تفسير الطبري تفسير الصفحة 352 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 352
353
351
 الآية : 21
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـَكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ولولا فضل الله علـيكم أيها الناس ورحمته لكم, ما تَطَهّر منكم من أحد أبدا من دنس ذنوبه وشركه, ولكن الله يطهّر من يشاء من خـلقه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19581ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ أبَدا يقول: ما اهتدى منكم من الـخلائق لشيء من الـخير ينفع به نفسه, ولـم يتق شيئا من الشرّ يدفعه عن نفسه.
19582ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ أبَدا قال: ما زكى: ما أسلـم. وقال: كلّ شيء فـي القرآن من «زكى» أو «تَزَكّي» فهو الإسلام.
وقوله: وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ يقول: والله سميع لـما تقولون بأفواهكم وتَلَقّوْنه بألسنتكم وغير ذلك من كلامكم, علـيـم بذلك كله وبغيره من أموركم, مـحيط به مـحصيه علـيكم, لـيجازيَكم بكل ذلك.
الآية : 22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ولا يحلف بـالله ذوو الفضل منكم, يعنـي ذوي التفضل والسّعة يقول: وذوو الـجِدَة.
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: وَلا يأْتَلِ فقرأته عامة قرّاء الأمصار: وَلا يَأْتَلِ بـمعنى: يفتعل من الأَلِـيّة, وهي القسم بـالله سوى أبـي جعفر وزيد بن أسلـم, فإنه ذُكِر عنهما أنهما قرآ ذلك: «وَلا يَتأَلّ» بـمعنى: يتفعّل, من الأَلِـية.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندي قراءة من قرأ: ولا يأَتَل بـمعنى يفتعل من الأَلِـية وذلك أن ذلك فـي خطّ الـمصحف كذلك, والقراءة الأخرى مخالفة خطّ الـمصحف, فـاتبـاع الـمصحف مع قراءة جماعة القرّاء وصحّة الـمقروء به أولـى من خلاف ذلك كله. وإنـما عُنِـي بذلك أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه فـي حلفه بـالله لا ينفق علـى مِسْطَح, فقال جلّ ثناؤه: ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها الـمؤمنون بـالله ألاّ يُعْطُوا ذَوِي قَرابتهم فـيصِلوا به أرحامهم, كمِسْطح, وهو ابن خالة أبـي بكر. والـمساكين: يقول: وذوي خَـلّة الـحاجة, وكان مِسْطح منهم, لأنه كان فقـيرا مـحتاجا. والـمهاجرين فـي سبـيـل الله وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم فـي جهاد أعداء الله, وكان مِسْطَح منهم لأنه كان مـمن هاجر من مكة إلـى الـمدينة, وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا. وَلْـيَعْفُوا يقول ولـيعفُوا عما كان منهم إلـيهم من جُرم, وذلك كجرم مِسْطح إلـى أبـي بكر فـي إشاعته علـى ابنته عائشة ما أشاع من الإفك. وَلْـيَصْفَحُوا يقول: ولـيتركوا عقوبتهم علـى ذلك, بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك, ولكن لـيعودوا لهم إلـى مثل الذي كانوا لهم علـيه من الإفضال علـيهم. ألا تُـحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ يقول: ألا تـحبون أن يستر الله علـيكم ذنوبكم بإفضالكم علـيهم, فـيترك عقوبتكم علـيها. وَاللّهُ غَفُورٌ لذنوب من أطاعه واتبع أمره, رحيـم بهم أن يعذّبهم مع اتبـاعهم أمره وطاعتهم إياه, علـى ما كان لهم من زلة وهفوة قد استغفروه منها وتابوا إلـيه من فعلها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19583ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن الزهريّ, عن عَلقمة بن وقّاص اللـيثـيّ, وعن سعيد بن الـمسيب, وعن عرورة بن الزبـير, وعن عبـيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن عائشة. قال: وثنـي ابن إسحاق, قال: حدثنا يحيى بن عبـاد بن عبد الله بن الزّبـير, عن أبـيه, عن عائشة. قال: وثنـي ابن إسحاق, قال: ثنـي عبد الله بن أبـي بكر بن مـحمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ, عن عمرة بنت عبد الرحمن, عن عائشة, قالت: لـما نزل هذا يعنـي قوله: إنّ الّذِينَ جاءُوا بـاْلإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ فـي عائشة, وفـيـمن قال لها ما قال قال أبو بكر, وكان ينفق علـى مسطح لقرابته وحاجته: والله لا أنفق علـى مسطح شيئا أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال وأدخـل علـيها ما أدخـل قالت: فأنزل الله فـي ذلك: وَلا يأَتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ... الآية. قالت: فقال أبو بكر: والله إنـي لأحبّ أن يغفر الله لـي فرجع إلـى مسطح نفقتَه التـي كان يُنفِق علـيه, وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
19584ـ حدثنـي علـيّ, قال حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ يقول: لا تُقْسِموا ألاّ تنفعوا أحدا.
19585ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ... إلـى آخر الآية, قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رَمَوا عائشة بـالقبـيح وأفشَوا ذلك وتكلوا به, فأقسم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فـيهم أبو بكر, ألاّ يتصدّق علـى رجل تكلـم بشيء من هذا ولا يصله, فقال: لا يُقْسِم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك. فأمر الله أن يُغْفَر لهم وأن يُعْفَـى عنهم.
19586ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ: لـما أنزل الله تعالـى ذكره عذر عائشة من السماء, قال أبو بكر وآخرون من الـمسلـمين: والله لا نصل رجلا منهم تَكَلّـم بشيء من شأن عائشة ولا ننفعه فأنزل الله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعة يقول: ولا يحلف.
حدثنـي يونس,قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ أنْ يُؤْتُوا أُولـي القُرْبَى قال: كان مِسْطَح ذا قرابة. والَـمَساكِينَ قال: كان مسكينا. وَالـمُهاجِرِينَ فِـي سَبِـيـلِ اللّه كان بدْريّا.
19587ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ قال: أبو بكر حلف أن لا ينفع يتـيـما فـي حِجْره كان أشاع ذلك. فلـما نزلت هذه الآية قال: بلـى أنا أحبّ أن يغفر الله لـي, فَلاكوننّ لـيتـيـمي خيرَ ما كنت له قطّ.
الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ بـالفـاحشة الـمُـحْصَناتِ يعنـي العفـيفـات الغافِلاتِ عن الفواحش الـمُؤْمِناتِ بـالله ورسوله, وما جاء به من عند الله, لُعِنُوا فِـي الدّنـيْا والاَخِرَةِ يقول: أُبْعِدوا من رحمة الله فـي الدنـيا والاَخرة. وَلَهُمْ فـي الاَخرة عَذَابٌ عَظِيـمٌ وذلك عذاب جهنـم.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمـحصنات اللاتـي هذا حكمهن, فقال بعضهم: إنـما ذلك لعائشة خاصة, وحكم من الله فـيها وفـيـمن رماها, دون سائر نساء أمة نبـينا صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
19588ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب, قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد, قال: حدثنا خَصِيف, قال: قلت لسعيد بن جُبـير: الزنا أشدّ أم قذف الـمـحصَنة؟ فقال: الزنا. فقلت: ألـيس الله يقول: إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ... الآية؟ قال سعيد: إنـما كان هذا لعائشة خاصة.
19589ـ حدثنا أحمد بن عبدة الضبـي, قال: حدثنا أبو عوانة, عن عمر بن أبـي سَلَـمة, عن أبـيه, قال: قالت عائشة: رُمِيت بـما رُمِيت به وأنا غافلة, فبلغنـي بعد ذلك, قالت: فبـينـما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي جالس, إذ أُوحي إلـيه, وكان إذا أوحي إلـيه أخذه كهيئة السّبـات. وإنه أُوحي إلـيه وهو جالس عندي, ثم استوى جالسا يـمسح عن وجهه, وقال: «يا عائشة أبْشِري» قالت: فقلت: بحمد الله لا بحمدك فقرأ: إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ الغافِلاتِ الـمُؤْمِناتِ... حتـى بلغ: أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِـمّا يَقُولُونَ.
وقال آخرون: بل ذلك لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء غيرهنّ. ذكر من قال ذلك:
19590ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ الغافِلاتِ الـمُؤْمِناتِ... الآية, أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية فـي شأن عائشة, وعُنـي بها كلّ من كان بـالصفة التـي وصف الله هذه الآية. قالوا: فذلك حكم كلّ من رَمى مـحصنة لـم تقارف سُوءا. ذكر من قال ذلك:
19591ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا زيد, عن جعفر بن برقان, قال: سألت ميـمونا, قلت: الذي ذكر الله: الّذينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ ثُمّ لَـمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ... إلـى قوله: إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَـحُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيـمٌ فجعل فـي هذه توبة, وقال فـي الأخرى: إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ الغافِلاتِ... إلـى قوله: لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ؟ قال ميـمون: أما الأولـى فعسى أن تكون قد قارفت, وأما هذه فهي التـي لـم تقارف شيئا من ذلك.
19592ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام بن حوشب, عن شيخ من بنـي أسد, عن ابن عبـاس, قال: فسّر سورة النور, فلـما أتـى علـى هذه الآية: إنّ الّذِينَ يرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ الغافِلاتِ الـمُؤْمِناتِ... الآية, قال: هذا فـي شأن عائشة وأزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وهي مبهمة, ولـيست لهم توبة. ثم قرأ: وَالّذِينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ ثُمّ لَـمْ يَأتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ... إلـى قوله: إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْد ذلك وأصْلَـحُوا... الآية, قال: فجعل لهؤلاء توبة, ولـم يجعل لـمن قذف أولئك توبة. قال: فهمّ بعض القوم أن يقوم إلـيه فـيقبل رأسه من حسن ما فسّر سورة النور.
19593ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ الغافِلاتِ الـمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِـي الدّنـيْا والاَخِرَةِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ قال: هذا فـي عائشة, ومن صنع هذا الـيومَ فـي الـمسلـمات فله ما قال الله, ولكن عائشة كانت إمام ذلك.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية فـي أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فكان ذلك كذلك حتـى نزلت الآية التـي فـي أوّل السورة فأوجب الـجَلْد وقبل التوبة. ذكر من قال ذلك:
19594ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ الغافِلاتِ الـمُؤْمِنات... إلـى: عَذَابٌ عَظِيـمٌ يعنـي أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, رماهنّ أهل النفـاق, فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وبـاءوا بسخط من الله. وكان ذلك فـي أزواج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ثم نزل بعد ذلك: وَالّذِينَ يَرْمُونَ الـمُـحْصَناتِ ثُمّ لَـمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ... إلـى قوله: فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيـمٌ فأنزل الله الـجلد والتوبة, فـالتوبة تُقبل, والشهادة تردّ.
وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية فـي شأن عائشة, والـحكم بها عامّ فـي كلّ من كان بـالصفة التـي وصفه الله بها فـيها.
وإنـما قلنا ذلك أولـى تأويلاته بـالصواب, لأن الله عمّ بقوله: إنّ الّذِينَ يَرمُونَ الـمُـحْصَناتِ الغافِلاتِ الـمُؤْمِناتِ كلّ مـحصنة غافلة مؤمنة رماها رام بـالفـاحشة, من غير أن يحضّ بذلك بعضا دون بعض, فكلّ رام مـحصنة بـالصفة التـي ذكر الله جلّ ثناؤه فـي هذه الآية فملعون فـي الدنـيا والاَخرة وله عذاب عظيـم, إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفـاته, فإن الله دلّ بـاستثنائه بقوله: إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَـحُوا علـى أن ذلك حكم رامي كل مـحصنة بأيّ صفة كانت الـمـحصنة الـمؤمنة الـمرمية, وعلـى أن قوله: لُعِنُوا فـي الدّنـيْا والاَخِرَةِ, وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ معناه: لهم ذلك إن هلكوا ولـم يتوبوا.
الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولهم عذاب عظيـم يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَـيْهِمْ ألْسِنَتُهُمْ ف«الـيوم» الذي فـي قوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَـيْهِمْ من صلة قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ. وعُنِـي بقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَـيهِمْ ألْسِنَتُهُمْ يوم القـيامة وذلك حين يجحد أحدهما ما اكتسب فـي الدنـيا من الذنوب عند تقرير الله إياه بها, فـيختـم الله علـى أفواههم, وتشهد علـيهم أيديهم وأرجلهم بـما كانوا يعملون.
فإن قال قائل: وكيف تشهد علـيهم ألسنتهم حين يختـم علـى أفواههم؟ قـيـل: عُنِـي بذلك أن ألسنة بعضهم تشهد إلـى بعض, لا أن ألسنتهم تنطق وقد ختـم علـى الأفواه. وقد:
19595ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا عمرو, عن درّاج, عن أبـي الهيثمي, عن أبـي سعيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا كانَ يَوْمُ القِـيامَةِ عُرِفَ الكافِرُ بعَمَلِهِ, فَجَحَدَ وَخاصَمَ, فَـيُقالُ لَهُ: هَؤُلاءِ جيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَـيْكَ, فَـيَقُولُ: كَذَبُوا فَـيَقُولُ: أهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ, فَـيَقُولُ: كَذَبُوا فَـيَقُولُ: أتَـحْلِفُونَ؟ فَـيَحْلِفُونَ. ثُمّ يُصْمِتُهُمُ اللّهُ, وتَشْهَدُ ألْسِنَتُهُمْ, ثُمّ يُدْخِـلُهُمُ النّارُ».
الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الْحَقّ وَيَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ الْمُبِينُ }.
يقول تعالـى ذكره: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَـيْهِمْ ألْسِنَتُهُمْ وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ بِـمَا كانُوا يَعْمَلُونَ يوفـيهم الله حسابهم وجزاءهم الـحقّ علـى أعمالهم. والدّين فـي هذا الـموضع: الـحساب والـجزاء, كما:
19596ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: يَوْمَئِذٍ يُوَفّـيهِمُ اللّهُ دينَهُمُ الـحَقّ يقول: حسابهم.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: الـحَقّ فقرأته عامة قرّاء الأمصار: دِينَهُمُ الـحَقّ نصبـا علـى النعت للدين, كأنه قال: يوفـيهم الله أعمالهم حقّا. ثم أدخـل فـي الـحقّ الألف واللام, فنصب بـما نصب به الدين. وذُكر عن مـجاهد أنه قرأ ذلك: «يُوَفّـيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الـحَقّ» برفع «الـحقّ» علـى أنه من نعت الله.
19597ـ حدثنا بذلك أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا يزيد, عن جرير بن حازم, عن حميد, عن مـجاهد, أنه قرأها «الـحقّ» بـالرفع. قال جرير: وقرأتها فـي مصحف أُبـيّ بن كعب يُوَفّـيهِمُ اللّهُ الـحَقّ دِينَهُمْ.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار, وهو نصب «الـحقّ» علـى إتبـاعه إعراب «الدين» لإجماع الـحجة علـيه.
وقوله: وَيَعْلَـمُونَ أنّ اللّهَ هُوَ الـحَقّ الـمُبِـينُ يقول: ويعلـمون يومئذٍ أن الله هو الـحقّ الذي يبـين لهم حقائق ما كان يعدهم فـي الدنـيا من العذاب, ويزول حينئذٍ الشكّ فـيه عن أهل النفـاق الذين كانوا فـيـما كان يَعِدُهم فـي الدنـيا يـمترون.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلْطّيّبَاتِ أُوْلَـَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك فقال بعضهم: معناه: الـخبـيثات من القول للـخبثـيـين من الرجال, والـخبـيثون من الرجال للـخبـيثات من القول, والطيبـات من القول للطيبـين من الناس, والطيبون من الناس للطيبـات من القول. ذكر من قال ذلك:
19598ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: الـخَبِـيثاتُ للـخَبـيثِـينِ والـخَبِـيثُونَ للْـخَبِـيثاتِ يقول: الـخبـيثات من القول للـخبـيثـين من الرجال, والـخبـيثون من الرجال للـخبـيثات من القول.
وقوله: والطّيّبـاتُ للطّيّبِـينَ يقول: الطيبـات من القول للطيبـين من الرجال, والطيبون من الرجال للطيبـات من القول. نزلت فـي الذين قالوا فـي زوجة النبـيّ صلى الله عليه وسلم ما قالوا من البهتان. ويقال: الـخبـيثات للـخبـيثـين: الأعمال الـخبـيثة تكون للـخبـيثـين, والطيبـات من الأعمال تكون للطيبـين.
19599ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن عثمان بن الأسود, عن مـجاهد: الـخبـيثات من الكلام للـخبـيثـين من الناس, والطيبـات من الكلام للطيبـين من الناس.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
19600ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى عن ابن أبـي نـجيح, فـي قول الله: الـخَبِـيثاتُ للْـخَبِـيثِـينَ والـخَبِـيثُونَ للْـخَبِـيثاتِ والطّيّبـاتُ للطّيّبِـينَ والطّيّبُونَ لِلطّيّبـاتِ قال: الطيبـات: القول الطيب يخرج من الكافر والـمؤمن فهو للـمؤمن والـخبـيثات: القول الـخبـيث يخرج من الـمؤمن والكافر فهو للكافر. أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِـمّا يَقُولُونَ وذلك أنه برأ كلـيهما مـما لـيس بحقّ من الكلام.
19601ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: الـخَبِـيثاتُ للْـخَبِـيثِـينَ والـخَبِـيثُونَ للْـخَبِـيثاتِ والطّيّبـاتُ لِلطّيّبـينَ والطّيّبُونَ لِلطّيّبـاتِ يقول: الـخبـيثات والطيبـات: القول السيء والـحسن للـمؤمنـين الـحسن وللكافرين السيء. أُولَئِكَ مُبَرءُونَ مِـمّا يَقُولُونَ وذلك بأنه ما قال الكافرون من كلـمة طيبه فهي للـمؤمنـين, وما قال الـمؤمنون من كلـمة خبـيثة فهي للكافرين, كلّ برىء مـما لـيس بحقّ من الكلام.
19602ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: الـخَبِـيثاتُ للْـخَبِـيثِـينَ قال: الـخبـيثات من الكلام للـخبـيثـين من الناس, والـخبـيثون من الناس للـخبـيثات من الكلام.
حدثنا الـحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا معمر عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد, مثله.
19603ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: الـخَبِـيثاتُ للْـخَبِـيثـينَ... الآية, يقول: الـخبـيثات من القول للـخبـيثـين من الرجال, والـخبـيثون من الرجال للـخبـيثات من القول, والطيبـات من القول للطيبـين من الرجال, والطيبون من الرجال للطيبـات من القول. فهذا فـي الكلام, وهم الذين قالوا لعائشة ما قالوا, هم الـخبـيثون. والطيبون هم الـمبرّءون مـما قال الـخبـيثون.
19604ـ حدثنا أبو زرعة, قال حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سلـمة, يعنـي ابن نبـيط الأشجعيّ, عن الضحاك: الـخَبِـيثاتُ للْـخَبِـيثِـين قال: الـخبـيثات من الكلام للـخبـيثـين من الناس, والطيبـات من الكلام للطيبـين من الناس.
19605ـ قال: حدثنا قبـيصة, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح وعثمان بن الأسود, عن مـجاهد: الـخَبِـيثاتُ للْـخَبِـيثِـينَ والـخَبِـيثُونَ للْـخَبـيثاتِ والطّيّبـاتُ للطّيّبِـينَ والطّيّبُونَ للطّيّبـاتِ قال: الـخبـيثات من الكلام للـخبـيثـين من الناس والـخبـيثون من الناس للـخبـيثات من القول, والطيبـات من القول للطيبـين من الناس والطيبون من الناس للطيبـات من القول.
19606ـ قال: حدثنا عن خصيف, عن سعيد بن جبـير, قال: الـخَبِـيثَاتُ للْـخَبِـيثِـينَ والـخَبِـيثُونَ للْـخَبِـيثاتِ والطّيّبَـاتُ للطّيّبِـينَ والطّيّبُونَ للطّيّبَـاتِ قال: الـخبـيثات من القول للـخبـيثـين من الناس, والـخبـيثون من الناس للـخبـيثات من القول, والطيبـات من القول للطيبـين من الناس, والطيبون من الناس للطيبـات من القول.
19607ـ قال: ثنـي مـحمد بن بكر بن مقدم, قال: أخبرنا يحيى بن سعيد, عن عبد الـملك, يعنـي ابن أبـي سلـيـمان, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن سعيد بن جبـير, عن مـجاهد: والـخَبِـيثُونَ للْـخَبِـيثاتِ قال: الـخبـيثات من القول للـخبـيثـين من الناس.
19608ـ قال: حدثنا عبـاس بن الولـيد النّرسيّ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة: الـخبِـيثاتُ للْـخَبـيثِـينَ والـخَبِـيثُونَ للْـخَبِـيثاتِ والطّيّبـاتُ للطّيّبِـينَ والطّيّبُونَ للطّيّبـاتِ يقول: الـخبـيثات من القول والعمل للـخبـيثـين من الناس, والـخبـيثون من الناس للـخبـيثات من القول والعمل.
19609ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن طلـحة بن عمرو, عن عطاء, قال: الطيبـات للطيبـين, والطيبون للطيبـات, قال: الطيبـات من القول للطيبـين من الناس, والطيبون من الناس للطيبـات من القول, والـخبـيثات من القول للـخبـيثـين من الناس, والـخبـيثون من الناس للـخبـيثات من القول.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الـخبـيثات من النساء للـخبـيثـين من الرجال, والـخبـيثون من الرجال للـخبـيثات من النساء. ذكر من قال ذلك:
19610ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: الـخَبِـيثاتُ للْـخَبِـيثِـينَ والـخَبِـيثُونَ للْـخَبِـيثاتِ والطّيّبـاتُ للطّيّبِـينَ والطّيّبُونَ للطّيّبَـاتِ قال: نزلت فـي عائشة حين رماها الـمنافق بـالبهتان والفِرْية, فبرأها الله من ذلك. وكان عبد الله بن أُبـي هو خبـيث, وكان هو أولـى بأن تكون له الـخبـيثة ويكونَ لها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبـا, وكان أولـى أن تكون له الطيبة. وكانت عائشة الطيبة, وكانَ أولـى أن يكون لها الطيب. أُولَئكَ مُبَرّءُون مِـمّا يَقُولُونَ قال: هاهنا بُرّئت عائشة. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيـمٌ.
وأولـى هذه الأقوال فـي تأويـل الآية قول من قال: عَنَى بـالـخبـيثات: الـخبـيثات من القول وذلك قبـيحه وسيئه للـخبـيثـين من الرجال والنساء, والـخبـيثون من الناس للـخبـيثات من القول هم بها أولـى, لأنهم أهلها. والطيبـات من القول وذلك حسنه وجميـله للطيبـين من الناس, والطيبون من الناس للطيبـات من القول لأنهم أهلها وأحقّ بها.
وإنـما قلنا هذا القول أولـى بتأويـل الآية, لأن الاَيات قبل ذلك إنـما جاءت بتوبـيخ الله للقائلـين فـي عائشة الإفك, والرامين الـمـحصنات الغافلات الـمؤمنات, وإخبـارهم ما خَصّهم به علـى إفكهم, فكان ختـم الـخبر عن أولـى الفريقـين بـالإفك من الرامي والـمرمي به أشبه من الـخبر عن غيرهم.
وقوله: أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ يقول: الطيبون من الناس مبرّءون من خبـيثات القول, إن قالوها فإن الله يصفح لهم عنها ويغفرها لهم, وإن قـيـلت فـيهم ضرّت قائلها ولـم تضرّهم, كما لو قال الطيب من القول الـخبـيث من الناس لـم ينفعه الله به لأن الله لا يتقبّله, ولو قـيـلت له لضرّته لأنه يـلـحقه عارها فـي الدنـيا وذلها فـي الاَخرة. كما:
19611ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِـمّا يَقُولُونَ فمن كان طيبـا فهو مبرأ من كل قول خبـيث, يقول: يغفره الله ومن كان خبـيثا فهو مبرأ من كل قول صالـح, فإنه يردّه الله علـيه لا يقبله منه. وقد قـيـل: عُنِـي بقوله: أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِـمّا يَقُولُونَ عائشة وصفوان بن الـمعطّل الذي رُمِيت به. فعلـى هذا القول قـيـل «أولئك» فجمع, والـمراد «ذانك», كما قـيـل: فإن كان له إخوة, والـمراد أخوان.
وقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول لهؤلاء الطيبـين من الناس مغفرة من الله لذنوبهم, والـخبـيث من القول إن كان منهم. وَرِزْقٌ كَرِيـمٌ يقول: ولهم أيضا مع الـمغفرة عطية من الله كريـمة, وذلك الـجنة, وما أُعِدّ لهم فـيها من الكرامة. كما:
19612ـ حدثنا أبو زرْعة, قال: حدثنا العبـاس بن الولـيد النّرسيّ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيـمٌ مغفرة لذنوبهم ورزق كريـم فـي الـجنة.
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فقال بعضهم: تأويـله يا أيها الذين آمنوا لا تدخـلوا بـيوتا غير بـيوتكم حتـى تستأذنوا. ذكر من قال ذلك:
19613ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, أنه كان يقرأ: «لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتا عيرَ بُـيُوتِكُمْ حتـى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلّـمُوا عَلـى أهْلِها» قال: وإنـما «تستأنسوا» وَهَمٌ من الكتاب.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس فـي هذه الآية: لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتا غيرَ بُـيُوتِكُمْ حتـى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّـمُوا علـى أهْلِها وقال: إنـما هي خَطَأ من الكاتب: «حتـى تستأذنوا وتسلـموا».
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا وهب بن جرير, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير, بـمثله, غير أنه قال: إنـما هي حتـى تستأذنوا, ولكنها سقط من الكاتب.
19614ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا معاذ بن سلـيـمان, عن جعفر بن إياس, عن سعيد, عن ابن عبـاس: حتـى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّـمُوا عَلـى أهْلِها قال: أخطأ الكاتب. وكان ابن عبـاس يقرأ: «حتـى تَسْتأْذِنُوا وَتُسَلّـمُوا» وكان يقرؤها علـى قراءة أُبـيّ بن كعب.
19615ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش أنه كان يقرؤها: «حتـى تَسْتأذِنوا وتُسَلّـمُوا» قال سفـيان: وبلغنـي أن ابن عبـاس كان يقرؤها: «حتـى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلّـمُوا» وقال: إنها خَطَأ من الكاتب.
19616ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتا غيرَ بُـيُوتِكُمْ حتـى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّـمُوا علـى أهْلِها قال: الاستئناس: الاستئذان.
19617ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم, قال: فـي مصحف ابن مسعود: «حتـى تُسَلّـموا عَلـى أهْلِها وَتَسْتَأذِنُوا».
قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا جعفر بن إياس, عن سعيد, عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتا غيرَ بُـيُوتِكُمْ حتـى تُسَلّـمُوا عَلـى أهْلِها وَتَسْتأذِنُوا» قال: وإنـما تستأنسوا وَهم من الكُتّاب.
19618ـ قال: حدثنا هشيـم, قال مغيرة, قال مـجاهد: جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرّمْضاء, فأتـى فُسطاط امرأة من قريش, فقال: السلام علـيكم, أدخـل؟ فقالت: ادخـل بسلام فأعاد, فأعادت, وهو يراوح بـين قدميه, قال: قولـي ادْخـل قالت: ادخـل فدخـل.
19619ـ قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا منصور, عن ابن سيرين, وأخبرنا يونس بن عبـيد, عن عمرو بن سعيد الثقـفـيّ: أنّ رجلاً استأذن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: أَلِـج أو أَنَلِـج؟ فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها رَوْضة: «قومي إلـى هَذَا فَكَلّـمِيهِ, فإنّهُ لا يُحْسِنُ يَسْأْذِنُ, فَقُولـي لَهْ يَقُولُ: السّلامُ عَلَـيْكُمْ, أدْخُـل؟» فسمعها الرجل, فقالها, فقال: «أُدْخُـلْ».
19620ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس, قوله: حتـى تَسْتأْنِسوا قال: الاستئذان, ثم نُسخ واستثنـي: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُـلُوا بُـيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ.
19621ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا أبو حمزة, عن الـمغيرة, عن إبراهيـم, قوله: لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتا غيرَ بُـيُوتِكُمْ قال: حتـى تسلّـموا علـى أهلها وتستأذنوا.
19622ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة: حتـى تَسْتَأْنِسُوا قال: حتـى تستأذنوا وتسلّـموا.
19623ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أشعث بن سوار, عن كردوس, عن ابن مسعود, قال: علـيكم أن تستأذنوا علـى أمهاتكم وأَخَواتكم.
قال أشعث عن عديّ بن ثابت: أن امرأة من الأنصار, قالت: يا رسول الله, إنـي أكون فـي منزلـي علـى الـحال التـي لا أحبّ أن يرانـي أحد علـيها والد ولا ولد, وإنه لا يزال يدخـل علـيّ رجل من أهلـي وأنا علـى تلك الـحال؟ قال: فنزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتا غيرَ بُـيُوتِكُمْ حتـى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّـمُوا علـى أهْلِها... الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: حتـى تُؤْنِسوا أهل البـيت بـالتنـحنـح والتنـخم وما أشبهه, حتـى يعلـموا أنكم تريدون الدخول علـيهم. ذكر من قال ذلك:
19624ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بزة, عن مـجاهد, فـي قوله: لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتا غيرَ بُـيُوتِكُمْ حتـى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّـمُوا عَلـى أهْلِها قال: حتـى تتنـحنـحوا وتتنـخموا.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
19625ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: حتـى تَسْتَأْنسُوا قال: حتـى تـجرّسوا وتسلـموا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: حتـى تَسْتَأْنِسُوا قال: تَنَـحْنـحوا وتَنَـخّموا.
19626ـ قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: سمعت عطاء بن أبـي ربـاح يخبر عن ابن عبـاس, قال: ثلاث آيات قد جحدهنّ الناس, قال الله: إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم شأنا. قال: والإذن كله قد جحده الناس فقلت له: أستأذن علـى أَخَواتـي أيتامٍ فـي حِجري معي فـي بـيت واحد؟ قال: نعم, فرددت علـى من حضرنـي, فأبى, قال: أتـحبّ أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فـاستأذِن فراجعته أيضا, قال: أتـحبّ أن تطيع الله؟ قلت: نعم, قال: فـاستأذِن فقال لـي سعيد بن جُبـير: إنك لَتُرَدّد علـيه قلت: أردت أن يرخص لـي.
19627ـ قال ابن جُرَيج: وأخبرنـي ابن طاوس, عن أبـيه, قال: ما من امرأة أكره إلـيّ أن أرى كأنه يقول عريتها أو عريانة من ذات مـحرم. قال: وكان يشدّد فـي ذلك. قال ابن جُرَيج, وقال عطاء بن أبـي ربـاح: وإذا بلغ الأطفـال منكم الـحلـم فلـيستأذنوا, فواجب علـى الناس أجمعين إذا احتلـموا أن يستأذنوا علـى من كان من الناس. قلت لعطاء: أواجب علـى الرجل أن يستأذن علـى أمه ومَنْ وراءَها من ذات قرابته؟ قال: نعم. قلت: أَبِرّ وَجَب؟ قال قوله: وَإذَا بَلَغَ الأطْفـالُ مِنْكُمُ الـحُلُـمَ فَلْـيَسْتأْذِنُوا. قال ابن جُرَيج: وأخبرنـي ابن زياد: أن صفوان مولـى لبنـي زُهْرة, أخبره عن عطاء بن يسار: أن رجلاً قال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: أَسْتأذِنُ علـى أمي؟ قال: «نَعَمْ». قال: إنها لـيس لها خادم غيري, أفأستأذن علـيها كلـما دخـلت؟ قال: «أتُـحبّ أنْ تَراها عُرْيانَةً؟» قال الرجل: لا. قال: «فـاسْتأْذِنْ عَلَـيْها». قال ابن جُرَيج عن الزهريّ, قال: سمعت هزيـل بن شُرَحبـيـل الأَوْدِيّ الأعمى, أنه سمع ابن مسعود يقول: علـيكم الإذن علـى أمهاتكم.
19628ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل علـى امرأته؟ قال: لا.
19629ـ حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مـحمد بن حازم, عن الأعمش, عن عمرو بن مرّة, عن يحيى بن الـجزّار, عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود, عن زينب قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فـانتهى إلـى البـاب, تنـحنـح وبَزَق, كراهة أن يَهْجُم منا علـى أمر يكرهه.
19630ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُـلُوا بُـيُوتا غيرَ بُـيُوتِكُمْ حتـى تَسْتأْنِسُوا قال: الاستئناس: التنـحنـح والتـجرّس, حتـى يعرفوا أن قد جاءهم أحد. قال: والتـجرّس: كلامه وتنـحنـحه.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن الاستئناس: الاستفعال من الأنس, وهو أن يستأذن أهل البـيت فـي الدخول علـيهم, مخبرا بذلك من فـيه, وهل فـيه أحد؟ ولـيؤذنهم أنه داخـل علـيهم, فلـيأنس إلـى إذنهم له فـي ذلك, ويأنسوا إلـى استئذانه إياهم. وقد حُكِي عن العرب سماعا: اذهب فـاستأنس, هل ترى أحدا فـي الدار؟ بـمعنى: انظر هل ترى فـيها أحدا؟
فتأويـل الكلام إذن, إذا كان ذلك معناه: يا أيها الذين آمنوا لا تدخـلوا بـيوتا غير بـيوتكم حتـى تسلـموا وتستأذنوا, وذلك أن يقول أحدكم: السلام علـيكم, أدخـل؟ وهو من الـمقدم الذي معناه التأخير, إنـما هو: حتـى تسلـموا وتستأذنوا, كما ذكرنا من الرواية عن ابن عبـاس.
وقوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يقول: استئناسكم وتسلـيـمكم علـى أهل البـيت الذي تريدون دخوله, فإن دخولكموه خير لكم لأنكم لا تدرون أنكم إذا دخـلتـموه بغير إذن, علـى ماذا تهجُمون؟ علـى ما يسوءكم أو يسرّكم؟ وأنتـم إذا دخـلتـم بإذن, لـم تدخـلوا علـى ما تكرهون, وأدّيتـم بذلك أيضا حقّ الله علـيكم فـي الاستئذان والسلام. وقوله: لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول: لتتذكروا بفعلكم ذلك أو الله علـيكم, واللازم لكم من طاعته, فتطيعوه