سورة النور | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 352 من المصحف
21- "يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان" الخطوات جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، والخطوة بالفتح المصدر: أي لا تتبعوا مسالك الشيطان ومذاهبه ولا تسلكوا طرائقه التي يدعوكم إليها. قرأ الجمهور "خطوات" بضم الخاء والطاء، وقرأ عاصم والأخفش بضم الخاء وإسكان الطاء "ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر" قيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له، كأنه قيل: فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه أن يستمر آمراً لغيره بهما، والفحشاء ما أفرط قبحه، والمنكر ما ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان، وقيل للشأن، والأولى أن يكون عائداً إلى من يتبع خطوات الشيطان، لأن من اتبع الشيطان صار مقتدياً به في الأمر بالفحشاء والمنكر "ولولا فضل الله عليكم ورحمته" قد تقدم بيانه وجواب لولا هو قوله: " ما زكا منكم من أحد أبدا " أي لولا التفضل والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حياً. قرأ الجمهور "زكى" بالتخفيف، وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بالتشديد أي ما طهره الله. وقال مقاتل: أي ما صلح. والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير، وهو الذي ذكره ابن قتيبة. قال الكسائي: إن قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان" معترض، وقوله: " ما زكا منكم من أحد أبدا " جواب لقوله أولاً وثانياً ولولا فضل الله. وقراءة التخفيف أرجح لقوله: "ولكن الله يزكي من يشاء" أي من عباده بالتفضل عليهم والرحمة لهم "والله سميع" لما يقولونه "عليم" بجميع المعلومات وفيه حث بالغ على الإخلاص، وتهييج عظيم لعباده التائبين، ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين، ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه. وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ متعددة وطرق مختلفة. حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة رضي الله عنها، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقداً لها انقطع من جزع، فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها، فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم، فأقامت في ذلك المكان ومر بها صفوان بن المعطل، وكان متأخراً عن الجيش، فأناخ راحلته وحملها عليها، فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا، فبرأها الله مما قالوه. هذا حاصل القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن الأربع وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووقع عند أبي داود تسميتهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبي بن سلول ومسطح وحسان وحمنة بنت جحش. وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال الذي تولى كبره منهم علي، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي، قال فقال لي: فما كان جرمه؟ قلت: حدثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا الشافعي، حدثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبي. قال: كذبت هو علي. قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ فقال: ابن أبي. قال: كذبت هو علي. قال: أنا أكذب؟ لا أبا لك، والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل قالت: لكنك لست كذلك، قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك، وقد أنزل الله "والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم" فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت لا والله، قال: فعائشة والله خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل، فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك. ثم قال: "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين" أي كما قال أبو أيوب وصاحبته. وأخرج الواقدي والحاكم وابن عساكر عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً" قال: يحرج الله عليكم. وأخرج البخاري في الأدب والبيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب قال: القائل الفاحشة والذي شيع بها في الإثم سواء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " ما زكا منكم من أحد أبدا " قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير.
22-قوله: "لا يأتل" أي يحلف وزنه يفتعل من الألية، وهي اليمين، ومنه قول الشاعر: تألى ابن أوس حلفة ليردني إلى نســـــوة كأنهن مفايد وقول الآخر: قليل الألايا حافـــظ ليمينـه وإن بدرت منه الألية برت يقال ائتلى يأتلي إذا حلف. ومنه قوله سبحانه: "للذين يؤلون من نسائهم" وقالت فرقة: هو من ألوت في كذا إذا قصرت، ومنه لم آل جهداً: أي لم أقصر، وكذا منه قوله: "لا يألونكم خبالاً" ومنه قول الشاعر: وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آل والأول أولى بدليل سبب النزول، وهو ما سيأتي، والمراد بالفضل الغنى والسعة في المال "أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله" أي على أن لا يؤتوا. قال الزجاج: أن لا يؤتوا فحذف لا، ومنه قول الشاعر: فقلت يمين الله أبـــــرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى إضمار لا، والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان الجامعين لتلك الأوصاف، وعلى الوجه الآخر يكون المعنى: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم شحناء لذنب اقترفوه، وقرأ أبو حيوة " أن يؤتوا " بتاء الخطاب على الالتفات. ثم علمهم سبحانه أدباً آخر فقال"وليعفوا" عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم وجنايتهم التي اقترفوها، من عفا الربع: أي درس، والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع "وليصفحوا" بالإغضاء عن الجاني والإغماض عن جنايته، وقرىء بالفوقية في الفعلين جميعاً. ثم ذكر سبحانه ترغيباً عظيماً لمن عفا وصفح فقال: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم "والله غفور رحيم" أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم.
23- "إن الذين يرمون المحصنات" قد مر تفسير المحصنات وذكرنا الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حد القذف. وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة؟ فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة رضي الله عنها. وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين. وقال الضحاك والكلبي: هذه الآية هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه صلى الله عليه وسلم، ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة كما تقدم في قوله: "إلا الذين تابوا" وقيل إن هذه الآية خاصة بمن أصر على القذف ولم يتب، وقيل إنها تعم كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين، واختاره النحاس، وهو الموافق لما قرره أهل الأصول من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل إنها خاصة بمشركي مكة، لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت لتفجر. قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنون من القذفة، فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون "في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم" والمراد بالغافلات اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا تخطر ببالهن ولا يفطن لها، وفي ذلك من الدلالة على كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات، وقيل هن السليمات الصدور النقيات القلوب.
24- "يوم تشهد عليهم ألسنتهم" هذه الجملة مقررة لما قبلها مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من العذاب الذي لا يحيط به وصف. وقرأ الجمهور "يوم تشهد" بالفوقية، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي وخلف بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل. والمعنى: تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم، وقيل تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم بما تكلموا به "وأيديهم وأرجلهم" بما عملوا بها في الدنيا، وإن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم، والمشهود محذوف وهو ذنوبهم التي اقترفوها: أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها.
25- "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفراً، فالمراد بالدين هاهنا الجزاء، وبالحق الثابت الذي لا شك في ثبوته. قرأ زيد بن علي يوفيهم مخففاً من أوفى، وقرأ من عداه بالتشديد من وفى. وقرأ أبو حيوة ومجاهد "الحق" بالرفع على أنه نعت لله، وروى ذلك عن ابن مسعود. وقرأ الباقون بالنصب على أنه نعت لدينهم. قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ليكون نعتاً لله عز وجل ولتكون موافقة لقراءة أبي، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبي " يوفيهم الله دينهم الحق ". قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي، لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة أيضاً فيه، لأنه لو صح أنه في مصحف أبي جاز أن يكون دينهم بدلاً من الحق "ويعلمون أن الله هو الحق المبين" أي ويعلمون عند معاينتهم لذلك ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز أن الله هو الحق الثابت في ذاته وصفاته وأفعاله، المبين المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وإنما سمي سبحانه الحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره. وقيل سمي بالحق: أي الموجود لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم.
26- ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال: "الخبيثات للخبيثين" أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال: أي مختصة بهم لا تتجاوزهم، وكذا الخبيثون مختصون بالخبيثات لا يتجاوزونهن، وهكذا قوله: "والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات" قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال الزجاج: ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبيث ومدح للذين برأوها. وقيل إن هذه الآية مبنية على قوله: "الزاني لا ينكح إلا زانية" فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الخبيثون والطيبون، والإشارة هنا بقوله: " أولئك مبرؤون مما يقولون " إلى الطيبين والطيبات: أي هم مبرأون مما يقوله الخبيثون والخبيثات، وقيل الإشارة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل عائشة وصفوان فقط. قال الفراء: وجمع كما قال: "فإن كان له إخوة" والمراد أخوان "لهم مغفرة" أي هؤلاء المبرأون لهم مغفرة عظيمة لما لا يخلوا عنه البشر من الذنوب "ورزق كريم" هو رزق الجنة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يأتل" الآية، يقول: لا يقسموا أن لا ينفعوا أحداً. وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك، وكان قريباً لأبي بكر وكان في عياله، فحلف أبو بكر أن لا ينيله خيراً أبداً، فأنزل الله " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة " الآية، قالت: فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا تحللتها وأتيت الذي هو خير. وقد روي هذا من طرق عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلموا فيها، فأقسم ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصلوه، فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون من قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم وأن يعفى عنهم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه في قوله: "إن الذين يرمون المحصنات" الآية، قال: نزلت في عائشة خاصة. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة، ثم قرأ "والذين يرمون المحصنات" إلى قوله: "إلا الذين تابوا". وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم يدخلهم النار". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة ما يتضمن شهادة الجوارح على العصاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه: "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" قال: حسابهم، وكل شيء في القرآن فهو الحساب. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ". وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "الخبيثات" قال: من الكلام "للخبيثين" قال: من الرجال "والخبيثون" من الرجال "للخبيثات" من الكلام "والطيبات" من الكلام "للطيبين" من الناس "والطيبون" من الناس "للطيبات" من الكلام، نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا من البهتان. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير والطبراني عن قتادة نحوه أيضاً، وكذا روى عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن زيد في الآية قال: نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان والفرية فبرأها الله من ذلك، وكان عبد الله بن أبي هو الخبيث، فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً، فكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة، وكانت أولى بأن يكون لها الطيب، وفي قوله: " أولئك مبرؤون مما يقولون " قال: هاهنا برئت عائشة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: لقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة وأجراً عظيماً.
لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء، فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضاً إن الإنسان يكون في بيته ومكان خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره، فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية، هي قوله: 27- "حتى تستأنسوا" والاستئناس الاستعلام والاستخبار: أي حتى تستعلموا من في البيت، والمعنى: حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم، فإذا علمتم ذلك دخلتم، ومنه قوله: "فإن آنستم منهم رشداً" أي علمتم. قال الخليل: الاستئناس الاستكشاف، من أنس الشيء إذا أبصره كقوله: "إني آنست ناراً" أي أبصرت. وقال ابن جرير: إنه بمعنى وتؤنسوا أنفسكم. قال ابن عطية: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس. ومعنى كلام ابن جرير هذا أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له، فإذا أذن له استأنس، فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل. وقيل هو من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثم إنسان أم لا؟ وقيل معنى الاستئناس الاستئذان: أي لا تدخلوها حتى تستأذنوا. قال الواحدي قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا، ويؤيده ما حكاه القرطبي عن ابن عباس وأبي وسعيد بن جبير أنهم قرأوا " حتى تستأنسوا " قال مالك فيما حكاه عنه ابن وهب: الاستئناس فيما يرى والله أعلم الاستئذان، وقوله: "وتسلموا على أهلها" قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بأن يقول: السلام عليكم أدخل؟ مرة أو ثلاثاً كما سيأتي. واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام أو العكس، فقيل يقدم الاستئذان، فيقول: أدخل سلام عليكم، لتقديم الاستئناس في الآية على السلام. وقال الأكثرون: إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول: السلام عليكم أدخل، وهو الحق، لأن البيان منه صلى الله عليه وسلم للآية كان هكذا. وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان "ذلكم خير لكم" الإشارة إلى الاستئناس التسليم: أي دخولكم مع الاستئذان والسلام خير لكم من الدخول بغتة "لعلكم تذكرون" أن الاستئذان خير لكم، وهذه الجملة متعلقة بمقدر: أي أمرتم بالاستئذان، والمراد بالتذكر الاتعاظ، والعمل بما أمروا به.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 352
35121- "يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان" الخطوات جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، والخطوة بالفتح المصدر: أي لا تتبعوا مسالك الشيطان ومذاهبه ولا تسلكوا طرائقه التي يدعوكم إليها. قرأ الجمهور "خطوات" بضم الخاء والطاء، وقرأ عاصم والأخفش بضم الخاء وإسكان الطاء "ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر" قيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له، كأنه قيل: فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه أن يستمر آمراً لغيره بهما، والفحشاء ما أفرط قبحه، والمنكر ما ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان، وقيل للشأن، والأولى أن يكون عائداً إلى من يتبع خطوات الشيطان، لأن من اتبع الشيطان صار مقتدياً به في الأمر بالفحشاء والمنكر "ولولا فضل الله عليكم ورحمته" قد تقدم بيانه وجواب لولا هو قوله: " ما زكا منكم من أحد أبدا " أي لولا التفضل والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حياً. قرأ الجمهور "زكى" بالتخفيف، وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بالتشديد أي ما طهره الله. وقال مقاتل: أي ما صلح. والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير، وهو الذي ذكره ابن قتيبة. قال الكسائي: إن قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان" معترض، وقوله: " ما زكا منكم من أحد أبدا " جواب لقوله أولاً وثانياً ولولا فضل الله. وقراءة التخفيف أرجح لقوله: "ولكن الله يزكي من يشاء" أي من عباده بالتفضل عليهم والرحمة لهم "والله سميع" لما يقولونه "عليم" بجميع المعلومات وفيه حث بالغ على الإخلاص، وتهييج عظيم لعباده التائبين، ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين، ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه. وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ متعددة وطرق مختلفة. حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة رضي الله عنها، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقداً لها انقطع من جزع، فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها، فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم، فأقامت في ذلك المكان ومر بها صفوان بن المعطل، وكان متأخراً عن الجيش، فأناخ راحلته وحملها عليها، فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا، فبرأها الله مما قالوه. هذا حاصل القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن الأربع وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووقع عند أبي داود تسميتهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبي بن سلول ومسطح وحسان وحمنة بنت جحش. وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال الذي تولى كبره منهم علي، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي، قال فقال لي: فما كان جرمه؟ قلت: حدثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا الشافعي، حدثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبي. قال: كذبت هو علي. قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ فقال: ابن أبي. قال: كذبت هو علي. قال: أنا أكذب؟ لا أبا لك، والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل قالت: لكنك لست كذلك، قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك، وقد أنزل الله "والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم" فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت لا والله، قال: فعائشة والله خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل، فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك. ثم قال: "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين" أي كما قال أبو أيوب وصاحبته. وأخرج الواقدي والحاكم وابن عساكر عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً" قال: يحرج الله عليكم. وأخرج البخاري في الأدب والبيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب قال: القائل الفاحشة والذي شيع بها في الإثم سواء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " ما زكا منكم من أحد أبدا " قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير.
22-قوله: "لا يأتل" أي يحلف وزنه يفتعل من الألية، وهي اليمين، ومنه قول الشاعر: تألى ابن أوس حلفة ليردني إلى نســـــوة كأنهن مفايد وقول الآخر: قليل الألايا حافـــظ ليمينـه وإن بدرت منه الألية برت يقال ائتلى يأتلي إذا حلف. ومنه قوله سبحانه: "للذين يؤلون من نسائهم" وقالت فرقة: هو من ألوت في كذا إذا قصرت، ومنه لم آل جهداً: أي لم أقصر، وكذا منه قوله: "لا يألونكم خبالاً" ومنه قول الشاعر: وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آل والأول أولى بدليل سبب النزول، وهو ما سيأتي، والمراد بالفضل الغنى والسعة في المال "أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله" أي على أن لا يؤتوا. قال الزجاج: أن لا يؤتوا فحذف لا، ومنه قول الشاعر: فقلت يمين الله أبـــــرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى إضمار لا، والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان الجامعين لتلك الأوصاف، وعلى الوجه الآخر يكون المعنى: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم شحناء لذنب اقترفوه، وقرأ أبو حيوة " أن يؤتوا " بتاء الخطاب على الالتفات. ثم علمهم سبحانه أدباً آخر فقال"وليعفوا" عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم وجنايتهم التي اقترفوها، من عفا الربع: أي درس، والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع "وليصفحوا" بالإغضاء عن الجاني والإغماض عن جنايته، وقرىء بالفوقية في الفعلين جميعاً. ثم ذكر سبحانه ترغيباً عظيماً لمن عفا وصفح فقال: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم "والله غفور رحيم" أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم.
23- "إن الذين يرمون المحصنات" قد مر تفسير المحصنات وذكرنا الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حد القذف. وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة؟ فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة رضي الله عنها. وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين. وقال الضحاك والكلبي: هذه الآية هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه صلى الله عليه وسلم، ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة كما تقدم في قوله: "إلا الذين تابوا" وقيل إن هذه الآية خاصة بمن أصر على القذف ولم يتب، وقيل إنها تعم كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين، واختاره النحاس، وهو الموافق لما قرره أهل الأصول من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل إنها خاصة بمشركي مكة، لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت لتفجر. قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنون من القذفة، فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون "في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم" والمراد بالغافلات اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا تخطر ببالهن ولا يفطن لها، وفي ذلك من الدلالة على كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات، وقيل هن السليمات الصدور النقيات القلوب.
24- "يوم تشهد عليهم ألسنتهم" هذه الجملة مقررة لما قبلها مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من العذاب الذي لا يحيط به وصف. وقرأ الجمهور "يوم تشهد" بالفوقية، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي وخلف بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل. والمعنى: تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم، وقيل تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم بما تكلموا به "وأيديهم وأرجلهم" بما عملوا بها في الدنيا، وإن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم، والمشهود محذوف وهو ذنوبهم التي اقترفوها: أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها.
25- "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفراً، فالمراد بالدين هاهنا الجزاء، وبالحق الثابت الذي لا شك في ثبوته. قرأ زيد بن علي يوفيهم مخففاً من أوفى، وقرأ من عداه بالتشديد من وفى. وقرأ أبو حيوة ومجاهد "الحق" بالرفع على أنه نعت لله، وروى ذلك عن ابن مسعود. وقرأ الباقون بالنصب على أنه نعت لدينهم. قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ليكون نعتاً لله عز وجل ولتكون موافقة لقراءة أبي، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبي " يوفيهم الله دينهم الحق ". قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي، لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة أيضاً فيه، لأنه لو صح أنه في مصحف أبي جاز أن يكون دينهم بدلاً من الحق "ويعلمون أن الله هو الحق المبين" أي ويعلمون عند معاينتهم لذلك ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز أن الله هو الحق الثابت في ذاته وصفاته وأفعاله، المبين المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وإنما سمي سبحانه الحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره. وقيل سمي بالحق: أي الموجود لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم.
26- ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال: "الخبيثات للخبيثين" أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال: أي مختصة بهم لا تتجاوزهم، وكذا الخبيثون مختصون بالخبيثات لا يتجاوزونهن، وهكذا قوله: "والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات" قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال الزجاج: ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبيث ومدح للذين برأوها. وقيل إن هذه الآية مبنية على قوله: "الزاني لا ينكح إلا زانية" فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الخبيثون والطيبون، والإشارة هنا بقوله: " أولئك مبرؤون مما يقولون " إلى الطيبين والطيبات: أي هم مبرأون مما يقوله الخبيثون والخبيثات، وقيل الإشارة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل عائشة وصفوان فقط. قال الفراء: وجمع كما قال: "فإن كان له إخوة" والمراد أخوان "لهم مغفرة" أي هؤلاء المبرأون لهم مغفرة عظيمة لما لا يخلوا عنه البشر من الذنوب "ورزق كريم" هو رزق الجنة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يأتل" الآية، يقول: لا يقسموا أن لا ينفعوا أحداً. وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك، وكان قريباً لأبي بكر وكان في عياله، فحلف أبو بكر أن لا ينيله خيراً أبداً، فأنزل الله " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة " الآية، قالت: فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا تحللتها وأتيت الذي هو خير. وقد روي هذا من طرق عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلموا فيها، فأقسم ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصلوه، فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون من قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم وأن يعفى عنهم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه في قوله: "إن الذين يرمون المحصنات" الآية، قال: نزلت في عائشة خاصة. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة، ثم قرأ "والذين يرمون المحصنات" إلى قوله: "إلا الذين تابوا". وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم يدخلهم النار". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة ما يتضمن شهادة الجوارح على العصاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه: "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" قال: حسابهم، وكل شيء في القرآن فهو الحساب. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ". وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "الخبيثات" قال: من الكلام "للخبيثين" قال: من الرجال "والخبيثون" من الرجال "للخبيثات" من الكلام "والطيبات" من الكلام "للطيبين" من الناس "والطيبون" من الناس "للطيبات" من الكلام، نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا من البهتان. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير والطبراني عن قتادة نحوه أيضاً، وكذا روى عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن زيد في الآية قال: نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان والفرية فبرأها الله من ذلك، وكان عبد الله بن أبي هو الخبيث، فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً، فكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة، وكانت أولى بأن يكون لها الطيب، وفي قوله: " أولئك مبرؤون مما يقولون " قال: هاهنا برئت عائشة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: لقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة وأجراً عظيماً.
لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء، فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضاً إن الإنسان يكون في بيته ومكان خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره، فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية، هي قوله: 27- "حتى تستأنسوا" والاستئناس الاستعلام والاستخبار: أي حتى تستعلموا من في البيت، والمعنى: حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم، فإذا علمتم ذلك دخلتم، ومنه قوله: "فإن آنستم منهم رشداً" أي علمتم. قال الخليل: الاستئناس الاستكشاف، من أنس الشيء إذا أبصره كقوله: "إني آنست ناراً" أي أبصرت. وقال ابن جرير: إنه بمعنى وتؤنسوا أنفسكم. قال ابن عطية: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس. ومعنى كلام ابن جرير هذا أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له، فإذا أذن له استأنس، فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل. وقيل هو من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثم إنسان أم لا؟ وقيل معنى الاستئناس الاستئذان: أي لا تدخلوها حتى تستأذنوا. قال الواحدي قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا، ويؤيده ما حكاه القرطبي عن ابن عباس وأبي وسعيد بن جبير أنهم قرأوا " حتى تستأنسوا " قال مالك فيما حكاه عنه ابن وهب: الاستئناس فيما يرى والله أعلم الاستئذان، وقوله: "وتسلموا على أهلها" قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بأن يقول: السلام عليكم أدخل؟ مرة أو ثلاثاً كما سيأتي. واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام أو العكس، فقيل يقدم الاستئذان، فيقول: أدخل سلام عليكم، لتقديم الاستئناس في الآية على السلام. وقال الأكثرون: إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول: السلام عليكم أدخل، وهو الحق، لأن البيان منه صلى الله عليه وسلم للآية كان هكذا. وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان "ذلكم خير لكم" الإشارة إلى الاستئناس التسليم: أي دخولكم مع الاستئذان والسلام خير لكم من الدخول بغتة "لعلكم تذكرون" أن الاستئذان خير لكم، وهذه الجملة متعلقة بمقدر: أي أمرتم بالاستئذان، والمراد بالتذكر الاتعاظ، والعمل بما أمروا به.
الصفحة رقم 352 من المصحف تحميل و استماع mp3