تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 29 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 29

028

قوله: 187- "أحل لكم" فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراماً عليهم، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية وسيأتي. والرفث: كناية عن الجماع. قال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وكذا قال الأزهري، ومنه قول الشاعر: ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار وقيل الرفث: أصله قول الفحش، رفث وأرفث: إذا تكلم بالقبيح، وليس هو المراد هنا، وعدي الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء، وجعل النساء لباساً للرجال، والرجال لباساً لهن لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه. قال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة: لباس وفراش وإزار. وقيل: إنما جعل كل واحد منهما لباساً للآخر لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس. وقوله: " تختانون أنفسكم " أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم، يقال: خان واختان بمعنى، وهما من الخيانة. قال القتيبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه انتهى. وإنما سماهم خائنين لأنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم وقوله: "فتاب عليكم" يحتمل معنيين: أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله: "علم أن لن تحصوه فتاب عليكم" يعني خفف عنكم، وكقوله: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله" يعني تخفيفاً، وهكذا قوله: "وعفا عنكم" يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل. وقوله: "وابتغوا" قيل هو الولد: أي ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل، وقيل: المراد ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه قاله الزجاج وغيره، وقيل: ابتغوا الرخصة والتوسعة، وقيل: ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات، وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني، ولا دل عليه دليل آخر، وقرأ الحسن البصري واتبعوا بالعين المهملة من الإتباع، وقوله: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" هو تشبيه بليغ، والمراد هنا بالخيط الأبيض: هو المعترض في الأفق، لا الذي هو كذنب السرحان، فإن الفجر الكذاب الذي لا يحل شيئاً ولا يحرمه. والمراد بالخيط الأسود: سواد الليل، والتبين: أن يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر. وقوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" فيه التصريح بأن اللصوم غاية هي الليل، فعند إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما. وقوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قيل: المراد بالمباشرة هنا الجماع، وقيل: تشمل التقبيل واللمس إذا كانا لشهوة لا إذا كانا لغير شهوة، فهما جائزان كما قاله عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم، وعلى هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل، فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة، والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء: إذا لازمه، ومنه قول الشاعر: وظل بنات الليل حولي عكفاً عكوف البواكي حولهن صريع ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له: عاكف في المسجد ومعتكف فيه، لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد والاعتكاف في الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص. وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد، وللإعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث. وقوله: "تلك حدود الله" أي هذه الأحكام حدود الله. وأصل الحد المنع، ومنه سمي البواب والسبحان حداداً، وسميت الأوامر والنواهي حدود الله، لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج عنها ما هو منها، ومن ذلك سميت الحدود حدوداً لأنها تمنع أصحابها من العود. ومعنى النهي عن قربانها النهي عن تعديها بالمخالفة لها، وقيل: إن حدود الله هي محارمه فقط، ومنها المباشرة من المعتكف والإفطار في رمضان لغير عذر وغير ذلك مما سبق النهي عنه، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح. وقوله: "كذلك يبين الله آياته" أي كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق وقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن انطلق فأطلب لك، فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته، فلما رأته نائماً قالت: خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: "أحل لكم ليلة الصيام" إلى قوله: "من الفجر" ففرحوا بها فرحاً شديداً. وأخرج البخاري أيضاً من حديثه قال: لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" الآية. وقد روي في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الناس أول ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام، ثم قال: وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته، ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي، وذكر ما وقع منه، فنزل قوله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: إن المسلمين كانوا في شهر رمضان، إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام والشراب إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا النساء والطعام في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله "أحل لكم ليلة الصيام" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: الرفث الجماع. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس والمس هذا الجماع، غير أن الله حيي كريم يكني بما شاء عما شاء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" قال: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "تختانون أنفسكم" قال: تظلمون أنفسكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فالآن باشروهن" قال: انكحوهن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة والضحاك مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلة القدر. وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مثله. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: "وابتغوا" الرخصة التي كتب الله لكم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد. قال: أنزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل "من الفجر" فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله "من الفجر" فعلموا أنه يعني الليل والنهار. وفي الصحيحين وغيرهما "عن عدي بن حاتم، أنه جعل تحت وسادة خيطين أبيض وأسود، وجعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من الأسود، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: إن وسادك إذاً لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل". وفي رواية في البخاري وغيره. إنه" قال له: إنك لعريض القفا". وفي رواية عند ابن جرير وابن أبي حاتم: "أنه ضحك منه" وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: "إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "تلك حدود الله" قال: يعني طاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك. قال: "حدود الله" معصية الله: يعني المباشرة في الاعتكاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنها الجماع. وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير في قوله: "كذلك" يعني هكذا يبين الله.
هذا يعم جميع الأمة وجميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل، ومأكول بالحل لا بالإثم، وإن كان صاحبه كارهاً كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها، ونفقة من أوجب الشرع نفقته. والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه، فهو مأكول بالباطل وإن طابت به نفس مالكه: كمهر البغي. وحلوان الكاهن، وثمن الخمر. والباطل في اللغة: الذاهب الزائل. قوله: 188- "وتدلوا" مجزوم عطفاً على تأكلوا فهو من جملة النهي عنه، يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال أدلى دلوه: أرسلها، والمعنى أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل وبين الإدلاء بها إلى الحكام بالحجج الباطلة، وفي هذه الآية دليل أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال من غير فرق بين الأموال والفروج، فمن يحكم له القاضي بشيء مستنداً في حكمه إلى شهادة زور أو يمين فجور فلا يحل له أكله، فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وهكذا إذا [رشى] الحاكم فحكم له بغير الحق فإنه من أكل أموال الناس بالباطل، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال. وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك، وهو مردود لكتاب الله تعالى ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" وهو في الصحيحين وغيرهما. وقوله: "فريقاً" أي قطعة أو جزءاً أو طائفة، فعبر بالفريق عن ذلك، وأصل الفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم، وسمي الظلم والعدوان إثماً باعتبار تعلقه بفاعله. وقوله: "وأنتم تعلمون" أي حال كونكم عالمين أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء، وهذا أشد لعقابهم وأعظم لجرمهم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تأكلوا أموالكم" الآية، قال: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه. وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن مجاهد قال: معناها لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن امرأة القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض، وأراد امرؤ القيس أن يحلف، فنزلت: "ولا تأكلوا أموالكم" الآية.
قوله: 189- "يسألونك" سيأتي بيان من هم السائلون له صلى الله عليه وسلم، والأهلة جمع هلال، وجمعها باعتبار هلال كل شهر، أو كل ليلة، تنزيلاً لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات، والهلال: اسم لما يبدو في أول الشهر وفي آخره. قال الأصمعي: هو هلال حتى يستدير- وقيل: هو هلال حتى ينير بضوئه السماء وذلك ليلة السابع. وإنما قيل له: هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته، ومنه استهل الصبي: إذا صاح، واستهل وجهه وتهلل: إذا ظهر فيه السرور. قوله: "قل هي مواقيت للناس والحج" فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه، وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ومعاملاتهم بها كالصوم والفطر والحج ومدة الحمل والعدة والإجارات والأيمان وغير ذلك، ومثله قوله تعالى: "لتعلموا عدد السنين والحساب" والمواقيت جمع الميقات، وهو الوقت. وقراءة الجمهور والحج بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن. قال سيبويه: الحج بالفتح كالرد والشد، وبالكسر كالذكر مصدران بمعنى، وقيل: بالفتح مصدر، وبالكسر الاسم. وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، ولا يجوز فيه النسيء عن وقته، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه أو أخطأ وقتها أو وقت بعضها. وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله: "قل هي مواقيت" من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل، وأحق بأن يتطلع لعمله. قوله: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت للناس والحج أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه، لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز بينه وبين السماء حائل، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم. وقال أبو عبيدة: إن هذا من ضرب المثل، والمعنى: ليس البر أن تسألوا الجهال، ولكن البر التقوى واسألوا العلماء، كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه، وقيل: هو مثل في جماع النساء، وأنهم أمروا بإتيانهن في القبل لا في الدبر، وقيل غير ذلك. والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء وكسرها. وقد تقدم تفسير التقوى والفلاح، وسبق أيضاً أن التقدير في مثل قوله: "ولكن البر من اتقى" ولكن البر بر من اتقى. وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس في قوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة" قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عثمة. وهما رجلان من الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" في حل دينهم ولصومهم ولفطرهم وعدد نسائهم والشروط التي إلى أجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: سألو النبي صلى الله عليه وسلم عن الأهلة لم جعلت؟ فأنزل الله "يسألونك عن الأهلة" الآية، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم وعدد نسائهم ومحل دينهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس نحوه. وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهله مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً". وأخرج أحمد والطبراني وابن عدي والدارقطني بسند ضعيف عن طلق بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمر. وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فنزلت "وليس البر" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، فقال: إني رجل أحمسي، قال: فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين.
لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعاً قبل الهجرة لقوله تعالى: "فاعف عنهم واصفح" وقوله: "واهجرهم هجراً جميلاً" وقوله: " لست عليهم بمصيطر " وقوله: "ادفع بالتي هي أحسن" ونحو ذلك مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال، ونزلت هذه الآية، وقيل: إن أول ما نزل قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه حتى نزل قوله تعالى: "اقتلوا المشركين" وقوله تعالى: "وقاتلوا المشركين كافة". وقال جماعة من السلف: إن المراد بقوله: 190- "الذين يقاتلونكم" من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأول هو مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية. والمراد به على القول الثاني مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدم ذكره.