن ابن عباس أيضًا قال : « جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف ، ولا سفر » متفق عليه ، وفي رواية لمسلم : « من غير خوف ، ولا مطر » فاستدلوا بهذا على الاشتراك ، وقالوا أيضًا : الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني ، فينبغي أن يزاد في وقت الظهر .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : الظاهر سقوط هذا الاستدلال ، أما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس « فصلّى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلّى فيه العصر ، في اليوم الأول » فيجاب عنه بما أجاب به الشافعي رحمه اللَّه وهو أن معنى صلاته للظهر في اليوم الثاني فراغه منها ، كما هو ظاهر اللفظ ، ومعنى صلاته للعصر في ذلك الوقت ، في اليوم الأول ابتداء الصلاة ، فيكون قد فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني عند كون ظل الشخص مثله ، وابتدأ صلاة العصر في اليوم الأول عند كون ظل الشخص مثله أيضًا ، فلا يلزم الاشتراك ، ولا إشكال في ذلك ؛ لأن آخر وقت الظهر ، هو أول وقت العصر ، ويدل لصحة هذا الذي قاله الشافعي ، ما رواه مسلم في « صحيحه » من حديث أبي موسى رضي اللَّه عنه « وصلّى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس » ، فهو دليل صحيح واضح في أنه ابتدأ صلاة الظهر في اليوم الثاني قريبًا من وقت كون ظل الشخص مثله ، وأتمها عند كون ظله مثله كما هو ظاهر ، ونظير هذا التأويل الذي ذهب إليه الشافعي، قوله تعالىٰ : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} ( 56/2 ) ، وقوله تعالىٰ : {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} ( 2/ 232 ) ، فالمراد بالبلوغ الأول مقاربته ، وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل .
وأما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس ، المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم « جمع بالمدينة من غير خوف ، ولا سفر » ، فيجاب عنه بأنه يتعيّن حمله على الجمع الصوري جمعًا بين الأدلة ، وهو أنه صلّى الظهر في آخر وقتها حين لم يبق من وقتها إلا قدر ما تصلّى فيه ، وعند الفراغ منها دخل وقت العصر فصلاها في أوله ، ومن صلّى الظهر في آخر وقتها ، والعصر في أول وقتها كانت صورة صلاته صورة الجمع ، وليس ثم جمع في الحقيقة ؛ لأنه أدى كلاًّ من الصلاتين في وقتها المعين لها ، كما هو ظاهر ، وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء اللَّه .
وأما الاستدلال بأن الصلوات زيد فيها على بيان جبريل ، فهو ظاهر السقوط ؛ لأن توقيت العبادات توقيفي بلا نزاع ، والزيادة في الأوقات المذكورة ثبتت بالنصوص الشرعية .
وأما صلاة العصر ، فقد دلّت نصوص السنة على أن لها وقتًا اختياريًا ، ووقتًا ضروريًا ، أما وقتها الاختياري فأوله عندما يكون ظل كل شىء مثله من غير اعتبار ظل الزوال ، ويدخل وقتها بانتهاء وقت الظهر المتقدم بيانه ، ففي حديث ابن عباس المتقدم : « فصلّى العصر حين صار ظلّ كل شىء مثله » .
وفي حديث جابر المتقدم أيضًا : « فصلّى العصر حين صار ظلّ كل شىء مثله » ، وهذا هو التحقيق في أول وقت العصر ، كما صرّحت به الأحاديث المذكورة وغيرها .
وقال الشافعي : أول وقت العصر إذا صار ظلّ كل شىء مثله ، وزاد أدنى زيادة .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : إن كان مراد الشافعي أن الزيادة لتحقيق بيان انتهاء الظل إلى المثل إذ لا يتيقن ذلك إلا بزيادة ما كما قال به بعض الشافعية فهو موافق لما عليه الجمهور لا مخالف له ، وإن كان مراده غير ذلك فهو مردود بالنصوص المصرّحة بأن أوّل وقت العصر عندما يكون ظلّ الشىء مثله من غير حاجة إلى زيادة ، مع أن الظاهر إمكان تحقيق كون ظلّ الشىء مثله من غير احتياج إلى زيادة ما . وشذّ أبو حنيفة رحمه اللَّه من بين عامة العلماء فقال : يبقى وقت الظهر حتى يصير الظلّ مثلين ، فإذا زاد على ذلك يسيرًا كان أول وقت العصر .
ونقل النووي في « شرح المهذب » عن القاضي أبي الطيب أن ابن المنذر قال : لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة رحمه اللَّه وحجّته حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أوتي أهل التوراة التوارة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا ، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا ، ثم أُوتينا القرءان فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين . فقال أهل الكتاب : أي ربنا ، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا ونحن أكثر عملاً ؟ قال اللَّه تعالىٰ : (هل ظلمتكم من أجركم من شىء، قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء) متفق عليه . قال : فهذا دليل على أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر ومن حين يصير ظل الشىء مثله إلى غروب الشمس هو ربع النهار ، وليس بأقل من وقت الظهر ، بل هو مثله .
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المقصود من هذا الحديث ضرب المثل لا بيان تحديد أوقات الصلاة ، والمقصود من الأحاديث الدالة على انتهاء وقت الظهر عندما يصير ظلّ الشىء مثله هو تحديد أوقات الصلاة ، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها مع أن الحديث ليس فيه تصريح بأن أحد الزمنين أكثر من الآخر وإنما فيه أن عملهم أكثر ، وكثرة العمل لا تستلزم كثرة الزمن لجواز أن يعمل بعض الناس عملاً كثيرًا في زمن قليل ، ويدل لهذا أن هذه الأمة وضعت عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم .
قال ابن عبد البر : خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس ، وخالفه أصحابه ، فإذا تحققت أن الحق كون أول وقت العصر عندما يكون ظلّ كل شىء مثله ، من غير اعتبار ظل الزوال .
فاعلم ، أن آخر وقت العصر جاء في بعض الأحاديث تحديده بأن يصير ظل كل شىء مثليه ، وجاء في بعضها تحديده بما قبل اصفرار الشمس ، وجاء في بعضها امتداده إلى غروب الشمس ، ففي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيانه لآخر وقت العصر في اليوم الثاني ، ثم صلّى العصر حين كان ظل كل شىء مثليه ، وفي حديث عبد اللَّه بن عمر وعند مسلم وأحمد ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ، وفي حديث أبي موسى عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي ، ثم أخر العصر فانصرف منها ، والقائل يقول : احمرّت الشمس ، وروى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع نحوه من حديث بريدة الأسلمي ، وفي حديث عبد اللَّه بن عمر ، وعند مسلم ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول .
وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه : ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر .
والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات في تحديد آخر وقت العصر أن مصير ظل الشىء مثليه ، هو وقت تغيير الشمس من البياض والنقاء إلى الصفرة ، فيؤول معنى الروايتين إلى شىء واحد ، كما قاله بعض المالكية .
وقال ابن قدامة في « المغني »: أجمع العلماء على أن من صلّى العصر والشمس بيضاء نقية ، فقد صلاّها في وقتها ، وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبًا من الآخر . اهـ . منه بلفظه . وهذا هو انتهاء وقتها الاختياري .
وأما الروايات الدالّة على امتداد وقتها إلى الغروب ، فهي في حقّ أهل الأعذاء كحائض تطهر ، وكافر يسلم ، وصبي يبلغ ، ومجنون يفيق ، ونائم يستيقظ ، ومريض يبرأ ، ويدلّ لهذا الجمع ما رواه الإمام أحمد ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث أنس قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر اللَّه إلا قليلاً » . ففي الحديث دليل على عدم جواز تأخير صلاة العصر إلى الاصفرار فما بعده بلا عذر ، وأول وقت صلاة المغرب غروب الشمس ، أي : غيبوبة قرصها بإجماع المسلمين ، وفي حديث جابر وابن عباس في إمامة جبريل : « فصلّى المغرب حين وجبت الشمس » ، وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم « كان يصلّي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب » . أخرجه الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربع إلا النسائي ، والأحاديث بذلك كثيرة ، واختلف في آخر وقتها أعني المغرب ، فقال بعض العلماء : ليس لها إلا وقت واحد وهو قدر ما تصلّى فيه أول وقتها مع مراعاة الإتيان بشروطها ، وبه قال الشافعي : وهو مشهور مذهب مالك ، وحجّة أهل هذا القول أن جبريل صلاّها بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية في وقت صلاته لها في الأولى ، قالوا : فلو كان لها وقت آخر لأخرها في الثانية إليه كما فعل في جميع الصلوات غيرها .
والتحقيق أن وقت المغرب يمتد ما لم يغب الشفق . فقد أخرج مسلم في « صحيحه » من حديث عبد اللَّه بن عمرو المتقدم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق » الحديث . والمراد بثور الشفق : ثورانه وانتشاره ومعظمه ، وفي القاموس أنه حمرة الشفق الثائرة فيه ، وفي حديث أبي موسى المتقدم عند أحمد ومسلم وحديث بريدة المتقدم عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ، وفي لفظ : « فصلّى المغرب قبل سقوط الشفق » ، والجواب عن أحاديث إمامة جبريل حيث صلّى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز وهذا جار في كل الصلوات ما سوى الظهر .
والثاني : أنه متقدّم في أول الأمر بمكّة وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في آخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها .
والثالث : أن هذه الأحاديث أصحّ إسنادًا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها ، قاله الشوكاني رحمه اللَّه ولا خلاف بين العلماء في أفضلية تقديم صلاة المغرب عند أول وقتها ومذهب الإمام مالك رحمه اللَّه امتداد الوقت الضروري للمغرب بالاشتراك مع العشاء إلى الفجر .
وقال البيهقي في « السنن الكبرى »: روينا عن ابن عباس وعبد الرحمٰن بن عوف في المرأة تطهر قبل طلوع الفجر صلّت المغرب والعشاء ، والظاهر أن حجة هذا القول بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى طلوع الفجر كما هو مذهب مالك ما ثبت في الصحيح أيضًا من أنه صلى الله عليه وسلم « جمع بين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر » ، فقد روى الشيخان في « صحيحيهما » عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « صلّى بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء » ومعناه : أنه يصلّي السبع جميعًا في وقت واحد ، والثمان كذلك كما بيّنته رواية البخاري في باب «وقت المغرب» عن ابن عباس قال : صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم « سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا » .
وفي لفظ لمسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه : « جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر » ، قيل لابن عباس : ما أراد بذلك ؟ قال : أراد ألا يحرج أمته ، وبه تعلم أن قول مالك في (الموطأ) لعل ذلك لعلة المطر غير صحيح .
وفي لفظ أكثر الروايات من غير خوف ولا سفر . وقد قدّمنا أن هذا الجمع يجب حمله على الجمع الصوري لما تقرر في الأصول من أن الجمع واجب إذا أمكن ، وبهذا الحمل تنتظم الأحاديث ولا يكون بينها خلاف ، ومما يدلّ على أن الحمل المذكور متعيّن ، ما أخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ :
« صلّيت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا ، والمغرب والعشاء جميعًا ، أخّر الظهر وعجّل العصر ، وأخّر المغرب وعجّل العشاء » ، فهذا ابن عباس راوي حديث الجمع قد صرّح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري ، فرواية النسائي هذه صريحة في محل النزاع مبيّنة للإجمال الواقع في الجمع المذكور .
وقد تقرر في الأصول أن البيان بما سنده دون سند المبين جائز عند جماهير الأصوليين ، وكذلك المحدثون وأشار إليه في « مراقي السعود » بقوله في مبحث البيان : وبين القاصر من حيث السند أو الدلالة على ما يعتمد

ويؤيّده ما رواه الشيخان عن عمر وابن دينار ، أنه قال : « يا أبا الشعثاء ، أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر ، وأخّر المغرب وعجّل العشاء . قال : وأنا أظنه » ، وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس ، والراوي أدرى بما روى من غيره ؛ لأنه قد يعلم من سياق الكلام قرائن لا يعلمها الغائب ، فإن قيل ثبت في « صحيح البخاري » وغيره أن أيوب السختياني قال لأبي الشعثاء : لعلّ لك الجمع في ليلة مطيرة ، فقال أبو الشعثاء : عسى .
فالظاهر في الجواب واللَّه تعالىٰ أعلم ، أنا لم ندع جزم أبي الشعثاء بذلك ورواية الشيخين عنه بالظن ، والظن لا ينافي احتمال النقيض وذلك النقيض المحتمل هو مراده بعسى ، واللَّه تعالىٰ أعلم .
ومما يؤيّده الجمع المذكور على الجمع الصوري أن ابن مسعود وابن عمر رضي اللَّه عنهم كلاهما ممن روى عنه الجمع المذكور بالمدينة مع أن كُلاً منهما روى عنه ما يدل على أن المراد بالجمع المذكور الجمع الصوري .
أما ابن مسعود فقد رواه عنه الطبراني ، كما ذكره ابن حجر في « فتح الباري ».
وقال الشوكاني في « نيل الأوطار » : رواه الطبراني عن ابن مسعود في الكبير والأوسط كما ذكره الهيثمي في « مجمع الزوائد » بلفظ : « جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ، فقيل له في ذلك ، فقال : صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي » ، مع أن ابن مسعود روى عنه مالك في « الموطأ » والبخاري وأبو داود والنسائي ، أنه قال : « ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها » ، فنفي ابن مسعود للجمع المذكور يدلّ على أن الجمع المروي عنه الجمع الصوري ؛ لأن كلاًّ من الصلاتين في وقتها وإلا لكان قوله متناقضًا والجمع واجب متى ما أمكن .
وأما ابن عمر فقد روى عنه الجمع المذكور بالمدينة عبد الرزّاق كما قاله الشوكاني أيضًا مع أنه روى عنه ابن جرير أنه قال : « خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجّل العصر فيجمع بينهما ، ويؤخّر المغرب ويعجّل العشاء فيجمع بينهما » ، قاله الشوكاني أيضًا ، وهذا هو الجمع الصوري ، فهذه الروايات معينة للمراد بلفظ جمع .
واعلم أن لفظة جمع فعل في سياق الإثبات ، وقد قرر أئمة الأصول أن الفعل المثبت لا يكون عامًا في أقسامه .
قال ابن الحاجب في « مختصره الأصولي » في مبحث العام ، ما نصّه : الفعل المثبت لا يكون عامًا في أقسامه مثل صلّى داخل الكعبة فلا يعم الفرض والنفل إلى أن قال : وكان يجمع بين الصلاتين لا يعم وقتيهما وأما تكرر الفعل فمستفاد من قول الراوي : كان يجمع كقولهم كان حاتم يكرم الضيف ... الخ .
قال شارحه العضد ما نصه : وإذا قال كان يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء فلا يعمّ جمعهما بالتقديم في وقت الأولى ، والتأخير في وقت الثانية ، وعمومه في الزمان لا يدلّ عليه أيضًا ، وربما توهم ذلك من قوله كان يفعل ، فإنه يفهم منه التكرار ، كما إذا قيل : كان حاتم يكرم الضيف وهو ليس مما ذكرناه في شىء ؛ لأنه لا يفهم من الفعل ، وهو يجمع . بل من قول الراوي ، وهو كان ، حتى لو قال : جمع لزال التوهم ، انتهى محل الغرض منه بلفظه بحذف يسير لما لا حاجة إليه في المراد عندنا فقوله : حتى لو قال : جمع زال التوهم ، يدلّ على أن قول ابن عباس في الحديث المذكور جمع لا يتوهم فيه العموم ، وإذن فلا تتعين صورة من صور الجمع ، إلا بدليل منفصل .
وقد قدمنا الدليل على أن المراد الجمع الصوري .
وقال صاحب « جمع الجوامع » عاطفًا على ما لا يفيد العموم ما نصه: والفعل المثبت ، ونحو كان يجمع في السفر . قال شارحه صاحب « الضياء اللامع » ما نصّه : ونحو كان يجمع في السفر ، أي : بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، لا عموم له أيضًا ؛ لأنه فعل في سياق الثبوت فلا يعمّ جمعهما بالتقديم في وقت الأولى ، والتأخير إلى وقت الثانية ، بهذا فسر الرهوني كلام ابن الحاجب إلى أن قال : وإنما خصّ المصنف هذا الفعل الأخير بالذكر مع كونه فعلاً في سياق الثبوت ؛ لأن في كان معنى زائد ، وهو اقتضاؤها مع المضارع التكرار عرفًا فيتوهم منها العموم نحو كان حاتم يكرم الضيفان .
وبهذا صرح الفهري والرهوني وذكر ولي الدين عن الإمام في « المحصول » أنها لا تقتضي التكرار عرفًا ولا لغة .
قال ولي الدين والفعل في سياق الثبوت لا يعمّ كالنكرة المثبتة ، إلا أن تكون في معرض الامتنان كقوله تعالىٰ : {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُور} . اهـ . من « الضياء اللامع » لابن حلولو .
قال مقيده عفا اللَّه عنه وجه كون الفعل في سياق الثبوت لا يعمّ هو أن الفعل ينحلّ عند النحويين ، وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن وينحلّ عند جماعة من البلاغيين عن مصدر وزمن ونسبة ، فالمصدر كامن في معناه إجماعًا ، والمصدر الكامن فيه لم يتعرّف بمعّرف فهو نكرة في المعنى ومعلوم أن النكرة لا تعمّ في الإثبات وعلى هذا جماهير العلماء وما زعمه بعضهم من أن الجمع الصوري لم يرد في لسان الشارع ولا أهل عصره فهو مردود بما قدمنا عن ابن عباس عند النسائي وابن عمر عند عبد الرزاق ، وبما رواه أبو داود وأحمد والترمذي وصححاه والشافعي وابن ماجه والدارقطني والحاكم من حديث حمنة بنت جحش رضي اللَّه عنها « أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها وهي مستحاضة ،« فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلي حتى تطهري وتصلين الظهر والعصر جمعًا ، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الصبح » .
قال : وهذا أعجب الأمرين إليّ ، ومما يدلّ على أن الجمع المذكور في حديث ابن عباس جمع صوري ما رواه النسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء « أن ابن عباس صلّى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شىء والمغرب والعشاء ليس بينهما شىء فعل ذلك من شغل » ، وفيه رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية لمسلم من طريق عبد اللَّه بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم ، ثم جمع بين المغرب والعشاء وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه . انتهى من « فتح الباري » .
وما ذكره الخطابي وابن حجر في « الفتح » من أن قوله صلى الله عليه وسلم : « صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي » في حديث ابن عباس وابن مسعود المتقدمين يقدح في حمله على الجمع الصوري ؛ لأن القصد إليه لا يخلو من حرج ، وأنه أضيق من الإتيان بكل صلاة في وقتها ؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما يصعب إدراكه على الخاصة فضلاً عن العامة ، يجب عنه بما أجاب به العلامة الشوكاني رحمه اللَّه في « نيل الأوطار » وهو أن الشارع صلى الله عليه وسلم ، قد عرّف أمته أوائل الأوقات وأواخرها وبالغ في التعريف والبيان ، حتى إنه عينها بعلامات حسية لا تكاد تلتبس على العامة فضلاً عن الخاصة ، والتخفيف في تأخير إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها ، وفعل الأخرى في أول وقتها متحقق بالنسبة إلى فعل كل واحدة منهما في أول وقتها ، كما كان ديدنه صلى الله عليه وسلم ، حتى قالت عائشة رضي اللَّه عنها : « ما صلّى صلاة لآخر وقتها مرتين حتى قبضه اللَّه » ، ولا يشكّ منصف أن فعل الصلاتين دفعة والخروج إليهما مرة أخف من صلاة كل منهما في أول وقتها .
وممن ذهب إلى أن المراد بالجمع المذكور الجمع الصوري ابن الماجشون والطحاوي وإمام الحرمين والقرطبي ، وقوّاه ابن سيد الناس . بما قدمنا عن أبي الشعثاء ، ومال إليه بعض الميل النووي في « شرح المهذب » في باب « المواقيت من كتاب الصلاة » ، فإن قيل : الجمع الصوري الذي حملتم عليه حديث ابن عباس هو فعل كل واحدة من الصلاتين المجموعتين في وقتها وهذا ليس برخصة ، بل هو عزيمة فأي فائدة إذن في قوله صلى الله عليه وسلم : « لئلا تحرج أمتي » ، مع كون الأحاديث المعينة للأوقات تشمل الجمع الصوري ، وهل حمل الجمع على ما شملته أحاديث التوقيت إلا من باب الاطراح لفائدته وإلغاء مضمونه ، فالجواب ، هو ما أجاب به العلاّمة الشوكاني رحمه اللَّه أيضًا ، وهو أنه لا شك أن الأقوال الصادرة منه صلى الله عليه وسلم ، في أحاديث توقيت الصلوات شاملة للجمع الصوري كما ذكره المعترض ، فلا يضح أن يكون رفع الحرج منسوبًا إليها ، بل هو منسوب إلى الأفعال ليس إلا لما عرفناك من أنه صلى الله عليه وسلم ما صلّى صلاة لآخر وقتها مرتين ، فربما ظن ظان أن فعل الصلاة في أول وقتها متحتم لملازمته صلى الله عليه وسلم ، لذلك طول عمره فكان في جمعه جمعًا صوريًا تخفيف وتسهيل على من اقتدى بمجرد الفعل .
وقد كان اقتداء الصحابة بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، ولهذا امتنع الصحابة رضي اللَّه عنهم من نحر بدنهم يوم الحديبية بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم ، بالنحر حتى دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة مغمومًا فأشارت عليه بأن ينحر ويدعو الحلاق يحلق له ففعل ، فنحروا جميعًا وكادوا يهلكون غمًا من شدة تراكم بعضهم على بعض حال الحلق ، ومما يؤيد أن الجمع المتنازع فيه لا يجوز لغير عذر ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر » ، وفي إسناده حنس بن قيس وهو ضعيف .
ومما يدلّ على ذلك أيضًا ما قاله الترمذي ، في آخر « سننه » في كتاب العلل منه ، ولفظه جميع ما في كتابي هذا من الحديث معمول به ، وبه أخذ بعض أهل العلم ، ما خلا حديثين : حديث ابن عباس « أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة ، والمغرب والعشاء من غير خوف ، ولا سفر » الخ . وبه تعلم أن الترمذي يقول : إنه لم يذهب أحد من أهل العلم إلى العمل بهذا الحديث في جمع التقديم أو التأخير ، فلم يبقَ إلا الجمع الصوري ، فيتعين .
قال مقيده عفا اللَّه عنه روي عن جماعة من أهل العلم أنهم أجازوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا ، لكن بشرط ألاّ يتخذ ذلك عادة ، منهم: ابن سيرين ، وربيعة ، وأشهب ، وابن المنذر ، والقفال الكبير .
وحكاه الخطابي ، عن جماعة من أصحاب الحديث، قال ابن حجر ، وغيره وحجّتهم ما تقدّم في الحديث من قوله : « لئلا تحرج أمتي » ، وقد عرفت مما سبق أن الأدلّة تعين حمل ذلك على الجمع الصوري ، كما ذكر ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
تنبيــه
قد اتّضح من هذه الأدلّة التي سقناها ، أن الظهر لا يمتدّ لها وقت إلى الغروب ، وأن المغرب لا يمتدّ لها وقت إلى الفجر ، ولكن يتعين حمل هذا الوقت المنفي بالأدلة على الوقت الاختياري ، فلا ينافي امتداد وقت الظهر الضروري إلى الغروب ، ووقت المغرب الضروري إلى الفجر ، كما قاله مالك رحمه اللَّه لقيام الأدلة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت عند الضرورة ، وكذلك المغرب والعشاء ، وأوضح دليل على ذلك جواز كل من جمع التقديم ، وجمع التأخير في السفر ، فصلاة العصر مع الظهر عند زوال الشمس دليل على اشتراكها مع الظهر في وقتها عند الضرورة ، وصلاة الظهر بعد خروج وقتها في وقت العصر في جمع التأخير دليل على اشتراكها معها في وقتها عند الضرورة أيضًا ، وكذلك المغرب والعشاء ، أما جمع التأخير بحيث يصلّي الظهر في وقت العصر والمغرب في وقت العشاء ، فهو ثابت في الروايات المتفق عليها . فقد أخرج البخاري في « صحيحه » من حديث أنس بن مٰلك رضي اللَّه عنه قال :« كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخّر الظهر إلى وقت العصر ، ثم يجمع بينهما » .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث قوله : ثم يجمع بينهما ، أي : في وقت العصر ، وفي رواية قتيبة عن المفضل في الباب الذي بعده « ثم نزل فجمع بينهما » ، ولمسلم من رواية جابر بن إسمٰعيل ، عن عقيل : « يؤخّر الظهر إلى وقت العصر ، فيجمع بينهما ، ويؤخّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق » وله من رواية شبابة ، عن عقيل : « حتى يدخل أول وقت العصر ، ثم يجمع بينهما » .اهـ. منه بلفظه .
وفي « الصحيحين » من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء » ، ولا يمكن حمل هذا الجمع على الجمع الصوري ؛ لأن الروايات الصحيحة التي ذكرنا آنفًا فيها التصريح بأنه صلّى الظهر في وقت العصر ، والمغرب بعد غيبوبة الشفق .
وقال البيهقي في « السنن الكبرى » : اتفقت رواية يحيىٰ بن سعيد الأنصاري ، وموسى بن عقبة ، وعبيد اللَّه بن عمر ، وأيوب السختياني ، وعمر بن محمد بن زيد ، عن نافع ، على أن جمع ابن عمر بين الصلاتين كان بعد غيبوبة الشفق ، وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع ، ثم قال بعد هذا بقليل ، ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب ، فقد رواه سالم بن عبد اللَّه ، وأسلم مولى عمر وعبد اللَّه بن دينار ، وإسماعيل بن عبد الرحمٰن بن أبي ذؤيب ، وقيل ابن ذؤيب عن ابن عمر نحو روايتهم ، ثم ساق البيهقي أسانيد رواياتهم ، وأما جمع التقديم بحيث يصلّي العصر عند زوال الشمس مع الظهر في أول وقتها ، والعشاء مع المغرب عند غروب الشمس في أول وقتها ، فهو ثابت أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم وإن أنكره من أنكره من العلماء ، وحاول تضعيف أحاديثه ، فقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه أحاديث منها ما هو صحيح ، ومنها ما هو حسن.
فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه من حدبيث جابر الطويل في الحج « ثم أذن ، ثم أقام فصلّى الظهر ، ثم أقام فصلّى العصر ، ولم يصلّ بينهما شيئًا » ، وكان ذلك بعد الزوال ، فهذا حديث صحيح فيه التصريح بأنه صلّى العصر مقدمة مع الظهر بعد الزوال .
وقد روى أبو داود ، وأحمد ، والترمذي ، وقال : حسن غريب ، وابن حبان ، والدارقطني ، والبيهقي ، والحاكم عن معاذ رضي اللَّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعًا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلّى الظهر والعصر جميعًا ، ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء ، فصلاها مع المغرب » ، وإبطال جمع التقديم بتضعيف هذا الحديث ، كما حاوله الحاكم ، وابن حزم لا عبرة به لما رأيت آنفًا من أن جمع التقديم ، أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل ، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم « أنه كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ، فإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا حانت المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما » رواه أحمد ، ورواه الشافعي في مسنده بنحوه ، وقال فيه : « إذا سار قبل أن تزول الشمس أخّر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر » ورواه البيهقي ، والدارقطني ، وروي عن الترمذي أنه حسنه.
فإن قيل : حديث معاذ معلول بتفرد قتيبة فيه ، عن الحفاظ ، وبأنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، ولا يعرف له منه سماع ، كما قاله ابن حزم ، وبأن في إسناده أبا الطفيل وهو مقدوح فيه بأنه كان حامل راية المختار بن أبي عبيد ، وهو يؤمن بالرجعة ، وبأن الحاكم قال : هو موضوع ، وبأن أبا داود قال : ليس في جمع التقديم حديث قائم ، وحديث ابن عباس في إسناده حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب وهو ضعيف ، فالجواب أن إعلاله بتفرد قتيبة به مردود من وجهين :
الأول : أن قتيبة بن سعيد رحمه اللَّه تعالىٰ بالمكانة المعروفة له من العدالة والضبط والإتقان ، وهذا الذي رواه لم يخالف فيه غيره ، بل زاد ما لم يذكره غيره ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وقد تقرر في علم الحديث أن زيادات العدول مقبولة لا سيّما وهذه الزيادة التي هي جمع التقديم ، تقدم ثبوتها في صحيح مسلم من حديث جابر ، وسيأتي إن شاء اللَّه أيضًا أنها صحت من حديث أنس .
الوجه الثاني : أن قتيبة لم يتفرد به بل تابعه فيه المفضل بن فضالة ، قال ابن القيم في « زاد المعاد » ما نصّه : فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد اللَّه بن موهب الرملي ، حدّثنا المفضل بن فضالة ، عن الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ فذكره ، فهذا المفضل قد تابع قتيبة ، وإن كان قتيبة أجلّ من المفضل ، وأحفظ لكن زال تفرد قتيبة به .اهـ. منه بلفظه .
ورواه البيهقي في « السنن الكبرى »، قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، أنبأنا أبو بكر بن داسه ، حدّثنا أبو داوود ، ثم ساق السند المتقدم آنفًا ، أعني سند أبي داود الذي ساقه ابن القيم ، والمتن فيه التصريح بجمع التقديم ، وكذلك رواه النسائي والدارقطني ، كما قاله ابن حجر في « التلخيص »، فاتّضح أن قتيبة لم يتفرّد بهذا الحديث ؛ لأن أبا داود والنسائي والدارقطني والبيهقي ، أخرجوه من طريق أخرى متابعة لرواية قتيبة .
وقال ابن حجر في « التخليص » : إن في سند هذه الطريق هشام بن سعد وهو لين الحديث .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : هشام بن سعد المذكور من رجال مسلم وأخرج له البخاري تعليقًا وبه تعلم صحة طريق المفضل المتابعة لطريق قتيبة ، ولذا قال البيهقي في « السنن الكبرى » قال الشيخ ، وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل ، فهي محفوظة صحيحة ، واعلم أنه لا يخفى أن ما يروى عن البخاري رحمه اللَّه من أنه سأل قتيبة عمّن كتب معه هذا الحديث عن الليث بن سعد فقال : كتبه معي خالد المدائني ، فقال البخاري : كان خالد المدائني يُدخل على الشيوخ يعني، يُدخل في روايتهم ما ليس منها ، أنه لا يظهر كونه قادحًا في رواية قتيبة ؛ لأن العدل الضابط لا يضره أخذ آلاف الكذابين معه ؛ لأنه إنما يحدث بما علمه ولا يضره كذب غيره كما هو ظاهر .
والجواب عما قاله ابن حزم من أنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا يعرف له منه سماع من وجهين:
الأول : أن العنعنة ونحوها لها حكم التصريح بالتحديث عند المحدثين إلا إذا كان المعنعن مدلسًا ، ويزيد بن أبي حبيب : قال فيه الذهبي في « تذكرة الحفاظ » كان حجة حافظًا للحديث وذكر من جملة من روى عنهم أبا الطفيل المذكور ، وقال فيه ابن حجر في « التقريب » : ثقة فقيه ، وكان يرسل ومعلوم أن الإرسال غير التدليس ؛ لأن الإرسال في اصطلاح المحدثين هو رفع التابعي مطلقًا أو الكبير خاصة الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل إسقاط راو مطلقًا ، وهو قول الأصوليين فالإرسال مقطوع فيه بحذف الواسطة بخلاف التدليس ، فإن تدليس الإسناد يحذف فيه الراوي شيخه المباشر له ويسند إلى شيخ شيخه المعاصر بلفظ محتمل للسماع مباشرة وبواسطة ، نحو عن فلان وقال فلان فلا يقطع فيه بنفي الواسطة بل هو يوهم الاتصال ؛ لأنه لا بد فيه من معاصرة من أسند إليه أعني : شيخ شيخه ، وإلا كان منقطعًا كما هو معروف في علوم الحديث وقول ابن حزم لم يعرف له منه سماع ليس بقادح ؛ لأن المعاصرة تكفي ولا يشترط ثبوت اللقى وأحرى ثبوت السماع فمسلم بن الحجاج لا يشترط في « صحيحه » إلا المعاصرة فلا يشترط اللقى وأحرى السماع وإنما اشترط اللقى البخاري ، قال العراقي في « ألفيته »: وصححوا وصل معنعن سلم من دلسة راويه واللقا علم
وبعضهم حكى بذا إجماعا ومسلم لم يشرط اجتماعا

لكن تعاصروا ... إلخ
وبالجملة فلا يخفى إجماع المسلمين على صحة أحاديث مسلم مع أنه لا يشترط إلا المعاصرة وبه تعلم أن قول ابن حزم ومن وافقه إنه لا تعرف رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لا تقدح في حديثه لما علمت من أن العنعنة من غير المدلس لها حكم التحديث ويزيد بن أبي حبيب مات سنة ثمان وعشرين بعد المائة ، وقد قارب الثمانين .
وأبو الطفيل ولد عام أحد ومات سنة عشر ومائة على الصحيح ، وبه تعلم أنه لا شك في معاصرتهما واجتماعهما في قيد الحياة زمنًا طويلاً ، ولا غرو في حكم ابن حزم على رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل بأنها باطلة ، فإنه قد ارتكب أشد من ذلك في حكمه على الحديث الثابت في « صحيح البخاري »: « ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف » ، بأنه غير متصل ولا يحتجّ به بسبب أن البخاري قال في أول الإسناد قال : هشام بن عمار ومعلوم أن هشام بن عمار من شيوخ البخاري وأن البخاري بعيد جدًا من التدليس وإلى رد هذا على ابن حزم أشار العراقي في « ألفيته » بقوله : وإن يكن أول الاسناد حذف مع صيغة الجزم فتعليقًا عرف
ولو إلى آخره أما الذي لشيخه عزا بقال فكذي
عنعنة كخبر المعازف لا تصغ لابن حزم المخالف

مع أن المشهور عن مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم اللَّه الاحتجاج بالمرسل ، والمرسل في اصطلاح أهل الأصول ما سقط منه راو مطلقًا ، فهو بالاصطلاح الأصولي يشمل المنقطع والمعضل ، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولي كما صرح به غير واحد وهو واضح ، والجواب عن القدح في أبي الطفيل بأنه كان حامل راية المختار مردود من وجهين.
الأول : أن أبا الطفيل صحابي وهو آخر من مات من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كما قاله مسلم وعقده ناظم « عمود النسب » بقوله : آخر من مات من الأصحاب له أبو الطفيل عامر بن واثلة

وأبو الطفيل هذا هو عامر بن واثلة بن عبد اللَّه بن عمرو بن جحش الليثي نسبة إلى ليث بن بكر بن كنانة ، والصحابة كلهم رضي اللَّه عنهم عدول وقد جاءت تزكيتهم في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم في محله والحكم لجميع الصحابة بالعدالة هو مذهب الجمهور وهو الحق وقال في « مراقي السعود » :
وغيرهُ رواية والصحب تعديلهم كل إليه يصبو
واختار في الملازمين دون من رآه مرة إمام مؤتمن
الوجه الثاني : هو ما ذكره الشوكاني رحمه اللَّه في « نيل الأوطار » وهو أن أبا الطفيل إنما خرج مع المختار على قاتلي الحسين رضي اللَّه عنه وأنه لم يعلم من المختار إيمانه بالرجعة ، والجواب عن قول الحاكم إنه موضوع بأنه غير صحيح بل هو ثابت وليس بموضوع .
قال ابن القيّم : وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم ، يعني : الحاكم ، وقال ابن القيم أيضًا في « زاد المعاد » : قال الحاكم هذا الحديث موضوع وإسناده على شرط الصحيح لكن رمى بعلة عجيبة ، قال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « كان في غزوة تبوك إلى أن قال : وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار » الحديث .
قال الحاكم : هذا الحديث رواته أئمة ثقات ، وهو شاذ الإسناد والمتن ثم لا نعرف له علة نعله بها فلو كان الحديث عن الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث ، ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به ، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولاً ، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل ، فقلنا : الحديث شاذ ، وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال : كان قتيبة بن سعيد يقول: لنا على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل وعلى ابن المديني ، ويحيىٰ بن معين ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي خيثمة ، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث ، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبًا من إسناده ومتنه ، ثم لم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث علة ثم قال : فنظرنا فإذا بالحديث موضوع ، وقتيبة ثقة مأمون .اهـ . محل الغرض منه بتصرف يسير لا يخل بشىء من المعنى . وانظره فإن قوله ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به فيه أن سنده الذي ساق فيه عن يزيد عن أبي الطفيل . وبهذا تعلم أن حكم الحاكم على هذا الحديث بأنه موضوع لا وجه له أما رجال إسناده فهم ثقات باعترافه هو ، وقد قدمنا لك أن قتيبة تابعه فيه المفضل بن فضالة عند أبي داود والنسائي والبيهقي والدارقطني ، وانفراد الثقة الضابط بما لم يروه غيره لا يُعد شذوذًا ، وكم من حديث صحيح في « الصحيحين » وغيرهما انفرد به عدل ضابط عن غيره ، وقد عرفت أن قتيبة لم يتفرد به ، وأما متنه فهو بعيد من الشذوذ أيضًا .
وقد قدمنا أن مثله رواه مسلم في « صحيحه » عن جابر رضي اللَّه عنه وصح أيضًا مثله من حديث أنس .
قال ابن القيم : وقد روى إسحٰق بن راهويه حدثنا شبابة ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم « كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم ارتحل » وهذا إسناد كما ترى . وشبابة هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه وقد روى له مسلم في « صحيحه » ، فهذا الإسناد على شرط الشيخين .اهـ . محل الغرض منه بلفظه .
وقال ابن حجر في « فتح الباري » بعد أن ساق حديث إسحٰق هذا ما نصه : وأعل بتفرد إسحٰق به عن شبابة ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحٰق وليس ذلك بقادح ، فإنهما إمامان حافظان .اهـ . منه بلفظه .
وروى الحاكم في « الأربعين » بسند صحيح عن أنس نحو حديث إسحٰق المذكور ونحوه لأبي نعيم في « مستخرج مسلم » ، قال الحافظ في « بلوغ المرام » بعد أن ساق حديث أنس المتفق عليه ما نصه : وفي رواية للحاكم في « الأربعين » بإسناد صحيح « صلى الظهر والعصر ثم ركب » ، ولأبي نعيم في مستخرج مسلم : « كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل » .
وقال ابن حجر في « تلخيص الحبير » بعد أن ساق حديث الحاكم المذكور بسنده ومتنه ما نصه : وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي ، وتعجّب من كون الحاكم لم يورده في « المستدرك » ، قال : وله طريق أخرى رواها الطبراني في « الأوسط » ، ثم ساق الحديث بها وقال : تفرد به يعقوب بن محمد ولا يقدح في رواية الحاكم هذه ما ذكره ابن حجر في « الفتح » من أن البيهقي ساق سند الحاكم المذكور ثم ذكر المتن ولم يذكر فيه زيادة جمع التقديم لما قدمنا من أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وزيادة العدول مقبولة كما تقدم .
وقال النووي في « شرح المهذب » بعد أن ساق حديث معاذ الذي نحن بصدده ما نصه : رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن .
وقال البيهقي : هو محفوظ صحيح ، وعن أنس قال : « كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلّى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل » ، رواه الإسماعيلي والبيهقي بإسناد صحيح .
قال إمام الحرمين في « الأساليب » : في ثبوت الجمع أخبار صحيحة هي نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله في المعنى الاستنباط من صورة الإجماع وهي الجمع بعرفات ومزدلفة ، إذ لا يخفى أن سببه احتياج الحجاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم ، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
والجواب عن قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم هو ما رأيت من أنه ثبت في « صحيح مسلم » من حديث جابر وصح من حديث أنس من طريق إسحٰق بن راهويه وأخرجه الحاكم بسند صحيح في « الأربعين » وأخرجه أبو نعيم في « مستخرج مسلم » والإسماعيلي والبيهقي وقال : إسناده صحيح بلفظ : « كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا » إلى آخر ما تقدم .
قال الشوكاني في « نيل الأوطار » : قد عرفت أن أحاديث جمع التقديم بعضها صحيح وبعضها حسن ، وذلك يرد قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم ، والجواب عن تضعيف حديث ابن عباس المتقدم في جمع التقديم بأن في إسناده حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عباس بن عبد المطّلب هو ضعيف،
هو أنه روي من طريقين أخريين بهما يعتضد الحديث حتى يصير أقل درجاته الحسن .
الأولى : أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس .
والثانية : منهما رواها إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه ، عن سليمان بن بلال ، عن هشام بن عروة ، عن كريب ، عن ابن عباس بنحوه قاله ابن حجر في « التلخيص » والشوكاني في « نيل الأوطار » .
وقال ابن حجر في « التلخيص » أيضًا : يقال إن الترمذي حسنه وكأنه باعتبار المتابعة ، وغفل ابن العربي فصحح إسناده .
وبهذا كلّه تعلم أن كلاًّ من جمع التقديم وجمع التأخير في السفر ثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وفيه صورة مجمع عليها وهي التي رواها مسلم عن جابر في حديثه الطويل في الحجّ كما قدمنا ، وهي جمع التقديم ظهر عرفات ، وجمع التأخير عشاء المزدلفة .
قال البيهقي في « السنن الكبرى » : والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي اللَّه عنهم أجمعين ، مع الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم عن أصحابه ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفات ثم بالمزدلفة . اهـ . منه بلفظه .
وروى البيهقي في « السنن الكبرى » أيضًا عن الزهري أنه سأل سالم بن عبد اللَّه : هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر ؟ فقال : نعم لا بأس بذلك ، ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة . اهـ . منه بلفظه .
وقال ابن القيم في « زاد المعاد » : قال ابن تيمية ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ليتصل وقت لدعاء ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة ، فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى .
قال الشافعي : وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر ؛ لأن يتصل له الدعاء فلا يقطعه بصلاة العصر ، والتأخير أرفق بالمزدلفة ؛ لأن يتصل له المسير ولا يقطعه للنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس . اهـ . من « زاد المعاد » .
فبهذه الأدلة التي سقناها في هذا المبحث تعلم أن العصر مشتركة مع الظهر في وقتها عند الضرورة ، وأن العشاء مشتركة مع المغرب في وقتها عند الضرورة أيضًا ، وأن الظهر مشتركة مع العصر في وقتها عند الضرورة ، وأن المغرب مشتركة مع العشاء في وقتها عند الضرورة أيضًا ، ولا يخفى أن الأئمة الذين خالفوا مالكًا رحمه اللَّه تعالىٰ في امتداد وقت الضرورة للظهر إلى الغروب وامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر كالشافعي وأحمد رحمهما اللَّه ومن وافقهما أنهم في الحقيقة موافقون له لاعترافهم بأن الحائض إذا طهرت قبل الغروب بركعة صلت الظهر والعصر معًا ، وكذلك إذا طهرت قبل طلوع الفجر بركعة صلت المغرب والعشاء كما قدمنا عن ابن عباس وعبد الرحمٰن بن عوف ، فلو كان الوقت خرج بالكلية لم يلزمها أن تصلّي الظهر ولا المغرب للإجماع على أن الحائض لا تقضي ما فات وقته من الصلوات وهي حائض .
وقال النووي في « شرح المهذب » : قد ذكرنا أن الصحيح عندنا أنه يجب على المعذور الظهر بما تجب به العصر ، وبه قال عبد الرحمٰن بن عوف وابن عباس وفقهاء المدينة السبعة وأحمد وغيرهم .
وقال الحسن وحماد وقتادة والثوري وأبو حنيفة ومالك وداود : لا تجب عليه . اهـ . منه بلفظه ، ومٰلك يوجبها بقدر ما تصلّى فيه الأولى من مشتركتي الوقت مع بقاء ركعة فهو أربع في المغرب والعشاء وخمس في الظهر والعصر للحاضر ، وثلاث للمسافر .
وقال ابن قدامة في « المغني » : وروي هذا القول يعني إدراك الظهر مثلاً بما تدرك به العصر في الحائض تطهر ، عن عبد الرحمٰن بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد والنخعي والزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي وإسحٰق وأبي ثور .
قال الإمام أحمد : عامّة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده ، قال : لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها ، إلى أن قال : ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما بإسنادهم عن عبد الرحمٰن بن عوف وعبد اللَّه بن عباس أنهما قالا في الحائض : تطهر قبل طلوع الفجر بركعة تصلي المغرب والعشاء ، فإذا طهرت قبل أن تغرب الشمس صلّت الظهر والعصر جميعًا ؛ ولأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثانية . اهـ . منه بلفظه مع حذف يسير ، وهو تصريح من هذا العالم الجليل الحنبلي بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر ، وللظهر إلى الغروب كقول مٰلك رحمه اللَّه تعالىٰ وأما أول وقت العشاء فقد أجمع المسلمون على أنه يدخل حين يغيب الشفق .
وفي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيان أول وقت العشاء ثم صلى العشاء حين غاب الشفق .
وفي حديث بريدة المتقدم عند مسلم وغيره ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق .
وفي حديث أبي موسى عند مسلم وغيره : ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدًا وهو أمر لا نزاع فيه .
فإذا علمت إجماع العلماء على أن أول وقت العشاء هو مغيب الشفق ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في الشفق ، فقال بعض العلماء : هو الحمرة ، وهو الحق .
وقال بعضهم : هو البياض الذي بعد الحمرة ، ومما يدلّ على أن الشفق هو الحمرة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة » .
قال الدارقطني في « الغرائب » : هو غريب وكل رواته ثقات ، وقد أخرج ابن خزيمة في « صحيحه » عن عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا ، « ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق » الحديث .
قال ابن خزيمة : إن صحت هذه اللفظة أغنت عن غيرها من الروايات ، لكن تفرد بها محمد بن يزيد .
قال ابن حجر في « التلخيص » : محمد بن يزيد هو الواسطي وهو صدوق ، وروى هذ الحديث ابن عساكر وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر .
وقال الحاكم أيضًا : إن رفعه غلط ، بل قال البيهقي : روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ، ولا يصح فيه شىء ولكن قد علمت أن الإسناد الذي رواه ابن خزيمة به في « صحيحه » ليس فيه مما يوجب تضعيفه إلا محمد بن يزيد ، وقد علمت أنه صدوق ، ومما يدل على أن الحمرة الشفق ما رواه البيهقي في « سننه » عن النعمان بن بشير . قال : أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء « كان صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة » لما حققه غير واحد من أن البياض لا يغيب إلا بعد ثلث الليل وسقوط القمر لثالثة الشهر قبل ذلك كما هو معلوم .
وقال الشوكاني في « نيل الأوطار » : ومن حجج القائلين بأن الشفق الحمرة ما روي عنه صلى الله عليه وسلم : « أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر » ، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي .
قال ابن العربي : وهو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق .
قال ابن سيّد الناس في « شرح الترمذي » : وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول ، وهو الذي حد صلى الله عليه وسلم خروج أكثر الوقت به فصح يقينًا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين ، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذك يقينًا أن الوقت دخل يقينًا بالشفق الذي هو الحمرة .
اهـ .
وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعًا لما تقدم في حديث جبريل وحديث التعليم ، وهذا الحديث وغير ذلك انتهى منه بلفظه ، وهو دليل واضح على أن الشفق الحمرة لا البياض ، وفي « القاموس » الشفق الحمرة ولم يذكر البياض .
وقال الخليل والفراء وغيرهما من أئمة اللغة : الشفق الحمرة وما روي عن الإمام أحمد رحمه اللَّه من أن الشفق في السفر هو الحمرة وفي الحضر هو البياض الذي بعد الحمرة لا يخالف ما ذكرنا ؛ لأنه من تحقيق المناط لغيبوبة الحمرة التي هي الشفق عند أحمد وإيضاحه أن الإمام أحمد رحمه اللَّه يقول : « الشفق هو الحمرة» والمسافر ؛ لأنه في الفلاة والمكان المتسع يعلم سقوط الحمرة ، أما الذي في الحضر فالأفق يستتر عنه بالجدران فيستظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبوبته على مغيب الحمرة ، فاعتباره لغيبة البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه . اهـ . من « المغني » لابن قدامة .
وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه ومن وافقه : الشفق البياض الذي بعد الحمرة ، وقد علمت أن التحقيق أنه الحمرة ، وأما آخر وقت العشاء فقد جاء في بعض الروايات الصحيحة انتهاؤه عند ثلث الليل الأول ، وفي بعض الروايات الصحيحة نصف الليل ، وفي بعض الروايات الصحيحة ما يدل على امتداده إلى طلوع الفجر .
فمن الروايات بانتهائه إلى ثلث الليل ، ما أخرجه البخاري في « صحيحه » عن عائشة رضي اللَّه عنها : « كانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول » .
وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين في تعليم من سأل عن مواقيت الصلاة عند مسلم وغيره : « أنه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى أقام العشاء حين غاب الشفق ، وفي الليلة الثانية أخّره حتى كان ثلث الليل الأول ، ثم قال : الوقت فيما بين هذين » .
وفي حديث جابر ، وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل : « أنه في الليلة الأولى صلى العشاء حين مغيب الشفق ، وفي الليلة الثانية صلاّها حين ذهب ثلث الليل الأول وقال : الوقت فيمابين هذين الوقتين » ، إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على انتهاء وقت العشاء عند ذهاب ثلث الليل الأول .
ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى نصف الليل ، ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي اللَّه عنه قال : « أخّر النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء إلى نصف الليل ، ثم صلّى ، ثم قال : قد صلّى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها » . قال أنس : كأني أنظر إلى وبيض خاتمه لَيْلَتَئِذٍ .
وفي حديث عبد اللَّه بن عمر والمتقدم عند أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وأبي داود : « ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل » وفي بعض رواياته : « فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل » .
ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى طلوع الفجر ما رواه أبو قتادة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى يجىء وقت الأخرى » ، رواه مسلم في « صحيحه » .
واعلم أن عموم هذا الحديث مخصوص بإجماع المسلمين على أن وقت الصبح لا يمتدّ بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر ، فلا وقت للصبح بعد طلوع الشمس إجماعًا ، فإن قيل يمكن تخصيص حديث أبي قتادة هذا بالأحاديث الدالّة على انتهاء وقت العشاء إلى نصف الليل .
فالجواب : أن الجمع ممكن ، وهو واجب إذا أمكن وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع أن التحديد بنصف الليل للوقت الاختياري والامتداد إلى الفجر للوقت الضروري .
ويدل لهذا : إطباق من ذكرنا سابقًا من العلماء على أن الحائض إذا طهرت قبل الصبح بركعة صلت المغرب ، والعشاء ، ومن خالف من العلماء فيما ذكرنا سابقًا ، إنما خالف في المغرب لا في العشاء ، مع أن الأثر الذي قدمنا في ذلك عن عبد الرحمٰن بن عوف ، وابن عباس لا يبعد أن يكون في حكم المرفوع ؛ لأن الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع ، كما تقرر في علوم الحديث ، ومعلوم أن انتهاء أوقات العبادات كابتدائها لا مجال للرأي فيه ؛ لأنه تعبدي محض .
وبهذا تعرف وجه الجمع بين ما دل على انتهائه بنصف الليل ، وما دلّ على امتداده إلى الفجر ، ولكن يبقى الإشكال بين روايات الثلث وروايات النصف ، والظاهر في الجمع واللَّه تعالىٰ أعلم أنه جعل كل ما بين الثلث والنصف وهو السدس ظرفًا لآخر وقت العشاء الاختياري .
وإذن فلآخره أول وآخر وإليه ذهب ابن سريج من الشافعية ، وعلى أن الجمع بهذا الوجه ليس بمقنع فليس هناك طريق إلا الترجيح بين الروايات . فبعض العلماء رجح روايات الثلث بأنها أحوط في المحافظة على الوقت المختار وبأنها محل وفاق لاتفاق الروايات على أن من صلّى العشاء قبل الثلث فهو مؤد صلاته في وقتها الاختياري ، وبعضهم رجح روايات النصف بأنها زيادة صحيحة ، وزيادة العدل مقبولة .
وأما أول وقت صلاة الصبح فهو عند طلوع الفجر الصادق بإجماع المسلمين وهو الفجر الذي يحرم الطعام والشراب على الصائم .
وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : « وأمر بلالاً فأقام الفجر حين انشق الفجر ، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا » الحديث .
وفي حديث جابر المتقدم ، في إمامة جبريل أيضًا : « ثم صلّى الفجر حين برق الفجر ، وحرم الطعام على الصائم » ، ومعلوم أن الفجر فجران كاذب وصادق ، فالكاذب لا يحرم الطعام على الصائم ، ولا تجوز به صلاة الصبح والصادق بخلاف ذلك فيهما ، وأما آخر وقت صلاة الصبح فقد جاء في بعض الروايات تحديده بالإسفار ، وجاء في بعضها امتداده إلى طلوع الشمس ، فمن الروايات الدالّة على انتهائه بالإسفار ما في حديث جابر المذكور آنفًا : « ثم جاءه حين أسفر جدًا فقال : قم فصله فصلّى الفجر » .
وفي حديث ابن عباس المتقدم آنفًا : « ثم صلّى الصبح حين أسفرت الأرض » الحديث . وهذا في بيانه لآخر وقت الصبح المختار في اليوم الثاني .
وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : « ثم أخّر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت » .
ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى طلوع الشمس ما أخرجه مسلم في « صحيحه » وغيره من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما : « ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس » .
الوجه الثاني : هو ما ذكره الشوكاني رحمه اللَّه في « نيل الأوطار » وهو أن أبا الطفيل إنما خرج مع المختار على قاتلي الحسين رضي اللَّه عنه وأنه لم يعلم من المختار إيمانه بالرجعة ، والجواب عن قول الحاكم إنه موضوع بأنه غير صحيح بل هو ثابت وليس بموضوع .
قال ابن القيّم : وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم ، يعني : الحاكم ، وقال ابن القيم أيضًا في « زاد المعاد » : قال الحاكم هذا الحديث موضوع وإسناده على شرط الصحيح لكن رمى بعلة عجيبة ، قال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « كان في غزوة تبوك إلى أن قال : وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار » الحديث .
قال الحاكم : هذا الحديث رواته أئمة ثقات ، وهو شاذ الإسناد والمتن ثم لا نعرف له علة نعله بها فلو كان الحديث عن الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث ، ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به ، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولاً ، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل ، فقلنا : الحديث شاذ ، وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال : كان قتيبة بن سعيد يقول: لنا على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل وعلى ابن المديني ، ويحيىٰ بن معين ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي خيثمة ، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث ، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبًا من إسناده ومتنه ، ثم لم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث علة ثم قال : فنظرنا فإذا بالحديث موضوع ، وقتيبة ثقة مأمون .اهـ . محل الغرض منه بتصرف يسير لا يخل بشىء من المعنى . وانظره فإن قوله ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به فيه أن سنده الذي ساق فيه عن يزيد عن أبي الطفيل . وبهذا تعلم أن حكم الحاكم على هذا الحديث بأنه موضوع لا وجه له أما رجال إسناده فهم ثقات باعترافه هو ، وقد قدمنا لك أن قتيبة تابعه فيه المفضل بن فضالة عند أبي داود والنسائي والبيهقي والدارقطني ، وانفراد الثقة الضابط بما لم يروه غيره لا يُعد شذوذًا ، وكم من حديث صحيح في « الصحيحين » وغيرهما انفرد به عدل ضابط عن غيره ، وقد عرفت أن قتيبة لم يتفرد به ، وأما متنه فهو بعيد من الشذوذ أيضًا .
وقد قدمنا أن مثله رواه مسلم في « صحيحه » عن جابر رضي اللَّه عنه وصح أيضًا مثله من حديث أنس .
قال ابن القيم : وقد روى إسحٰق بن راهويه حدثنا شبابة ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم « كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم ارتحل » وهذا إسناد كما ترى . وشبابة هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه وقد روى له مسلم في « صحيحه » ، فهذا الإسناد على شرط الشيخين .اهـ . محل الغرض منه بلفظه .
وقال ابن حجر في « فتح الباري » بعد أن ساق حديث إسحٰق هذا ما نصه : وأعل بتفرد إسحٰق به عن شبابة ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحٰق وليس ذلك بقادح ، فإنهما إمامان حافظان .اهـ . منه بلفظه .
وروى الحاكم في « الأربعين » بسند صحيح عن أنس نحو حديث إسحٰق المذكور ونحوه لأبي نعيم في « مستخرج مسلم » ، قال الحافظ في « بلوغ المرام » بعد أن ساق حديث أنس المتفق عليه ما نصه : وفي رواية للحاكم في « الأربعين » بإسناد صحيح « صلى الظهر والعصر ثم ركب » ، ولأبي نعيم في مستخرج مسلم : « كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل » .
وقال ابن حجر في « تلخيص الحبير » بعد أن ساق حديث الحاكم المذكور بسنده ومتنه ما نصه : وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي ، وتعجّب من كون الحاكم لم يورده في « المستدرك » ، قال : وله طريق أخرى رواها الطبراني في « الأوسط » ، ثم ساق الحديث بها وقال : تفرد به يعقوب بن محمد ولا يقدح في رواية الحاكم هذه ما ذكره ابن حجر في « الفتح » من أن البيهقي ساق سند الحاكم المذكور ثم ذكر المتن ولم يذكر فيه زيادة جمع التقديم لما قدمنا من أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وزيادة العدول مقبولة كما تقدم .
وقال النووي في « شرح المهذب » بعد أن ساق حديث معاذ الذي نحن بصدده ما نصه : رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن .
وقال البيهقي : هو محفوظ صحيح ، وعن أنس قال : « كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلّى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل » ، رواه الإسماعيلي والبيهقي بإسناد صحيح .
قال إمام الحرمين في « الأساليب » : في ثبوت الجمع أخبار صحيحة هي نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله في المعنى الاستنباط من صورة الإجماع وهي الجمع بعرفات ومزدلفة ، إذ لا يخفى أن سببه احتياج الحجاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم ، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
والجواب عن قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم هو ما رأيت من أنه ثبت في « صحيح مسلم » من حديث جابر وصح من حديث أنس من طريق إسحٰق بن راهويه وأخرجه الحاكم بسند صحيح في « الأربعين » وأخرجه أبو نعيم في « مستخرج مسلم » والإسماعيلي والبيهقي وقال : إسناده صحيح بلفظ : « كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا » إلى آخر ما تقدم .
قال الشوكاني في « نيل الأوطار » : قد عرفت أن أحاديث جمع التقديم بعضها صحيح وبعضها حسن ، وذلك يرد قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم ، والجواب عن تضعيف حديث ابن عباس المتقدم في جمع التقديم بأن في إسناده حسين بن عبد اللَّه بن عبيداللَّه بن عباس بن عبد المطّلب هو ضعيف، هو أنه روي من طريقين أخريين بهما يعتضد الحديث حتى يصير أقل درجاته الحسن .
الأولى : أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس .
والثانية : منهما رواها إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه ، عن سليمان بن بلال ، عن هشام بن عروة ، عن كريب ، عن ابن عباس بنحوه قاله ابن حجر في « التلخيص » والشوكاني في « نيل الأوطار » .
وقال ابن حجر في « التلخيص » أيضًا : يقال إن الترمذي حسنه وكأنه باعتبار المتابعة ، وغفل ابن العربي فصحح إسناده .
وبهذا كلّه تعلم أن كلاًّ من جمع التقديم وجمع التأخير في السفر ثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وفيه صورة مجمع عليها وهي التي رواها مسلم عن جابر في حديثه الطويل في الحجّ كما قدمنا ، وهي جمع التقديم ظهر عرفات ، وجمع التأخير عشاء المزدلفة .
قال البيهقي في « السنن الكبرى » : والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي اللَّه عنهم أجمعين ، مع الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم عن أصحابه ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفات ثم بالمزدلفة . اهـ . منه بلفظه .
وروى البيهقي في « السنن الكبرى » أيضًا عن الزهري أنه سأل سالم بن عبد اللَّه : هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر ؟ فقال : نعم لا بأس بذلك ، ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة . اهـ . منه بلفظه .
وقال ابن القيم في « زاد المعاد » : قال ابن تيمية ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ليتصل وقت لدعاء ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة ، فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى .
قال الشافعي : وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر ؛ لأن يتصل له الدعاء فلا يقطعه بصلاة العصر ، والتأخير أرفق بالمزدلفة ؛ لأن يتصل له المسير ولا يقطعه للنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس . اهـ . من « زاد المعاد » .
فبهذه الأدلة التي سقناها في هذا المبحث تعلم أن العصر مشتركة مع الظهر في وقتها عند الضرورة ، وأن العشاء مشتركة مع المغرب في وقتها عند الضرورة أيضًا ، وأن الظهر مشتركة مع العصر في وقتها عند الضرورة ، وأن المغرب مشتركة مع العشاء في وقتها عند الضرورة أيضًا ، ولا يخفى أن الأئمة الذين خالفوا مالكًا رحمه اللَّه تعالىٰ في امتداد وقت الضرورة للظهر إلى الغروب وامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر كالشافعي وأحمد رحمهما اللَّه ومن وافقهما أنهم في الحقيقة موافقون له لاعترافهم بأن الحائض إذا طهرت قبل الغروب بركعة صلت الظهر والعصر معًا ، وكذلك إذا طهرت قبل طلوع الفجر بركعة صلت المغرب والعشاء كما قدمنا عن ابن عباس وعبد الرحمٰن بن عوف ، فلو كان الوقت خرج بالكلية لم يلزمها أن تصلّي الظهر ولا المغرب للإجماع على أن الحائض لا تقضي ما فات وقته من الصلوات وهي حائض .
وقال النووي في « شرح المهذب » : قد ذكرنا أن الصحيح عندنا أنه يجب على المعذور الظهر بما تجب به العصر ، وبه قال عبد الرحمٰن بن عوف وابن عباس وفقهاء المدينة السبعة وأحمد وغيرهم .
وقال الحسن وحماد وقتادة والثوري وأبو حنيفة ومالك وداود : لا تجب عليه . اهـ . منه بلفظه ، ومٰلك يوجبها بقدر ما تصلّى فيه الأولى من مشتركتي الوقت مع بقاء ركعة فهو أربع في المغرب والعشاء وخمس في الظهر والعصر للحاضر ، وثلاث للمسافر .
وقال ابن قدامة في « المغني » : وروي هذا القول يعني إدراك الظهر مثلاً بما تدرك به العصر في الحائض تطهر ، عن عبد الرحمٰن بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد والنخعي والزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي وإسحٰق وأبي ثور .
قال الإمام أحمد : عامّة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده ، قال : لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها ، إلى أن قال : ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما بإسنادهم عن عبد الرحمٰن بن عوف وعبد اللَّه بن عباس أنهما قالا في الحائض : تطهر قبل طلوع الفجر بركعة تصلي المغرب والعشاء ، فإذا طهرت قبل أن تغرب الشمس صلّت الظهر والعصر جميعًا ؛ ولأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثانية . اهـ . منه بلفظه مع حذف يسير ، وهو تصريح من هذا العالم الجليل الحنبلي بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر ، وللظهر إلى الغروب كقول مٰلك رحمه اللَّه تعالىٰ وأما أول وقت العشاء فقد أجمع المسلمون على أنه يدخل حين يغيب الشفق .
وفي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيان أول وقت العشاء ثم صلى العشاء حين غاب الشفق .
وفي حديث بريدة المتقدم عند مسلم وغيره ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق .
وفي حديث أبي موسى عند مسلم وغيره : ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدًا وهو أمر لا نزاع فيه .
فإذا علمت إجماع العلماء على أن أول وقت العشاء هو مغيب الشفق ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في الشفق ، فقال بعض العلماء : هو الحمرة ، وهو الحق .
وقال بعضهم : هو البياض الذي بعد الحمرة ، ومما يدلّ على أن الشفق هو الحمرة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة » .
قال الدارقطني في « الغرائب » : هو غريب وكل رواته ثقات ، وقد أخرج ابن خزيمة في « صحيحه » عن عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا ، « ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق » الحديث .
قال ابن خزيمة : إن صحت هذه اللفظة أغنت عن غيرها من الروايات ، لكن تفرد بها محمد بن يزيد .
قال ابن حجر في « التلخيص » : محمد بن يزيد هو الواسطي وهو صدوق ، وروى هذ الحديث ابن عساكر وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر .
وقال الحاكم أيضًا : إن رفعه غلط ، بل قال البيهقي : روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ، ولا يصح فيه شىء ولكن قد علمت أن الإسناد الذي رواه ابن خزيمة به في « صحيحه » ليس فيه مما يوجب تضعيفه إلا محمد بن يزيد ، وقد علمت أنه صدوق ، ومما يدل على أن الحمرة الشفق ما رواه البيهقي في « سننه » عن النعمان بن بشير . قال : أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء « كان صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة » لما حققه غير واحد من أن البياض لا يغيب إلا بعد ثلث الليل وسقوط القمر لثالثة الشهر قبل ذلك كما هو معلوم .
وقال الشوكاني في « نيل الأوطار » : ومن حجج القائلين بأن الشفق الحمرة ما روي عنه صلى الله عليه وسلم : « أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر » ، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي .
قال ابن العربي : وهو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق .
قال ابن سيّد الناس في « شرح الترمذي » : وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول ، وهو الذي حد صلى الله عليه وسلم خروج أكثر الوقت به فصح يقينًا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين ، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذك يقينًا أن الوقت دخل يقينًا بالشفق الذي هو الحمرة . اهـ .
وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعًا لما تقدم في حديث جبريل وحديث التعليم ، وهذا الحديث وغير ذلك انتهى منه بلفظه ، وهو دليل واضح على أن الشفق الحمرة لا البياض ، وفي « القاموس » الشفق الحمرة ولم يذكر البياض .
وقال الخليل والفراء وغيرهما من أئمة اللغة : الشفق الحمرة وما روي عن الإمام أحمد رحمه اللَّه من أن الشفق في السفر هو الحمرة وفي الحضر هو البياض الذي بعد الحمرة لا يخالف ما ذكرنا ؛ لأنه من تحقيق المناط لغيبوبة الحمرة التي هي الشفق عند أحمد وإيضاحه أن الإمام أحمد رحمه اللَّه يقول : « الشفق هو الحمرة» والمسافر ؛ لأنه في الفلاة والمكان المتسع يعلم سقوط الحمرة ، أما الذي في الحضر فالأفق يستتر عنه بالجدران فيستظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبوبته على مغيب الحمرة ، فاعتباره لغيبة البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه . اهـ . من « المغني » لابن قدامة .
وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه ومن وافقه : الشفق البياض الذي بعد الحمرة ، وقد علمت أن التحقيق أنه الحمرة ، وأما آخر وقت العشاء فقد جاء في بعض الروايات الصحيحة انتهاؤه عند ثلث الليل الأول ، وفي بعض الروايات الصحيحة نصف الليل ، وفي بعض الروايات الصحيحة ما يدل على امتداده إلى طلوع الفجر .
فمن الروايات بانتهائه إلى ثلث الليل ، ما أخرجه البخاري في « صحيحه » عن عائشة رضي اللَّه عنها : « كانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول » .
وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين في تعليم من سأل عن مواقيت الصلاة عند مسلم وغيره : « أنه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى أقام العشاء حين غاب الشفق ، وفي الليلة الثانية أخّره حتى كان ثلث الليل الأول ، ثم قال : الوقت فيما بين هذين » .
وفي حديث جابر ، وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل : « أنه في الليلة الأولى صلى العشاء حين مغيب الشفق ، وفي الليلة الثانية صلاّها حين ذهب ثلث الليل الأول وقال : الوقت فيمابين هذين الوقتين » ، إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على انتهاء وقت العشاء عند ذهاب ثلث الليل الأول .
ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى نصف الليل ، ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي اللَّه عنه قال : « أخّر النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء إلى نصف الليل ، ثم صلّى ، ثم قال : قد صلّى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها » . قال أنس : كأني أنظر إلى وبيض خاتمه لَيْلَتَئِذٍ .
وفي حديث عبد اللَّه بن عمر والمتقدم عند أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وأبي داود : « ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل » وفي بعض رواياته : « فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل » .
ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى طلوع الفجر ما رواه أبو قتادة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى يجىء وقت الأخرى » ، رواه مسلم في « صحيحه » .
واعلم أن عموم هذا الحديث مخصوص بإجماع المسلمين على أن وقت الصبح لا يمتدّ بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر ، فلا وقت للصبح بعد طلوع الشمس إجماعًا ، فإن قيل يمكن تخصيص حديث أبي قتادة هذا بالأحاديث الدالّة على انتهاء وقت العشاء إلى نصف الليل .
فالجواب : أن الجمع ممكن ، وهو واجب إذا أمكن وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع أن التحديد بنصف الليل للوقت الاختياري والامتداد إلى الفجر للوقت الضروري .
ويدل لهذا : إطباق من ذكرنا سابقًا من العلماء على أن الحائض إذا طهرت قبل الصبح بركعة صلت المغرب ، والعشاء ، ومن خالف من العلماء فيما ذكرنا سابقًا ، إنما خالف في المغرب لا في العشاء ، مع أن الأثر الذي قدمنا في ذلك عن عبد الرحمٰن بن عوف ، وابن عباس لا يبعد أن يكون في حكم المرفوع ؛ لأن الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع ، كما تقرر في علوم الحديث ، ومعلوم أن انتهاء أوقات العبادات كابتدائها لا مجال للرأي فيه ؛ لأنه تعبدي محض .
وبهذا تعرف وجه الجمع بين ما دل على انتهائه بنصف الليل ، وما دلّ على امتداده إلى الفجر ، ولكن يبقى الإشكال بين روايات الثلث وروايات النصف ، والظاهر في الجمع واللَّه تعالىٰ أعلم أنه جعل كل ما بين الثلث والنصف وهو السدس ظرفًا لآخر وقت العشاء الاختياري .
وإذن فلآخره أول وآخر وإليه ذهب ابن سريج من الشافعية ، وعلى أن الجمع بهذا الوجه ليس بمقنع فليس هناك طريق إلا الترجيح بين الروايات . فبعض العلماء رجح روايات الثلث بأنها أحوط في المحافظة على الوقت المختار وبأنها محل وفاق لاتفاق الروايات على أن من صلّى العشاء قبل الثلث فهو مؤد صلاته في وقتها الاختياري ، وبعضهم رجح روايات النصف بأنها زيادة صحيحة ، وزيادة العدل مقبولة .
وأما أول وقت صلاة الصبح فهو عند طلوع الفجر الصادق بإجماع المسلمين وهو الفجر الذي يحرم الطعام والشراب على الصائم .
وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : « وأمر بلالاً فأقام الفجر حين انشق الفجر ، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا » الحديث .
وفي حديث جابر المتقدم ، في إمامة جبريل أيضًا : « ثم صلّى الفجر حين برق الفجر ، وحرم الطعام على الصائم » ، ومعلوم أن الفجر فجران كاذب وصادق ، فالكاذب لا يحرم الطعام على الصائم ، ولا تجوز به صلاة الصبح والصادق بخلاف ذلك فيهما ، وأما آخر وقت صلاة الصبح فقد جاء في بعض الروايات تحديده بالإسفار ، وجاء في بعضها امتداده إلى طلوع الشمس ، فمن الروايات الدالّة على انتهائه بالإسفار ما في حديث جابر المذكور آنفًا : « ثم جاءه حين أسفر جدًا فقال : قم فصله فصلّى الفجر » .
وفي حديث ابن عباس المتقدم آنفًا : « ثم صلّى الصبح حين أسفرت الأرض » الحديث . وهذا في بيانه لآخر وقت الصبح المختار في اليوم الثاني .
وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : « ثم أخّر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت » .
ومن الروايات الدالّة على امتداده إلى طلوع الشمس ما أخرجه مسلم في « صحيحه » وغيره من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما : « ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس » .
وفي رواية لمسلم : « ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول » ، والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات أن الوقت المنتهي إلى الإسفار هو وقت الصبح الاختياري ، والممتد إلى طلوع الشمس وقتها الضروري ، وهذا هو مشهور مذهب مالك .
وقال بعض المالكية : لا ضروري للصبح فوقتها كله إلى طلوع الشمس وقت اختيار ، وعليه فوجه الجمع هو ما قدمنا عن ابن سريج في الكلام على آخر وقت العشاء ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
فهذا الذي ذكرنا هو تفصيل الأوقات الذي أجمل في قوله تعالىٰ : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُود} ، وبيّن بعض البيان في قوله تعالىٰ : {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ} ، وقوله : {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ} ، وقوله : {فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .

{، وَلاَ تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَـٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَـٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَـٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً

نهى اللَّه تعالىٰ المسلمين في هذه الآية الكريمة عن الوهن ، وهو الضعف في طلب أعدائهم الكافرين ، وأخبرهم بأنهم إن كانوا يجدون الألم من القتل والجراح فالكفار كذلك ، والمسلم يرجو من اللَّه من الثواب والرحمة ما لا يرجوه الكافر ، فهو أحق بالصبر على الآلام منه ، وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ} ، وكقوله : {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلاْعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ} ، إلى غير ذلك من الآيات .