تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 266 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 266

265

71- "قال هؤلاء بناتي" فتزوجوهن "إن كنتم فاعلين" ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي فهؤلاء بناتي تزوجوهن حلالاً ولا تركبوا الحرام، وقيل أراد ببناته نساء قومه، لكون النبي بمنزلة الأب لقومه، وقد تقدم تفسير هذا في هود.
72- "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون" العمر والعمر بالفتح والضم واحد، لكنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم، ذكر ذلك الزجاج. قال القاضي عياض: اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً له. قال ابن الجوزاء: ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي: ما الذي يمتنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتي من ضعفه من شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم على الله منه أولا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكلم، وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد أرفع. قال القرطبي: ما قاله حسن فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاماً معترضاً في قصة لوط فإن قيل قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين، ونحو ذلك فما فيهما من فضل. وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلا وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه، وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا هو من الملائكة على إرادة القول: أي قالت الملائكة للوط لعمرك، ثم قال: وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقسم بحياة أحد قط كرامة له انتهى. وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره، وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"، وقيل الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور سنين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به: أي وخالق التين وكذلك ما بعده، وفي قوله: "لعمرك" أي وخالق عمرك، ومعنى " إنهم لفي سكرتهم يعمهون ": لفي غوايتهم يتحيرون، جعل الغواية لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة والضمير لقريش على أن القسم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو لقوم لوط على أن القسم للرسول عليه السلام.
73- " فأخذتهم الصيحة " العظيمة أو صيحة جبريل حال كونهم "مشرقين" أي داخلين في وقت الشروق، يقال أشرقت الشمس: أي أضاءت وشرقت إذا شلعت وقيل هما لغتان بمعنى واحد وأشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، وقيل أراد شروق الفجر، وقيل أول العذاب كان عند شروق الفجر وامتد إلى طلوع الشمس. والصيحة: العذاب.
74- "فجعلنا عاليها سافلها" أي عالي المدينة سافلها "وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل" من طين متحجر، وقد تقدم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود.
75- "إن في ذلك" أي في المذكور من قصتهم وبيان ما أصابهم "لآيات" لعلامات يستدل بها "للمتوسمين" للمتفكرين الناظرين في الأمر ومنه قول زهير: وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم وقال الآخر: أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلي عريفهم يتوسم وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، وقال الثعلب: الواسم الناظر إليك من قرنك إلى قدمك، والمعنى متقارب، وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير.
76- "وإنها لبسبيل مقيم" يعني قرى قوم لوط أو مدينتهم على طريق ثابت وهي الطريق من المدينة إلى الشام فإن السالك في هذه الطريق يمر بتلك القرى.
77- " إن في ذلك " المذكور من المدينة أو القرى "لآية للمؤمنين" يعتبرون بها فإن المؤمنين من العباد هم الذين يعتبرون بما يشاهدونه من الآثار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجاء أهل المدينة يستبشرون" قال: استبشروا بأضياف نبي الله لوط حين نزلوا به لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " أولم ننهك عن العالمين " قال: يقولون أو لم ننهك أن تضيف أحداً أو تؤويه. "قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين" أمرهم لوط بتزويج النساء وأراد أن يبقي أضيافه ببناته. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحيات أحد غيره قال: "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون" يقول: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "لعمرك" قال: لعيشك. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد قال "لعمرك" الآية. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل لعمري يرونه كقوله وحياتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة "إنهم لفي سكرتهم يعمهون" أي في ضلالهم يلعبون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الأعمش في الآية لفي غفلتهم يترددون. وأخرج ابن جرير عن ابن جريح فأخذتهم الصيحة مثل الصاعقة، وكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة. وأخرج ابن جرير عنه "مشرقين" قال: حين أشرقت الشمس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: "إن في ذلك لآية" قال: علامة أما ترى الرجل يرسل خاتمه إلى أهله، فيقول هاتوا كذا وكذا، فإذا رأوه عرفوا أنه حق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "للمتوسمين" قال: للناظرين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة قال: للمعتبرين. وأخرج ابن جريح وابن المنذر عن مجاهد قال: للمتفرسين، وأخرج البخاري في التاريخ والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: "إن في ذلك لآيات للمتوسمين"". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "وإنها لبسبيل مقيم" يقول لبهلاك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لبطريق مقيم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لبطريق واضح.
قوله: 78- "وإن كان أصحاب الأيكة" إن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف: أي وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. والأيكة الغيضة، وهي جماع الشجر، والجمع الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوماً، وهو المقل، فالمعنى: وإن كان أصحاب الشجر المجتمع، وقيل الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها. قال أبو عبيدة الأيكة: وليكة مدينتهم كمكة وبكة، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب، وقد تقدم خبرهم، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق.
والضمير في 79- "وإنهما لبإمام مبين" يرجع إلى مدينة قوم لوط، ومكان أصحاب الأيكة: أي وإن المكانين لبطريق واضح، والإمام اسم لما يؤتم به، ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك. قال الفراء والزجاج: سمي الطريق إماماً لأنه يؤتم ويتبع. وقال ابن قتيبة لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده، وقيل الضمير للأيكة ومدين لأن شعيباً كان ينسب إليهما.
ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال: 80- "ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين" الحجر اسم لديار ثمود. قاله الأزهري، وهي ما بين مكة وتبوك. وقال ابن جرير: هي أرض بين الحجاز والشام. وقال المرسلين ولم يرسل إليهم إلا صالح، لأن من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الباقين لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله، وقيل كذبوا صالحاً ومن تقدمه من الأنبياء، وقيل كذبوا صالحاً ومن معه من المؤمنين.
81- "وآتيناهم آياتنا" أي الآيات المنزلة على نبيهم، ومن جملتها الناقة فإن فيها آيات جمة كخروجها من الصخرة ودنو نتاجها عند خروجها وعظهما وكثرة لبنها "فكانوا عنها معرضين" أي غير معتبرين، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيهم.
82- "وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً" النحت في كلام العرب: البري والنجر، نحته ينحته بالكسر نحتاً: أي براه، وفي التنزيل "أتعبدون ما تنحتون" أي تنجرون، وكانوا يتخذون لأنفسهم من الجبال بيوتاً: أي يخرقونها في الجبال، وانتصاب "آمنين" على الحال قال الفراء: آمنين من أن يقع عليهم، وقيل آمنين من الموت، وقيل من العذاب ركوناً منهم على قوتها ووثاقتها.
83- "فأخذتهم الصيحة مصبحين" أي داخلين في وقت الصبح، وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف وفي هود، وتقدم أيضاً قريباً.
84- "فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون" أي لم يدفع عنهم شيئاً من عذاب الله ما كانوا يكسبون من الأموال والحصون في الجبال.
85- "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق" أي متلبسة بالحق، وهو ما فيهما من الفوائد والمصالح، وقيل المراد بالحق مجازة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما في قوله سبحانه: " ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " وقيل المراد بالحق الزوال لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائل "وإن الساعة لآتية" وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، وفيه وعيد للعصاة وتهديد، ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصفح عن قومه، فقال: "فاصفح الصفح الجميل" أي تجاوز عنهم واعف عفواً حسناً، وقيل فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً ولا تعجل عليهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. قيل وهذا منسوخ بآية السيف.
86- "إن ربك هو الخلاق العليم" أي الخالق للخلق جميعاً العليم بأحوالهم وبالصالح والطالح منهم. وقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: أصحاب الأيكة هم قوم شعيب، والأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأيكة الغيضة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: أصحاب الأيكة أهل مدين، والأيكة الملتفة من الشجر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الأيكة مجمع الشيء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال في قوله: "وإنهما لبإمام مبين" طريق ظاهر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في أصحاب الحجر قال: أصحاب الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كان أصحاب الحجر ثمود وقوم صالح. وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر:لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم". وأخرج ابن مردويه عنه قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم بإهراق القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، فقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم فلا تدخلوا عليهم. وأخرج ابن مردويه عن سبرة بن معبد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بالحجر لأصحابه من عمل من هذا الماء شيئاً فليلقه قال: ومنهم من عجن العجين، ومنهم من حاس الحيس". وأخرج ابن مردويه وابن النجار عن علي في قوله: "فاصفح الصفح الجميل" قال: الرضا بغير عتاب. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: هذه الآية قبل القتال. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله.
اختلف أهل العلم في السبع المثاني ماذا هي؟ فقال جمهور المفسرين: إنها الفاتحة. قال الواحدي وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والربيع والكلبي. وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا عالية، وزاد النيسابوري الضحاك وسعيد بن جبير. وقد روي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيانه فتعين المصير إليه. وقيل هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة الأنفال والتوبة، لأنها كسورة واحدة إذ ليس بينهما تسمية روي هذا القول عن ابن عباس. وقيل المراد بالمثاني السبعة الأحزاب فإنها سبع صحائف، والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية. وقال الزجاج: تثنى بما يقرأ بعدها معها. فعلى القول الأول يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني أنها تثنى: أي تكرر في كل صلاة، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية إن العبر والأحكام والحدود كررت فيها. وعلى القول بأنها السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني القرآن كله الضحاك وطاوس وأبو مالك، وهو رواية عن ابن عباس واستدلوا بقوله تعالى: "كتاباً متشابهاً مثاني" وقيل المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن: وهي الأمر، والنهي، والتبشير، والإنذار، وضرب الأمثال، وتعريف النعم، وأنباء قرون ماضية. قاله زياد بن أبي مريم، ولا يخفى عليك أن تسمية الفاتحة مثاني لا تستلزم نفي تسمية غيرها بهذا الاسم، وقد تقرر أنها المرادة بهذه الآية، فلا يقدح في ذلك صدق وصف المثاني على غيرها "والقرآن العظيم" معطوف على "سبعاً من المثاني"، ويكون من عطف العام على الخاص لأن الفاتحة بعض من القرآن، وكذلك إن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال لأنها بعض من القرآن، وأما إذا أريد بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه، فيكون من باب عطف أحد الوصفين على الآخر، كما قيل في قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام ومما يقوي كون السبع المثاني هي الفاتحة أن هذه السورة مكية، وأكثر السبع الطوال مدنية، وكذلك أكثر القرآن وأكثر أقسامه، وظاهر قوله: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" أنه قد تقدم إيتاء السبع على نزول هذه الآية، و "من" في من المثاني للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إذا أردت الإشباع.
ثم لما بين لرسوله صلى الله عليه وسلم ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره عن اللذات العاجلة الزائلة فقال: 88- "لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم" أي لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمن لها، والأزواج الأصناف، قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري: الأزواج القرناء. قال الواحدي: إنما يكون ماداً عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال بعضهم: معنى الآية لا تحسدن أحداً على ما أوتي من الدنيا، ورد بأن الحسد منهي عنه مطلقاً، وإنما قال في هذه السورة لا تمدن بغير واو، لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه، ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم فقال: "ولا تحزن عليهم" حيث لم يؤمنوا وصمموا على الكفر والعناد، وقيل المعنى: لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك الآخرة. والأول أولى، ثم لما نهاه عن أن يمد عينيه إلى أموال الكفار ولا يحزن عليهم. وكان ذلك يستلزم التهاون بهم وبما معهم أمره أن يتواضع للمؤمنين، فقال: "واخفض جناحك للمؤمنين" وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب، ومنه قوله سبحانه "واخفض لهما جناح الذل" وقول الكميت: خفضت لهم مني جناحي مودة إلى كنف عطفاه أهل ومرحب وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه، ثم قبضه على الفرخ فجعل ذلك وصفاً لتواضع الإنسان لأتباعه، ويقال فلان خافض الجناح: أي وقور ساكن، والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه "واضمم يدك إلى جناحك"، ومنه قول الشاعر: وحسبك فتنة لزعيم قوم يمد على أخي سقم جناحا
89- "وقل إني أنا النذير المبين" أي المنذر المظهر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله.
90- " كما أنزلنا على المقتسمين " قيل المفعول محذوف: أي مفعول أنزلنا، والتقدير: كما أنزلنا على المقتسمين عذاباً، فيكون المعنى: إني أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين الذي أنزلناه عليهم كقوله تعالى: "أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود"، وقيل إن الكاف زائدة، والتقدير: إني أنا النذير المبين أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين من العذاب، وقيل هو متعلق بقوله: "ولقد آتيناك" أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون، والأولى أن يتعلق بقوله: "إني أنا النذير المبين" لأنه في قوة الأمر بالإنذار. وقد اختلف في المقتسمين من هم؟ فقال الفراء: هم ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا أنقاب مكة وفجاجها يقولون لمن دخلها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر وربما قالوا شاعر وربما قالوا كاهن، فقيل لهم مقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، وقيل إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله، فجعلوا بعضه شعراً، وبعضه سحراً، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين. قاله قتادة، وقيل هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا يقتسمون القرآن استهزاء، فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك، روي هذا عن ابن عباس. وقيل إنهم قسموا كتابهم وفرقوه وبددوه وحرفوه، وقيل المراد قوم صالح تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين كما قال تعالى: "تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله" وقيل تقاسموا أيماناً تحالفوا عليها، قاله الأخفش، وقيل إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ذكره الماوردي.