تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 114 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 114

113

قوله: 37- "يريدون أن يخرجوا من النار" هذا استئناف بياني، كأنه قيل: كيف حالهم فيما هم فيه من هذا العذاب الأليم؟ فقيل يريدون أن يخرجوا من النار. وقرئ "أن يخرجوا" من أخرج، ويضعف هذه القراءة "وما هم بخارجين منها" ومحل هذه الجملة أعني قوله: "وما هم بخارجين منها" النصب على الحال، وقيل إنها جملة اعتراضية. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وابتغوا إليه الوسيلة" قال: الوسيلة القربة. وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وابتغوا إليه الوسيلة" قال: تقربوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه. وأخرج مسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة" قال: يريد الفقير، فقلت لجابر يقول الله: "يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها" قال: اتل أول الآية "إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به" ألا إنهم الذين كفروا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: تزعم أن قوماً يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: "وما هم بخارجين منها" فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها هذه للكفار. قال الزمخشري في الكشاف بعد ذكره لهذا: إنه مما لفقته المجبرة، ويا لله العجب من رجل لا يفرق بين أصح الصحيح وبين أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعرض للكلام على ما لا يعرفه ولا يدري ما هو؟ وقد تواترت الأحاديث تواتراً لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الرواية بأن عصاة الموحدين يخرجون من النار، فمن أنكر هذا فليس بأهل للمناظرة لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة، اللهم غفراً.
لما ذكر سبحانه حكم من يأخذ المال جهاراً وهو المحارب، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية وهو السارق، وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام. وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة هل هو مقدر أم هو فاقطعوا؟ فذهب إلى الأول سيبويه، وقال تقديره: فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة: أي حكمهما. وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت، وقرئ 38- "والسارق والسارقة" بالنصب على تقدير اقطعوا، ورجح هذه القراءة سيبويه، قال: الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيداً اضربه، ولكن العامة أبت إلا الرفع، يعني عامة القراء، والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق والمصدر من سرق يسرق سرقاً قاله الجوهري: وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع، وسارقه النظر. قوله: "فاقطعوا" القطع معناه الإبانة والإزالة، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين، وقد بينت السنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ. وقال قوم: يقطع من المرفق. وقال الخوارج: من المنكب. والسرقة لا بد أن تكون ربع دينار فصاعداً، ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقد ذهب إلى اعتبار الربع الدينار الجمهور. وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم. وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز. وقال الحسن البصري إذا جمع الثياب في البيت قطع. وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشراح الحديث بما لا يأتي التطويل به هاهنا بكثير فائدة. قوله: "جزاء بما كسبا" مفعول له: أي فاقطعوا للجزاء أو مصدر مؤكد لفعل محذوف: أي فجاوزهما جزاء، والباء سببية، وما مصدرية: أي بسبب كسبهما، أو موصولة: أي جزاء بالذي كسباه من السرقة. وقوله: "نكالاً" بدل من جزاء، وقيل هو علة للجزاء: والجزاء علة للقطع، يقال نكلت به: إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل.
قوله: 39- "فإن الله يتوب عليه" ولكن اللفظ عام فيشمل السارق وغيره من المذنبين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد استدل بهذا عطاء وجماعة على أن القطع يسقط بالتوبة، وليس هذا الاستدلال بصحيح، لأن هذه الجملة الشرطية لا تفيد إلا مجرد قبول التوبة، وإن الله يتوب على من تاب، وليس فيها ما يفيد أنه لا قطع على التائب. وقد كان في زمن النبوة يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وجب عليه حد تائباً عن الذنب الذي ارتكبه طالباً لتطهيره بالحد فيحده النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال للسارق بعد قطعه: تب إلى الله، ثم قال: تاب الله عليك". أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة. وأخرج أحمد وغيره، أن هذه الآية نزلت في المرأة التي كانت تسرق المتاع، لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد قطعها: هل لي من توبة. وقد ورد في السنة ما يدل على أن الحدود إذا رفعت إلى الأئمة وجبت وامتنع إسقاطها.
قوله: 40- "ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" هذا الاستفهام للإنكار مع تقرير العلم وهو كالعنوان لقوله: "يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء" أي من كان له ملك السموات والأرض، فهو قادر على هذا التعذيب الموكول إلى المشيئة والمغفرة الموكولة إليها. وقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "جزاء بما كسبا نكالاً من الله" قال: لا ترثوا لهم فيه فإنه أمر الله الذي أمر به. قال: وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اشتدوا على الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه" يقول: الحد كفارته. والأحاديث في قدر نصاب السرقة وفي سائر ما يتعلق بتفاصيل هذا الحد مذكورة في كتب الحديث فلا نطيل بذلك.
قوله: 41- "لا يحزنك" قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين: وأحزنه غيره وحزنه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. وفي الآية النهي له صلى الله عليه وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء: الوقوع فيه بسرعة. والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ في على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه، ومن في قوله: "من الذين قالوا" بيانية، والجملة مبينة للمسارعين في الكفر، والباء في "بأفواههم" متعلقة بقالوا لا بآمنا، وهؤلاء الذين قالوا آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون "ومن الذين هادوا" يعني اليهود، وهو معطوف على "من الذين قالوا آمنا" وهو تمام الكلام. والمعنى: أن المسارعين في الكفر طائفة المنافقين وطائفة اليهود.