سورة هود | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 233 من المصحف
98- "يقدم قومه يوم القيامة" من قدمه بمعنى تقدمه: أي يصير متقدماً لهم يوم القيامة سابقاً إلى عذاب النار كما كان يتقدمهم في الدنيا "فأوردهم النار" أي إنه لا يزال متقدماً لهم وهم يتبعونه حتى يوردهم النار، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، ثم ذم الورد الذي أوردهم إليه، فقال: "وبئس الورد المورود" لأن الوارد إلى الماء الذي يقول له الورد، إنما يرده ليطفئ حر العطش، ويذهب ظمأه، والنار على ضد ذلك.
ثم ذمهم بعد ذم المكان الذي يردونه، فقال: 99- "وأتبعوا في هذه لعنة" أي أتبع قوم فرعون مطلقاً، أو الملأ خاصة، أو هم وفرعون في هذه الدنيا لعنة عظيمة: أي طرداً وإبعاداً "ويوم القيامة" أي وأتبعوا لعنة يوم القيامة يلعنهم أهل المحشر جميعاً، ثم إنه جعل اللعنة رفداً لهم على طريقة التهكم، فقال: "بئس الرفد المرفود". قال الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفداً: أمنته وأعطيته، واسم العطية الرفد: أي بئس العطاء، والإعانة ما أعطوهم إياه، وأعانوهم به، والمخصوص بالذم محذوف: أي رفدهم، وهو اللعنة التي أتبعوها في الدنيا والآخرة كأنها لعنة بعد لعنة تمد الأخرى الأولى وتؤبدها. وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد، بالفتح: القدح، وبالكسر: ما فيه من الشراب فكأنه ذم ما يستقونه في النار، وهذا أنسب بالمقام، وقيل: إن الرفد الزيادة: أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق، وهو الزيادة قاله الكلبي.
والإشارة بقوله: 100- "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك" أي ما قصه الله سبحانه في هذه السورة من أخبار الأمم السالفة وما فعلوه مع أنبيائهم: أي هو مقصوص عليك خبر بعد خبر، وقد تقدم تحقيق معنى القصص، والضمير في منها عائد إلى القرى: أي من القرى قائم، ومنها حصيد، والقائم: ما كان قائماً على عروشه، والحصيد: ما لا أثر له، وقيل: القائم: العامر، والحصيد: الخراب، وقيل: القائم: القرى الخاوية عن عروشها، والحصيد: المستأصل بمعنى محصود، شبه القرى بالزرع القائم على ساقه والمقطوع. قال الشاعر: والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
101- "وما ظلمناهم" بما فعلنا بهم من العذاب "ولكن ظلموا أنفسهم" بالكفر والمعاصي "فما أغنت عنهم آلهتهم" أي فما دفعت عنهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله شيئاً من العذاب "لما جاء أمر ربك" أي لما جاء عذابه " وما زادوهم غير تتبيب ": الهلاك والخسران: أي ما زدتهم الأصنام التي يعبدونها إلا هلاكاً وخسراناً، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع.
102- "وكذلك أخذ ربك" قرأ الجحدري وطلحة بن مصرف أخذ على أنه فعل. وقرأ غيرهما أخذ على المصدر "إذا أخذ القرى وهي ظالمة" أي أهلها وهم ظالمون "إن أخذه" أي عقوبته للكافرين "أليم شديد" أي موجع غليظ.
103- "إن في ذلك لآية" أي في أخذ الله سبحانه لأهل القرى، أو في القصص الذي قصه على رسوله لعبرة وموعظة "لمن خاف عذاب الآخرة" لأنهم الذين يعتبرون بالعبر، ويتعظون بالمواعظ، والإشارة بقوله: "ذلك يوم مجموع له الناس" إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة أن يجمع فيه الناس للمحاسبة والمجازاة "وذلك" أي يوم القيامة "يوم مشهود" أي يشهده أهل المحشر، أو مشهود فيه الخلائق، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول.
104- "وما نؤخره إلا لأجل معدود" أي وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء أجل معدود معلوم بالعدد، قد عين الله سبحانه وقوع الجزاء بعده.
105- "يوم يأت" قرأ أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الدرج، وحذفها في الوقف. وقرأ أبي وابن مسعود بإثباتها وصلا ووقفا. وقرأ الأعمش بحذفها فيهما، ووجه حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي أن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذفت الياء كما تحذف الضمة. ووجه قراءة من قرأ بحذف الياء مع الوصل أنهم رأوا رسم المصحف كذلك. وحكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول لا أدر، فتحذف الياء وتجترئ بالكسر، وأنشد الفراء في حذف الياء: كفاك كف ما تليق درهماً جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء، والمعنى: حين يأتي يوم القيامة "لا تكلم نفس" أي لا تتكلم حذفت إحدى التاءين تخفيفاً: أي لا تتكلم فيه نفس إلا بما أذن لها من الكلام، وقيل: لا تكلم بحجة ولا شفاعة "إلا بإذنه" سبحانه لها في التكلم بذلك، وقد جمع بين هذا وبين قوله: " هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون " باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة. وقد تكرر مثل هذا الجمع في مواضع "فمنهم شقي وسعيد" أي من الأنفس شقي ومنهم سعيد، فالشقي من كتبت عليه الشقاوة، والسعيد من كتبت له السعادة، وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام تحذير.
106- "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق" أي فأما الذي سبقت لهم الشقاوة فمستقرون في النار لهم فيها زفير وشهيق. قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، وهو المرتفع جداً. قال: وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير. والشهيق بمنزلة آخره، وقيل الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، وقيل الزفير: إخراج النفس، والشهيق: رد النفس، وقيل الزفير من الصدر، والشهيق من الحلق، وقيل الزفير: ترديد النفس من شدة الخوف، والشهيق: النفس الطويل الممتد، والجملة إما مستأنفة كأ،ه قيل ما حالهم فيها؟ أو في محل نصب على الحال.
107- "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض" أي مدة دوامهما. وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت، لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأبيد عذاب الكفار في النار وعدم انقطاعه عنهم، وثبت أيضاً أن السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا، فقالت طائفة: إن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء، قال: هو دائم ما دامت السموات والأرض، ومنه قوله: لا آتيك ما جن ليل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام ونحو ذلك. فيكون معنى الآية: أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له، وقيل: إن المراد سموات الآخرة وأرضها، فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سموات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا، وهي دائمة بدوام دار الآخرة، وأيضاً لا بد لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم، وهما أرض وسماء. قوله: "إلا ما شاء ربك" قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال: الأول: أنه من قوله: "ففي النار" كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك. روى هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري. الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين، وأنهم يخرجون بعد مدة من النار، وعلى هذا يكون قوله سبحانه: "فأما الذين شقوا" عاماً في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من خالدين، وتكون ما بمعنى من، وبهذا قال قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم. وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد، فكان ذلك مخصصاً لكل عموم. الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق: أي لهم فيها زفير وشهيق "إلا ما شاء ربك" من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق قاله ابن الأنباري. الرابع: أن معنى الاستثناء: أنهم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض لا يموتون إلا ما شاء ربك، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا، ثم يجدد الله خلقهم، روي ذلك عن ابن مسعود. الخامس: أن إلا بمعنى سوى. والمعنى ما دامت السموات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود، كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج. السادس: ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك: والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا المدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزماً، وقد حكى هذا القول الزجاج أيضاً. السابع: أن المعنى: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبورهم وللحساب حكاه الزجاج أيضاً. الثامن: أن المعنى: خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم، حكاه أيضاً الزجاج، واختاره الحكيم الترمذي. التاسع: أن إلا بمعنى الواو قاله الفراء، والمعنى وما شاء ربك من الزيادة، قال مكي: وهذا القول بعيد عند البصريين أن تكون إلا بمعنى الواو. العاشر: أن إلا بمعنى الكاف، والتقدير: كما شاء ربك، ومنه قوله تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" أي كما قد سلف. الحادي عشر: أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام فهو على حد قوله: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" روي نحو هذا عن أبي عبيد، وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم. وقد نوقش بعضها بمناقشات، ودفعت بدفوعات. وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة جمعتها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام.
108- "وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض". قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي "سعدوا" بضم السين. وقرأ الباقون بفتح السين، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم. قال سيبويه: لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان لكونه مما لا يتعدى. قال النحاس: ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي بضم السين مع علمه بالعربية، وهذا لحن لا يجوز، ومعنى الآية كما مر في قوله: "فأما الذين شقوا". قوله: "إلا ما شاء ربك" قد عرف من الأقوال المتقدمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه "عطاء غير مجذوذ" أي يعطيهم الله عطاء غير مجذوذ، والمجذوذ: المقطوع، من جذه يجذه إذا قطعه، والمعنى: أنه ممتد إلى غير نهاية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "يقدم قومه يوم القيامة" يقول: أضلهم فأوردهم النار. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: فرعون يمضي بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فأوردهم النار" قال: الورود الدخول. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بئس الرفد المرفود" قال: لعنة الدنيا والآخرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "منها قائم وحصيد" يعني قرى عامرة وقرى خامدة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة: منها قائم يرى مكانه، وحصيد لا يرى له أثر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج: منها قائم خاو على عروشه، وحصيد ملصق بالأرض. وأخرج أبو الشيخ عن أبي عاصم "فما أغنت عنهم" قال: ما نفعت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عمر في قوله: "وما زادوهم غير تتبيب" أي هلكة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال: تخسير. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة معناه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد"". وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة" يقول: إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" قال: يوم القيامة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "يوم يأت" قال: ذلك اليوم. وأخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال:" لما نزلت "فمنهم شقي وسعيد" قلت: يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: هاتان من المخبآت قول الله: "فمنهم شقي وسعيد" و "يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا" أما قوله: "فمنهم شقي وسعيد" فهم قوم من أهل الكتاب من أهل هذه القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم، ثم يأذن في الشفاعة لهم فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة، فسماهم أشقياء حين عذبهم في النار " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك " حين أذن في الشفاعة لهم وأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة وهم هم "وأما الذين سعدوا" يعني بعد الشقاء الذي كانوا فيه "ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك" يعني الذين كانوا في النار. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قتادة أنه تلا هذه الآية: "فأما الذين شقوا" فقال: حدثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال أهل حروراء: إن من دخلها بقي فيها". وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأما الذين شقوا" إلى قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن خالد بن معدان في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: إنها في التوحيد من أهل القبلة. وأخرج عبد الرزاق وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله، أو عن أبي سعيد الخدري أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله، يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن أبي نضرة قال: ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية "إن ربك فعال لما يريد". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ما دامت السموات والأرض" قال: لكل جنة سماء وأرض. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن نحوه أيضاً. وأخرج البيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار وأن يخلد هؤلاء في الجنة. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: استثنى الله من النار أن تأكلهم. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة: "إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً" إلى آخر الآية، فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها، وأوجب لهم خلود الأبد. وقوله: "وأما الذين سعدوا" الآية. قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة "والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات" إلى قوله: "ظلاً ظليلاً" فأوجب لهم خلود الأبد. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه. وأخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: "فأما الذين شقوا" الآية. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك". قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها. وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: الله أعلم بتثنيته على ما وقعت. وقد روي عن جماعة من السلف مثل ما ذكره عمر وأبو هريرة وابن مسعود كابن عباس وعبد الله بن عمر وجابر وأبي سعيد من الصحابة، وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما من التابعين. وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي، وإسناده ضعيف. ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة، وفي السكوت عنه غنى، فقال: ولا يخدعنك قول المجبرة إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روي لهم بعض الثوابت عن ابن عمرو: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، ثم قال: وأقول ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث انتهى. وأقول: أما الطعن علىمن قال بخروج أهل الكبائر من النار، فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة، وكما صح عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر، فما لك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة، وأي مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف، وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم فلا مناداة ولا مخالفة، وأي مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة، فالاستثناء الأول يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من خروج العصاة من هذه الأمة من النار، والاستثناء الثاني يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم، وذلك لتأخر خلودهم إليها مقدار المدة التي لبثوا فيها في النار، وقد قال بهذا من أهل العلم من قدمنا ذكره، وبه قال ابن عباس حبر الأمة. وأما الطعن على صاحب رسول الله وحافظ سنته وعابد الصحابة عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فإلى أين يا محمود، أتدري ما صنعت، وفي أي واد وقعت، وعلى أي جنب سقطت؟ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان وتتناول نحوم السماء بيديك القصيرة ورجلك العرجاء، أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري، فيا لله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه.
لما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة وبيان حال السعداء والأشقياء، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي له عن الامتراء في أن ما يعبدونه غير نافع ولا ضار ولا تأثير له في شيء. وحذف النون في لا تك لكثرة الاستعمال، والمرية: الشك، والإشارة بهؤلاء إلى كفار عصره صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى: لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء، وقيل: لا تك في شك من سوء عاقبتهم. ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وهذا النهي له صلى الله عليه وسلم هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك أبداً. ثم بين له سبحانه أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم، أو أن عبادتهم كعبادة آبائهم من قبل، وفي هذا استثناء تعليل للنهي عن الشك. والمعنى: أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره، فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك، فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك، وجاء بالمضارع في كما يعبد آباؤهم لاستحضار الصورة. ثم بين له أنه مجازيهم بأعمالهم فقال: "وإنا لموفوهم نصيبهم" من العذاب كما وفينا آباءهم لا ينقص من ذلك شيء، وانتصاب غير الحال، والتوفية لا تستلزم عدم النقص، فقد يجوز أن يوفى وهو ناقص كما يجوز أن يوفى وهو كامل، وقيل: المراد نصيبهم من الرزق. وقيل: ما هو أعم من الخير والشر.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 233
23298- "يقدم قومه يوم القيامة" من قدمه بمعنى تقدمه: أي يصير متقدماً لهم يوم القيامة سابقاً إلى عذاب النار كما كان يتقدمهم في الدنيا "فأوردهم النار" أي إنه لا يزال متقدماً لهم وهم يتبعونه حتى يوردهم النار، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، ثم ذم الورد الذي أوردهم إليه، فقال: "وبئس الورد المورود" لأن الوارد إلى الماء الذي يقول له الورد، إنما يرده ليطفئ حر العطش، ويذهب ظمأه، والنار على ضد ذلك.
ثم ذمهم بعد ذم المكان الذي يردونه، فقال: 99- "وأتبعوا في هذه لعنة" أي أتبع قوم فرعون مطلقاً، أو الملأ خاصة، أو هم وفرعون في هذه الدنيا لعنة عظيمة: أي طرداً وإبعاداً "ويوم القيامة" أي وأتبعوا لعنة يوم القيامة يلعنهم أهل المحشر جميعاً، ثم إنه جعل اللعنة رفداً لهم على طريقة التهكم، فقال: "بئس الرفد المرفود". قال الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفداً: أمنته وأعطيته، واسم العطية الرفد: أي بئس العطاء، والإعانة ما أعطوهم إياه، وأعانوهم به، والمخصوص بالذم محذوف: أي رفدهم، وهو اللعنة التي أتبعوها في الدنيا والآخرة كأنها لعنة بعد لعنة تمد الأخرى الأولى وتؤبدها. وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد، بالفتح: القدح، وبالكسر: ما فيه من الشراب فكأنه ذم ما يستقونه في النار، وهذا أنسب بالمقام، وقيل: إن الرفد الزيادة: أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق، وهو الزيادة قاله الكلبي.
والإشارة بقوله: 100- "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك" أي ما قصه الله سبحانه في هذه السورة من أخبار الأمم السالفة وما فعلوه مع أنبيائهم: أي هو مقصوص عليك خبر بعد خبر، وقد تقدم تحقيق معنى القصص، والضمير في منها عائد إلى القرى: أي من القرى قائم، ومنها حصيد، والقائم: ما كان قائماً على عروشه، والحصيد: ما لا أثر له، وقيل: القائم: العامر، والحصيد: الخراب، وقيل: القائم: القرى الخاوية عن عروشها، والحصيد: المستأصل بمعنى محصود، شبه القرى بالزرع القائم على ساقه والمقطوع. قال الشاعر: والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
101- "وما ظلمناهم" بما فعلنا بهم من العذاب "ولكن ظلموا أنفسهم" بالكفر والمعاصي "فما أغنت عنهم آلهتهم" أي فما دفعت عنهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله شيئاً من العذاب "لما جاء أمر ربك" أي لما جاء عذابه " وما زادوهم غير تتبيب ": الهلاك والخسران: أي ما زدتهم الأصنام التي يعبدونها إلا هلاكاً وخسراناً، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع.
102- "وكذلك أخذ ربك" قرأ الجحدري وطلحة بن مصرف أخذ على أنه فعل. وقرأ غيرهما أخذ على المصدر "إذا أخذ القرى وهي ظالمة" أي أهلها وهم ظالمون "إن أخذه" أي عقوبته للكافرين "أليم شديد" أي موجع غليظ.
103- "إن في ذلك لآية" أي في أخذ الله سبحانه لأهل القرى، أو في القصص الذي قصه على رسوله لعبرة وموعظة "لمن خاف عذاب الآخرة" لأنهم الذين يعتبرون بالعبر، ويتعظون بالمواعظ، والإشارة بقوله: "ذلك يوم مجموع له الناس" إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة أن يجمع فيه الناس للمحاسبة والمجازاة "وذلك" أي يوم القيامة "يوم مشهود" أي يشهده أهل المحشر، أو مشهود فيه الخلائق، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول.
104- "وما نؤخره إلا لأجل معدود" أي وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء أجل معدود معلوم بالعدد، قد عين الله سبحانه وقوع الجزاء بعده.
105- "يوم يأت" قرأ أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الدرج، وحذفها في الوقف. وقرأ أبي وابن مسعود بإثباتها وصلا ووقفا. وقرأ الأعمش بحذفها فيهما، ووجه حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي أن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذفت الياء كما تحذف الضمة. ووجه قراءة من قرأ بحذف الياء مع الوصل أنهم رأوا رسم المصحف كذلك. وحكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول لا أدر، فتحذف الياء وتجترئ بالكسر، وأنشد الفراء في حذف الياء: كفاك كف ما تليق درهماً جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء، والمعنى: حين يأتي يوم القيامة "لا تكلم نفس" أي لا تتكلم حذفت إحدى التاءين تخفيفاً: أي لا تتكلم فيه نفس إلا بما أذن لها من الكلام، وقيل: لا تكلم بحجة ولا شفاعة "إلا بإذنه" سبحانه لها في التكلم بذلك، وقد جمع بين هذا وبين قوله: " هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون " باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة. وقد تكرر مثل هذا الجمع في مواضع "فمنهم شقي وسعيد" أي من الأنفس شقي ومنهم سعيد، فالشقي من كتبت عليه الشقاوة، والسعيد من كتبت له السعادة، وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام تحذير.
106- "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق" أي فأما الذي سبقت لهم الشقاوة فمستقرون في النار لهم فيها زفير وشهيق. قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، وهو المرتفع جداً. قال: وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير. والشهيق بمنزلة آخره، وقيل الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، وقيل الزفير: إخراج النفس، والشهيق: رد النفس، وقيل الزفير من الصدر، والشهيق من الحلق، وقيل الزفير: ترديد النفس من شدة الخوف، والشهيق: النفس الطويل الممتد، والجملة إما مستأنفة كأ،ه قيل ما حالهم فيها؟ أو في محل نصب على الحال.
107- "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض" أي مدة دوامهما. وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت، لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأبيد عذاب الكفار في النار وعدم انقطاعه عنهم، وثبت أيضاً أن السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا، فقالت طائفة: إن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء، قال: هو دائم ما دامت السموات والأرض، ومنه قوله: لا آتيك ما جن ليل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام ونحو ذلك. فيكون معنى الآية: أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له، وقيل: إن المراد سموات الآخرة وأرضها، فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سموات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا، وهي دائمة بدوام دار الآخرة، وأيضاً لا بد لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم، وهما أرض وسماء. قوله: "إلا ما شاء ربك" قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال: الأول: أنه من قوله: "ففي النار" كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك. روى هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري. الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين، وأنهم يخرجون بعد مدة من النار، وعلى هذا يكون قوله سبحانه: "فأما الذين شقوا" عاماً في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من خالدين، وتكون ما بمعنى من، وبهذا قال قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم. وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد، فكان ذلك مخصصاً لكل عموم. الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق: أي لهم فيها زفير وشهيق "إلا ما شاء ربك" من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق قاله ابن الأنباري. الرابع: أن معنى الاستثناء: أنهم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض لا يموتون إلا ما شاء ربك، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا، ثم يجدد الله خلقهم، روي ذلك عن ابن مسعود. الخامس: أن إلا بمعنى سوى. والمعنى ما دامت السموات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود، كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج. السادس: ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك: والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا المدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزماً، وقد حكى هذا القول الزجاج أيضاً. السابع: أن المعنى: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبورهم وللحساب حكاه الزجاج أيضاً. الثامن: أن المعنى: خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم، حكاه أيضاً الزجاج، واختاره الحكيم الترمذي. التاسع: أن إلا بمعنى الواو قاله الفراء، والمعنى وما شاء ربك من الزيادة، قال مكي: وهذا القول بعيد عند البصريين أن تكون إلا بمعنى الواو. العاشر: أن إلا بمعنى الكاف، والتقدير: كما شاء ربك، ومنه قوله تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" أي كما قد سلف. الحادي عشر: أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام فهو على حد قوله: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" روي نحو هذا عن أبي عبيد، وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم. وقد نوقش بعضها بمناقشات، ودفعت بدفوعات. وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة جمعتها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام.
108- "وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض". قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي "سعدوا" بضم السين. وقرأ الباقون بفتح السين، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم. قال سيبويه: لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان لكونه مما لا يتعدى. قال النحاس: ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي بضم السين مع علمه بالعربية، وهذا لحن لا يجوز، ومعنى الآية كما مر في قوله: "فأما الذين شقوا". قوله: "إلا ما شاء ربك" قد عرف من الأقوال المتقدمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه "عطاء غير مجذوذ" أي يعطيهم الله عطاء غير مجذوذ، والمجذوذ: المقطوع، من جذه يجذه إذا قطعه، والمعنى: أنه ممتد إلى غير نهاية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "يقدم قومه يوم القيامة" يقول: أضلهم فأوردهم النار. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: فرعون يمضي بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فأوردهم النار" قال: الورود الدخول. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بئس الرفد المرفود" قال: لعنة الدنيا والآخرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "منها قائم وحصيد" يعني قرى عامرة وقرى خامدة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة: منها قائم يرى مكانه، وحصيد لا يرى له أثر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج: منها قائم خاو على عروشه، وحصيد ملصق بالأرض. وأخرج أبو الشيخ عن أبي عاصم "فما أغنت عنهم" قال: ما نفعت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عمر في قوله: "وما زادوهم غير تتبيب" أي هلكة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال: تخسير. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة معناه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد"". وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة" يقول: إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" قال: يوم القيامة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "يوم يأت" قال: ذلك اليوم. وأخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال:" لما نزلت "فمنهم شقي وسعيد" قلت: يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: هاتان من المخبآت قول الله: "فمنهم شقي وسعيد" و "يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا" أما قوله: "فمنهم شقي وسعيد" فهم قوم من أهل الكتاب من أهل هذه القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم، ثم يأذن في الشفاعة لهم فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة، فسماهم أشقياء حين عذبهم في النار " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك " حين أذن في الشفاعة لهم وأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة وهم هم "وأما الذين سعدوا" يعني بعد الشقاء الذي كانوا فيه "ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك" يعني الذين كانوا في النار. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قتادة أنه تلا هذه الآية: "فأما الذين شقوا" فقال: حدثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال أهل حروراء: إن من دخلها بقي فيها". وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأما الذين شقوا" إلى قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن خالد بن معدان في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: إنها في التوحيد من أهل القبلة. وأخرج عبد الرزاق وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله، أو عن أبي سعيد الخدري أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله، يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن أبي نضرة قال: ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية "إن ربك فعال لما يريد". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ما دامت السموات والأرض" قال: لكل جنة سماء وأرض. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن نحوه أيضاً. وأخرج البيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار وأن يخلد هؤلاء في الجنة. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: استثنى الله من النار أن تأكلهم. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة: "إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً" إلى آخر الآية، فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها، وأوجب لهم خلود الأبد. وقوله: "وأما الذين سعدوا" الآية. قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة "والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات" إلى قوله: "ظلاً ظليلاً" فأوجب لهم خلود الأبد. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه. وأخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: "فأما الذين شقوا" الآية. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك". قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها. وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إلا ما شاء ربك" قال: الله أعلم بتثنيته على ما وقعت. وقد روي عن جماعة من السلف مثل ما ذكره عمر وأبو هريرة وابن مسعود كابن عباس وعبد الله بن عمر وجابر وأبي سعيد من الصحابة، وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما من التابعين. وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي، وإسناده ضعيف. ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة، وفي السكوت عنه غنى، فقال: ولا يخدعنك قول المجبرة إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روي لهم بعض الثوابت عن ابن عمرو: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، ثم قال: وأقول ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث انتهى. وأقول: أما الطعن علىمن قال بخروج أهل الكبائر من النار، فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة، وكما صح عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر، فما لك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة، وأي مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف، وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم فلا مناداة ولا مخالفة، وأي مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة، فالاستثناء الأول يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من خروج العصاة من هذه الأمة من النار، والاستثناء الثاني يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم، وذلك لتأخر خلودهم إليها مقدار المدة التي لبثوا فيها في النار، وقد قال بهذا من أهل العلم من قدمنا ذكره، وبه قال ابن عباس حبر الأمة. وأما الطعن على صاحب رسول الله وحافظ سنته وعابد الصحابة عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فإلى أين يا محمود، أتدري ما صنعت، وفي أي واد وقعت، وعلى أي جنب سقطت؟ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان وتتناول نحوم السماء بيديك القصيرة ورجلك العرجاء، أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري، فيا لله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه.
لما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة وبيان حال السعداء والأشقياء، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي له عن الامتراء في أن ما يعبدونه غير نافع ولا ضار ولا تأثير له في شيء. وحذف النون في لا تك لكثرة الاستعمال، والمرية: الشك، والإشارة بهؤلاء إلى كفار عصره صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى: لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء، وقيل: لا تك في شك من سوء عاقبتهم. ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وهذا النهي له صلى الله عليه وسلم هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك أبداً. ثم بين له سبحانه أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم، أو أن عبادتهم كعبادة آبائهم من قبل، وفي هذا استثناء تعليل للنهي عن الشك. والمعنى: أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره، فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك، فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك، وجاء بالمضارع في كما يعبد آباؤهم لاستحضار الصورة. ثم بين له أنه مجازيهم بأعمالهم فقال: "وإنا لموفوهم نصيبهم" من العذاب كما وفينا آباءهم لا ينقص من ذلك شيء، وانتصاب غير الحال، والتوفية لا تستلزم عدم النقص، فقد يجوز أن يوفى وهو ناقص كما يجوز أن يوفى وهو كامل، وقيل: المراد نصيبهم من الرزق. وقيل: ما هو أعم من الخير والشر.
الصفحة رقم 233 من المصحف تحميل و استماع mp3