تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 347 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 347

346

ثم بين سبحانه أنه مصرون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال: 75- "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر" أي من قحط وجدب "للجوا في طغيانهم" : أي لتمادوا في طغيانهم وضلالهم "يعمهون" يترددون ويتذبذبون ويخبطون، وأصل اللجاج التمادي في العناد، ومنه اللجة بالفتح لتردد الصوت، ولجة البحر تردد أمواجه، ولجة الليل تردد ظلامه. وقيل المعنى لوردناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم.
76- "ولقد أخذناهم بالعذاب" جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. والعذاب قيل هو الجوع الذي أصابهم في سني القحط، وقيل المرض، وقيل القتال يوم بدر، واختاره الزجاج، وقيل الموت، وقيل المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية "فما استكانوا لربهم" أي ما خضعوا ولا تذللوا، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرد على الله والانهماك في معاصيه "وما يتضرعون" أي وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم، ولا يدعونه لرفع ذلك.
77- "حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد" قيل هو عذاب الآخرة، وقيل قتلهم يوم بدر بالسيف، وقيل القحط الذي أصابهم، وقيل فتح مكة "إذا هم فيه مبلسون" أي متحيرون، لا يدرون ما يصنعون، والإلباس التحير والإياس من كل خير. وقرأ السلمي مبلسون بفتح اللام من أبلسه: أي أدخله في الإبلاس. وقد تقدم في الأنعام.
78- "وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار" امتن عليهم ببعض النعم التي أعطاهم، وهي نعمة السمع والبصر "والأفئدة" فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ وينظروا العبر ويتفكروا بالأفئدة فلم ينتفعوا بشيء من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق، ولم يشكروه على ذلك ولهذا قال: "قليلاً ما تشكرون" أي شكراً قليلاً حقيراً غير معتد به باعتبار تلك النعم الجليلة. وقيل المعنى: إنهم لا يشكرونه ألبتة، لا أن لهم شكراً قليلاً. كما يقال لجاحد النعمة: ما أقل شكره: أي لا يشكر، ومثل هذه الآية قوله: "فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم".
79- "وهو الذي ذرأكم في الأرض" أي بثكم فيها كما تبث الحبوب لتنبت، وقد تقدم تحقيقه "وإليه تحشرون" أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم.
80- "وهو الذي يحيي ويميت" على جهة الانفراد والاستقلال، وفي هذا تذكير لنعمة الحياة، وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة "وله اختلاف الليل والنهار" قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض، وقيل اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر، وقيل تكررهما يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة "أفلا تعقلون" كنه قدرته وتتفكرون في ذلك.
ثم بين سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبني على مجرد الاستبعاد فقال: 81- "بل قالوا مثل ما قال الأولون" أي آباؤهم والموافقون لهم في دينهم.
ثم بين ما قاله الأولون فقال: 82- " قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون " فهذا مجرد استبعاد لم يتعلقوا فيه بشيء من الشبه.
ثم كملوا ذلك القول بقولهم "لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل" أي وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدقه كما لم يصدقه من قبلنا، ثم صرحوا بالتكذيب وفروا إلى مجرد الزعم الباطل فقالوا: "إن هذا إلا أساطير الأولين" أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة، والأساطير الأباطيل والترهات والكذب. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله: "أم لم يعرفوا رسولهم" قال: عرفوه ولكنهم حسدوه. وفي قوله: "ولو اتبع الحق أهواءهم" قال: الحق الله عز وجل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بل أتيناهم بذكرهم" قال: بينا لهم. وأخرجوا عنه في قوله: "عن الصراط لناكبون" قال: عن الحق لحائدون. وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز: يعني الوبر بالدم، فأنزل الله "ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون" وأصل الحديث في الصحيحين :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" الحديث. وأخرج ابن جرير وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة، فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال بلى. قال: فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله "ولقد أخذناهم بالعذاب" الآية. وأخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب في قوله: "فما استكانوا لربهم وما يتضرعون" قال: أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا، ولو خضعوا لله لاستجاب لهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد" قال: قد مضى، كان يوم بدر.
أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف فيها، ثم أمره أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبخهم فقال: 84- "قل لمن الأرض ومن فيها" أي قل يا محمد لأهل مكة هذه المقالة، والمراد بمن في الأرض الخلق جميعاً، وعبر عنهم بمن تغليباً للعقلاء "إن كنتم تعلمون" شيئاً من العلم، وجواب الشرط محذوف: أي إن كنتم تعلمون فأخبروني. وفي هذا تلويح بجهلهم وفرط غباوتهم.
85- "سيقولون لله" أي لا بد لهم أن يقولوا ذلك، لأنه معلوم ببديهة العقل، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم بعد اعترافهم "أفلا تذكرون" ترغيباً لهم في التدبر وإمعان النظر والفكر، فإن ذلك مما يقودهم إلى اتباع الحق وترك الباطل، لأن من قدر على ذلك ابتداء قدر على إحياء الموتى.
86- " قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم* سيقولون لله " جاء سبحانه باللام نظراً إلى معنى السؤال، فإن قولك: من ربه، ولمن هو في معنى واحد، كقولك: من رب هذه الدار؟ فيقال زيد، ويقال لزيد.
وقرأ أبو عمرو وأهل العراق 87- "سيقولون الله" بغير لام نظراً إلى لفظ السؤال، وهذه القراءة أوضح من قراءة الباقين باللام، ولكنه يؤيد قراءة الجمهور أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام بدون ألف.
وهكذا في قوله: 88- " قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله " باللام نظراً إلى معنى السؤال كما سلف. وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظراً إلى لفظ السؤال، ومثل هذا قول الشاعر: إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قيل لخالد أي لمن المزالف، والملكوت الملك، وزيادة التاء للمبالغة، نحو جبروت ورهبوت، ومعنى "وهو يجير" أنه يغيث غيره إذا شاء ويمنعه "ولا يجار عليه" أي لا يمنع أحداً أحداً من عذاب الله ولا يقدر على نصره وإغاثته، يقال أجرت فلاناً: إذا استغاث بك فحميته، وأجرت عليه: إذا حميت عنه.
89- "قل فأنى تسحرون" قال الفراء والزجاج: أي تصرفون عن الحق وتخدعون، والمعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلاً والصحيح فاسداً، والخادع لهم هو الشيطان أو الهوى أو كلاهما.