تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 320 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 320

319

114- "فتعالى الله الملك الحق" لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء: أي جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون في صفاته فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب وأنه الحق أي ذو الحق " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " أي يتم إليك وحيه. قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً منه على ما كان ينزل عليه منه فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله: "لا تحرك به لسانك لتعجل به" على ما يأتي إن شاء الله، وقيل المعنى: ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله، وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش من قبل أن تقضي بالنون ونصب وحيه "وقل رب زدني علماً" أن سل ربك زيادة العلم بكتابه.
115- "ولقد عهدنا إلى آدم" اللام هي الموطئة للقسم، والجملة المستأنفة مقررة لما قبلها من تصريف الوعيد. أي لقد أمرناه ووصيناه، والمعهود محذوف، وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة، ومعنى "من قبل" أي من قبل هذا الزمان "فنسي" قرأ الأعمش بإسكان الياء، والمراد بالنسيان هنا ترك العمل بما وقع به العهد إليه وينتهي عنه، وبه قال أكثر المفسرين، وقيل النسيان على حقيقته، وأنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه، وكان آدم مأخوذاً بالنسيان في ذلك الوقت، وإن كان النسيان مرفوعاً عن هذه الأمة، والمراد من الآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على القول الأول. أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال ابن جرير والقشيري، واعترضه ابن عطية قائلاً بأن كون آدم مماثلاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وقرئ فنسي بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنياً للمفعول: أي فنساه إبليس "ولم نجد له عزماً" العزم في اللغة توطين النفس على الفعل والتصميم عليه، والمضي على المعتقد في أي شيء كان، وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك، فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر، وقيل العزم الصبر أي لم نجد له صبراً عن أكل الشجرة. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال لفلان عزم: أي صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنها " كما صبر أولو العزم من الرسل "، وقيل المعنى: ولم نجد له عزماً على الذنب، وبه قال ابن كيسان: وقيل لم نجد له رأياً معزوماً عليه، وبه قال ابن قتيبة.
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، والعامل في إذ مقدر: أي 116- "و" اذكر "إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة، لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازماً بطريق الأولى وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى.
ومعنى 117- "فتشقى" فتتعب في تحصيلر ما لا بد منه في المعاش كالحرث والزرع، ولم يقل فتشقيا، لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده.
ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال: 118- " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى " أي في الجنة. والمعنى: أن لك فيها أن تمتعاً بأنواع المعايش وتنعماً بأصناف النعم من المأكل الشهية والملابس البهية، فإنه لما نفي عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له.
وهكذا قوله: 119- " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الري ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو يقال ضحى الرجل يضحى ضحواً: إذا برز للشمس فأصابه حرها، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش وتعب الكد في تحصيله، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والري والكسوة والكن، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله، وإن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحل به التعب والنصب مما يدفع الجوع والعري والظمأ والضحو، فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى. قال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه، وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصماً "وأنك لا تظمأ" بفتح أن، وقرأ الباقون بكسرها على العطف على إن لك.
120- "فوسوس إليه الشيطان" قد تقدم تفسيره في الأعراف في قوله: "فوسوس لهما الشيطان" أي أنهى إليه وسوسته، وجملة "قال يا آدم" إلى آخره إما بدل من وسوس أو مستأنفة بتقدير سؤال كأنه قيل: فماذا قال له في وسوسته؟ " شجرة الخلد " هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلاً "وملك لا يبلى" أي لا يزول ولا ينقضي.
121- "فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما" قد تقدم تفسير هذا وما بعده في الأعراف. قال الفراء: ومعنى طفقا في العربية: أقبلا، وقيل جعلا يلصقان عليهما من ورق التين "وعصى آدم ربه فغوى" أي عصاه بالأكل من الشجرة "فغوى" فضل عن الصواب أو عن مطلوبه، وهو الخلود بأكل تلك الشجرة، وقيل فسد عليه عيشة بنزوله إلى الدنيا، وقيل جهل موضع رشده، وقيل بشم من كثرة الأكل. قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه، والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدم ونية صحيحة، فنحن نقول: عصى آدم ربه فغوى انتهى. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم. قلت: لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومما قلته في هذا المعنى: عصى أبـو العـالم وهـو الــذي مـن طينة صـوره الله وأسـجد الأمـلاك مـن أجـلـه وصـير الجنــة مــأواه أغواه إبليس فمن ذا أنا المسـ ـكين إن إبليس أغواه
122- "ثم اجتباه ربه" أي اصطفاه وقربه. قال ابن فورك: كانت المعصية من آدم قبل النبوة بدليل ما في هذه الآية، فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد ذكر المعصية، وإذا كانت المعصية قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً "فتاب عليه وهدى" أي تاب عليه من معصيته، وهداه إلى الثبات على التوبة. قيل وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء بقولهما "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" وقد مر وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "أو يحدث لهم" أي القرآن "ذكراً" قال: جداً وورعاً. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولا تعجل بالقرآن" يقول: لا تعجل حتى نبينه لك. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب قصاصاً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فأنزل الله "ولا تعجل بالقرآن" الآية، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت "الرجال قوامون على النساء" الآية.أخرج عبد بن حميد وابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله " ولا تعجل " الآية . قال: لا تتله على أحد حتى نتمه لك. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن منده في التوحيد والطبراني في الصغير وصححه عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي. وأخرج عبد الغني وابن سعد عن ابن عباس "ولقد عهدنا إلى آدم" أن لا تقرب الشجرة "فنسي" فترك عهدي "ولم نجد له عزماً" قال: حفظاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "فنسي" فترك "ولم نجد له عزماً" يقول: لم نجعل له عزماً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً " أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " قال: لا يصيبك فيها عطش ولا حر. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلمها مائة عام لا يقطعها، وهي شجرة الخلد" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حاج آدم موسى قال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك، قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدره علي قبل أن يخلقني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى".
قوله: 123- "قال اهبطا" قد مر تفسيره في البقرة: أي انزلا من الجنة إلى الأرض، خصمهما الله سبحانه بالهبوط لأنهما أصل البشر، ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال: "بعضكم لبعض عدو" والجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن يقال خاطبهما في هذا وما بعده خطاب الجمع، لأنهما منشأ الأولاد. ومعنى "بعضكم لبعض عدو" تعاديهم في أمر المعاش ونحوه. فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام "فإما يأتينكم مني هدى" بإرسال الرسل وإنزال الكتب "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
124- "ومن أعرض عن ذكري" أي عن ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه، ولم يتبع هداي "فإن له معيشة ضنكا" أي فإن له في هذه الدنيا معيشة ضنكاً: أي عيشاً ضيقاً. يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث، قال عنترة: إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل وقرئ ضنكي بضم الضاد على فعلى. ومعنى الآية: أن الله عز وجل جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنياً غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه كما قال سبحانه: "فلنحيينه حياة طيبة" وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً ضيقاً وفي تعب ونصب، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب، فهو في الأخرى أشد تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً. وذلك معنى "ونحشره يوم القيامة أعمى" أي مسلوب البصر. وقيل المراد بالعمى عن الحجة، وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها، وقد قيل إن المراد بالعيشة الضنكي عذاب القبر، وسيأتي ما يرجح هذه ويقويه.
125- " قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا " في الدنيا.