سورة المائدة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 115 من المصحف
وقوله: 42- "سماعون للكذب" خبر مبتدأ محذوف: أي هم سماعون للكذب، فهو راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين، واللام في قوله: "للكذب" للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول، وقيل إن قوله: "سماعون" مبتدأ خبره "من الذين هادوا" أي ومن الذين هادوا قوم "سماعون للكذب" أي قابلون لكذب رؤسائهم المحرفين للتوراة. قوله: "سماعون لقوم آخرين" خبر ثان، واللام فيه كاللام في للكذب، وقيل اللام للتعليل في الموضعين أي سماعون لكلام رسول الله لأجل الكذب عليه، وسماعون لأجل قوم آخرين وجهوهم عيوناً لهم لأجل أن يبلغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "لم يأتوك" صفة لقوم: أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبراً وتمرداً، وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال: "ملعونين أينما ثقفوا". قوله: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" من جملة صفات القوم المذكورين: أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ويتأولونه على غير تأويله. والمحرفون هم اليهود، وقيل إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف، وقيل في محل نصب على الحال من "لم يأتوك" وقيل مستأنفة لا محل لها من الإعراب لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم. ومعنى "من بعد مواضعه" من بعد كونه موضوعاً في مواضعه، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه، أو من حيث معناه قوله: "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه" جملة حالية من ضمير يحرفون، أو مستأنفة، أو صفة لقوم، أو خبر مبتدأ محذوف، والإشارة بقولهم: "هذا" إلى الكلام المحرف: أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرفناه فخذوه واعملوا به وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره فاحذروا من قبوله والعمل به. قوله: "ومن يرد الله فتنته" أي ضلالته "فلن تملك له من الله شيئاً" أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أولياً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم: أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق كما طهر قلوب المؤمنين "لهم في الدنيا خزي" بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة. قوله: "سماعون للكذب" كرره تأكيداً لقبحه، وليكون كالمقدمة لما بعده، وهو "أكالون للسحت" وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدر سابقاً. والسحت بضم السين وسكون الحاء: المال الحرام، وأصله الهلاك والشدة، من سحته: إذا هلكه، ومنه "فيسحتكم بعذاب"، ومنه قول الفرزدق: وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو محلق ويقال للحالق اسحت: أي استأصل، وسمي الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات: أي يذهبها ويستأصلها، وقال الفراء: أصله كلب الجوع، وقيل هو الرشوة، والأول أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أولياً. وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضي له حاجة، وحلوان الكاهن، والتعميم أولى بالصواب. قوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الحكم بينهم والإعراض عنهم. وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين. وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم. واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم، فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي: وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء. قوله: "وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيل لهم عليك، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم "فاحكم بينهم بالقسط" أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك.
قوله: 43- "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله" فيه تعجيب له صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير. قوله: "ثم يتولون" عطف على يحكمونك، "من بعد ذلك" أي من بعد تحكيمهم لك، وجملة قوله: "وما أولئك بالمؤمنين" لتقرير مضمون ما قبلها.
وقوله: 44- "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور، وهو بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه. قوله: "يحكم بها النبيون" هم أنبياء بني إسرائيل، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و "الذين أسلموا" صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً. قوله: "للذين هادوا" متعلق بيحكم. والمعنى: أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا عليهم. والربانيون العلماء الحكماء، وقد سبق تفسيره، والأحبار العلماء، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم: أي يحسنونه. قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيدة: هو بالفتح. قوله: "بما استحفظوا من كتاب الله" الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ: أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم: أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ. قوله: "وكانوا عليه شهداء" أي على كتاب الله والشهداء الرقباء، فهم يحمون عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة، والخطاب بقوله: "فلا تخشوا الناس" لرؤساء اليهود، وكذا في قوله: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" والاشتراء الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه. قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" لفظ من من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل بكل من ولي الحكم، وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب، وقيل بالكفار مطلقاً لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة، وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافاً، أو استحلالاً، أو جحداً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: "هم الكافرون". وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" قال: هم اليهود "من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" قال: هم المنافقون. وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: إن الله أنزل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "الظالمون"، "الفاسقون" أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ورسول الله يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم، فأما إذا قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ذلك، فكانت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما نعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً وقهراً لهم، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتوه، وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين يختبرون لهم رأيه، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله "يا أيها الرسول لا يحزنك" إلى قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ثم قال فيهم: والله أنزلت وإياهم عنى. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال:" أول مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد وأصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا، فلم يكلمهم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب: فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ونجبه ويجلد، والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟، قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: والله لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة، فأمر بهما فرجما". قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم. وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة، وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا. وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر: "أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة؟، قالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، قالوا صدق، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله في قوله: "ومن الذين هادوا سماعون للكذب" قال: يهود المدينة. "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" قال: يهود فدك "يحرفون الكلم" قال: يهود فدك يقولون ليهود المدينة "إن أوتيتم هذا" الجلد "فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" الرجم. وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عنه قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً، وذكر القصة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أكالون للسحت" قال: أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: السحت الرشوة في الدين. قال سفيان: يعني في الحكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أيضاً قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يرد عليه حقاً فأهدى له هدية فقبلها فذلك السحت فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم، فقال ذلك الكفر: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام. وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال: السحت الرشوة. وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشاء في الحكم، ومهر الزانية. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد، وقوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا. وأخرج نحوه في الآية الآخرة عنه أبو عبيدة وابن المنذر وابن مردويه. وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها: "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى قوله: "المقسطين" إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء. وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وعندهم التوراة فيها حكم الله" يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة، قال: "وكتبنا عليهم فيها" إلى قوله: "والجروح قصاص". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا" يعني النبي صلى الله عليه وسلم "للذين هادوا" يعني اليهود. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء. وأخرج عن مجاهد قال: الربانيون العلماء الفقهاء، وهم فوق الأحبار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الربانيون العباد، والأحبار العلماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الربانيون الفقهاء العلماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء. وأخرج ابن جرير عن السدي "فلا تخشوا الناس" فتكتموا ما أنزلت "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" على أن تكتموا ما أنزلت. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" قال: لا تأكلوا السحت على كتابي. وأخرج ابن جرير وابن المذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ومن لم يحكم" يقول: من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "هم الظالمون"، "هم الفاسقون" قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وأخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" و "الظالمون" و "الفاسقون" في اليهود خاصة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن حذيفة، أن هذه الآيات ذكرت عنده "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" و "الظالمون" و "الفاسقون" فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة كلا، والله لتسلكن طريقهم قد الشراك. وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس.
قوله: 45- "وكتبنا" معطوف على أنزلنا التوراة، ومعناها فرضنا، بين الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل: من القصاص في النفس، والعين، والأنف، والأذن، والسن، والجروح. وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إنه يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس. وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا. وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: "كتب عليكم القصاص في القتلى" ما فيه كفاية. وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق. وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه. قال ابن كثير في تفسيره: وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى. وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا على المنتقى، وفي هذه الآية لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير. قوله: "والعين بالعين" قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضاً في الكل إلا في الجروح فبالرفع. وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفاً على المحل، لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء. وقال الزجاج: يكون عطفاً على المضمر في النفس، لأن التقدير: إن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين. والظاهر من النظم القرآن أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيا مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السن، فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو ببعض الأذن، أو ببعض السن، فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص. وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته، وكلامهم مدون في كتب الفروع. والظاهر من قوله: "والسن بالسن" أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات، وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعض على بعض. وإليه ذهب أكثر أهل العلم، كما قال ابن المنذر، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه، وكلامهم مدون في مواطنه، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإن كانت ذاهبة فما يليها. قوله: "والجروح قصاص" أي ذوات قصاص. وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقاً أو طولاً أو عرضاً. وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة، وليس هذا موضع بيان كلامهم، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر. قوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له" أي من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص، بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه. وقيل إن المعنى: فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه. والأول أرجح، لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور. قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 115
114وقوله: 42- "سماعون للكذب" خبر مبتدأ محذوف: أي هم سماعون للكذب، فهو راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين، واللام في قوله: "للكذب" للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول، وقيل إن قوله: "سماعون" مبتدأ خبره "من الذين هادوا" أي ومن الذين هادوا قوم "سماعون للكذب" أي قابلون لكذب رؤسائهم المحرفين للتوراة. قوله: "سماعون لقوم آخرين" خبر ثان، واللام فيه كاللام في للكذب، وقيل اللام للتعليل في الموضعين أي سماعون لكلام رسول الله لأجل الكذب عليه، وسماعون لأجل قوم آخرين وجهوهم عيوناً لهم لأجل أن يبلغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "لم يأتوك" صفة لقوم: أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبراً وتمرداً، وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال: "ملعونين أينما ثقفوا". قوله: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" من جملة صفات القوم المذكورين: أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ويتأولونه على غير تأويله. والمحرفون هم اليهود، وقيل إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف، وقيل في محل نصب على الحال من "لم يأتوك" وقيل مستأنفة لا محل لها من الإعراب لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم. ومعنى "من بعد مواضعه" من بعد كونه موضوعاً في مواضعه، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه، أو من حيث معناه قوله: "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه" جملة حالية من ضمير يحرفون، أو مستأنفة، أو صفة لقوم، أو خبر مبتدأ محذوف، والإشارة بقولهم: "هذا" إلى الكلام المحرف: أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرفناه فخذوه واعملوا به وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره فاحذروا من قبوله والعمل به. قوله: "ومن يرد الله فتنته" أي ضلالته "فلن تملك له من الله شيئاً" أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أولياً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم: أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق كما طهر قلوب المؤمنين "لهم في الدنيا خزي" بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة. قوله: "سماعون للكذب" كرره تأكيداً لقبحه، وليكون كالمقدمة لما بعده، وهو "أكالون للسحت" وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدر سابقاً. والسحت بضم السين وسكون الحاء: المال الحرام، وأصله الهلاك والشدة، من سحته: إذا هلكه، ومنه "فيسحتكم بعذاب"، ومنه قول الفرزدق: وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو محلق ويقال للحالق اسحت: أي استأصل، وسمي الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات: أي يذهبها ويستأصلها، وقال الفراء: أصله كلب الجوع، وقيل هو الرشوة، والأول أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أولياً. وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضي له حاجة، وحلوان الكاهن، والتعميم أولى بالصواب. قوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الحكم بينهم والإعراض عنهم. وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين. وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم. واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم، فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي: وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء. قوله: "وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيل لهم عليك، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم "فاحكم بينهم بالقسط" أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك.
قوله: 43- "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله" فيه تعجيب له صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير. قوله: "ثم يتولون" عطف على يحكمونك، "من بعد ذلك" أي من بعد تحكيمهم لك، وجملة قوله: "وما أولئك بالمؤمنين" لتقرير مضمون ما قبلها.
وقوله: 44- "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور، وهو بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه. قوله: "يحكم بها النبيون" هم أنبياء بني إسرائيل، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و "الذين أسلموا" صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً. قوله: "للذين هادوا" متعلق بيحكم. والمعنى: أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا عليهم. والربانيون العلماء الحكماء، وقد سبق تفسيره، والأحبار العلماء، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم: أي يحسنونه. قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيدة: هو بالفتح. قوله: "بما استحفظوا من كتاب الله" الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ: أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم: أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ. قوله: "وكانوا عليه شهداء" أي على كتاب الله والشهداء الرقباء، فهم يحمون عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة، والخطاب بقوله: "فلا تخشوا الناس" لرؤساء اليهود، وكذا في قوله: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" والاشتراء الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه. قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" لفظ من من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل بكل من ولي الحكم، وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب، وقيل بالكفار مطلقاً لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة، وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافاً، أو استحلالاً، أو جحداً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: "هم الكافرون". وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" قال: هم اليهود "من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" قال: هم المنافقون. وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: إن الله أنزل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "الظالمون"، "الفاسقون" أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ورسول الله يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم، فأما إذا قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ذلك، فكانت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما نعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً وقهراً لهم، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتوه، وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين يختبرون لهم رأيه، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله "يا أيها الرسول لا يحزنك" إلى قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ثم قال فيهم: والله أنزلت وإياهم عنى. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال:" أول مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد وأصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا، فلم يكلمهم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب: فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ونجبه ويجلد، والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟، قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: والله لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة، فأمر بهما فرجما". قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم. وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة، وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا. وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر: "أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة؟، قالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، قالوا صدق، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله في قوله: "ومن الذين هادوا سماعون للكذب" قال: يهود المدينة. "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" قال: يهود فدك "يحرفون الكلم" قال: يهود فدك يقولون ليهود المدينة "إن أوتيتم هذا" الجلد "فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" الرجم. وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عنه قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً، وذكر القصة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أكالون للسحت" قال: أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: السحت الرشوة في الدين. قال سفيان: يعني في الحكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أيضاً قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يرد عليه حقاً فأهدى له هدية فقبلها فذلك السحت فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم، فقال ذلك الكفر: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام. وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال: السحت الرشوة. وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشاء في الحكم، ومهر الزانية. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد، وقوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا. وأخرج نحوه في الآية الآخرة عنه أبو عبيدة وابن المنذر وابن مردويه. وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها: "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى قوله: "المقسطين" إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء. وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وعندهم التوراة فيها حكم الله" يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة، قال: "وكتبنا عليهم فيها" إلى قوله: "والجروح قصاص". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا" يعني النبي صلى الله عليه وسلم "للذين هادوا" يعني اليهود. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء. وأخرج عن مجاهد قال: الربانيون العلماء الفقهاء، وهم فوق الأحبار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الربانيون العباد، والأحبار العلماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الربانيون الفقهاء العلماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء. وأخرج ابن جرير عن السدي "فلا تخشوا الناس" فتكتموا ما أنزلت "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" على أن تكتموا ما أنزلت. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" قال: لا تأكلوا السحت على كتابي. وأخرج ابن جرير وابن المذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ومن لم يحكم" يقول: من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "هم الظالمون"، "هم الفاسقون" قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وأخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" و "الظالمون" و "الفاسقون" في اليهود خاصة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن حذيفة، أن هذه الآيات ذكرت عنده "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" و "الظالمون" و "الفاسقون" فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة كلا، والله لتسلكن طريقهم قد الشراك. وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس.
قوله: 45- "وكتبنا" معطوف على أنزلنا التوراة، ومعناها فرضنا، بين الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل: من القصاص في النفس، والعين، والأنف، والأذن، والسن، والجروح. وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إنه يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس. وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا. وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: "كتب عليكم القصاص في القتلى" ما فيه كفاية. وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق. وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه. قال ابن كثير في تفسيره: وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى. وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا على المنتقى، وفي هذه الآية لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير. قوله: "والعين بالعين" قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضاً في الكل إلا في الجروح فبالرفع. وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفاً على المحل، لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء. وقال الزجاج: يكون عطفاً على المضمر في النفس، لأن التقدير: إن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين. والظاهر من النظم القرآن أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيا مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السن، فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو ببعض الأذن، أو ببعض السن، فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص. وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته، وكلامهم مدون في كتب الفروع. والظاهر من قوله: "والسن بالسن" أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات، وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعض على بعض. وإليه ذهب أكثر أهل العلم، كما قال ابن المنذر، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه، وكلامهم مدون في مواطنه، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإن كانت ذاهبة فما يليها. قوله: "والجروح قصاص" أي ذوات قصاص. وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقاً أو طولاً أو عرضاً. وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة، وليس هذا موضع بيان كلامهم، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر. قوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له" أي من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص، بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه. وقيل إن المعنى: فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه. والأول أرجح، لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور. قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية.
الصفحة رقم 115 من المصحف تحميل و استماع mp3