تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 249 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 249

248

قد وقع الخلاف هل هي مكية أو مدنية؟ فروى النحاس في ناسخه عن ابن عباس أنها نزلت بمكة. وروى أبو الشيخ وابن مردويه عنه أنها نزلت بالمدينة. وممن ذهب إلى أنها مكية سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وممن ذب إلى أنها نزلت بالمدينة ابن الزبير والكلبي ومقاتل. وقول ثالث أنها مدنية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بمكة، وهما قوله نعالى: "ولو أن قرآناً سيرت به الجبال" وقيل فوله: "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة". وقد روي هذا عن ابن عباس أيضاً وقتادة. وقد أخرج ابن أبي شيبة والمروزي في الجنائز عن جابر بن زيد قال: كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وإنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه. قوله: 1- "المر" قد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، وهو اسم للسورة مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده، والتقدير على الول هذه السورة اسمها هذا، والإشارة بقوله: "تلك" إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب السورة: أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن، ويكون قوله: "والذي أنزل إليك من ربك الحق" مراداً به القرآن كله: أي هو الحق البالغ في اتصافه بهذه الصفة، أو تكون الإشارة بقوله "تلك" إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن ويكون قوله: "والذي أنزل إليك من ربك الحق" جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق. قال الفراء: والذي رفع بالاستئناف وخبره الحق. قال: وإن شئت جعلت الذي خفضا نعتاً للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام ويجوز أن يكون محل والذي أنزل إليك الجر على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، فيكون الحق على هذا خبر المبتدأ محذوف "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" بهذا الحق الذي أنزله الله عليك.
قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال: 2- "الله الذي رفع السموات بغير عمد" والعمد: الأساطين جمع عماد: أي قائمات بغير عمد تعتمد عليه، وقيل لها عمد ولكن لا نراه. قال الزجاج العمد قدرته التي يمسك بها السموات، وهي غير مرئية لنا، وقرىء عمد على انه جمع عمود يعمد به: أي يسند إليه. قال النابغة: وخبر الجن أني قد أذنت لهم يبنون تذمر بالصفاح والعمد وجملة ترونها مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك، وقيل هي صفة لعمد، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: رفع السموات ترونها بغير عمد، ولا ملجىء إلى مثل هذا التكلف " ثم استوى على العرش" أي استولى عليه بالحفظ والتدبير، أو استوى أمره، أو أقبل على خلق العرش، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى، والاستواء على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام "وسخر الشمس والقمر" أي ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد " كل يجري إلى أجل مسمى " أي كل من الشمس والقمر يجري إلى وقت معلوم: وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر، وقيل المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزانها، وهي سنة للشمس، وشهر للقمر "يدبر الأمر" أي يصرفه على ما يريد، وهو أمر ملكوته وربوبيته "يفصل الآيات" أي يبينها: وهي الآيات الدالة على كمال قدرته وربوبيته، ومنها ما تقدم من رفع السماء بغير عمد وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى والجملتان في محل نصب على الحال او خبره إن لقوله: "الله الذي رفع" على أن الموصول صفة للمبتدأ، والمراد من هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة، ولذا قال "لعلكم بلقاء ربكم توقنون" أي لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه.
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال 3- "وهو الذي مد الأرض" قال الفراء بسطها طولاً وعرضاً. وقال الأصم: إن المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، وعذا المد الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها "وجعل فيها رواسي" أي جبالاص ثوابت. واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها: أي تثبت، والإرساء: الثبوت. قال عنترة: فصرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع وقال جميل: أحبها والذي أرسى قواعده حتى إذا ظهرت آياته بطنا "وأنهاراً" أي مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد جعل فيها مجاري الماء "ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين" من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده: أي جعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين: الزوج يطلق على الاثنين، وعلى الواحد المزاوج لآخر، والمراد هنا بالزوج الواحد، ولهذا أكد الزوجين بالأثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين. وقد تقدم تحقيق هذا مستوفى، أي عل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا ضنفين، أو في القدر كالصغر والكبر، أو في الكيفية كالحر والبرد. قال الفراء يعني بالزوجين هنا الذكر والأنثى، والأول أولى " يغشي الليل النهار " أي يلبس مكانه، فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً شي\به إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها. وقد سبق تفسير هذه في الأعراف "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" أي فيما ذكر من مد الأرض وإثباتها بالجبال، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة، وتعاقب النور والظلمة آيات بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين.
4- "وفي الأرض قطع متجاورات" هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات. قيل وفي الكلام حذف: أي قطع متجاورات في قوله "سرابيل تقيكم الحر" أي وتقيكم البرد. قيل والمتجاورات: المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات: الصحارى وما كان غير عامر وقيل المعنى: متجاورات متدانيات، ترابها واحد وماؤها واحد، وفيها زرع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً، والبعض طيباً والبعض غير طيب، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر "وجنات من أعناب" الجنات: البساتين، قرأ الجمهور برفع جنات على تقدير: وفي الأرض جنات، فهو معطوف على قطع متجاورات، أو على تقدير: وبينها جنات. وقرأ الحسن بالنصب على تقدير: وجعل فيها جنات، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل، لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك، ومثله في قوله سبحانه "جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً" "صنوان وغير صنوان" قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص " وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان " برفع هذه الأربع عطفاً على جنات. وقرأ الباقون بالجر عطفاً على أعناب. وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان. وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان. قال أبو عبيدة صنوان: جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحداً، ثم يتفرع فيصير نخيلاً، ثم يحمل، وهذا قول جميع أهل اللفة والتفسير. قال ابن الأعرابي: الصنو: المثل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "عم الرجل صنو أبيه" فمعنى الآية على هذا: أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون. قال في الكشاف: و\الصنوان جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد، وقيل الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق. النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر: صنوان. والصنو: المثل، ولا فرق بين التثنية والجنع إلا بكسر النون في المثنى. وبما يقتضيه الإعراب في الجمع "يسقى بماء واحد" قرأ عاصم وابن عامر: "يسقى" بالتحتية: أي يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات. واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو قال أبو عمرو: التأنيث أحسن لقوله: "ونفضل بعضها على بعض في الأكل" ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي " نفضل " بالتحتية كما في قوله "يدبر الأمر يفصل الآيات" وقرأ الباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل. وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل، فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر، واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلا قدرة الصانع الحكيم جل سلطانه وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلا لسببين: إما اختلاف المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تسقى به، فإذا كان المكان متجاوراً، وقطع الأرض متلاصقة، والماء الذي تسقى به واحداً، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلا تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب. ولهذا قال الله سبحانه "إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" أي يعملون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات. وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "المر" قال: أنا الله أرى. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد "المر" فواتح يفتتح بها كلامه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "تلك آيات الكتاب" قال: التوراة والإنجيل "والذي أنزل إليك من ربك الحق" قال: القرآن. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه: وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " رفع السماوات بغير عمد ترونها " قال: وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يقول لها عمد ولكن لا ترونها: يعني الأعماد. وأخرج ابن جرير عن إياس بن معاوية في الآية قال: السماء مقببة على الأرض مثل القبة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في قوله: "لأجل مسمى" قال: الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يدبر الأمر" قال: يقضيه وحده. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام: أربعمائة خراب، ومائة عمران في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة. وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقديرات لم يأت عليها دليل يصح. وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: أي رب تجعل علي بني آدم يعملون علي الخطايا ويجعلون علي الخبث، فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان إقرارها كاللحم ترجرج. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله " جعل فيها زوجين اثنين " قال: ذكراً وأنثى من كل صنف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله " يغشي الليل النهار " أي يلبس الليل النهار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وفي الأرض قطع متجاورات" قال: يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا تخرج، وهما أرض واحدة، وماؤها شيء واحد، ملح أو عذب، ففضلت إحداهما على الأخرى. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: قرئ متجاورات قريب بعضها من بعض. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: الأرض تنبت حلواً، والأرض تنبت حامضاً، وهي متجاورات تسقى بماء واحد. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله: "صنوان وغير صنوان" قال: الصنوان ما كان أصله واحداً وهو متفرق، وغير صنوان التي تنبت وحدها، وفي لفظ: صنوان النخلة في النخلة ملتصقة. وغير صنوان النخل المتفرق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "صنوان" قال: مجتمع النخل في أصل واحد "وغير صنوان" قال: النخل المتفرق. وأخرج الترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ونفضل بعضها على بعض في الأكل" قال: الدقل والفارسي والحلو والحامض وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هذا حامض، وهذا حلو، وهذا دقل، وهذا فارسي.
قوله:5- "وإن تعجب فعجب قولهم" أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم من الصادقين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث. والله تعالى عليه لا يجوز عليه التعجب، لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه وإنما ذكر ذلك ليعجب منه رسوله وأتباعه. قال الزجاج: أي هذا موضوع عجب أيضاً أنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة، وقيل الآية في منكري الصانع: أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير، فهو محل التعجب، والأول أولى لقوله: " أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد " وهذه الجملة في محل رفع على البدلية من قولهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على أنها مقول القول والعجب على الأول كلامهم، وعلى الثاني تكلمهم بذلك، والعامل في إذا ما يفيده قوله: " أإنا لفي خلق جديد " وهو نبعث أو نعاد. والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال الاستبعاد، وتقديم الظرف في قوله: "لفي خلق" لتأكيد الإنكار بالبعث. وكذلك تكرير الهمزة في قوله: أإنا. ثم لما حكى الله سبحانه ذلك عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول "أولئك الذين كفروا بربهم" أي أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه. والثاني "وأولئك الأغلال في أعناقهم" الأغلال: جمع غل، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق: أي يغلون بها بوم القيامة. وقيل الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق: والثالث "وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، وفي توسيط ضمير الفصل دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث.