تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 27 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 27

026

قوله: 177- "ليس البر" قرأ حمزة وحفص بالنصب على أنه خبر ليس والإسم "أن تولوا" وقرأ الباقون بالرفع على أنه الإسم قيل: إن هذه الآية نزلت للرد على اليهود والنصارى، لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وقيل: إن سبب نزولها أنه سأل رسول الله سائل، وسيأتي ذلك آخر البحث إن شاء الله. وقوله: "قبل المشرق والمغرب" قيل: أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى لأنهم يستقبلون مطلع الشمس، وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود، لأنهم يستقبلون بيت المقدس وهو في جهة الغرب منهم إذ ذاك. وقوله: "ولكن البر" هو اسم جامع للخير، وخبره محذوف تقديره: بر من آمن. قاله الفراء وقطرب والزجاج، وقيل إن التقدير: ولكن ذو البر من آمن، ووجه هذا التقدير: الفرار عن الإخبار باسم العين عن اسم المعنى، ويجوز أن يكون البر بمعنى البار، وهو يطلق المصدر على اسم الفاعل كثيراً، ومنه في التنزيل "إن أصبح ماؤكم غوراً" أي غائراً وهذا اختيار أبي عبيدة. والمراد بالكتاب هنا الجنس أو القرآن، والضمير في قوله: "على حبه" راجع إلى المال، وقيل: راجع إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله: "وآتى المال" وقيل: إنه راجع إلى الله سبحانه: أي على حب الله، والمعنى على الأول: أنه أعطى المال وهو يحبه ويشح به، ومنه قوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" والمعنى على الثاني: أنه يحب إيتاء المال وتطيب به نفسه، والمعنى على الثالث: أنه أعطى من تضمنته الآية في حب الله عز وجل لا لغرض آخر، وهو مثل قوله: "ويطعمون الطعام على حبه" ومثله قول زهير: إن الكريم على علاته هرم وقدم ذوي القربى لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء، هكذا اليتامى الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذي ليسوا بيتامى، لعدم قدرتهم على الكسب. والمسكين: الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئاً. "وابن السبيل" المسافر المنقطع وجعل ابناً للسبيل لملازمته له. وقوله: "وفي الرقاب" أي في معاونة الأرقاء الذين كاتبهم المالكون لهم، وقيل: المراد شراء الرقاب وإعتاقها، وقيل: المراد فك الأسارى. وقوله: "وآتى الزكاة" فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوع، لا صدقة الفريضة. وقوله: "والموفون" قيل: هو معطوف على من آمن، كأنه قيل: ولكن البر المؤمنون والموفون. قاله الفراء والأخفش، وقيل: هو مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف، وقيل: هو لمبتدإ محذوف: أي هم الموفون، وقيل: إنه معطوف على الضمير في آمن، وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه. وقوله: "والصابرين" منصوب على المدح كقوله تعالى: "والمقيمين الصلاة"، ومنه ما أنشده أبو عبيدة: لا يبعدون قومي الذين هم سم العداوة وآفة الجزر النـازلــين بكـل مـعـركـــة والطيبين معـاقــد الأزر وقال الكسائي: هو معطوف على ذوي القربى كأنه قال: وآتى الصابرين. وقال النحاس: إنه خطأ. قال الكسائي: وهي قراءة عبد الله: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين ". قال النحاس: يكونان على هذه القراءة منسوقين على ذوي القربى أو على المدح. وقرأ يعقوب والأعمش " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين " بالرفع فيهما. " البأساء " الشدة والفقر. "والضراء" المرض والزمانة "وحين البأس" قيل: المراد وقت الحرب، والبأساء والضراء إسمان بنيا على فعلاء ولا فعل لهما لأنهما إسمان وليسا بنعت. وقوله: "صدقوا" وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها وأنهم كانوا جادين، وقيل: المراد صدقوهم القتال، والأول أولى. وقد أخرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فتلا "ليس البر أن تولوا وجوهكم" حتى فرغ منها، ثم سأله أيضاً فتلاها، ثم سأله فتلاها. قال: وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك، وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن القاسم بن عبد الرحمن قال: جاء رجل إلى أبي ذر فقال: ما الإيمان؟ فتلا عليه هذه الآية، ثم ذكر له نحو الحديث السابق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية قال: يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعلموا، هذا حين تحول من مكة إلى المدينة وأنزلت الفرائض. وأخرج عنه ابن جرير أنه قال: هذه الآية نزلت بالمدينة، يقول: ليس البر أن تصلوا، لكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر، فأنزل الله: "ليس البر" الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق، فنزلت "ليس البر" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية مثله. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله: "وآتى المال على حبه" قال: يعطي وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخاف الفقر. وأخرج عنه مرفوعاً مثله. وأخرج البيهقي في الشعب عن المطلب "أنه قيل: يا رسول ما آتى المال على حبه فكلنا نحبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤتيه حين تؤتيه ونفسك تحدثك بطول العمر والفقر". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وآتى المال على حبه" يعني على حب المال. وأخرج عنه أيضاً في قوله: "ذوي القربى" يعني قرابته. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة" أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي في سننه من حديث سلمان بن عامر الضبي، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود "أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تجزي عنها من الصدقة النفقة على زوجها وأيتام في حجرها؟ فقال: لك أجران: أجر الصدقة، وأجر القرابة". وأخرج الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح". وأخرج أحمد والدارمي والطبراني من حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: هو الذي يمر بك وهو مسافر. وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: "والسائلين" قال: السائل الذي يسألك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وفي الرقاب" قال: يعني فك الرقاب. وأخرج أيضاً عنه في قوله: "وأقام الصلاة" يعني وأتم الصلاة المكتوبة "وآتى الزكاة" يعني الزكاة المفروضة. وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي والدارقطني وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ "ليس البر أن تولوا وجوهكم" الآية". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "والموفون بعهدهم" قال: فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه، ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم غدر بها فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " يعني فيما بينهم وبين الناس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال: "البأساء" الفقر "والضراء" السقم "وحين البأس" حين القتال. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أولئك الذين صدقوا" قال: فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: "أولئك الذين صدقوا" قال: تكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقة العمل صدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء.
قوله: 178- "كتب" معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك- وقيل: إن "كتب" هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ. و"القصاص" أصله قص الأثر: أي اتباعه، ومنه القاص لأنه يتتبع الآثار، وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل، يقص أثره فيها، ومنه قوله تعالى: "فارتدا على آثارهما قصصا" وقيل: إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع، يقال قصصت ما بينهما: أي قطعته. وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد وهم الجمهور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به. قال القرطبي: وروي ذلك عن علي وابن مسعود. وبه قال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم بن عتيبة، واستدلوا بقوله تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى: "الحر بالحر والعبد بالعبد" مفسر قوله تعالى: "النفس بالنفس" وقالوا أيضاً: إن قوله: "وكتبنا عليهم فيها" يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة. ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" ويجاب عنه بأنه مجمل والآية مبينة، ولكنه يقال: إن قوله تعالى: "الحر بالحر والعبد بالعبد" إنما أفاد بمنطوقه أن الحر يقتل بالحر، والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحر لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول. وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر وهم الكوفيون والثوري، لأن الحر يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: " أن النفس بالنفس " لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر، وهو مبين لما يراد في الآيتين، والبحث في هذا يطول. واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل. وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة، وهو الحق. وقد بسطنا البحث في شرح المنتقى فليرجع إليه. قوله: "فمن عفي له من أخيه شيء" من هنا عبارة عن القاتل. والمراد بالأخ المقتول أو الولي والشيء عبارة عن الدم، والمعنى: أن القاتل أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه أو الولي دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية أو الأرض، فليتبع المجني عليه الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف، وليؤد الجاني ما لزمه من الدية أو الأرش إلى المجني عليه، أو إلى الولي أداء بإحسان، وقيل: إن من عبارة عن الولي والأخ يراد به القاتل، والشيء: الدية، والمعنى أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير، بل إذا رضي الأولياء بالدية فلا خير للقاتل بل يلزمه تسليمها، وقيل: معنى عفي بذل: أي من بذل له شيء من الدية، فليقبل وليتبع بالمعروف، وقيل: إن المراد بذلك أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات، فيكون عفي بمعنى فضل، وعلى جميع التقادير فتنكير شيء للتقليل، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة. وقوله: "فاتباع" مرتفع بفعل محذوف، أي فليكن منه اتباع، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي فالأمر اتباع، وكذا قوله: "وأداء إليه بإحسان" وقوله: "ذلك تخفيف" إشارة إلى العفو والدية: أي أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض أو يعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود، فإنه أوجب عليهم القصاص، ولا عفو، وكما ضيق على النصارى فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية. قوله: "فمن اعتدى بعد ذلك" أي بعد التخفيف، نحو أن يأخذ الدية ثم يقتل القاتل، أو يعفو ثم يقتص. وقد\ اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية. فقال جماعة منهم مالك والشافعي: إنه كمن قتل ابتداءً، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم، عذابه أن يقتل ألبتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.
وقوله: 179- "ولكم في القصاص حياة" أي لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة، لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كف عن القتل وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية. وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع، فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً، إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم، وجعل هذا الخطاب موجهاً إلى أولي الألباب. لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ويتحامون ما فيه الضرر الآجل، وأما من كان مصاباً بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبه ولا يفكر في أمر مستقبل، كما قال بعض فتاكهم: سأغسل عني العار بالسيف جالباً علي قضاء الله ما كان جالباً ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله: "لعلكم تتقون" أي تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص، فيكون ذلك سبباً للتقوى. وقرأ أبو الجوزاء "ولكم في القصاص حياة" قيل أراد بالقصص القرآن: أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة، أي نجاة، وقيل: أراد حياة القلوب، وقيل: هو مصدر بمعنى القصاص، والكل ضعيف، والقراءة به منكرة. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله "النفس بالنفس" فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساءهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساءهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول فكأنهم طلبوا الفضل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية: "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال ابن عباس: فنسختها "النفس بالنفس" وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس "فمن عفي له" قال: هو العمد رضي أهله بالعفو. "فاتباع بالمعروف" أمر به الطالب "وأداء إليه بإحسان" من القابل، قال: يؤدي المطلوب بإحسان. "ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" مما كان على بني إسرائيل. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن الدية فيهم، فقال الله لهذه الأمة: "كتب عليكم القصاص في القتلى" إلى قوله: "فمن عفي له من أخيه شيء" فالعفو أن تقبل الدية في العمد "فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" مما كتب على من كان قبلكم "فمن اعتدى بعد ذلك" قيل: بعد قبول الدية "فله عذاب أليم". وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة القتل والعفو والدية إن شاءوا أحلها لهم ولم تكن لأمة قبلهم. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها أبداً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه إذا قتل بعد أخذ الدية فله عذاب عظيم، قال: فعليه القتل لا تقبل منه الدية. قال: وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية". وأخرج سمويه في فوائده عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال: يقتل: وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "ولكم في القصاص حياة" قال: جعل الله في القصاص حياة ونكالاً وعظةً إذا ذكره الظالم المعتدي كف عن القتل. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "لعلكم تتقون" قال: لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "يا أولي الألباب" قال: من كان له لب يذكر القصاص فيحجزه خوف القصاص عن القتل "لعلكم تتقون" قال: لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص.
قد تقدم معنى 180- "كتب" قريباً، وحضور الموت: حضور أسبابه وظهور علاماته، ومنه قول عنترة: وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني وقال جرير: أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاة وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية، وهو "كتب" لوجود الفاصل بينهما- وقيل: لأنها بمعنى الإيصاء، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل. وقد حكى سيبويه: قام امرأة، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيراً. واختلف في جواب هذا الشرط ما هو؟ فروي عن الأخفش وجهان: أحدهما أن التقدير: إن ترك خيراً فالوصية، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان والثاني: أن جوابه مقدر قبله: أي كتب الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيراً. واختلف أهل العلم في مقدار الخير، فقيل: ما زاد على سبعمائة دينار، وقيل: ألف دينار، وقيل: ما زاد على خمسمائة دينار. والوصية في الأصل: عبارة عن الأمر بالشيء والعهد به في الحياة وبعد الموت، وهي هنا: عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت. وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من علية دين أو عنده وديعة أو نحوها. وأما من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيراً أو غنياً، وقالت طائفة: إنها واجبة. ولم يبين الله سبحانه ها هنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين والأقربين، فقيل: الخمس، وقيل: الربع، وقيل: الثلث. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا: وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص. والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ومن هو في الرق، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذي لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال كثير من أهل العلم: إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وهو حديث صححه بعض أهل الحديث، وروي من غير وجه. وقال بعض أهل العلم: إنه نسخ الوجوب ونفي الندب، وروي عن الشعبي والنخعي ومالك. قوله: "بالمعروف" أي العدل لا وكس فيه ولا شطط. وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه. وقوله: "حقاً" مصدر معناه الثبوت والوجوب.