تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 340 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 340

339

65- "ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض" هذه نعمة أخرى ذكرها الله سبحانه، فأخبر عباده بأنه سخر لهم ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار وجعله لمنافعهم "والفلك" عطف على ما، أو على اسم أن: أي وسخر لكم الفلك في حال جريها في البحر، وقرأ عبد الرحمن الأعرج والفلك بالرفع على الابتداء وما عبده خبره، وقرأ الباقون بالنصب. ومعنى "تجري في البحر بأمره" أي بتقديره، والجملة في محل نصب على الحال على قراءة الجمهور "ويمسك السماء أن تقع على الأرض" أي كراهة أن تقع، وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك، والجملة معطوفة على "تجري" "إلا بإذنه" أي بإراداته ومشيئته، وذلك يوم القيامة "إن الله بالناس لرؤوف رحيم" أي كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم تفضلاً منه على عباده وإنعاماً عليهم.
ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال: 66- "وهو الذي أحياكم" بعد أن كنتم جماداً "ثم يميتكم" عند انقضاء أعماركم "ثم يحييكم" عند البعث للحساب والعقاب " إن الإنسان لكفور " أي كثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد، لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين، واقرأوا إن شئتم، "والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا" إلى قوله: "حليم"" وإسناد ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن عبد الكريم بن الحارث عن ابن عقبة، يعني أبا عبيدة بن عقبة قال: قال شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان: يعني الفارسي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان برودس، فمروا بجنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفى، فمال الناس عن القتيل، فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله "والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا" الآية. وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا أبو زرعة عن زيد بن بشر أخبرني ضمام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المغافري يقولان: كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. قلت: ويؤيد هذا قول الله سبحانه: "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله". وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "ومن عاقب بمثل ما عوقب به" قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية في ليلتين بقيتا من المحرم فلقوا المشركين، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، وإن أصحاب محمد ناشدوهم وذكروهم بالله أن يعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام إلا من بادأهم، وإن المشركين بدأوا فقاتلوهم، فاستحل الصحابة قتالهم عند ذلك فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم، وهو مرسل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ومن عاقب" الآية قال: تعاون المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخرجوه، فوعده الله أن ينصره، وهو في القصاص أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد " وأن ما يدعون من دونه هو الباطل " قال: الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "إن الإنسان لكفور" قال: يعد المصيبات وينسي النعم.
عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان عن منازعته فقال: 67- "لكل أمة جعلنا منسكاً" أي لكل قرن من القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى الأخرى، وجملة "هم ناسكوه" صفة لمنسكاً، والضمير لكل أمة: أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن منسك المسلمين. والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدل عليه هم ناسكوه، ولم يقل ناسكون فيه. وقيل المنسك موضع أداء الطاعة، وقيل هو الذبائح، ولا وجه للتخصيص، ولا اعتبار بخصوص السبب، والفاء في قوله: "فلا ينازعنك في الأمر" لترتيب النهي على ما قبله، والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم: أي قد عينا لكل أمة شريعة، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية، وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين، والنهي إما على حقيقته، أو كناية عن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى نزاعهم له. قال الزجاج: إنه نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم: أي لا تنازعهم أنت كما تقول لا يخاصمك فلان: أي لا تخاصمه، وكما تقول لا يضاربنك فلان: أي لا تضاربه، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً، ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه. وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية: فلا ينازعك: أي فلا يجادلنك. قال: ودل على هذا "وإن جادلوك" وقرأ أبو مجلز فلا ينزعنك في الأمر أي لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك. وقرأ الباقون "ينازعنك" من المنازعة "وادع إلى ربك" أي وادع هؤلاء المنازعين أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به "إنك لعلى هدى مستقيم" أي طريق مستقيم لا اعوجاج فيه.
68- "وإن جادلوك" أي وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان وظهور الحجة عليهم " فقل الله أعلم بما تعملون " أي فكل أمرهم إلى الله وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد.
69- "الله يحكم بينكم" أي بين المسلمين والكافرين "يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون" من أمر الدين فيتبين حينئذ الحق من الباطل، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل، وقيل إنها منسوخة بآية السيف.
وجملة 70- "ألم تعلم" مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، والاستفهام للتقرير: أي قد علمت يا محمد وتيقنت " أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض " ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مختلفون إن ذلك الذي في السماء والأرض من معلوماته "في كتاب" أي مكتوب عنده في أم الكتاب "إن ذلك على الله يسير" أي إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه.
71- "ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً" هذا حكاية لبعض فضائحهم: أي إنهم يعبدون أصناماً لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه "وما ليس لهم به علم" من دليل عقل يدل على جواز ذلك بوجه من الوجوه "وما للظالمين من نصير" ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران.
وجملة 72- "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات" معطوفة على يعبدون، وانتصاب بينات على الحال: أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة "تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر" أي الأمر الذي ينكر، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعهم، أو المراد بالمنكر الإنكار: أي تعرف في وجوههم إنكارها، وقيل هو التجبر والترفع، وجملة "يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم؟ فقيل يكادون يسطون: أي يبطشون، والسطوة شدة البطش، يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب، أو شتم، أو أخذ باليد، وأصل السطو القهر. وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز، أو من السنة الصحيحة مخالفاً لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطوو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف، والله ناصر الحق ومظهر الدين وداحض الباطل ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس ما نزل إليهم. وهو حسبنا ونعم الوكيل، ثم أمر رسوله أن يرد عليهم، فقال: "قل أفأنبئكم" أي أخبركم "بشر من ذلكم" الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم، وهو النار التي أعدها الله لكم، فالنار مرتفعة على أنها خبر لمبتدإ محذوف، والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما هذا الأمر الذي هو شر مما نكابده ونناهده عند سماعنا ما تتلوه علينا، فقال هو "النار وعدها الله الذين كفروا" وقيل إن النار مبتدأ وخبره جملة وعدها الله الذين كفروا وقيل المعنى: أفأخبركم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوئب عليهم، وقرئ النار بالنصب على تقدير أعني، وقرئ بالجر بدلاً من شر، "وبئس المصير" أي الموضع الذي تصيرون إليه، وهو النار. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "هم ناسكوه" قال: يعني هم ذابحوه "فلا ينازعنك في الأمر" يعني في أمر الذبح. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: "فلا ينازعنك في الأمر" قول أهل الشرك: أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه، وأما ما ذبحتم بأيديكمك فهو حلال. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: خلق الله اللوح المحفوظ لمسير مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم "ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض" يعني ما في السموات السبع والأرضين السبع "إن ذلك" العلم "في كتاب" يعني في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السموات والأرضين "إن ذلك على الله يسير" يعني هين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "يكادون يسطون" يبطشون.