تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 95 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 95

094

قوله 102- "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من أهل الأمر حكمه كما هو معروف في الأصول، ومثله قوله تعالى "خذ من أموالهم صدقة" ونحوه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا: ولا يلحق غيره به لما له صلى الله عليه وسلم من المزية العظمى، وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن، وقد صلوها بعد موته في غير مرة كما ذلك معروف. ومعنى "أقمت لهم الصلاة" أردت الإقامة، كقوله " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ". وقوله " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " قوله "فلتقم طائفة منهم معك" يعني: بعد أن تجعلهم طائفتين، طائفة تقف بازاء العدو، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة "وليأخذوا أسلحتهم" أي: الطائفة التي تصلي معه، وقيل الضمير راجع إلأى الطائفة التي بإزاء العدو، والأول أظهر، لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو لا بد أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة، لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة فأمره الله بأن يكون آخذاً لسلاحه: أي غير واضع له. وليس المراد الأخذ باليد، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصته فيهم. وقد قال بإرجاع الضمير من قوله "وليأخذوا أسلحتهم" إلى الطائفة القائمة بإزاء العدو ابن عباس قال: لان المصلية لا تحارب، وقال غيره: إن الضمير راجع إلى المصلية، وجوز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمراً للطائفتين جميعاً لأنه أرهب للعدو. وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملاً للأمر على الوجوب. وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة، وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث الصحيحة. قوله "فإذا سجدوا" أي: القائمون في الصلاة "فليكونوا" أي: الطائفة القائمة بإزاء العدو "من ورائكم" أي من وراء المصلين. ويحتمل أن يكون المعنى: فإذا سجد المصلون معه: أي أتموا الركعة تعبيراً بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة "فليكونوا من ورائكم" أي: فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدو للحراسة "ولتأت طائفة أخرى" وهي: القائمة في مقابلة العدو التي لم تصل "فليصلوا معك" على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى "وليأخذوا" أي: هذه الطائفة الأخرى "حذرهم وأسلحتهم" زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح. قيل: وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل. وأما في المرة الأولى فربما يظنونهم قائمين للحرب، وقيل: لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت، لأنه آخر الصلاة، والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين؟ وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة وصفات متعددة، وكلها صحيحة مجزئة من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها فقد أبعد عن الصواب وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى، وفي سائر مؤلفاتنا. قوله "ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة" هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر وأخذ الصلاح: أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح وعن الحذر ليصلوا إلى مقصودهم وينالوا فرصتهم، فيشدون عليكم شدة واحدة، والأمتعة ما يتمتع به في الحرب، ومنه الزاد والراحلة. قوله: "ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم" رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من الممطر وفي حال المرض، لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح، ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدو على غرة وهم غافلون. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي حنظلة قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال: ركعتان قلت: فأين قوله تعالى "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ونحن آمنون؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل ابن عمر: أرأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنا لا نجدها في كتاب الله، إنما نجد ذكر صلاة الخوف، فقال ابن عمر: يا ابن أخي إن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين وغيرهما عن حارثة بن وهب الخزاعي قال:" صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين". وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال:" صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين". وأخرج ابن جرير عن علي قال: " سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله بين الصلاتين " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم " إلى قوله "إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً" فنزلت صلاة الخوف". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والدارقطني والحاكم وصححه عن أبي عياس الزرقي قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآيات "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" ثم ذكر صفة الصلاة التي صلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم". والأحاديث في صفة صلاة الخوف كثيرة، وهي مستوفاة في مواطنها، فلا نطول بذكرها ها هنا. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله "إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى" قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً.
103- "قضيتم" بمعنى فرغتم من صلاة الخوف، وهو أحد معاني القضاء، ومثله "فإذا قضيتم مناسككم" "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض". قوله "فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم" أي: في جميع الأحوال حتى في حال القتال. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو أثر صلاة الخوف: أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله في هذه الأحوال، وقيل معنى قوله "فإذا قضيتم الصلاة" إذا صليتم فصلوا قياماً وقعوداً أو على جنوبكم حسبما يقتضيه الحال عند ملاحمة القتال، فهي مثل قوله "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً". قوله "فإذا اطمأننتم" أي: أمنتم وسكنت قلوبكم، والطمأنينة: سكون النفس من الخوف "فأقيموا الصلاة" أي: فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان ولا تفعلوا ما أمكن، فإن ذلك إنما هو في حال الخوف. وقيل: المعنى في الآية أنهم يقضون ما صلوه في حال المسايفة، لأنها حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان وهو مروي عن الشافعي، والأول أرجح "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" أي: محدوداً معيناً، يقال: وقته فهو موقوت ووقته فهو موقت. والمعنى: إن الله افترض على عبادة الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتى بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم أو سهو أو نحوهما.
قوله 104- "ولا تهنوا في ابتغاء القوم" أي: لا تضعفوا في طلبهم وأظهروا القوة والجلد. قوله "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون" تعليل للنهي المذكور قبله: أي ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصاً بكم، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب، ومع ذلك فلكم عليهم مزية لا توجد فيهم، وهي أنكم ترجون من الله من الأجر وعظيم الجزاء ما لا يرجونه لكفرهم وجحودهم، فأنتم أحق بالصبر منهم وأولى بعدم الضعف منهم، فإن أنفسكم قوية، لأنها ترى الموت مغنماً، وهم يرونه مغرماً. ونظير هذه الآية قوله تعالى "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" وقيل: إن الرجاء هنا بمعنى الخوف، لأن من رجا شيئاً فهو غير قاطع بحصوله، فلا يخلو من خوف ما يرجو. وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي كقوله تعالى "ما لكم لا ترجون لله وقاراً" أي لا تخافون له عظمة. وقرأ عبد الرحمن الأعرج " إن تكونوا " بفتح الهمزة: أي: لأن تكونوا. وقرأ منصور بن المعتمر تيلمون بكسر التاء ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقله. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم" قال: بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر والحضر والغنى والفقر والسقم والصحة والسر والعلانية وعلى كل حال. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه بلغه أن قوماً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فقال: إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائماً صلى قاعداً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "فإذا اطمأننتم" قال: إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة "فأقيموا الصلاة" قال: أتموها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" يعني: مفروضاً. وأخرج ابن جرير عنه قال: الموقوت الواجب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله "ولا تهنوا" قال: ولا تضعفوا. وأخرجوا ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله "تألمون" قال: توجعون "وترجون من الله ما لا يرجون" قال: ترجون الخير.
قوله 105- "بما أراك الله" إما بوحي أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى الله به، وليس المراد هنا رؤية العين لأن الحكم لا يرى، بل المراد بما عرفه الله به وأرشده إليه. قوله "ولا تكن للخائنين" أي: لاجل الخائنين خصيماً: أي مخاصماً عنهم مجادلاً للمحقين بسببهم. وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق.