تفسير الطبري تفسير الصفحة 19 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 19
020
018
 الآية : 120
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَلَنْ تَرْضَىَ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَىَ حَتّىَ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ قُلْ إِنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الـيَهُودُ وَلا النّصَارَى حتـى تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ: ولـيست الـيهودُ يا مـحمد ولا النصارى براضية عنك أبدا, فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم, وأقبل علـى طلب رضا الله فـي دعائهم إلـى ما بعثك الله به من الـحقّ فإن الذي تدعوهم إلـيه من ذلك لهو السبـيـل إلـى الاجتـماع فـيه معك علـى الألفة والدين القـيـم. ولا سبـيـل لك إلـى إرضائهم بـاتبـاع ملتهم لأن الـيهودية ضد النصرانـية, والنصرانـية ضد الـيهودية, ولا تـجتـمع النصرانـية والـيهودية فـي شخص واحد فـي حال واحدة, والـيهود والنصارى لا تـجتـمع علـى الرضا بك, إلا أن تكون يهوديا نصرانـيا, وذلك مـما لا يكون منك أبدا, لأنك شخص واحد, ولن يجتـمع فـيك دينان متضادّان فـي حال واحدة. وإذا لـم يكن إلـى اجتـماعهما فـيك فـي وقت واحد سبـيـل, لـم يكن لك إلـى إرضاء الفريقـين سبـيـل. وإذا لـم يكن لك إلـى ذلك سبـيـل, فـالزم هدى الله الذي لـجمع الـخـلق إلـى الألفة علـيه سبـيـل, وأما الـملة فإنها الدين وجمعها الـملل.
ثم قال جل ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء النصارى والـيهود الذين قالوا: «لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أو نَصَارَى: إنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى يعنـي أن بـيان الله هو البـيان الـمقنع والقضاء الفـاصل بـيننا, فهلـمّوا إلـى كتاب الله وبـيانه الذي بـيّن فـيه لعبـاده ما اختلفوا فـيه, وهو التوراة التـي تقرّون جميعا بأنها من عند الله, يتضح لكم فـيها الـمـحقّ منا من الـمبطل, وأيّنا أهل الـجنة, وأينا أهل النار, وأينا علـى الصواب, وأينا علـى الـخطأ وإنـما أمر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلـى هدى الله وبـيانه, لأن فـيه تكذيب الـيهود والنصارى فـيـما قالوا من أن الـجنة لن يدخـلها إلا من كان هودا أو نصارى, وبـيان أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم, وأن الـمكذّب به من أهل النار دون الـمصدّق به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَئِنْ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ ما لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِـيّ وَلا نَصِيرٍ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَئِنْ اتّبَعْتَ يا مـحمد هوى هؤلاء الـيهود والنصارى, فـيـما يرضيهم عنك من تهوّد وتنصّر, فصرت من ذلك إلـى إرضائهم, ووافقت فـيه مـحبتهم من بعد الذي جاءك من العلـم بضلالتهم وكفرهم بربهم, ومن بعد الذي اقتصصت علـيك من نبئهم فـي هذه السورة, ما لك من الله من ولـيّ. يعنـي بذلك: لـيس لك يا مـحمد من ولـيّ يـلـي أمرك, وقَـيّـم يقوم به, ولا نصير ينصرك من الله, فـيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته, ويـمنعك من ذلك إن أحلّ بك ذلك ربك. وقد بـينا معنى الولـيّ والنصير فـيـما مضى قبل.
وقد قـيـل إن الله تعالـى ذكره أنزل هذه الآية علـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم لأن الـيهود والنصارى دعته إلـى أديانها, وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نـحن علـيه دون ما علـيه غيرنا من سائر الـملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك, وعلّـمه الـحجة الفـاصلة بـينهم فـيـما ادّعى كل فريق منهم.
الآية : 121
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـي الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ فقال بعضهم: هم الـمؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به من أصحابه: ذكر من قال ذلك:
1429ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ هؤلاء أصحاب نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, آمنوا بكتاب الله وصدّقوا به.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علـماء بنـي إسرائيـل الذين آمنوا بـالله وصدّقوا رُسُلَه, فأقرّوا بحكم التوراة, فعملوا بـما أمر الله فـيها من اتّبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم, والإيـمان به, والتصديق بـما جاء به من عند الله. ذكر من قال ذلك:
1430ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ فـاولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ قال: من كفر بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الـخاسرون.
وهذا القول أولـى بـالصواب من القول الذي قاله قتادة لأن الاَيات قبلها مضت بأخبـار أهل الكتابـين, وتبديـل من بدل منهم كتاب الله, وتأوّلهم إياه علـى غير تأويـله, وادّعائهم علـى الله الأبـاطيـل. ولـم يَجْرِ لأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي الآية التـي قبلها ذكر, فـيكون قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ موجها إلـى الـخبر عنهم, ولا لهم بعدها ذكر فـي الآية التـي تتلوها, فـيكون موجها ذلك إلـى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء قصص غيرهم, ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسلـيـم له. فإذا كان ذلك كذلك, فـالذي هو أولـى بـمعنى الآية أن يكون موجها إلـى أنه خبر عمن قَصّ الله جل ثناؤه فـي الآية قبلها والآية بعدها, وهم أهل الكتابـين: التوراة والإنـجيـل. وإذا كان ذلك كذلك, فتأويـل الآية: الذين آتـيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا مـحمد, وهو التوراة, فقرءوه واتبعوا ما فـيه, فصدّقوك وآمنوا بك, وبـما جئت به من عندي, أولئك يتلونه حقّ تلاوته. وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي «الكتاب» لأنه معرفة, وقد كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أيّ الكتب عنى به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله عزّ وجل: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حقّ اتبـاعه. ذكر من قال ذلك:
1431ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنـي ابن أبـي عديّ, وعبد الأعلـى, وحدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ جميعا, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ يتبعونه حَقّ اتبـاعه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عكرمة بـمثله.
وحدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا داود بن أبـي هند, عن عكرمة بـمثله.
1432ـ حدثنـي الـحسن بن عمرو العنقزي, قال: حدثنـي أبـي, عن أسبـاط, عن السدي, عن أبـي مالك, عن ابن عبـاس فـي قول الله عز وجل: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يحلون حلاله ويحرّمون حرامه ولا يحرفون.
حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: قال أبو مالك: إن ابن عبـاس قال فـي: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ فذكر مثله إلا أنه قال: ولا يحرّفونه عن مواضعه.
1433ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا الـمؤمل, قال: حدثنا سفـيان قال: حدثنا يزيد, عن مرّة, عن عبد الله فـي قول الله عز وجل: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه.
1434ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: قال عبد الله بن مسعود: والذي نفسي بـيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرم حرامه, ويقرأه كما أنزله الله, ولا يحرّف الكلـم عن مواضعه, ولا يتأول منه شيئا علـى غير تأويـله.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة ومنصور بن الـمعتـمر, عن ابن مسعود فـي قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه, ولا يحرّفه عن مواضعه.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا الزبـيري, قال: حدثنا عبـاد بن العوّام عمن ذكره, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: يَتْلُونَهُ حَق تِلاوَتِهِ يتبعونه حقّ اتبـاعه.
1435ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبـاد بن العوّام, عن الـحجاح, عن عطاء, بـمثله.
1436ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن أبـي رزين فـي قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنـي أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, وحدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأزدي, قال: حدثنا يحيى بن إبراهيـم, عن سفـيان قالوا جميعا: عن منصور, عن أبـي رزين, مثله.
1437ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن مـجاهد: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: عَمَلاً به.
1438ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن قـيس بن سعد: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه ألـم تر إلـى قوله: وَالقَمَرِ إذَا تَلاها يعنـي الشمس إذا تبعها القمر.
1439ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان, عن عطاء وقـيس بن سعد, عن مـجاهد فـي قوله: يَتْلُونَهُ حَق تِلاَوَتِهِ قال: يعملون به حق عمله.
1440ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن عبد الـملك, عن قـيس بن سعد, عن مـجاهد, قال: يتبعونه حق اتبـاعه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ يعملون به حقّ عمله.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيـل, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب, عن مـجاهد فـي قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه.
حدثنـي عمرو, قال: حدثنا أبو قتـيبة, قال: حدثنا الـحسن بن أبـي جعفر, عن أبـي أيوب, عن أبـي الـخـلـيـل, عن مـجاهد: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا يحيى القطان, عن عبد الـملك, عن عطاء قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه, يعملون به حقّ عمله.
1441ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنـي أبـي, عن الـمبـارك, عن الـحسن: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: يعملون بـمـحكمه ويؤمنون بـمُتشابهه, ويكلون ما أشكل علـيهم إلـى عالـمه.
1442ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: أحلوا حلاله, وحرّموا حرامه, وعملوا بـما فـيه ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله, ويحرّم حرامه, وأن يقرأه كما أنزله الله عز وجل, ولا يحرّفه عن مواضعه.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا الـحكم بن عطية, سمعت قتادة يقول: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه, قال: اتبـاعه يحلون حلاله, ويحرّمون حرامه, ويقرءونه كما أنزل.
1443ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم عن داود, عن عكرمة فـي قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه, أما سمعت قول الله عز وجل: وَالقَمَرِ إذَا تَلاهَا؟ قال: إذا تبعها.
وقال آخرون يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ: يقرءونه حقّ قراءته.
والصواب من القول فـي تأويـل ذلك أنه بـمعنى: يتبعونه حقّ اتبـاعه, من قول القائل: ما زلت أتلو أَثَره, إذا اتبع أثره لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك تأويـله. وإذا كان ذلك تأويـله, فمعنى الكلام: الذين آتـيناهم الكتاب يا مـحمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبـما جئتهم به من الـحقّ من عندي, يتبعون كتابـي آتـيناهم الكتاب يا مـحمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبـما جئتهم به من الـحقّ من عندي, يتبعون كتابـي الذي أنزلته علـى رسولـي موسى صلوات الله علـيه, فـيؤمنون به, ويقرّون بـما فـيه من نعتك وصفتك, وأنك رسولـي فُرض علـيهم طاعتـي فـي الإيـمان بك والتصديق بـما جئتهم به من عندي, ويعملون بـما أحللتُ لهم, ويجتنبون ما حرّمت علـيهم فـيه, ولا يحرّفونه عن مواضعه ولا يبدّلونه ولا يغيرونه كما أنزلته علـيهم بتأويـل ولا غيره.
أما قوله: حَقّ تِلاَوَتِهِ فمبـالغة فـي صفة اتبـاعهم الكتاب ولزومهم العمل به, كما يقال: إن فلانا لعالـم حَقّ عالـم, وكما يقال: إن فلانا لفـاضلٌ كلّ فـاضل.
وقد اختلف أهل العربـية فـي إضافة «حقّ» إلـى الـمعرفة, فقال بعض نـحويـي الكوفة: غير جائزة إضافته إلـى معرفة لأنه بـمعنى «أيّ», وبـمعنى قولك: «أفضل رجل فلان», و«أفعل» لا يضاف إلـى واحد معرفة لأنه مبعض, ولا يكون الواحد الـمبعض معرفة. فأحالوا أن يقال: «مررت بـالرجل حقّ الرجل, ومررت بـالرجل جدّ الرجل», كما أحالوا «مررت بـالرجل أيّ الرجل», وأجازوا ذلك فـي «كل الرجل» و«عين الرجل» و«نفس الرجل», وقالوا: إنـما أجزنا ذلك لأن هذه الـحروف كانت فـي الأصل توكيدا, فلـما صِرْن مُدوحا تُركن مدوحا علـى أصولهن فـي الـمعرفة. وزعموا أن قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ إنـما جازت إضافته إلـى التلاوة, وهي مضافة إلـى معرفة لأن العرب تعتدّ بـالهاء إذا عادت إلـى نكرة بـالنكرة, فـيقولون: «مررت برجل واحد أُمّه, ونسيج وحده, وسيد قومه». قالوا: فكذلك قوله: حَقّ تلاوَته إنـما جازت إضافة «حقّ» إلـى التلاوة وهي مضافة إلـى «الهاء», لاعتداد العرب ب«الهاء» التـي فـي نظائرها فـي عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك حق التلاوة لوجب أن يكون جائزا: «مررت بـالرجل حقّ الرجل», فعلـى هذا القول تأويـل الكلام: الذين آتـيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوة.
وقال بعض نـحويـي البصرة: جائزةٌ إضافةُ حقّ إلـى النكرات مع النكرات, ومع الـمعارف إلـى الـمعارف وإنـما ذلك نظير قول القائل: مررت بـالرجل غلام الرجل, وبرجل غلام رجل. فتأويـل الآية علـى قول هؤلاء: الذين آتـيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته.
وأولـى ذلك بـالصواب عندنا القول الأول لأن معنى قوله: حَقّ تِلاَوَتِهِ أيّ تلاوة, بـمعنى مدح التلاوة التـي تلوها وتفضيـلها. «وأيّ» غير جائزة إضافتها إلـى واحد معرفة عند جميعهم, وكذلك «حقّ» غير جائزة إضافتها إلـى واحد معرفة, وإنـما أضيف فـي حقّ تلاوته إلـى ما فـيه الهاء لـما وصفت من العلة التـي تقدم بـيانها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
قال أبو جعفر: يعنـي جل ثناءه بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته.
وأما قوله: يُؤْمِنُونَ بِهِ فإنه يعنـي يصدّقون به. والهاء التـي فـي قوله «به» عائدة علـى الهاء التـي فـي «تلاوته», وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُم الكِتابَ فأخبر الله جل ثناؤه أن الـمؤمن بـالتوراة هو الـمتبع ما فـيها من حلالها وحرامها, والعامل بـما فـيها من فرائض الله التـي فرضها فـيها علـى أهلها, وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته دون من كان مـحرّفـا لها مبدلاً تأويـلها مغيرا سننها تاركا ما فرض الله فـيها علـيه.
وإنـما وصف جل ثناؤه من وصف بـما وصف به من متبعي التوراة, وأثنى علـيهم بـما أثنى به علـيهم لأن فـي اتبـاعها اتبـاع مـحمد نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه, لأن التوراة تأمر أهلها بذلك وتـخبرهم عن الله تعالـى ذكره بنبوّته وفرض طاعته علـى جميع خـلق الله من بنـي آدم, وإن فـي التكذيب بـمـحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم الـمؤمنون بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وهم العاملون بـما فـيها. كما:
1444ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قال: من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بنـي إسرائيـل, وبـالتوراة, وأن الكافر بـمـحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الـخاسر, كما قال جل ثناؤه: ومَنْ يَكْفُرْ بِهِ فـاولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَـاولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ومن يكفر بـالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه من آتاه من الـمؤمنـين حقّ تلاوته. ويعنـي بقوله جل ثناؤه: يَكْفُرْ يجحد ما فـيه من فرائض الله ونبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم, وتصديقه, ويبدّله, فـيحرّف تأويـله أولئك هم الذين خسروا علـمهم وعملهم فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله واستبدلوا بها سخط الله وغضبه.
وقال ابن زيد فـي قوله بـما:
1445ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فـاولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ قال: من كفر بـالنبـي صلى الله عليه وسلم من يهود, فَـاولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ.
الآية : 122
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }
وهذه الآية عظة من الله تعالـى ذكره للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إلـيهم فـي صنعه بأوائلهم استعطافـا منه لهم علـى دينه, وتصديق رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم فقال: يا بنـي إسرائيـل اذكروا أياديّ لديكم, وصنائعي عندكم, واستنقاذي إياكم من أيدي عدوّكم فرعون وقومه, وإنزالـي علـيكم الـمنّ والسلوى فـي تِـيهكم, وتـمكينـي لكم فـي البلاد, بعد أن كنتـم مذللـين مقهورين, واختصاصي الرسل منكم, وتفضيـلـي إياكم علـى عالـم من كنت بـين ظهرانـيه, أيام أنتـم فـي طاعتـي بـاتبـاع رسولـي إلـيكم, وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي, ودعوا التـمادي فـي الضلال والغيّ.
وقد ذكرنا فـيـما مضى النعم التـي أنعم اللّهُ بها علـى بنـي إسرائيـل, والـمعانـي التـي ذكرّهم جل ثناءه من آلائه عندهم, والعالـم الذي فضلوا علـيه فـيـما مضى قَبْلُ, بـالروايات والشواهد, فكرهنا تطويـل الكتاب بإعادته, إذ كان الـمعنى فـي ذلك فـي هذا الـموضع وهنالك واحدا.
الآية : 123
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }
وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بـما وعظهم به فـي الآية قبلها. يقول الله لهم: واتقوا يا معشر بنـي إسرائيـل الـمبدّلـين كتابـي وتنزيـلـي, الـمـحرّفـين تأويـله عن وجهه, الـمكذّبـين برسولـي مـحمد صلى الله عليه وسلم, عذابَ يوم لا تقضي فـيه نفس عن نفس شيئا, ولا تغنـي عنها غناءً, أن تهلكوا علـى ما أنتـم علـيه من كفركم بـي, وتكذيبكم رسولـي, فتـموتوا علـيه فإنه يوم لا يقبل من نفس فـيـما لزمها فدية, ولا يشفع فـيـما وجب علـيها من حقّ لها شافع, ولا هم ينصرهم ناصر من الله إذا انتقم منها بـمعصيتها إياه.
وقد مضى البـيان عن كل معانـي هذه الآية فـي نظيرتها قبل, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 124
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَإِذِ ابْتَلَـى وإذا اختبر, يقال منه: ابتلـيت فلانا ابتلـيه ابتلاءً. ومنه قول الله عزّ وجل وابْتَلُوا الـيَتامَى يعنـي به: اختبروهم. وكان اختبـار الله تعالـى ذكره إبراهيـم اختبـارا بفرائض فرضها علـيه, وأمْرٍ أمَرَه به, وذلك هو الكلـمات التـي أوحاهنّ إلـيه وكلفه العمل بهنّ امتـحانا منه له واختبـارا.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة الكلـمات التـي ابتلـى اللّهُ بها إبراهيـمَ نبـيّه وخـلـيـلَهُ صلوات الله علـيه, فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام, وهي ثلاثون سهما. ذكر من قال ذلك:
1446ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكلِـماتٍ قال: قال ابن عبـاس: لـم يُبْتَلَ أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيـم, ابتلاه الله بكلـمات فأتـمهنّ قال: فكتب الله له البراءة, فقال: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى قال: عشر منها فـي الأحزاب, وعشر منها فـي براءة, وعشر منها فـي الـمؤمنـين وسأل سائل وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما.
1447ـ حدثنا إسحاق بن شاهين, قال: حدثنا خالد الطحان, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: ما ابْتُلـي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيـم ابتلـي بـالإسلام فأتـمه, فكتب الله له البراءة, فقال: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى فذكر عشرا فـي براءة, فقال: التّائِبُونَ العَابِدُونَ الـحَامِدُونَ إلـى آخرِ الاَيات, وعشرا فـي الأحزاب: إنّ الـمُسْلـمينَ وَالـمُسلـمات, وعشرا فـي سورة الـمؤمنـين, إلـى قوله: وَالّذِينَ هُمْ علـى صَلَوَاتِهِمْ يُحافِظُونَ, وعشرا فـي سأل سائل: وَالّذِينَ هُمْ علـى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ.
1448ـ حدثنا عبـيد الله بن أحمد بن شبرمة, قال: حدثنا علـيّ بن الـحسن, قال: حدثنا خارجة بن مصعب, عن داود بن أبـي هند, عن عكرمة, عن ابن عبـاس قال: الإسلام ثلاثون سهما, وما ابتُلـي بهذا الدين أحدٌ فأقامه إلا إبراهيـم, قال الله وَإبْرَهِيـمَ الّذِي وَفّـى فكتب الله له براءة من النار.
وقال آخرون: هي خصال عشرٌ من سنن الإسلام. ذكر من قال ذلك:
1449ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه الله بـالطهارة: خمس فـي الرأس, وخمس فـي الـجسد. فـي الرأس: قصّ الشارب, والـمضمضة, والاستنشاق, والسواك, وفرق الرأس. وفـي الـجسد: تقلـيـم الأظفـار, وحلق العانة, والـختان, ونتف الإبط, وغسل أثر الغائط والبول بـالـماء.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الـحكم بن أبـان, عن القاسم بن أبـي بزة, عن ابن عبـاس بـمثله, ولـم يذكر أثر البول.
1450ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا سلـيـمان, قال: حدثنا أبو هلال. قال: حدثنا قتادة فـي قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه بـالـختان, وحلق العانة, وغسل القبل والدبر, والسواك, وقصّ الشارب, وتقلـيـم الأظافر, ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة.
1451ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن مطر, عن أبـي الـخـلد قال: ابتُلـي إبراهيـم بعشرة أشياء هنّ فـي الإنسان: سنة الاستنشاق, وقصّ الشارب, والسواك, ونتف الإبط, وقَلْـم الأظفـار, وغسل البراجم, والـختان, وحلق العانة, وغسل الدّبُرُ والفَرْج.
وقال بعضهم: بل الكلـمات التـي ابتلـي بهن عشر خلال بعضهنّ فـي تطهير الـجسد, وبعضهنّ فـي مناسك الـحجّ. ذكر من قال ذلك:
1452ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا مـحمد بن حرب, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن ابن هبـيرة, عن حن5 عن ابن عبـاس فـي قوله: وَإذِ ابْتَلـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ فأتَـمّهُنّ قال: ستة فـي الإنسان, وأربعة فـي الـمشاعر فـالتـي فـي الإنسان: حلق العانة, والـختان, ونتف الإبط, وتقلـيـم الأظفـار, وقصّ الشارب, والغسل يوم الـجمعة. وأربعة فـي الـمشاعر: الطواف, والسعي بـين الصفـا والـمروة, ورمي الـجمار, والإفـاضة.
وقال آخرون: بل ذلك: إنـي جاعلك للناس إماما فـي مناسك الـحجّ. ذكر من قال ذلك:
1453ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت إسماعيـل بن أبـي خالد, عتن أبـي صالـح فـي قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ فأتَـمّهُنّ فمنهن: إنّـي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماما وآيات النسك.
حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح مولـى أم هانىء فـي قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال منهن: إنـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما ومنهن آيات النسك: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ.
1454ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ قال الله لإبراهيـم: إنـي مبتلـيك بأمر, فما هو؟ قال: تـجعلنـي للناس إماما. قال: نعم. قال: ومن ذريتـي؟ قال: لا ينال عهدي الظالـمين. قال: تـجعل البـيت مثابة للناس قال: نعم. وأمْنا قال: نعم. وتـجعلنا مسلـمين لك, ومن ذرّيتنا أمة مسلـمة لك قال: نعم. وترينا مناسكنا وتتوب علـينا قال: نعم. قال: وتـجعل هذا البلد آمنا قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم قال: نعم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح أخبره به عن عكرمة فعرضته علـى مـجاهد فلـم ينكره.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد بنـحوه. قال ابن جريج: فـاجتـمع علـى هذا القول مـجاهد وعكرمة جميعا.
1455ـ حدثنا سفـيان, قال: حدثنـي أبـي, عن سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فأتَـمّهُنّ قال: ابتلـي بـالاَيات التـي بعدها: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما قال وَمِنْ ذُرّيّتِـي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِـمِينَ.
1456ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَإذْ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتَ فأتَـمّهُن فـالكلـمات: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقوله: وَإذ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثابَةً للنّاسِ وقوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهِيـمَ مُصَلّـى وقوله: وَعَهِدْنا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ الآية, وقوله: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمَ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ الآية قال: فذلك كلـمة من الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم.
1457ـ حدثنـي مـحمد بن سعيد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ فمنهنّ: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما ومنهن: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ ومنهن الاَيات فـي شأن النسك, والـمقام الذي جعل لإبراهيـم, والرزق الذي رزق ساكنوا البـيت ومـحمد صلى الله عليه وسلم فـي ذرّيتهما علـيهما السلام.
وقال آخرون: بل ذلك مناسك الـحجّ خاصة. ذكر من قال ذلك:
1458ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة, قال: حدثنا عمرو بن نبهان, عن قتادة, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: مناسك الـحج.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان ابن عبـاس يقول فـي قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: الـمناسك.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: قال ابن عبـاس: ابتلاه بـالـمناسك.
حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, قال: بلغنا عن ابن عبـاس أنه قال: إن الكلـمات التـي ابتلـي بها إبراهيـم: الـمناسك.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ ربّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: مناسك الـحجّ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: منهن مناسك الـحجّ.
وقال آخرون: هي أمور منهن الـختان. ذكر من قال ذلك:
1459ـ حدثنـي مـحمد بن بشار, قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة عن يونس بن أبـي إسحاق, عن الشعبـي: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ قال: منهن الـختان.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا يونس بن أبـي إسحاق, قال: سمعت الشعبـي يقول: فذكر مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا يونس بن أبـي إسحاق, قال: سمعت الشعبـي, وسأله أبو إسحاق عن قول الله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: منهن الـختان يا أبـا إسحاق.
وقال آخرون: بل ذلك الـخلال الستّ: الكوكب, والقمر, والشمس, والنار, والهجرة, والـختان, التـي ابتلـي بهنّ فصبر علـيهنّ. ذكر من قال ذلك:
1460ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, قال: قلت للـحسن: وإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتَ فأتَـمّهُنّ قال: ابتلاه بـالكوكب فرضي عنه, وابتلاه بـالقمر فرضي عنه, وابتلاه بـالشمس فرضي عنه, وابتلاه بـالنار فرضي عنه, وابتلاه بـالهجرة, وابتلاه بـالـختان.
1461ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الـحسن يقول: إي والله ابتلاه بأمر فصبر علـيه, ابتلاه بـالكوكب, والشمس, والقمر, فأحسن فـي ذلك, وعرف أن ربه دائم لا يزول, فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنـيفـا وما كان من الـمشركين, ثم ابتلاه بـالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتـى لـحق بـالشام مهاجرا إلـى الله, ثم ابتلاه بـالنار قبل الهجرة فصبر علـى ذلك, فـابتلاه الله بذبح ابنه وبـالـختان فصبر علـى ذلك.
1462ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عمن سمع الـحسن يقول فـي قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه الله بذبح ولده, وبـالنار, وبـالكوكب, والشمس, والقمر.
1463ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة, قال: حدثنا أبو هلال, عن الـحسن: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه بـالكوكب, وبـالشمس, والقمر, فوجده صابرا.
وقال آخرون بـما:
1464ـ حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: الكلـمات التـي ابتلـى بهنّ إبراهيـم ربه: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمِينَ لكَ وَمِنْ ذُرّيَتِنا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَـيْنَا إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحِيـمُ رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عبـاده أنه اختبر إبراهيـم خـلـيـله بكلـمات أوحاهن إلـيه, وأمره أن يعمل بهنّ وأتـمهنّ, كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل. وجائز أن تكون تلك الكلـمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله فـي تأويـل الكلـمات, وجائز أن تكون بعضه لأن إبراهيـم صلوات الله علـيه قد كان امتُـحن فـيـما بلغنا بكل ذلك, فعمل به وقام فـيه بطاعة الله وأَمْره الواجب علـيه فـيه. وإذ كان ذلك كذلك, فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بـالكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم شيئا من ذلك بعينه دون شيء, ولا عنى به كل ذلك إلا بحجة يجب التسلـيـم لها من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم, أو إجماع من الـحجة ولـم يصحّ فـيه شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد, ولا بنقل الـجماعة التـي يجب التسلـيـم لـما نقلته. غير أنه روي عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي نظير معنى ذلك خبران لو ثبتا, أو أحدهما, كان القول به فـي تأويـل ذلك هو الصواب. أحدهما ما:
1465ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا راشد بن سعد, قال: حدثنـي ريان بن فـائد, عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبـيه, قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ألاَ أُخْبِرُكُمْ لِـمَ سَمّى اللّهُ إبْرَاهِيـمَ خَـلِـيـلَهُ الّذِي وَفّـى؟ لأنّهُ كانَ يَقُولُ كُلّـما أصبَحَ وَكُلّـما أمْسَى: فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُـمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ حتـى يختـم الآية».
والاَخر منهما ما:
1466ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا الـحسن بن عطية. قال: حدثنا إسرائيـل, عن جعفر بن الزبـير, عن القاسم, عن أبـي أمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى قال: «أتَدْرُونَ مَا وفّـى»؟ قالوا: الله ورسوله أعلـم, قال: «وَفّـى عَملَ يَوْمِهِ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِـي النّهَارِ». فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبـيه صحيحا سنده. كان بـيّنا أن الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم فقام بهن هو قوله كُلّـما أصْبَحَ وأمْسَى: فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ تُـمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الـحَمْدُ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ. أو كان خبر أبـي أمامة عدولاً نقلته, كان معلوما أن الكلـمات التـي أُوحين إلـى إبراهيـم فـابتلـي بـالعمل بهنّ أن يصلـي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران فـي أسانـيدهما نظر.
والصواب من القول فـي معنى الكلـمات التـي أخبر الله أنه ابتلـي بهنّ إبراهيـم ما بـينا آنفـا.
ولو قال قائل فـي ذلك: إن الذي قاله مـجاهد وأبو صالـح والربـيع بن أنس أولـى بـالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبـا, لأن قوله: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقوله: وَعَهْدِنا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـي للطّائِفِـينَ وسائر الاَيات التـي هي نظير ذلك كالبـيان عن الكلـمات التـي ذكر الله أنه ابتلـي بهنّ إبراهيـم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَأتَـمّهُنّ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: فَأتَـمّهُنّ فأتـمّ إبراهيـم الكلـمات, وإتـمامه إياهنّ إكماله إياهنّ بـالقـيام لله بـما أوجب علـيه فـيهنّ وهو الوفـاء الذي قال الله جل ثناؤه: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى يعنـي وفّـى بـما عهد إلـيه بـالكلـمات, فأمره به من فرائضه ومـحنة فـيها. كما:
1467ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: فأتَـمّهُنّ أي فأدّاهنّ.
1468ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فأتَـمّهُنّ أي عمل بهنّ, فأتـمهنّ.
1469ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: فأتَـمّهُنّ أي عمل بهنّ فأتـمهنّ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
قالَ إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما فقال الله: يا إبراهيـم إنـي مُصَيّرك للناس إماما يؤتـمّ به ويقتدي به. كما:
1470ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما لـيؤتـمّ به, ويقتدي به يقال منه: أمـمت القوم فأنا أؤمهم أمّا وإمامةً إذا كنت إمامهم.
وإنـما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيـم: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما إنـي مصيرك تؤمّ مَنْ بَعْدَكَ من أهل الإيـمان بـي وبرسلـي, فتقدمهم أنت, ويتبعون هديك, ويستنّون بسنتك التـي تعمل بها بأمري إياك ووحيـي إلـيك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِـي.
يعنـي جل ثناؤه بذلك, قال إبراهِيـمُ لـما رفع الله منزلته وكرّمه, فأعلـمه ما هو صانع به من تصيـيره إماما فـي الـخيرات لـمن فـي عصره ولـمن جاء بعده من ذرّيته وسائر الناس غيرهم يهتدي بهديه ويقتدي بأفعاله وأخلاقه: يا ربّ ومن ذرّيتـي فـاجعل أئمة يقتدي بهم كالذي جعلتنـي إماما يؤتـمّ به ويتقدى بـي مسألة من إبراهيـم ربه سأله إياها. كما:
1471ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: قال إبراهيـم: وَمِنْ ذُرّيّتِـي يقول: فـاجعل من ذرّيتـي من يؤتـمّ به ويقتدي به.
وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيـم: وَمِنْ ذُرّيّتِـي مسألة منه ربّه لعقبه أن يكونوا علـى عهده ودينه, كما قال: وَاجْنُبْنِـي وَبَنِـيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ فأخبر الله جل ثناؤه أن فـي عقبه الظالـم الـمخالف له فـي دينه بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ.
والظاهر من التنزيـل يدلّ علـى غير الذي قاله صاحب هذه الـمقالة لأن قول إبراهيـم صلوات الله علـيه: وَمِنْ ذُرّيّتِـي فـي إثر قول الله جل ثناؤه: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما فمعلوم أن الذي سأله إبراهيـم لذرّيته لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه لكان مبـينا ولكن الـمسألة لـما كانت مـما جرى ذكره, اكتفـى بـالذكر الذي قد مضى من تكريره وإعادته, فقال: وَمِنْ ذُرّيّتِـي بـمعنى: ومن ذرّيتـي فـاجعل مثل الذي جعلتنـي به من الإمامة للناس.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ.
هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالـم لا يكون إماما يقتدي به أهل الـخير, وهو من الله جل ثناؤه جواب لـما توهم فـي مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة مثله, فأخبر أنه فـاعل ذلك إلا بـمن كان من أهل الظلـم منهم, فإنه غير مصيّره كذلك, ولا جاعله فـي مـحل أولـيائه عنده بـالتكرمة بـالإمامة لأن الإمامة إنـما هي لأولـيائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به.
واختلف أهل التأويـل فـي العهد الذي حرّم الله جل ثناؤه الظالـمين أن ينالوه, فقال بعضهم: ذلك العهد هو النبوّة. ذكر من قال ذلك:
1472ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ يقول: عهدي, نبوّتـي. فمعنى قائل هذا القول فـي تأويـل الآية: لا ينال النبّوة أهل الظلـم والشرك.
وقال آخرون: معنى العهد عهد الإمامة, فتأويـل الآية علـى قولهم: لا أجعل من كان من ذرّيتك بأسرهم ظالـما إماما لعبـادي يقتدي به. ذكر من قال ذلك:
1473ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـما.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قال الله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـما.
1474ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن عكرمة بـمثله.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد فـي قوله قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـم يقتدي به.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا مسروق بن أبـان الـحطاب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن خصيف, عن مـجاهد فـي قوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا أجعل إماما ظالـما يقتدي به.
حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي, قال: حدثنا مسلـم بن خالد الزنـجي, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا أجعل إماما ظالـما يقتدي به.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إماما ظالـمٌ.
قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِـي فأبى أن يجعل من ذرّيته ظالـما إماما قلت لعطاء: ما عَهْدُه؟ قال: أَمْرُه.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد علـيك لظالـم أن تطيعه فـي ظلـمه. ذكر من قال ذلك:
1475ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظالِـمِينَ يعنـي لا عهد لظالـم علـيك فـي ظلـمه أن تطيعه فـيه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله, عن إسرائيـل, عن مسلـم الأعور, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لـيس للظالـمين عهد, وإن عاهدته فـانقضه.
حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن سفـيان, عن هارون بن عنترة, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: لـيس لظالـم عهد.
وقال آخرون: معنى العهد فـي هذا الـموضع: الأمان.
فتأويـل الكلام علـى معنى قولهم, قال الله: لا ينال أمانـي أعدائي, وأهل الظلـم لعبـادي أي لا أؤمنهم من عذابـي فـي الاَخرة. ذكر من قال ذلك:
1476ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ ذلكم عند الله يوم القـيامة لا ينال عهده ظالـم, فأما فـي الدنـيا فقد نالوا عهد الله, فوارثوا به الـمسلـمين وعادوهم وناكحوهم به, فلـما كان يوم القـيامة قصر الله عهده وكرامته علـى أولـيائه.
1477ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِـمِينَ قال: لا ينال عهدَ الله فـي الاَخرة الظالـمون, فأما فـي الدنـيا فقد ناله الظالـم وأكل به وعاش.
1478ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن, عن إسرائيـل, عن منصور, عن إبراهيـم: قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا ينال عهد الله فـي الاَخرة الظالـمون, فأما فـي الدنـيا فقد ناله الظالـم فأمن به وأكل وأبصر وعاش.
وقال آخرون: بل العهد الذي ذكره الله فـي هذا الـموضع: دِينُ الله. ذكر من قال ذلك:
1479ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: قال الله لإبراهيـم: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ فقال: فَعَهْدُ الله الذي عهد إلـى عبـاده: دينه. يقول: لا ينال دينه الظالـمين, ألا ترى أنه قال: وَبَـارَكْنا عَلَـيْهِ وَعلـى إسْحَاقَ وَمنْ ذُرّيتهما مُـحْسنٌ وَظَالِـمٌ لِنَفْسِهِ مُبِـينٌ يقول: لـيس كل ذرّيتك يا إبراهيـم علـى الـحقّ.
1480ـ حدثنـي يحيى بن جعفر, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا ينال عهدي عدوّ لـي يعصينـي, ولا أنـحلها إلا وَلـيّا يطيعنـي.
وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهِرَ خبرٍ عن أنه لا ينال من ولد إبراهيـم صلوات الله علـيه عهد الله الذي هو النبوّة والإمامة لأهل الـخير, بـمعنى الاقتداء به فـي الدنـيا, والعهد الذي بـالوفـاء به ينـجو فـي الاَخرة, من وفـي لله به فـي الدنـيا, من كان منهم ظالـما متعدّيا جائرا عن قصد سبـيـل الـحقّ. فهو إعلام من الله تعالـى ذكره لإبراهيـم أن من ولده من يشرك به, ويجوز عن قصد السبـيـل, ويظلـم نفسه وعبـاده. كالذي:
1481ـ حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد, قال: حدثنا عتاب بن بشر, عن خصيف, عن مـجاهد فـي قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: إنه سيكون فـي ذرّيتك ظالـمون.
وأما نصب الظالـمين, فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالـمين. وذُكر أنه فـي قراءة ابن مسعود: «لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمُونَ» بـمعنى أن الظالـمين هم الذين لا ينالون عهد الله. وإنـما جاز الرفع فـي الظالـمين والنصب, وكذلك فـي العهد لأن كل ما نال الـمرء فقد ناله الـمرء, كما يقال: نالنـي خيرُ فلان ونلت خَيْرَهُ, فـيوجه الفعل مرّة إلـى الـخير ومرّة إلـى نفسه. وقد بـينا معنى الظلـم فـيـما مضى فكرهنا إعادته.
الآية : 125
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُواْ مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ }
أما قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً فإنه عطف ب«إذْ» علـى قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ. وقوله: وَإذِا ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ معطوف علـى قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِـي واذكروا إذا ابتلـى إبراهيـمَ ربّه, وإذ جعلنا البـيت مثابة. والبـيت الذي جعله الله مثابة للناس هو البـيت الـحرام.
وأما الـمثابة فإن أهل العربـية مختلفون فـي معناها, والسبب الذي من أجله أنثت فقال بعض نـحويـي البصرة: ألـحقت الهاء فـي الـمثابة لـما كثر من يثوب إلـيه, كما يقال سيارة لـمن يكثر ذلك ونَسّابة.
وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل الـمَثَابُ والـمثابة بـمعنى واحد, نظيرة الـمقام والـمقامة والـمقام, ذُكّر علـى قوله لأنه يريد به الـموضع الذي يقام فـيه, وأنثت الـمقامة لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون الـمثابة كالسّيارة والنّسابة, وقالوا: إنـما أدخـلت الهاء فـي السيارة والنسابة تشبـيها لها بـالداعية والـمثابة مفعلة من ثاب القوم إلـى الـموضع: إذا رجعوا إلـيهم فهم يثوبون إلـيه مَثَابـا وَمَثَابةً وَثَوَابـا.
فمعنى قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وإذ جعلنا البـيت مرجعا للناس ومعاذا يأتونه كل عام ويرجعون إلـيه, فلا يقضون منه وطرا. ومن الـمثاب قول ورقة بن نوفل فـي صفة الـحرم:
مَثابٌ ءَلافْنَاء القَبَـائِلِ كُلّهاتَـخُبّ إلَـيْهِ الـيَعْمَلاتُ الصّلاَئِحُ
ومنه قـيـل: ثاب إلـيه عقله, إذا رجع إلـيه بعد عزوبه عنه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1482ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله الله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وَطَرا.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَإذْ جَعَلْنا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه, لا يقضون منه وَطَرا.
1483ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: أما الـمثابةُ فهو الذي يثوبون إلـيه كل سنة لاَ يَدَعُهُ الإنسان إذا أتاه مرّة أن يعود إلـيه.
1484ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وطرا, يأتونه ثم يرجعون إلـى أهلـيهم ثم يعودون إلـيه.
1485ـ وحدثنـي عبد الكريـم بن أبـي عمير, قال: حدثنـي الولـيد بن مسلـم, قال: قال أبو عمرو, حدثنـي عبدة بن أبـي لبـابة فـي قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يَنْصرِف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا.
1486ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك عن عطاء فـي قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه من كل مكان, ولا يقضون منه وطرا.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عبد الـملك, عن عطاء, مثله.
1487ـ حدثنـي مـحمد بن عمار الأسدي, قال: حدثنا سهل بن عامر, قال: حدثنا مالك بن مغول, عن عطية فـي قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وَطَرا.
1488ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي الهذيـل, قال: سمعت سعيد بن جبـير يقول: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يحجّون ويثوبون.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن أبـي الهذيـل, عن سعيد بن جبـير فـي قوله: مَثَابَةً للنّاسِ قال: يحجون, ثم يحجون, ولا يقضون منه وطرا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا ابن بكير, قال: حدثنا مسعر, عن غالب, عن سعيد بن جبـير: مَثابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه.
1489ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وأمْنا قال: مـجمعا.
1490ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه.
1491ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه.
1492ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه من البلدان كلها ويأتونه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأمْنا.
والأمن: مصدر من قول القائل أمِنَ يَأْمَنُ أَمْنا. وإنـما سماه الله أمنا لأنه كان فـي الـجاهلـية مَعَاذا لـمن استعاذ به, وكان الرجل منهم لو لقـي به قاتل أبـيه أو أخيه لـم يهجه ولـم يعرض له حتـى يخرج منه, وكان كما قال الله جل ثناؤه: أَوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنَا حَرَما آمِنا وَيُتَـخَطّف النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.
1493ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وأمْنا قال: من أَمّ إلـيه فهو آمن كان الرجل يـلقـى قاتل أبـيه أو أخيه فلا يعرض له.
1494ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما أمْنا فمن دخـله كان آمنا.
1495ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله الله: وأمْنا قال: تـحريـمه لا يخاف فـيه من دخـله.
ذكر من قال ذلك:
1496ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: وَأمْنا يقول: أمنا من العدوّ أن يحمل فـيه السلاح, وقد كان فـي الـجاهلـية يتـخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَوْنَ.
1497ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: أخبرنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: وأمْنا قال: أمنا للناس.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد فـي قوله: وَأمْنا قال: تـحريـمه لا يخاف فـيه من دخـله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى.
اختلف القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى بكسر الـخاء علـى وجه الأمر بـاتـخاذه مصلّـى وهي قراءة عامة الـمصرين الكوفة والبصرة, وقراءة عامة قرّاء أهل مكة وبعض قرّاء أهل الـمدينة. وذهب إلـيه الذين قرءوه كذلك من الـخبر الذي:
1498ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيـم, قالا: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حميد, عن أنس بن مالك, قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت: يا رسول الله, لو اتـخذت الـمقام مصلّـى؟ فأنزل الله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, وحدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية جميعا, عن حميد, عن أنس, عن عمر, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا حميد, عن أنس, قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت: يا رسول الله, فذكر مثله.
قالوا: فإنـما أنزل الله تعالـى ذكره هذه الآية أمرا منه نبـيّهُ صلى الله عليه وسلم بـاتـخاذ مقام إبراهيـم مصلّـى فغير جائز قراءتها وهي أمرٌ علـى وجه الـخبر.
وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى معطوف علـى قوله: يَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِـي وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فكان الأمر بهذه الآية وبـاتـخاذ الـمصلـى من مقام إبراهيـم علـى قول هذا القائل للـيهود من بنـي إسرائيـل الذين كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما:
1499ـ حدثنا الربـيع بن أنس بـما حُدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, قال: من الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فأمرهم أن يتـخذوا من مقام إبراهيـم مصلّـى, فهم يصلون خـلف الـمقام.
فتأويـل قائل هذا القول: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ قالَ إنّـي جَاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقال: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى. والـخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الـخطاب, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل, يدلّ علـى خلاف الذي قاله هؤلاء, وأنه أمر من الله تعالـى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين به وجميع الـخـلق الـمكلفـين.
وقرأه بعض قرّاء أهل الـمدينة والشام: «واتّـخَذُوا» بفتـح الـخاء علـى وجه الـخبر.
ثم اختلف فـي الذي عطف علـيه بقوله: «وَاتّـخَذُوا» إذا قرىء كذلك علـى وجه الـخبر, فقال بعض نـحويـي البصرة: تأويـله إذا قرىء كذلك: وإذ جعلنا البـيت مثابة للناس وأمنا وإذِ اتـخذوا من مقام إبْرَاهِيـمَ مصلّـى.
وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل ذلك معطوف علـى قوله: جَعَلْنَا فكان معنى الكلام علـى قوله: وإذ جعلنا البـيت مثابة للناس واتّـخَذُوه مصلـى.
والصواب من القول والقراءة فـي ذلك عندنا: وَاتّـخِذُوا بكسر الـخاء, علـى تأويـل الأمر بـاتـخاذ مقام إبراهيـم مصلـى للـخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفـا, وأن عمرو بن علـيّ:
1500ـ حدثنا قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا جعفر بن مـحمد, قال: حدثنـي أبـي, عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَاتّـخِذُوا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى وفـي مقام إبراهيـم.
فقال بعضهم: مقام إبراهيـم: هو الـحجّ كله. ذكر من قال ذلك:
1501ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عبـاس فـي قوله: مَقامِ إبْرَاهِيـمَ قال: الـحجّ كله مقام إبراهيـم.
1502ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: الـحجّ كله.
1503ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان. عن ابن جريج, عن عطاء, قال: الـحجّ كله مقام إبراهيـم. وقال آخرون: مقام إبراهيـم عرفة والـمزدلفة والـجمار. ذكر من قال ذلك:
1504ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن عطاء بن أبـي رياح: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: لأنـي قد جعلْتُه إماما فمقامه عرفة والـمزدلفة والـجمار.
1505ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مقامه جمع وعرفة ومِنًى لا أعلـمه إلا وقد ذكر مكة.
1506ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن عطاء, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَاتـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مقامه عرفة.
1507ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا داود, عن الشعبـي قال: نزلت علـيه وهو واقـف بعرفة مقام إبراهيـم: الـيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية.
حدثنا عمرو قال: حدثنا بشر بن الـمفضل, قال: حدثنا داود, عن الشعبـي, مثله.
وقال آخرون: مقام إبراهيـم: الـحرم. ذكر من قال ذلك:
1508ـ حدثت عن حماد بن زيد, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: الـحرم كله مقام إبراهيـم.
وقال آخرون: مقام إبراهيـم: الـحجر الذي قام علـيه إبراهيـم حين ارتفع بناؤه, وضعف عن رفع الـحجارة. ذكر من قال ذلك:
1509ـ حدثنا سنان القزاز, قال: حدثنا عبـيد الله بن عبد الـمـجيد الـحنفـي, قال: حدثنا إبراهيـم بن نافع, قال: سمعت كثـير بن كثـير يحدّث عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: جعل إبراهيـم يبنـيه, وإسماعيـل يناوله الـحجارة, ويقولان: رَبنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ فلـما ارتفع البنـيان وضعف الشيخ عن رفع الـحجارة قام علـى حجر, فهو مقام إبراهيـم.
وقال آخرون: بل مقام إبراهيـم, هو مقامه الذي هو فـي الـمسجد الـحرام. ذكر من قال ذلك:
1510ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلـى إنـما أمروا أن يصلوا عنده ولـم يؤمروا بـمسحه, ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا مـما تكلفته الأمـم قبلها, ولقد ذكرَ لنا بعض من رأى عقبه وأصابعه, فما زالت هذه الأمـم يـمسحونه حتـى اخْـلَوْلق وانـمـحى.
1511ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فهم يصلون خـلف الـمقام.
1512ـ حدثنـي يونس, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى وهو الصلاة عند مقامه فـي الـحجّ. والـمقام: هو الـحجر الذي كانت زوجة إسماعيـل وضعته تـحت قدم إبراهيـم حين غسلت رأسه, فوضع إبراهيـم رجله علـيه وهو راكب, فغسلت شقه ثم دفعته من تـحته وقد غابت رجله فـي الـحجر, فوضعته تـحت الشقّ الاَخر فغسلته, فغابت رجله أيضا فـيه, فجعلها الله من شعائره, فقال: وَاتّـخِذوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب عندنا ما قاله القائلون إن مقام إبراهيـم: هو الـمقام الـمعروف بهذا الاسم, الذي هو فـي الـمسجد الـحرام لـما روينا آنفـا عن عمر بن الـخطاب, ولـما:
1513ـ حدثنا يوسف بن سلـيـمان, قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل, قال: حدثنا جعفر بن مـحمد, عن أبـيه, عن جابر قال: استلـم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن, فرمل ثلاثا ومشى أربعا, ثم تقدم إلـى مقام إبراهيـم فقرأ: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فجعل الـمقام بـينه وبـين البـيت فصلـى ركعتـين. فهذان الـخبران ينبئان أن الله تعالـى ذكره إنـما عنى بـمقام إبراهيـم الذي أمرنا الله بـاتـخاذه مصلـى هو الذي وصفنا. ولو لـم يكن علـى صحة ما اخترنا فـي تأويـل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكان الواجب فـيه من القول ما قلنا وذلك أن الكلام مـحمول معناه علـى ظاهره الـمعروف دون بـاطنه الـمـجهول, حتـى يأتـي ما يدلّ علـى خلاف ذلك مـما يجب التسلـيـم له.
ولا شكّ أن الـمعروف فـي الناس بـمقام إبراهيـم هو الـمصلـى الذي قال الله تعالـى ذكره: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فإن أهل التأويـل مختلفون فـي معناه, فقال بعضهم: هو الـمُدّعَى. ذكر من قال ذلك:
1514ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مصلـى إبراهيـم مُدّعًى.
وقال آخرون: معنى ذلك: اتـخذوا مصلـى تصلون عنده. ذكر من قال ذلك:
1515ـ حدثنـي بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: أمروا أن يصلوا عنده.
1516ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: هو الصلاة عنده. فكأن الذين قالوا تأويـل الـمصلـى ههنا الـمدعَى, وجهوا الـمصلـى إلـى أنه مفعّل من قول القائل: صلـيت بـمعنى دعوت. وقائلوا هذه الـمقالة هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيـم هو الـحجّ كله.
فكان معناه فـي تأويـل هذه الآية: واتـخذوا عرفة والـمزدلفة والـمشعر والـجمار وسائر أماكن الـحجّ التـي كان إبراهيـم يقوم بها مداعي تدعوننـي عندها, وتأتـمون بإبراهيـم خـلـيـلـي علـيه السلام فـيها, فإنـي قد جعلته لـمن بعده من أولـيائي وأهل طاعتـي إماما يقتدون به وبآثاره, فـاقتدوا به.
وأما تأويـل القائلـين القول الاَخر, فإنه: اتـخذوا أيها الناس من مقام إبراهيـم مصلـى تصلون عنده, عبـادة منكم, وتكرمة منـي لإبراهيـم. وهذا القول هو أولـى بـالصواب لـما ذكرنا من الـخبر عن عمر بن الـخطاب وجابر بن عبد الله, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـي.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَعَهِدْنَا وأمرنا. كما:
1517ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
1518ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنـي ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ قال: أمرناه.
فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيـم وإسماعيـل بتطهير بـيتـي للطائفـين. والتطهير الذي أمرهما الله به فـي البـيت, هو تطهيره من الأصنام وعبـادة الأوثان فـيه ومن الشرك بـالله.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ لِلطائِفِـينَ وهل كان أيام إبراهيـم قبل بنائه البـيت بـيت يطهر من الشرك وعبـادة الأوثان فـي الـحرم, فـيجوز أن يكونا أُمِرا بتطهيره؟ قـيـل: لذلك وجهان من التأويـل, قد كان لكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويـل, أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلـى إبراهيـم وإسماعيـل أن ابنـيا بـيتـي مُطهّرا من الشرك والريب, كما قال تعالـى ذكره: أفَمنْ أسّسَ بُنْـيَانَهُ علـى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ أسّسَ بُنْـيَانَهُ علـى شَفَـا جُرُفٍ هارٍ, فكذلك قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ أي ابنـيا بـيتـي علـى طهر من الشرك بـي والريب. كما:
1519ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ يقول: ابنـيا بـيتـي. فهذا أحد وجهيه, والوجه الاَخر منهما أن يكونا أُمرا بأن يطهرا مكان البـيت قبل بنـيانه والبـيت بعد بنـيانه مـما كان أهل الشرك بـالله يجعلونه فـيه علـى عهد نوح ومن قبله من الأوثان, لـيكون ذلك سنة لـمن بعدهما, إذ كان الله تعالـى ذكره قد جعل إبراهيـم إماما يقتدي به مَنْ بعده. كما:
1520ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: أنْ طَهّرَا قال: من الأصنام التـي يعبدون التـي كان الـمشركون يعظمونها.
1521ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن عطاء, عن عبـيد بن عمير: أنْ طَهّرَا بَـيتِـيَ للطّائِفِـينَ قال: من الأوثان والريب.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن جريج, عن عطاء, عن عبـيد بن عمير, مثله.
1522ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: من الشرك.
1523ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا أبو إسرائيـل, عن أبـي حصين, عن مـجاهد: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائَفِـينَ قال: من الأوثان.
1524ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ قال: من الشرك وعبـادة الأوثان.
1525ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة بـمثله, وزاد فـيه: وقول الزور.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: للطّائِفِـينَ.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى الطائفـين فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: هم الغربـاء الذين يأتون البـيت الـحرام من غربة. ذكر من قال ذلك:
1526ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبـير فـي قوله: للطّائِفِـينَ قال: من أتاه من غربة.
وقال آخرون: بل الطائفون هم الذين يطوفون به غربـاء كانوا أو من أهله. ذكر من قال ذلك:
1527ـ حدثنا مـحمد بن العلاء, قال: حدثنا وكيع, عن أبـي بكر الهذلـي, عن عطاء: للطّائِفِـينَ قال: إذا كان طائفـا بـالبـيت, فهو من الطائفـين.
وأولـى التأويـلـين بـالآية ما قاله عطاء لأن الطائف هو الذي يطوف بـالشيء دون غيره, والطارىء من غربة لا يستـحقّ اسم طائف بـالبـيت إن لـم يطف به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: والعاكِفِـينَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَالعاكِفِـينَ والـمقـيـمين به, والعاكف علـى الشيء: هو الـمقـيـم علـيه, كما قال نابغة بنـي ذبـيان:
عُكُوفـا لَدَى أبْـياتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْرمى اللّهُ فِـي تِلْكَ الأكُفّ الكوَانِعِ
وإنـما قـيـل للـمعتكف معتكف من أجل مقامه فـي الـموضع الذي حبس فـيه نفسه لله تعالـى.
ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى الله بقوله: وَالعاكِفِـينَ فقال بعضهم: عنى به الـجالس فـي البـيت الـحرام بغير طواف ولا صلاة. ذكر من قال ذلك:
1528ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن أبـي بكر الهذلـي, عن عطاء, قال: إذا كان طائفـا بـالبـيت فهو من الطائفـين, وإذا كان جالسا فهو من العاكفـين.
وقال بعضهم: العاكفون هم الـمعتكفون الـمـجاورون. ذكر من قال ذلك:
1529ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا شريك, عن جابر, عن مـجاهد وعكرمة: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطائِفِـينَ وَالعاكِفِـينَ قال: الـمـجاورون.
وقال بعضهم: العاكفون هم أهل البلد الـحرام. ذكر من قال ذلك:
1530ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبـير فـي قوله: وَالعاكِفِـينَ قال: أهل البلد.
1531ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَالعاكِفِـينَ قال: العاكفون: أهله.
وقال آخرون: العاكفون: هم الـمصلون. ذكر من قال ذلك:
1532ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس فـي قوله: طَهّرَا بَـيْتِـي للطّائِفِـينَ وَالعاكِفِـينَ قال: العاكفون: الـمصلون.
وأولـى هذه التأويلات بـالصواب ما قاله عطاء, وهو أن العاكف فـي هذا الـموضع: الـمقـيـم فـي البـيت مـجاورا فـيه بغير طواف ولا صلاة, لأن صفة العكوف ما وصفنا من الإقامة بـالـمكان. والـمقـيـم بـالـمكان قد يكون مقـيـما به وهو جالس ومصلَ وطائف وقائم, وعلـى غير ذلك من الأحوال فلـما كان تعالـى ذكره قد ذكر فـي قوله: أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ والعاكِفِـينَ والركّعِ السّجُودِ الـمصلـين والطائفـين, علـم بذلك أن الـحال التـي عنى الله تعالـى ذكره من العاكف غير حال الـمصلـي والطائف, وأن التـي عنى من أحواله هو العكوف بـالبـيت علـى سبـيـل الـحوار فـيه, وإن لـم يكن مصلـيا فـيه ولا راكعا ولا ساجدا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالرّكّعِ السّجودِ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَالرّكّعِ جماعة القوم الراكعين فـيه له, واحدهم راكع. وكذلك السجود هم جماعة القوم الساجدين فـيه له واحدهم ساجد, كما يقال رجل قاعد ورجال قعود ورجل جالس ورجال جلوس فكذلك رجل ساجد ورجال سجود. وقـيـل: بل عنى بـالركّع السجود: الـمصلـين. ذكر من قال ذلك:
1533ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن أبـي بكر الهذلـي, عن عطاء: وَالرّكّعِ السّجُودِ قال: إذا كان يصلـي فهو من الركّع السجود.
1534ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَالرّكّعِ السجّودِ أهل الصلاة. وقد بـينا فـيـما مضى بـيان معنى الركوع والسجود, فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.
الآية : 126
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَا آمِنا: واذكروا إذ قال إبراهيـم: ربّ اجعل هذا البلد بلدا آمنا, يعنـي بقوله: آمنا: آمنا من الـجبـابرة وغيرهم أن يسلطوا علـيه, ومن عقوبة الله أن تناله, كما تنال سائر البلدان, من خسف, وانتقال, وغرق, وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التـي تصيب سائر البلاد غيره. كما:
1535ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن الـحرم حُرّم بحياله إلـى العرش, وذكر لنا أن البـيت هبط مع آدم حين هبط, قال الله له: أهبط معك بـيتـي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي فطاف حوله آدم ومن كان بعده من الـمؤمنـين, حتـى إذا كان زمان الطوفـان حين أغرق الله قوم نوح رفعه وطهّره ولـم تصبه عقوبة أهل الأرض, فتتبع منه إبراهيـم أثرا فبناه علـى أساس قديـم كان قبله.
فإن قال لنا قائل: أَوَ ما كان الـحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيـم ربه له الأمان؟
قـيـل له: لقد اختُلِف فـي ذلك, فقال بعضهم: لـم يزل الـحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبـابرة خـلقه, منذ خـلقت السموات والأرض. واعتلوا فـي ذلك بـما:
1536ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي سعيد بن أبـي سعيد الـمقبري, قال: سمعت أبـا شريح الـخزاعي يقول: لـما افتتـحت مكة قتلت خزاعة رجلاً من هُذيـل, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبـا فقال: «يا أَيّها النّاسُ إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَـلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ, فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّهِ إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ لا يَحِلّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِها دَما, أوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرا. ألا وَإِنّهَا لاَ تَـحِلّ ءَلاحَدٍ بَعْدِي وَلَـمْ تَـحِلّ لِـي إِلاّ هَذِهِ السّاعَةَ غَضَبـا علـيّ أَهْلُها. ألا فَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ علـى حالِهَا بـالأمْسِ. ألا لِـيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغَائِبَ, فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها, فقولوا: إنّ الله قَدْ أَحَلّهَا لرسولِهِ ولـم يُحِلّها لكَ».
1537ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان, وحدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير جميعا, عن يزيد بن أبـي زياد, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمكة حين افتتـحها: «هَذِهِ حَرَمٌ حَرّمَهَا اللّهُ يَوْمَ خَـلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَخَـلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ وَوَضَعَ هَذَيْنِ الأخْشَبَـيْنِ, لَـمْ تَـحِلّ ءَلاحَدٍ قَبْلِـي, وَلاَ تَـحِلّ ءَلاحَدٍ بَعْدِي, أُحِلّتْ لِـي سَاعَةً مِنْ نهَارٍ».
قالوا: فمكة منذ خـلقت حَرَمٌ آمن من عقوبة الله وعقوبة الـجبـابرة.
قالوا: وقد أخبرَت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانـية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التـي ذكرناها.
قالوا: ولـم يسأل إبراهيـم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الـجبـابرة, ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الـجُدوب والقحُوط, وأن يرزق ساكنه من الثمرات, كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ.
قالوا: وإنـما سأل ربه ذلك, لأنه أسكن فـيه ذرّيته, وهو غير ذي زَرْعٍ ولا ضَرْع, فـاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا, فسأله أن يؤمنهم مـما حذر علـيهم منه.
قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيـم سأل ربه تـحريـم الـحرم, وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبـابرة خـلقه, وهو القائل حين حله, ونزله بأهله وولده: رَبّنا إنـي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِـي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَـيْتِكَ الـمُـحَرّمِ؟ قالوا: فلو كان إبراهيـم هو الذي حرّم الـحرم أو سأل ربه تـحريـمه لـما قال: «عند بـيتك الـمـحرّم», عند نزوله به, ولكنه حرّم قبله, وحرّم بعده.
وقال آخرون: كان الـحرم حلالاً قبل دعوة إبراهيـم كسائر البلاد غيره, وإنـما صار حراما بتـحريـم إبراهيـم إياه, كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً قبل تـحريـم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
قالوا: والدلـيـل علـى ما قلنا من ذلك ما:
1538ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي الزبـير, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ إبْرَاهِيـمَ حَرّمَ بَـيْتَ اللّهِ وأَمّنَهُ, وإنـي حَرّمْتُ الـمَدِينَةَ ما بَـيْنَ لابَتَـيْها لا يُصَادُ صَيْدُها وَلا تُقْطَعُ عِضَاهُها».
1539ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا عبد الرحيـم الرازي, سمعت أشعث, عن نافع, عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ إِبْرَاهِيـمَ كَانَ عَبْدَ اللّهِ وَخَـلِـيـلَهُ, وإنـي عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ, وَإِنّ إِبْرَاهِيـمَ حَرّمَ مَكّةَ وإنـي حَرّمْتُ الـمَدِينَةَ مَا بَـيْنَ لاَبَتَـيْهَا عِضَاهَا وَصَيْدَها, وَلاَ يُحْمَلُ فِـيها سِلاحٌ لِقِتالٍ, وَلا يُقْطَعُ مِنْها شَجَرٌ إلا لعَلَفِ بَعِيرٍ».
1540ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا قتـيبة بن سعيد, قال: حدثنا بكر بن مضر, عن ابن الهاد, عن أبـي بكر بن مـحمد, عن عبد الله بن عمرو بن عثمان, عن رافع بن خديج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ إِبْرَاهِيـمَ حَرّمَ مَكّةَ, وإنـي أُحَرّمُ الـمَدِينَةَ مَا بَـيْتَ لاَبَتَـيْها». وأما أشبه ذلك من الأخبـار التـي يطول بـاستـيعابها الكتاب.
قالوا: وقد أخبر الله تعالـى ذكره فـي كتابه أن إبراهيـم قال: رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا ولـم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض, فلـيس لأحد أن يدّعي أن الذي سأله من ذلك الأمان له من بعض الأشياء دون بعض إلا بحجة يجب التسلـيـم لها.
قالوا: وأما خبر أبـي شريح وابن عبـاس فخبران لا تثبت بهما حجة لـما فـي أسانـيدهما من الأسبـاب التـي لا يجب التسلـيـم فـيها من أجلها.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا: أن الله تعالـى ذكره جعل مكة حرما حين خـلقها وأنشأها, كما أخبر النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه حرّمها يوم خـلق السموات والأرض بغير تـحريـم منه لها علـى لسان أحد من أنبـيائه ورسله, ولكن بـمنعه من أرادها بسوء, وبدفعه عنها من الاَفـات والعقوبـات, وعن ساكنـيها ما أحلّ بغيرها وغير ساكنـيها من النقمات فلـم يزل ذلك أمرها حتـى بوأها الله إبراهيـم خـلـيـله, وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيـل, فسأل حينئذٍ إبراهيـم ربه إيجاد فرض تـحريـمها علـى عبـاده علـى لسانه, لـيكون ذلك سنة لـمن بعده من خـلقه, يستنّون بها فـيها, إذ كان تعالـى ذكره قد اتـخذه خـلـيلاً, وأخبره أنه جاعله للناس إماما يقتدي به, فأجابه ربه إلـى ما سأله, وألزم عبـاده حينئذٍ فرض تـحريـمه علـى لسانه, فصارت مكة بعد أن كانت مـمنوعة بـمنع الله إياها بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها علـى عبـاده, ومـحرّمة بدفع الله عنها بغير تـحريـمه إياها علـى لسان أحد من رسله فرض تـحريـمها علـى خـلقه علـى لسان خـلـيـله إبراهيـم علـيه السلام, وواجب علـى عبـاده الامتناع من استـحلالها, واستـحلال صيدها وعضاهها, بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيـم رسالة الله إلـيك بذلك إلـيه فلذلك أضيف تـحريـمها إلـى إبراهيـم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ» لأن فرض تـحريـمها الذي ألزم الله عبـاده علـى وجه العبـادة له به, دون التـحريـم الذي لـم يزل متعبدا لها به علـى وجه الكِلاءة والـحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيـم ربه إيجاب فرض ذلك علـى لسانه, لزم العبـاد فرضه دون غيره.
فقد تبـين إذا بـما قلنا صحة معنى الـخبرين, أعنـي خبر أبـي شريح وابن عبـاس عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَـلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ». وخبر جابر وأبـي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللّهُمّ إِنّ إبْرَاهِيـمَ حَرّمَ مَكّةَ» وأن لـيس أحدهما دافعا صحة معنى الاَخر كما ظنه بعض الـجهال.
وغير جائز فـي أخبـار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا إذا ثبت صحتها, وقد جاء الـخبران اللذان رُويا فـي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مـجيئا ظاهرا مستفـيضا يقطع عذر من بلغه.
وقول إبراهيـم علـيه السلام: رَبّنا إنـي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِـي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَـيْتِكَ الـمُـحَرّمِ فإنه إن يكن قال قبل إيجاب الله فرض تـحريـمه علـى لسانه علـى خـلقه, فإنـما عنى بذلك تـحريـم الله إياه الذي حرّمه بحياطته إياه وكلاءته من غير تـحريـمه إياه علـى خـلقه علـى وجه التعبد لهم بذلك. وإن يكن قال ذلك بعد تـحريـم الله إياه علـى لسانه علـى خـلقه علـى وجه التعبد, فلا مسألة لأحد علـينا فـي ذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ.
وهذه مسألة من إبراهيـم ربه أن يرزق مؤمنـي أهل مكة من الثمرات دون كافريهم. وخصّ بـمسألة ذلك للـمؤمنـين دون الكافرين لـما أعلـمه الله عند مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة يقتدي بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده, والظالـم الذي لا يدرك ولايته. فلـما أعلـم أن من ذرّيته الظالـم والكافر, خصّ بـمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة الـمؤمن منهم دون الكافر, وقال الله له: إنـي قد أجبت دعاءك, وسأرزق مع مؤمنـي أهل هذا البلد كافرهم, فأمتعه به قلـيلاً. وأما «مَنْ» فـي قوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بـاللّهِ فوَالـيَوْمِ الاَخِرِ فإنه نصب علـى الترجمة, والبـيان عن الأهل, كما قال تعالـى: يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتَالِ فِـيهِ بـمعنى: يسألونك عن قتال فـي الشهر الـحرام, وكما قال تعالـى ذكره: ولِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً بـمعنى: ولله حجّ البـيت علـى من استطاع إلـيه سبـيلاً.
وإنـما سأل إبراهيـم ربه ما سأل من ذلك لأنه حلّ بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل, فسأل أن يرزق أهله ثمرا, وأنه يجعل أفئدة الناس تهوي إلـيهم, فذكر أن إبراهيـم لـما سأل ذلك ربه نقل الله الطائف من فلسطين.
1541ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا هشام, قال: قرأت علـى مـحمد بن مسلـم أن إبراهيـم لـما دعا للـحرم وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ نقل الله الطائف من فلسطين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً.
اختلف أهل التأويـل فـي قائل هذا القول وفـي وجه قراءته, فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالـى ذكره, وتأويـله علـى قولهم: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً برزقـي من الثمرات فـي الدنـيا إلـى أن يأتـيه أجله. وقرأ قائل هذه الـمقالة ذلك: فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً بتشديد التاء ورفع العين. ذكر من قال ذلك:
1542ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: حدثنـي أبو العالـية, عن أُبـيّ بن كعب فـي قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً ثُمّ اضْطَرّهُ إِلَـى عَذَابِ النّارِ قال: هو قول الربّ تعالـى ذكره.
1543ـ حدثنا بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: قال ابن إسحاق لـما قال إبراهيـم: رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية, انقطاعا إلـى الله ومـحبة وفراقا لـمن خالف أمره, وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كان منهم ظالـم لا ينال عهده, بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله: وَمَنْ كَفَرَ فإنـي أرزق البرّ والفـاجر فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً.
وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيـم خـلـيـل الرحمَن علـى وجه الـمسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بـالبلد الـحرام, مثل الذي يرزق به الـمؤمن ويـمتعه بذلك قلـيلاً, ثم اضْطَرّهُ إلـى عذاب النار بتـخفـيف «التاء» وجزم «العين» وفتـح «الراء» من اضْطَرّه, وفصل «ثم اضطره» بغير قطع ألفها, علـى وجه الدعاء من إبراهيـم ربه لهم والـمسألة. ذكر من قال ذلك:
1544ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: قال أبو العالـية: كان ابن عبـاس يقول: ذلك قول إبراهيـم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قلـيلاً.
1545ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن لـيث, عن مـجاهد: وَمَنْ كَفَرَ فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً يقول: ومن كفر فأرزقه أيضا ثم اضطره إلـى عذاب النار.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا والتأويـل, ما قاله أُبـيّ بن كعب وقراءته, لقـيام الـحجة بـالنقل الـمستفـيض دراية بتصويب ذلك, وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بـمن كان جائزا علـيه فـي نقله الـخطأ والسهُو, علـى من كان ذلك غير جائز علـيه فـي نقله.
وإذ كان ذلك كذلك, فتأويـل الآية: قال الله: يا إبراهيـم قد أجبت دعوتك, ورزقت مؤمنـي أهل هذا البلد من الثمرات وكفـارهم متاعا لهم إلـى بلوغ آجالهم, ثم اضطرّ كفـارهم بعد ذلك إلـى النار.
وأما قوله: فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً يعنـي: فأجعل ما أرزقه من ذلك فـي حياته متاعا يتـمتع به إلـى وقت مـماته.
وإنـما قلنا إن ذلك كذلك لأن الله تعالـى ذكره إنـما قال ذلك لإبراهيـم جوابـا لـمسألته ما سأل من رزق الثمرات لـمؤمنـي أهل مكة, فكان معلوما بذلك أن الـجواب إنـما هو فـيـما سأله إبراهيـم لا فـي غيره. وبـالذي قلنا فـي ذلك قال مـجاهد, وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه.
وقال بعضهم: تأويـله: فأمتعه بـالبقاء فـي الدنـيا. وقال غيره: فأمتعه قلـيلاً فـي كفره ما أقام بـمكة, حتـى أبعث مـحمدا صلى الله عليه وسلم فـيقتله إن أقام علـى كفره أو يجلـيه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتـمله الكلام فإن دلـيـل ظاهر الكلام علـى خلافه لـما وصفنا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ثُمّ أضْطَرّهُ إلـى عَذَابِ النّارِ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ثُمّ أضْطَرّهُ إلـى عَذَابِ النّارِ ثم أدفعه إلـى عذاب النار وأسوقه إلـيها, كما قال تعالـى ذكره: يَوْمَ يُدَعّونَ إلـى نارِ جَهَنّـمَ دَعّا ومعنى الاضطرار: الإكراه, يقال: اضطررت فلانا إلـى هذا الأمر: إذا ألـجأته إلـيه وحملته علـيه. فذلك معنى قوله: ثُمّ اضْطَرّهُ إلـى عَذَابِ النّارِ أدفعه إلـيها, وأسوقه سحبـا وجرّا علـى وجهه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَبِئْسَ الـمَصِير.
قد دللنا علـى أن «بِئْس» أصله «بَئِس» من البؤس, سُكّن ثانـيه ونقلت حركة ثانـية إلـى أوله, كما قـيـل للكَبِد كِبْدٌ, وما أشبه ذلك. ومعنى الكلام: وساء الـمصير عذاب النار, بعد الذي كانوا فـيه من متاع الدنـيا الذي متعتهم فـيها. وأما الـمصير فإنه مفعل من قول القائل: صرت مصيرا صالـحا, وهو الـموضع الذي يصير إلـيه الكافر بـالله من عذاب النار