تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 124 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 124

123

قوله: 96- "أحل لكم صيد البحر" الخطاب لكل مسلم أو للمحرمين خاصة، وصيد البحر ما يصاد فيه، والمراد بالبحر هنا كل ماء يوجد فيه صيد بحري وإن كان نهراً أو غديراً. قوله: "وطعامه متاعاً لكم وللسيارة" الطعام لكل ما يطعم، وقد تقدم. وقد اختلف في المراد به هنا فقيل: هو ما قذف به البحر وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين، وقيل طعامه ما ملح منه وبقي، وبه قال جماعة، وروي عن ابن عباس، وقيل طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره، وبه قال قوم، وقيل المراد به ما يطعم من الصيد: أي ما يحل أكله وهو السمك فقط، وبه قالت الحنفية. والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم المأكول منه وهو السمك، فيكون التخصيص بعد التعميم، وهو تكلف لا وجه له، ونصب متاعاً على أنه مصدر: أي متعتم به متاعاً، وقيل مفعول له مختص بالطعام: أي أحل لكم طعام البحر متاعاً، وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير، بل إذا كان مفعولاً له كان من الجميع: أي أحل لكم مصيد البحر وطعامه تمتيعاً لكم: أي لمن كان مقيماً منكم يأكله طرياً "وللسيارة" أي المسافرين منكم يتزودونه ويجعلونه قديداً، وقيل السيارة: هم الذين يركبونه خاصة. قوله: "وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً" أي حرم عليكم ما يصاد في البر ما دمتم محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالاً، وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، وبه يجمع بين الأحاديث، وقيل إنه يحل له مطلقاً، وإليه ذهب جماعة: وقيل يحرم عليه مطلقاً، وإليه ذهب آخرون، وقد بسطنا هذا في شرحنا للمنتقي. قوله: "واتقوا الله الذي إليه تحشرون" أي اتقوا الله فيما نهاكم عنه الذي إليه تحشرون لا إلى غيره، وفيه تشديد ومبالغة في التحذير. وقرئ "وحرم عليكم صيد البر" بالبناء للفاعل وقرئ "ما دمتم" بكسر الدال.
قوله: 97- "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس" جعل هنا بمعنى خلق، وسميت الكعبة كعبة لأنها مربعة والتكعيب التربيع وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة، وقيل سميت كعبة لنتوئها وبروزها، وكل بارز كعب مستديراً كان أو غير مستدير، ومنه كعب القدم، وكعوب القنا، وكعب ثدي المرأة، و "البيت الحرام" عطف بيان وقيل مفعول ثان ولا وجه له، وسمي بيتاً لأن له سقوفاً وجدراً وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن، وسمي حراماً لتحريم الله سبحانه إياه. وقوله: "قياماً للناس" كذا قرأ الجمهور وقرأ ابن عامر "قيماً" وهو منصوب على أنه المفعول الثاني إن كان جعل هو المتعدي إلى مفعولين، وإن كان بمعنى خلق كما تقدم فهو منتصب على الحال، ومعنى كونه قياماً: أنه مدار لمعاشهم ودينهم: أي يقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم: يأمن فيه خفائفهم، وينصر فيه ضعيفهم، ويربح فيه تجارهم، ويتعبد فيه متعبدهم. قوله: "والشهر الحرام" عطف على الكعبة، وهو ذو الحجة، وخصه من بين الأشهر الحرم لكونه زمان تأدية الحج، وقيل هو اسم جنس. والمراد به الأشهر الحرم ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، فإنهم كانوا لا يطلبون فيها دماً، ولا يقاتلون بها عدواً، ولا يهتكون فيها حرمة، فكانت من هذه الحيثية قياماً للناس "والهدي والقلائد" أي وجعل الله الهدي والقلائد قياماً للناس. والمراد بالقلائد: ذوات القلائد من الهدي، ولا مانع من أن يراد بالقلائد أنفسها، والإشارة بذلك إلى الجعل: أي ذلك الجعل "لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض" أي لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمر السموات والأرض ويعلم مصالحكم الدينية والدنيوية فإنها من جملة ما فيهما، فكل ما شرعه لكم فهو جلب لمصالحكم، ودفع لما يضركم "وأن الله بكل شيء عليم" هذا تعميم بعد التخصيص.
98- "اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم" ثم أمرهم بأن يعلموا بأن الله لمن انتهك محارمه ولم يتب عن ذلك شديد العقاب، وأنه لمن تاب وأناب غفور رحيم.
99- "ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون" ثم أخبرهم أن ما على رسوله إلا البلاغ لهم، فإن لم يمتثلوا ويطيعوا فما ضروا إلا أنفسهم وما جنوا إلا عليها، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد فعل ما يجب عليه، وقام بما أمره الله به. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ومن قتله منكم متعمداً" قال: إن قتله متعمداً أو ناسياً أو خطأ حكم عليه، فإن عاد متعمداً عجلت له العقوبة إلا أن يعفو الله عنه، وفي قوله: "فجزاء مثل ما قتل من النعم" قال: إذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلاً ونحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً، فإن لم يجد صام عشرين يوماً، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة، فإن لم يجد أطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً، والطعام مد مد يشبعهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الحكم أن عمر كتب أن يحكم عليه في الخطأ والعمد. وأخرجا نحوه عن عطاء. وقد روي نحو هذا عن جماعات من السلف من غير فرق بين العامد والخاطئ والناسي، وروي عن آخرين اختصاص ذلك بالعامد. وللسلف في تقدير الجزاء المماثل وتقدير القيمة أقوال مبسوطة في مواطنها. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيضة النعام: "صيام يوم أو إطعام مسكين". وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن ذكوان عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وأخرج أيضاً عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم نحوه. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه من طريق أبي المهزم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في بيض النعام ثمنه". وقد استنثى النبي صلى الله عليه وسلم من حيوانات الحرم الخمس الفواسق كما ورد ذلك في الأحاديث فإنه يجوز للمحرم أن يقتلها ولا شيء عليه. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم" ما لفظ ميتاً فهو طعامه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفاً مثله. وأخرج أبو الشيخ عن أبي بكر الصديق نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة أن أبا بكر الصديق قال في قوله: "أحل لكم صيد البحر وطعامه" قال: صيد البحر ما تصطاده أيديناً، وطعامه ما لاثه البحر، وفي لفظ: كل ما فيه. وفي لفظ: طعامه ميتته. ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث العنبرة التي ألقاها البحر فأكل الصحابة منها وقررهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وحديث هو: "الطهور ماؤه والحل ميتته". وحديث: "أحل لكم ميتتان ودمان". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس" قال: قياماً لدينهم ومعالم حجهم. وأخرج ابن جرير عنه قال: قيامها أن يأمن من توجه إليها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: جعل الله الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام قياماً للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى، لا يخاف بعضهم من بعض حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد" قال: حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، فكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل لو لقي الهدي مقلداً وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فحمته ومنعته من الناس، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من السمر، فتمنعه من الناس حتى يأتي أهله حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم "قياماً للناس" قال: أمنا.
قيل المراد بالخبيث والطيب: الحرام والحلال، وقيل المؤمن والكافر، وقيل العاصي والمطيع، وقيل الرديء والجيد. والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال، فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال. قوله: 100- "ولو أعجبك كثرة الخبيث" قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا. والمراد نفي الاستواء في كل الأحوال، ولو في حال كون الخبيث معجباً للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبيث في حكم العدم، لأن خبث الشيء يبطل فائدته، ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته، والواو إما للحال أو للعطف على مقدر: أي لا يستوي الخبيث والطيب لو لم تعجبك كثرة الخبيث، ولو أعجبك كثرة الخبيث كقولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك: أي أحسن إليه إن لم يسيء إليك وإن أساء إليك، وجواب لو محذوف: أي ولو أعجبك كثرة الخبيث فلا يستويان.
قوله: 101- "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" أي لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم، فقوله: "إن تبد لكم تسؤكم" في محل جر صفة لأشياء: أي لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم: أي ظهرت وكلفتم بها ساءتكم، نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سبباً لإيجابه على السائل وعلى غيره. قوله: "وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم" هذه الجملة من جملة صفة أشياء. والمعنى: لا تسألوا عن أشياء أن تسألوا عنها حين ينزل القرآن، وذلك مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ونزول الوحي عليه "تبد لكم" أي تظهر لكم بما يجيب عليكم به النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينزل به الوحي فيكون ذلك سبباً للتكاليف الشاقة وإيجاب ما لم يكن واجباً وتحريم ما لم يكن محرماً، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال. وقد ظن بعض أهل التفسير أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه، فقال: إن الشرطية الأولى أفادت عدم جواز السؤال، والثانية أفادت جوازه، فقال إن المعنى: وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبد لكم بجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وجعل الضمير في "عنها" راجعاً إلى أشياء غير الأشياء المذكورة، وجعل ذلك كقوله: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" وهو آدم، ثم قال: "ثم جعلناه نطفة" أي ابن آدم. قوله: "عفا الله عنها" أي عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك. وقيل المعنى: إن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه ولم يوجبه عليكم، فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم؟ وضمير "عنها" عائد إلى المسألة الأولى، وإلى أشياء على الثاني على أن تكون جملة "عفا الله عنها" صفة ثالثة لأشياء، والأول أولى، لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه، ويمكن أن يقال إن العفو بمعنى الترك: أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل، ثم جاء سبحانه بصيغة المبالغة في كونه غفوراً حليماً ليدل بذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة لكثرة مغفرته وسعة حلمه.
قوله: 102- "قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين" الضمير يرجع إلى المسألة المفهومة من "لا تسألوا" لكن ليست هذه المسألة بعينها، بل مثلها في كونها مما لا حاجة إليه ولا توجبه الضرورة الدينية ثم لم يعملوا بها، بل أصبحوا بها كافرين: أي ساترين لها تاركين للعمل بها، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة، ولا بد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا، لأن الأمر الذي تدعو الحاجة إليه في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" وقال صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال".
قوله: 103- "ما جعل الله من بحيرة" هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، وجعل ههنا بمعنى سمى كما قال "إنا جعلناه قرآناً عربياً". والبحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة، وهي مأخوذة من البحر، وهو شق الأذن. قال ابن سيده: البحيرة هي التي خليت بلا راع، قيل هي التي يجعل درها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس، وجعل شق أذنها علامة لذلك. وقال الشافعي: كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثاً بحرت أذنها فحرمت، وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها، وقيل إذا نتجت الناقة خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها. والسائبة: الناقة تسيب، أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله، فلا يحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبه أحد قاله أبو عبيد. قال الشاعر: وسائبة لله تنمي تشكــرا إن الله عافى عامراً ومجاشعا وقيل هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعي لها، ومنه قول الشاعر: عقرتم ناقة كانت لـــربي مسيبة فقومــوا للعقــــاب وقيل هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، فعند ذلك لا يركب ظهرها. ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وقيل كانوا يسيبون العبد فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد. والوصيلة: قيل هي الناقة إذا ولدت أنثى بعد أنثى، وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها، وكان لحمها حراماً على النساء، إلا أن يموت فيأكلها الرجال والنساء. والحام: الفحل الحامي ظهره عن أن يركب، وكانوا إذا ركب ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب، قال الشاعر: حماها أبو قابوس في عز ملكه كما قد حمى أولاده الفحل
وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة، قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء، ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذباً، لا لشرع شرعه الله لهم ولا لعقل دلهم عليه، وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها، يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق 104- "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" وهذه أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم، وصدق الله سبحانه حيث يقول: " أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " أي ولو كانوا جهلة ضالين، والواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام، وقيل للعطف على جملة مقدرة: أي أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم. وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة. وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكأون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ لهم صارخ الكتاب والسنة فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله مع مخالفة قوله لكتاب الله أو لسنة رسوله هو كقول هؤلاء، وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية، لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة، اللهم غفراً. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية: قال الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال رجل: من أبي؟ فقال فلان، فنزلت هذه الآية: "لا تسألوا عن أشياء"". وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث ابن عباس، وقد بين هذا السائل في روايات أخر أنه عبد الله بن حذافة وأنه قال: من أبي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبوك حذافة. وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: ياأيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحج، فقام رجل، فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه فأعادها ثلاث مرات، فقال:لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" وذلك أن هذه الآية: أعني "لا تسألوا عن أشياء" نزلت في ذلك. وقد أخرج عنه نحو هذا ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه أيضاً. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن علي نحوه، وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال، فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم، وإذا حرم عليهم وقعوا فيه. وأخرج ابن المنذر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته". وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لا تسألوا عن أشياء" قال: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يجلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى. وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكراً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى جدعوا آذانها فقالوا هذه بحيرة، وأما السائبة فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزون لها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً، وأما الوصيلة فالشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكراً أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً أو أنثى في بطن استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرمته علينا. وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا: حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئاً، ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حمى ولا من حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه. وأخرج نحوه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق العوفي.
أي الزموا أنفسكم أو احفظوها كما تقول عليك زيداً: أي الزمه، قرئ 105- "لا يضركم" بالجزم على أنه جواب الأمر الذي يدل عليه اسم الفعل. وقرأ نافع وغيره بالرفع على أنه مستأنف، كقول الشاعر: فقال رائدهم أرسوا نزاولها أو على أن ضم الراء للاتباع، وقرئ "لا يضركم" بكسر الضاد، وقرئ لا يضيركم والمعنى: لا يضركم ضلال من ضل من الناس إذا اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد. وقد قال الله سبحانه "إذا اهتديتم" وقد دلت الآيات القرآنية، والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً مضيقاً متحتماً، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضرراً يسوغ له معه الترك "إلى الله مرجعكم" يوم القيامة "فينبئكم بما كنتم تعملون" في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني والضياء في المختارة وغيرهم، عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب". وفي لفظ لابن جرير عنه: "والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله منه بعقاب". وأخرج الترمذي وصححه، وابن ماجة وابن جرير والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعثاني قال: "أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم". وفي لفظ "قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال:بل أجر خمسين منكم". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه "عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى، فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:أين ذهبتم؟ إنما هي لا يضركم من ضل إذا اهتديتم". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: "عليكم أنفسكم" فقال: يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حيد عنه في الآية قال: "مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر أنه قال في هذه الآية: إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن رجل قال: كنت في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ حسبت أنه قال أبي بن كعب، فقرأ "عليكم أنفسكم" فقال: إنما تأويلها في آخر الزمان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم "عليكم أنفسكم" فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت: أليس الله يقول: "عليكم أنفسكم"؟ فأقبلوا علي بلسان واحد فقالوا: تنزع آية من القرآن لا نعرفها ولا ندري ما تأويلها؟ حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت، ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية لا ندري ما هي؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان: إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي ثعلبة الخشني المتقدم، وفي آخره: "كأجر خمسين رجلاً منكم". وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يجئ تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام". والروايات في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال مكي: هذه الآيات الثالث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً. قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله: يعني من كتاب مكي. قال القرطبي: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً. قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً. قوله: 106- "شهادة بينكم" أضاف الشهادة إلى البين توسعاً لأنها جارية بينهم، وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت ما وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى: "بل مكر الليل والنهار" ومنه قول الشاعر: تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفايا وعني بين عينيك منزوي أراد ما بين عينيك، ومثله الآخر: ويوماً شهدناه سليماً وعامرا أي شهدنا فيه، ومنه قوله تعالى: "هذا فراق بيني وبينك" قيل والشهادة هنا بمعنى الوصية، وقيل بمعنى الحضور للوصية. وقال ابن جرير الطبري: هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى: يمين ما بينكم أن يحلف اثنان. واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود. قوله: "إذا حضر أحدكم الموت" ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام ولكمال تمكن الفاعل عند النفس. وقوله: "حين الوصية" ظرف لحضر أو للموت، أو بدل من الظرف الأول. وقوله: "اثنان" خبر شهادة على تقدير محذوف: أي شهادة اثنين أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف: أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان على تقدير أن يشهد اثنان، ذكر الوجهين أبو علي الفارسي. قوله: "ذوا عدل منكم" صفة للاثنان وكذا منكم: أي كائنان منكم: أي من أقاربكم "أو آخران" معطوف على "اثنان"، و "من غيركم" صفة له: أي كائنان من الأجانب، وقيل إن الضمير في "منكم" للمسلمين، وفي "غيركم" للكفار وهو الأنسب لسياق الآية، وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وغيرهما، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا، وأن ما شهدا به حق، فيحكم حينئذ بشهادتهم. "فإن عثر" بعد ذلك "على أنهما" كذا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل. وذهب إلى الأول: أعني تفسير ضمير "منكم" بالقرابة أو العشيرة، وتفسير "من غيركم" بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة. وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء أن الآية منسوخة، واحتجوا بقوله: "ممن ترضون من الشهداء". وقوله: "وأشهدوا ذوي عدل منكم" فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين، ولا تعارض بين عام وخاص. قوله: "إن أنتم" هو فاعل فعل محذوف يفسره ضربتم، أو مبتدأ وما بعده خبره، والأول مذهب الجمهور من النحاة، والثاني مذهب الأخفش والكوفيين. والضرب في الأرض هو السفر. وقوله: "فأصابتكم مصيبة الموت" معطوف على ما قبله وجوابه محذوف، أي إن ضربتم في الأرض فنزل بكم الموت وأردتم الوصية ولم تجدوا شهوداً عليها مسلمين، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما، ويجوز أن يكون استئنافاً لجواب سؤال مقدر، كأنهم قالوا: فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم في شهادتهما. وخص بعد الصلاة: أي صلاة العصر، قاله الأكثر لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجراً كما في الحديث الصحيح، وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة، وقيل صلاة الظهر، وقيل أي صلاة كانت. قال أبو علي الفارسي: "تحبسونهما" صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: "إن أنتم ضربتم في الأرض"، والمراد بالحبس: توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما. قوله: "فيقسمان بالله" معطوف على "تحبسونهما" أي يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيان. وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقاً إذا حصلت الريبة في شهادتهما. وفيه نظر لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو لوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها. قوله: "إن ارتبتم" جواب هذا الشرط محذوف دل عليه ما تقدم كما سبق. قوله: "لا نشتري به ثمناً" جواب القسم، والضمير في "به" راجع إلى الله تعالى. والمعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر، فنحلف به كاذبين لأجل المال الذي ادعيتموه علينا، وقيل يعود إلى القسم: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من أعراض الدنيا، وقيل يعود إلى الشهادة، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول: أي لا نستبدل بشهادتنا ثمناً. قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا مبني على أن العروض لا تسمى ثمناً، وعند الأكثر أنها تسمى ثمناً كا تسمى مبيعاً. قوله: "ولو كان ذا قربى" أي ولو كان المقسم له أو المشهود له قريباً فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة، وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه: أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمناً. قوله: "ولا نكتم شهادة الله" معطوف على "لا نشتري" داخل معه في حكم القسم، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها.