تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 339 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 339

338

56- "الملك يومئذ لله" أي السلطان القاهر والاستيلاء التام: يوم القيامة لله سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه، وجملة "يحكم بينهم" مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر، ثم فسر هذا الحكم بقوله سبحانه: "فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم" أي كائنون فيها مستقرون في أرضها منغمسون في نعيمها.
57- "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا" أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته "فأولئك لهم عذاب مهين" أي عذاب متصف بأنه مهين للمعذبين بالغ منهم المبلغ العظيم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقرأ " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله، وزاد فنسخت محدث، قال: والمحدثون: صاحب يس، ولقمان، ومؤمن آل فرعون، وصاحب موسى. وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة. قال السيوطي بسند رجاله ثقات سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن لترتجى. ففرح المشركون بذلك وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فجاءه جبريل فقال: اقرأ علي ما جئت به، فقرأ: أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فقال: ما أتيتك بهذا، هذا من الشيطان، فأنزل الله "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى" الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، قال السيوطي بسند صحيح عن سعيد بن جبير، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم، فذكر نحوه، ولم يذكر ابن عباس. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والسدي عن سعيد مرسلاً. ورواه عبد بن حميد عن السدي عن أبي صالح مرسلاً. ورواه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب مرسلاً. وأخرج ابن جرير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه مرسلاً أيضاً. والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها. وقد أسلفنا عن الحفاظ في أول هذا البحث ما فيه كفاية، وفي الباب روايات من أحب الوقوف على جميعها فلينظرها في الدر المنثور للسيوطي، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة، فقد عرفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " يقول إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، قال: يعني بالتمني التلاوة والقراءة، ألقى الشيطان في أمنيته: في تلاوته "فينسخ الله" ينسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد "إذا تمنى" قال: تكلم "في أمنيته" قال: كلامه. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: "عذاب يوم عقيم" قال يوم بدر. وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: عذاب يوم عقيم، قال يوم بدر. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: يوم القيامة لا ليلة له. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك مثله.
أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصاً لهم بمزيد الشرف، فقال: 58- "والذين هاجروا في سبيل الله" قال بعض المفسرين: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر، ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكل من سبيل الله "ثم قتلوا أو ماتوا" أي في حال المهاجرة، واللام في "ليرزقنهم الله رزقاً حسناً" جواب قسم محذوف، والجملة خبر الموصول بتقدير القول، وانتصاب رزقاً على أنه مفقول ثان: أي مرزوقاً حسناً، أو على أنه مصدر مؤكدة، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وقيل هو الغنيمة لأنه حلال، وقيل هو العلم والفهم كقول شعيب "ورزقني منه رزقاً حسناً" قرأ ابن عامر وأهل الشام "ثم قتلوا" بالتشديد على التكثير، وقرأ الباقون بالتخفيف "وإن الله لهو خير الرازقين" فإنه سبحانه يرزق بغير حساب، وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض، فهو منه سبحانه، لا رازق سواه ولا معطي غيره، والجملة تذييل مقررة لما قبلها.
وجملة 59- "ليدخلنهم مدخلاً يرضونه" مستأنفة، أو بدل من جملة ليرزقنهم الله. قرأ أهل المدينة "مدخلاً" بفتح الميم، وقرأ الباقون بضمها، وهو اسم مكان أريد به الجنة، وانتصابه على أنه مفعول ثان أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان. وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم، على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا "وإن الله لعليم" بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم "حليم" عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة.
والإشارة بقوله: 60- "ذلك" إلى ما تقدم. قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، ومعنى "ومن عاقب بمثل ما عوقب به" من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، وسمي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" وقوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه، والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه، ومعنى " ثم بغي عليه " أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى، قيل المراد بهذا البغي: هو ما وقع من المشركين من أزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به، واللام في "لينصرنه الله" جواب قسم محذوف: أي لينصرن الله المبغي عليه على الباغي "إن الله لعفو غفور" أي كثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب. وقيل العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو، وقيل إن معنى " ثم بغي عليه " أي ثم كان المجازي مبغياً عليه: أي مظلوماً، ومعنى ثم تفاوت الرتبة، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب: البادي أظلم. وقيل إن هذه الآية مدنية، وهي في القصاص والجراحات،.
والإشارة بقوله: 61- "ذلك بأن الله يولج الليل في النهار" إلى ما تقدم من نصر الله سبحانه للمبغي عليه، وهو مبتدأ وخبره جملة بأن الله يولج، والباء للسببية: أي ذلك بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وعبر عن الزيادة بالايلاج، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر. وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج "وأن الله سميع" يسمع كل مسموع "بصير" يبصر كل مبصر، أو سميع للأقوال مبصر للأفعال، فلا يعزب عنه مثال ذرة.
والإشارة بقوله: 62- "ذلك بأن الله هو الحق" إلى ما تقدم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة القاهرة والعلم التام: أي هو سبحانه ذو الحق، فدينه حق، وعبادته حق ونصره لأوليائه على أعدائه حق، ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حق " وأن ما يدعون من دونه هو الباطل " قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة "تدعون" بالفوقية على الخطاب للمشركين، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرى الباقون بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيدة. والمعنى: إن الذين تدعونهم آلهة، وهي الأصنام هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلهاً "وأن الله هو العلي" أي العالي على كل شيء بقدرته المتقدس على الأشباه والأنداد المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات "الكبير" أي ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرده بالإلهية.
ثم ذكر سبحانه دليلاً بيناً على كمال قدرته، فقال: 63- "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة" الاستفهام للتقرير، والفاء للعطف على أنزل، وارتفع الفعل بعد الفاء لكونه استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل وسيبويه. قال الخليل: المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا، كما قال الشاعر: ‌ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق معناه: قد سألته فنطق. قال الفراء: ألم تر خبر كما تقول في الكلام: إن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة: أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة: أي ذوات بقل وسباع، وهو عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة الإخضرار مع الإشعار بتجدد الإنزال واستمراره، وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل، والرفع هنا متعين لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار، والمقصود إثباته. قال ابن عطية: هذا لا يكون: يعني الاخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة. والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها كما في قوله: "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" والمراد بقوله: "إن الله لطيف" أنه يصل علمه إلى كل دقيق وجليل، وقيل لطيف بأرزاق عباده، وقيل لطيف باستخراج النبات، ومعنى "خبير" أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم، وقيل خبير بما ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر، وقيل خبير بحاجتهم وفاقتهم.
64- "له ما في السموات وما في الأرض" خلقاً وملكاً وتصرفاً وكلهم محتاجون إلى رزقه "وإن الله لهو الغني" فلا يحتاج إلى شيء "الحميد" المستوجب الحمد في كل حال.