تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 318 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 318

317

فصار 88- "عجلاً جسداً له خوار" أي يخور كما يخور الحي من العجول، والخوار صوت البقر، وقيل خواره كان بالريح، لأنه كان عمل فيه خروقاً، فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم يكن فيه حياة، "فقالوا هذا إلهكم وإله موسى" أي قال السامري ومن وافقه هذه المقالة "فنسي" أي فضل موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور، وقيل المعنى: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم، وقيل الناس هو السامري: أي ترك السامري ما أمر به موسى من الإيمان وضل، كذا قال ابن الأعرابي.
89- " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا " أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع إليهم قولاً: أي لا يرد عليهم جواباً، ولا يكلمهم إذا كلموه، فكيف يتوهمون أنه إلاه عاجز عن المكالمة، فإن في " ألا يرجع " هي المخففة من الثقيلة، وفيها ضمير مقدر يرجع إلى العجل، ولهذا ارتفع الفعل بعدها، ومنه قول الشاعر: في فتية من سيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل أي أن هالك. وقرئ بنصب الفعل على أنها الناصبة، وجملة "ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً" معطوفة على جملة لا يرجع: أي أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضراً ولا يجلب إليهم نفعاً.
90- "ولقد قال لهم هارون من قبل" اللام هي الموطئة للقسم والجملة مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم والتوبيخ لهم: أي ولقد قال لهم هارون من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم "يا قوم إنما فتنتم به" أي وقعتم في الفتنة بسبب العجل وابتليتم به وضللتم عن طريق الحق لأجله، قيل ومعنى القصر المستفاد من إنما هو أن العجل صار سبباً لفتنتهم لا لرشادهم وليس معناه أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره "وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري" أي ربكم الرحمن لا العجل، وأطيعوا أمري لا أمره.
91- "قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى" أجابوا هارون عن قوله المتقدم بهذا الجواب المتضمن لعصيانه، وعدم قبول ما دعاهم إليه من الخير وحذرهم عنه من الشر: أي لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل، حتى يرجع إلينا موسى، فينظر هل يقررنا على عبادته أو ينهانا عنها، فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً من المنكرين لما فعله السامري. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله: "يبساً" قال: يابساً ليس فيه ماء ولا طين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "لا تخاف دركاً" من آل فرعون "ولا تخشى" من البحر غرقاً. وأخرجا عنه أيضاً في قوله: "فقد هوى" شقي. وأخرجا عنه أيضاً "وإني لغفار لمن تاب" قال من الشرك "وآمن" قال: وحد الله "وعمل صالحاً" قال: أدى الفرائض "ثم اهتدى" قال: لم يشكك. وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عنه أيضاً "وإني لغفار لمن تاب" قال: من تاب من الذنب، وآمن من الشرك، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه "ثم اهتدى" علم أن لعمله ثواباً يجزى عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "ثم اهتدى" قال: ثم استقام لزم السنة والجماعة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي في البعث من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعجل موسى إلى ربه، فقال الله: "وما أعجلك عن قومك يا موسى" الآية، قال: فرأى في ظل العرش رجلاً فعجب له، فقال: من هذا يا رب؟ قال: لا أحدثك من هو، لكن سأخبرك بثلاث فيه: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي قال: لما نعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي بني إسرائيل فضربه عجلاً، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار، فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فقال لهم هارون، يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً، فلما أن رجع موسى أخذ برأس أخيه، فقال له هارون ما قال، فقال موسى للسامري: ما خطبك قال: "قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي" فعمد موسى إلى العجل، فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ولا يبالي بمن قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم، فقد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي. والحكايات لهذه القصة كثيرة جداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بملكنا" قال: بأمرنا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة "بملكنا" قال: بطاقتنا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج أيضاً عن الحسن قال: بسلطاننا. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "هذا إلهكم وإله موسى فنسي" قال: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه.
جملة 92- "قال يا هارون" مستأنفة جواب سؤال مقدر، والمعنى: أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس أخيه هارون وبلحيته وقال "ما منعك" من اتباعي واللحوق بي عند أن وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة.
وقيل معنى 93-" ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن " ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم، وقيل معناه: هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم، وقيل معناه: هلا فارقتهم، ولا في " أن لا تتبعن " زائدة، وهو في محل نصب على أنه مفعول ثان لمنع: أي أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي، والاستفهام في "أفعصيت أمري" للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، والمعنى: كيف خالفت أمري لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهاً، وقيل المراد بقوله أمري هو قوله الذي حكى الله عنه "قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين" فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار إليهم نسبه إلى عصيانه.
94- "قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي" قرئ بالفتح والكسر للميم، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة الأعراف، ونسبه إلى الأم مع كونه أخاه لأبيه وأمه عند الجمهور استعطافاً له وترقيقاً لقلبه، ومعنى "ولا برأسي" ولا بشعر رأسي: أي لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي، فإن لي عذراً هو "إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل" أي خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول إني فرقت جماعتهم وذلك لأن هارون لو خرج لتبعه جماعة منهم وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، ومعنى "ولم ترقب قولي" ولم تعمل بوصيتي لك فيهم، إني خشيت أن تقول فرقت بينهم وتقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، ومراده بوصية موسى له هو قوله: " اخلفني في قومي وأصلح " قال أبو عبيد: معنى "ولم ترقب قولي" ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم، فاعتذر هارون إلى موسى ها هنا بهذا، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال: "إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني".
ثم ترك الكلام مع أخيه وخاطب السامري فـ 95- "قال فما خطبك يا سامري" أي ما شأنك وما الذي حملك على ما صنعت.
96- " قال بصرت بما لم يبصروا به " أي قال السامري مجيباً على موسى: رأيت ما لم يروا أو علمت بما لم يعلموا وفطنت لما لم يفطنوا له، وأراد بذلك أنه رأى جبريل على فرص الحياة فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حياً. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف " بما لم يبصروا به " بالمثناة من فوق على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية، وهي أولى، لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب موسى بذلك ويدعي لنفسه أنه علم ما لم يعلم به موسى، وقرئ بضم الصاد فيهما وبكسرها في الأول وفتحها في الثاني، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة فقبصت قبصة بالصاد المهملة فيهما، وقرأ الباقون بالضاد المعجمة فيهما، والفرق بينهما أن القبض بالمعجمة هو الأخذ بجميع الكف، وبالمهملة بأطراف الأصابع، والقبضة بضم القاف: القدر المقبوض. قال الجوهري: هي ما قبضت عليه من شيء، قال: وربما جاء بالفتح، وقد قرئ قبضة بضم القاف وفتحها، ومعنى الفتح المرة من القبض، ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف، ومعنى "من أثر الرسول" من المجل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل، ومعنى "فنبذتها" فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل "وكذلك سولت لي نفسي" قال الأخفش: أي زينت: أي ومثل ذلك التسويل سولت لي نفسي، وقيل معنى سولت لي نفسي.
97- فلما سمع موسى منه ذلك "قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس" أي فاذهب من بيننا واخرج عنا فإن لك في الحياة: أي ما دمت حيا، وأطول حياتك أن تقول لا مساس. المساس مأخوذ من المماسة: أي لا يمسك أحد ولا تمس أحداً، لكن لا بحسب الاختيار منك، بل بموجب الاضطرار الملجئ إلى ذلك، لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامري عن قومه، وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قيل إنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش لا يجد أحداً من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، كما قال الشاعر: حمال رايات بها قناعسا حتى تقول الأزد لا مسايسا قال سيبويه: وهو مبني على الكسر. قال الزجاج: كسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث. قال الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثل قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر، وهو المس. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول: إذا اعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى، وإذا اعتل من جهتين وجب أن لا ينصرف، لأنه ليس بعد الصرف إلا البناء، فمساس دراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه يؤنث، ومنها أنه معرفة، فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين. وقد رأيت أبا إسحاق يعني الزجاج ذهب إلى أن هذا القول خطأ وألزم أبا العباس إذا سميت امرأة بفرعون أن يبنيه وهذا لا يقوله أحد. وقد قرأ بفتح الميم أبو حيوة والباقون بكسرها. وحاصل ما قيل في معنى لا مساس ثلاثة أوجه: الأول أنه حرم عليه مماسة الناس، وكان إذا ماسه أحد حم الماس والممسوس. فلذلك كان يصيح إذا رأى أحداً لا مساس. والثاني أن المراد منع الناس من مخالطته، واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو لا مساس، وإنما يقال له، وأجيب بأن المراد الحكاية: أي اجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت لا مساس. والقول الثالث أن المراد انقطاع نسله، وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً. ثم ذكر حاله في الآخرة فقال: "وإن لك موعداً لن تخلفه" أي لن يخلفك الله ذلك الموعد، وهو يوم القيامة، والموعد مصدر: أي إن لك وعداً لعذابك، وهو كائن لا محالة قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن واليزيدي والحسن "لن تخلفه" بكسر اللام، وله على هذه القراءة معنيان: أحدهما ستأتيه ولن تجده مخلفاً كما تقول أحمدته: أي وجدته محموداً، والثاني على التهديد: أي لا بد لك من أن تصير إليه. وقرأ ابن مسعود لن نخلفه بالنون: أي لن يخلفه الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وبالفوقية مبنياً للمفعول، معناه ما قدمناه " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا " ظلت أصله ظللت فحذفت اللام الأولى تخفيفاً، والعرب تفعل ذلك كثيراً. وقرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود ظلت بكسر الظاء. والمعنى: انظر إلى إلهك الذي دمت وأقمت على عبادته، والعاكف الملازم "لنحرقنه" قرأ الجمهور بضم النون وتشديد الراء من حرقه يحرقه. وقرأ الحسن بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب والعقيلي لنحرقنه بفتح النون وضم الراء مخففة من حرقت الشيء أحرقه حرقاً إذا بردته وحككت بعضه ببعض: أي لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق. والقراءة الأولى أولى، ومعناها الإحراق بالنار، وكذا معنى القراءة الثانية، وقد جمع بين هذه الثلاث القراءات بأنه أحرق، ثم برد بالمبرد، وفي قراءة ابن مسعود لنذبحنه ثم لنحرقنه، واللام هي الموطئة للقسم "ثم لننسفنه في اليم نسفاً" النسف نفض الشيء ليذهب به الريح. قرأ أبو رجاء لننسفنه بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها، وهما لغتان. والمنسف ما ينسف به الطعام، وهو شيء منصرب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه.
98- "إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو" لا هذا العجل الذي فتنتم به السامري "وسع كل شيء علماً" قرأ الجمهور وسع بكسر السين مخففة. وهو متعد إلى مفعول واحد، وهو كل شيء، وانتصاب علماً على التمييز المحول عن الفاعل: أي وسع علمه كل شيء. وقرأ مجاهد وقتادة وسع بتشديد السين وفتحها فيتعدى إلى مفعولين، ويكون انتصاب علماً على أنه المفعول الأول وإن كان متأخراً، لأنه في الأصل فاعل، والتقدير: وسع علمه كل شيء، وقد مر نحو هذا في الأعراف.