تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 19 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 19

018

قوله: 120- "ولن ترضى عنك اليهود" الآية: أي ليس غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات ويوردونه من التعنتات، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون وأجبتهم عن كل تعنت لم يرضوا عنك، ثم أخبره بأنهم لن يرضوا عنه حتى يدخل في دينهم ويتبع ملتهم. والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه وهكذا الشريعة، ثم رد عليهم سبحانه فأمره بأن يقول لهم: "إن هدى الله هو الهدى" الحقيقي، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة والكتب المحرفة ثم أتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله إن اتبع أهواءهم وحاول رضاهم وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم، ويحتمل أن يكون تعريضاً لأمته وتحذيراً لهم أن يواقعوا شيئاً من ذلك، أو يدخلوا في أهوية أهل الملل ويطلبوا رضا أهل البدع. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه والقائمين ببيان شرائعه، ترك الدهان لأهل المتمذهبين بمذاهب السوء، التاركين للعمل بالكتاب والسنة، المؤثرين لمحض الراي عليهما، فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولاً وأبان من أخلاقه ليناً لا يرضيه إلا اتباع بدعته والدخول في مداخله والوقوع في خبائله، فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة، وجهالة بينة ورأي منهار، وتقليد على شفا جرف هار، فهو إذ ذاك ما له من الله من ولي ولا نصير ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة وهالك بلا شك ولا شبهة.
وقوله: 121- "الذين آتيناهم الكتاب" قيل: هم المسلمون والكتاب هو القرآن، وقيل: من أسلم من أهل الكتاب، والمراد بقوله: "يتلونه" أنهم يعلمون بما فيه فيحللون حلاله ويحرمون حرامه، فيكون من تلاه يتلوه إذا اتبعه، ومنه قوله تعالى: "والقمر إذا تلاها" أي اتبعها كذا قيل، ويحتمل أن يكون من التلاوة: أي يقرأونه حق قراءته لا يحرفونه ولا يبدلونه. وقوله: "الذين آتيناهم الكتاب" مبتدأ وخبره "يتلونه" أو الخبر قوله: "أولئك" مع ما بعده. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي" فنزل: "إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" فما ذكرها حتى توفاه الله. قال السيوطي: هذا مرسل ضعيف الإسناد. ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم مرفوعاً وقال: هو معضل الإسناد ضعيف لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: "الجحيم" ما عظم من النار. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجحون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم. فأنزل الله: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى" الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله: "الذين آتيناهم الكتاب" قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه. وأخرجوا عنه أيضاً قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأوا: "والقمر إذا تلاها" يقول: اتبعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال في قوله: "يتلونه حق تلاوته" إذا ملار بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار. وأخرج الخطيب في كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يتبعونه حق اتباعه، وكذا قال القرطبي في تفسيره أن في إسناده مجاهيل، قال: لكن معناه صحيح. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير من طرق عن ابن مسعود في تفسيره هذه الآية مثل ما سبق عن ابن عباس في قوله: يحلون حلاله إلى آخره. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: يتكلمون به كما أنزل ولا يكتمونه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في هذه الآية قال: هم أصحاب محمد، ثم حكى نحو ذلك عن عمر بن الخطاب. وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يعلمون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.
قوله: 122- "يا بني إسرائيل" إلى قوله: "ولا هم ينصرون" قد سبق مثل هذا في صدر السورة، وقد تقدم تفسيره، ووجه التكرار الحث على اتباع الرسول النبي الأمي، ذكر معناه ابن كثير في تفسيره. وقال البقاعي في تفسيره: إنه لما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم ثم في بيان عوارهم وهتك أستارهم، وختم ذلك بالترهيب لتضييع أديانهم بأعمالهم وأحوالهم وأقوالهم، أعاد ما صدر به قصتهم من التذكير بالنعم، والتحذير من حلول النقم يوم تجمع الأمم، ويدوم فيه الندم لمن زلت به القدم، ليعلم أن ذلك فذلكة القصة، والمقصود بالذات الحث على انتهاز الفرصة. انتهى. وأقول: ليس هذا بشيء، فإنه لو كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى وأنه عاد ما صدر به قصتهم لذلك لكان الأولى بالتكرار، والأحق بإعادة الذكر هو قوله سبحانه: "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون" فإن هذه الآية مع كونها أول الكلام معهم والخطاب لهم في هذه السورة هي أيضاً أولى بأن تعاد وتكرر لما فيها من الأمر بذكر النعم والوفاء بالعهد والرهبة لله سبحانه، وبهذا تعرف صحة ما قدمناه لك عند بيان شرع الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه ثم حكى البقاعي بعد كلامه السابق عن الحوالي أنه قال: كرره تعالى إظهاراً لمقصد التئام آخر الخطاب بأوله، وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلاً لما يمكن بأن يرد من نحوه في سائر القرآن حتى كان الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمه يجب أن يلحظ القلب بذاته تلك الغاية فيتلوها ليكون في تلاوته جامعاً لطرفي الثناء، وفي تفهيمه جامعاً لمعاني طرفي المعنى انتهى. وأقول: لو كان هذا هو سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك. وأما قوله: وليتخذ ذلك أصلاً لما يرد من التكرار في سائر القرآن فمعلوم أن حصول هذا الأمر في الأذهان وتقرره في الأفهام لا يختص بتكرير آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد بها، فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما، ولله الحكمة البالغة التي لا تبلغها الأفهام ولا تدركها العقول، فليس في تكليف هذه المناسبات المتعسفة إلا ما عرفناك به هنالك فتذكر.
123- " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ".
قوله: 124- "وإذ ابتلى" الابتلاء: الامتحان والاختار: أي ابتلاه بما أمره به، و"إبراهيم" معناه في السريانية أب رحيم، كذا قال الماوردي. قال ابن عطية: ومعناه في العربية ذلك. قال السهيلي: وكثيراً ما يقع الإتفاق بين السرياني والعربي. وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالاً في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير، وأجاب عنه بأنه قد تقدم لفظاً فرجع إليه، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره، أو ترد في مثله الأسئلة أو يسود وجه القرطاس بإيضاحه. وقوله: "بكلمات" قد اختلف العلماء في تعيينها، فقيل: هي شرائع الإسلام، وقيل: ذبح ابنه، وقيل: أداء الرسالة، وقيل: هي خصال الفطرة، وقيل: هي قوله: "إني جاعلك للناس إماماً" وقيل: بالطهارة كما سيأتي بيانه. قال الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم انتهى. وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله: "قال إني جاعلك" وما بعده، ويكون ذلك بياناً للكلمات، وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك، وعن آخرين ما يخالفه. وعلى هذا فيكون قوله: "قال إني جاعلك" مستأنفاً كأنه ماذا قال له. وقال ابن جرير ما حاصله إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له، ثم قال: فلو قال قائل: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب: يعني أن الكلمات هي قوله: "إني جاعلك للناس إماماً" وقوله: "وعهدنا إلى إبراهيم" وما بعده. ورجح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر، وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح. وقوله: "فأتمهن" أي قام بهن أتم قيام، وامتثل أكمل امتثال. والإمام: هو ما يؤتم به، ومنه قيل للطريق إمام وللبناء إمام، لأنه يؤتم بذلك: أي يهتدي به السالك، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ. وقوله: "ومن ذريتي" يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم، أي واجعل من ذريتي أئمة، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته: أي ومن ذريتي ماذا يكون يا رب؟ فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة، وأنهم لا يصلحون لذلك ولا يقومون به ولا ينالهم عهد الله سبحانه. والذرية مأخوذة من الذر، لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذر، وقيل: مأخوذة من ذرأ الله الخلق يذرؤهم إذا خلقهم. وفي الكتاب العزيز: "فأصبح هشيماً تذروه الرياح" قال في الصحاح: ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه ذرواً وذرياً: أي نسفته، وقال الخليل: إنما سموا ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر. واختلف في المراد بالعهد فقيل: الإمامة، وقيل: النبوة، وقيل: عهد الله أمره، وقيل: الأمان من عذاب الآخرة، ورجحه الزجاج والأول أظهر كما يفيده السياق. وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالماً. ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتباراً بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية. وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل انه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه. انتهى. ولا يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا. فالأولى أن يقال: إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالماً، وإنما قلنا: إنه في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف. وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيراً من الظالمين.
قوله: 125- "وإذ جعلنا البيت" هو الكعبة المشرفة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا، و"مثابة" مصدر من ثاب يثوب مثاباً ومثابة، أي مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة: مثاب لأقفاء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الذوابل وقرأ الأعمش مثابات وقيل المثابة من الثواب: أي يثابون هنالك. وقال مجاهد: المراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم، قال الشاعر: جعل البيت مثابات لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر قال الأخفش: ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه فهي كعلامة ونسابة. وقال غيره: هي للتأنيث وليست للمبالغة. وقوله: "وأمنا" هو اسم مكان: أي موضع أمن. وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحد على من لجأ إليه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: "ومن دخله كان آمناً" وقيل: إن ذلك منسوخ. وقوله: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض: أي جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوه مصلى. وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفاً على اذكروا المذكور أول الآيات، أو على اذكروا المقدر عاملاً في قوله: "وإذ" ويجوز أن يكون على تقدير القول: أي وقلنا اتخذوا. والمقام في اللغة: موضع القيام. قال النحاس: هو من قام يقوم، يكون مصدراً واسماً للموضع، ومقام من أقام، وليس من هذا قول الشاعر: وفيهم مقامات حسان وجوهها وأندية ينتابها القول والفعل لأن معناه أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ويصلون عنده ركعتي الطواف، وقيل: المقام الحج كله، روي ذلك عن عطاء ومجاهد، وقيل: عرفة والمزدلفة، روي عن عطاء أيضاً. وقال الشعبي: الحرم كله مقام إبراهيم. وروي عن مجاهد. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه" قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه وابن عساكر عنه قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله إلا إبراهيم. وقرأ هذه الآية فقيل له: ما الكلمات؟ قال: سهام الإسلام ثلاثون سهماً: عشرة في براءة "التائبون العابدون" إلى آخر الآية، وعشرة في أول سورة قد أفلح و"سأل سائل" "والذين يصدقون بيوم الدين" الآيات، وعشرة في الأحزاب "إن المسلمين" إلى آخر الآية، "فأتمهن" كلهن فكتب له براءة قال تعالى: "وإبراهيم الذي وفى". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم عنه قال: منهن مناسك الحج. وأخرج ابن جرير عنه قال: الكلمات "إني جاعلك للناس إماماً" "وإذ يرفع إبراهيم القواعد" والآيات في شأن المناسك، والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت وبعث محمد في ذريتهما. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال: ابتلى بالآيات التي بعدها. وأخرجا أيضاً عن الشعبي مثله. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافهم، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه في الله، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها، وما ابتلي به من ذبح ولده، فلما مضى على ذلك كله "قال" الله " له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فأتمهن" قال: فأداهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطرة إبراهيم السواك" قلت: وهذا على تقدير أن إسناده إلى عطاء صحيح فهو مرسل لا تقوم به الحجة، ولا يحل الاعتماد على مثله في تفسيره كلام الله سبحانه، وهكذا لا يحل الاعتماد على مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: من فطرة إبراهيم غسل الذكر والبراجم، ومثل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه قال: ست من فطرة إبراهيم: قص الشارب، والسواك، والفرق، وقص الأظفار، والاستنجاء، وحلق العانة، قال: ثلاثة في الرأس- وثلاثة في الجسد. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة مشروعية تلك العشر لهذه الأمة، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، وأحسن ما روي عنه ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه. قال: كان خليل الرحمن إبراهيم يفعله. ولا يخفاك أن فعل الخليل له لا يستلزم أنه من الكلمات التي ابتلي بها، وإذا لم يصح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا أن نقول: إنها ما ذكرها الله سبحانه في كتابه بقوله: "قال إني جاعلك" إلى آخر الآيات، ويكون ذلك بياناً للكلمات أو السكوت وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه. وأما ما روي عن ابن عباس ونحوه من الصحابة من بعدهم في تعيينها، فهو أولاً أقوال صحابة لا يقوم بها الحجة فضلاً عن أقوال من بعدهم، وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، وأن له حكم الرفع فقد اختلفوا في التعيين اختلافاً يمتنع معه العمل ببعض ما روي عنهم دون البعض الآخر بل اختلفت الروايات عن الواحد منهم كما قدمنا عن ابن عباس، فكيف يجوز العمل بذلك- وبهذا تعرف ضعف قول من قال: إنه يصار إلى العموم ويقال: تلك الكلمات هي جميع ما ذكرنا هنا، فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف والمتناقض وما لا تقوم به الحجة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: "قال إني جاعلك للناس إماماً" يقتدى بدينك وهديك وسنتك "قال: ومن ذريتي" إماماً لغير ذريتي "قال: لا ينال عهدي الظالمين" أن يقتدى بدينهم وهديهم وسنتهم. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه قال: قال الله لإبراهيم: "إني جاعلك للناس إماماً قال: ومن ذريتي" فأبى أن يفعل، ثم قال: "لا ينال عهدي الظالمين". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالماً، فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال: لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي له أن يوليه شيئاً من أمره. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال: ليس لظالم عليك عهد في معصية الله. وقد أخرج وكيع ابن مردويه من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا ينال عهدي الظالمين" قال: لا طاعة إلا في المعروف، بإسناده عند ابن مردويه هكذا: قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، حدثنا وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طاعة لمخلوق في معصية الله". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: ليس للظالم عهد وإن عاهدته فانقضه. قال ابن كثير: وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل وابن حبان نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "مثابة للناس وأمناً" قال: يثوبون إليه ثم يرجعون. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: لا يقضون منه وطراً يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وأمنا" قال: أمناً للناس. وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس عن عمر بن الخطاب قال: وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب- واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن" فنزلت كذلك. وأخرجه مسلم وغيره مختصراً من حديث ابن عمر عنه. وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"" وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها، والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه، كما في البخاري من حديث ابن عباس، وهو الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة. وأول من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بإسناد صحيح وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام إبراهيم؟ قال: نعم. وأخرج نحوه ابن مردويه. قوله: "عهدنا" معناه هنا: أمرنا وأوجبنا. وقوله: "أن طهرا" في موضع نصب ينزع الخافض: أي بأن طهرا قاله الكوفيون، وقال سيبويه: هو بتقدير أي المفسرة: أي أن طهرا فلا موضع لها من الإعراب، والمراد بالتطهير قيل: من الأوثان، وقيل: من الآفات والريب، وقيل: من الكفار، وقيل: من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث. والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير فهو يتناوله إما تناولاً شمولياً أو بدلياً، والإضافة في قوله: "بيتي" للتشريف والتكريم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص بيتي بفتح الياء، وقرأ الآخرون بإسكانها. والطائف: الذي يطوف به، وقيل: الغريب الطارئ على مكة. والعاكف: المقيم: وأصل المعكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء، وقيل: هو المجاور دون المقيم من أهلها. والمراد بقوله: "الركع السجود" المصلون، وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف أركان الصلاة.
وقوله: 126- "وإذ قال إبراهيم" ستأتي الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرم مكة، والأحاديث الدالة على أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض والجمع بين هذه الأحاديث في هذا البحث. وقوله: "بلداً آمناً" أي مكة، والمراد: الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله: "عيشة راضية" أي راض صاحبها. وقوله: "من آمن" بدل من قول أهله: أي ارزق من آمن من أهله دون من كفر. وقوله: "ومن كفر" الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه رداً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم: أي وأرزق من كفر فأمتعه بالرزق قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار، ويحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً بياناً لحال من كفر، ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية: أي من كفر فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق "ثم أضطره" بعد هذا التمتيع "إلى عذاب النار" فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شر محض وهو عذاب النار، وأما على قراءة من قرأ "فأمتعه" بصيغة الأمر وكذلك قوله: "ثم أضطره" بصيغة الأمر فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلاً، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار. ومعنى: "أضطره" ألزمه حتى صيره مضطراً لذلك لا يجد عنه مخلصاً، ولا منه متحولاً.