سورة ص | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 453 من المصحف
آياتها ست وثمانون، وقيل خمس وثمانون، وقيل ثمان وثمانون آية وهي مكية: قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة ص بمكة وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: " لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقى عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم. وتقول وتقول، قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً، قالوا فما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: "أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب" فنزل فيهم "ص والقرآن ذي الذكر" إلى قوله: "بل لما يذوقوا عذاب"." قوله: 1- "ص" قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور فإنها ساكنة الأواخر على الوقف. وقرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن أبي عبلة وأبو السماك بكسر الدال من غير تنوين، ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين، وقيل وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض -والمعنى صاد القرآن بعملك: أي عارضة بعملك وقابله فاعمل به، وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري وقال: إنه فسر قراءته هذه بهذا، وعنه أن المعنى: اتله وتعرض لقراءته. وقرأ عيسى بن عمر: الصاد بفتح الدال، والفتح لالتقاء الساكنين، وقيل نصب على الإغراء. وقيل معناه: صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وروي عن ابن أبي إسحاق أيضاً أنه قرأ صاد بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات. وقرأ هارون الأعور وابن السميفع صاد بالصم من غير تنوين على البناء نحو منذ وحيث. وقد اختلف في معنى صاد فقال الضحاك: معناه صدق الله. وقال عطاء: صدق محمد. وقال سعيد بن جبير: هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقال محمد بن كعب: هو مفتاح اسم الله. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الله. وروي عنه أنه قال: هو اسم من أسماء الرحمن. وقال مجاهد: هو فاتحة السورة. وقيل هو مما استأثر الله بعلمه، وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة. قيل وهو إما اسم للحروف مسروداً على نمط التعبد، أو اسم للسورة، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار اذكر أو اقرأ، والواو في قوله: "والقرآن ذي الذكر" هي واو القسم، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره وعلو محله، ومعنى "ذي الذكر" أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شيء. قال مقاتل: معنى "ذي الذكر" ذي البيان. وقال الضحاك: ذي الشرف كما في قوله: "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم" أي شرفكم، وقيل: أي ذي الموعظة. واختلف في جواب هذا القسم ما هو؟ فقال الزجاج والكسائي والكوفيون غير الفراء: إنه قوله: "إن ذلك لحق" وقال الفراء: لا نجده مستقيماً لتأخره جداً عن قوله: "والقرآن" ورجح هو وثعلب أن الجواب قوله: "كم أهلكنا" وقال الأخفش: الجواب هو "إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب" وقيل هو صاد، لأن معناه حق، فهو جواب لقوله والقرآن كما تقول حقاً والله، وجب والله. ذكره ابن الأنبارين وروي أيضاً عن ثعلب والفراء، وهو مبني على أن جواب القسم يجوز تقدمه وهو ضعيف. وقيل الجواب محذوف، والتقدير: والقرآن ذي الذكر لتبعثن ونحو ذلك. وقال ابن عطية تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار، والقول بالحذف أولى. وقيل إن قوله ص مقسم به، وعلى هذا القول تكون الواو في والقرآن للعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه، وأنه حق، وأنه ليس بمحل للريب.
قال سبحانه: 2- "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" فأضرب عن ذلك وكأنه قال لا ريب فيه قطعاً، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه. بل هم في عزة عن قبول الحق: أي تكبر وتجبر. وشقاق: أي وامتناع عن قبول الحق، والعزة عند العرب: الغلبة والقهر، يقال: من عز بز أي من غلب سلب، ومنه و "عزني في الخطاب" أي غلبني، ومنه قول الشاعر: يعز على الطريق بمنكبيه كما انترك الخليع على القداح والشقاق: مأخوذ من الشق وقد تقدم بيانه.
ثم خوفهم سبحانه وهددهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار فقال 3- "كم أهلكنا من قبلهم من قرن" يعني الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل: أي كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين كانوا أمنع من هؤلاء وأشد قوة وأكثر أموالاً، وكم هي الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، و من قرن تمييز، و من في من قبلهم هي لابتداء الغاية "فنادوا ولات حين مناص" النداء هنا: هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص. قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت والتأخر. ولات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن. وقال النحويون: هي لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم: رب وربت، وثم وثمت قال الفراء: النوص التأخر، وأنشد قول امرئ القيس: أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص قال: يقال يناص عن قرنه ينوص نوصاً: أي فر وزاغ. قال الفراء: ويقال ناص ينوص: إذا تقدم. وقيل المعنى: أنه قال بعضهم لبعض مناص: أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص، فقال الله: "ولات حين مناص" قال سيبويه: لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر: أي ليس حيننا حين مناص. قال الزجاج: التقدير وليس أواننا. قال ابن كيسان: والقول كما قال سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه قال المبرد والأخفش. قال الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش: والتاء تكتب منقطعة عن حين، وكذلك هي في المصاحف. وقال أبو عبيد: تكتب متصلة بحين، فيقال ولا تحين ومنه قول أبي وجرة السعدي: العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر: تذكر حب ليلى لات حينا وأمسى الشيب قد قطع القرينا قال أبو عبيد: لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن. قلت: بل قد يزيدونها في غير ذلك كما في قول الشاعر: فلتعرفن خلائقاً مشمولة ولتندمن ولات ساعة مندم وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلاً به على أن من العرب من يخفض بها، وجملة "ولات حين مناص" في محل نصب على الحال من ضمير نادوا. قرأ الجمهور لات بفتح التاء، وقرئ لات بالكسر كجير.
4- "وعجبوا أن جاءهم منذر منهم" أي عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزة وشقاق أن جاءهم منذر منهم: أي رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمروا على الكفر، وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي من أن جاءهم، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم "وقال الكافرون هذا ساحر كذاب" قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر: أي هذا المدعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات كذاب فيما يدعيه من أن الله أرسله. قيل ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالواه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر.
ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من التوحيد وما نفاه من الشركاء لله فقالوا: 5- "أجعل الآلهة إلهاً واحداً" أي صيرها إلهاً واحداً وقصرها على الله سبحانه "إن هذا لشيء عجاب" أي لأمر بالغ العجاب بالضم والعجاب بالتشديد أكثر منه قرأ الجمهور عجاب مخففاً. وقرأ علي والسلمي وعيسى بن عمر وابن مقسم بتشديد الجيم. قال مقاتل: عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة، قيل والعجاب بالتخفيف والتشديد يدلان على أنه قد تجاوز الحد في العجب، كما يقال الطويل الذي فيه طول، والطوال الذي قد تجاوز حد الطول وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدد الجيم لا بالمخفف، وقد قدمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات.
6- "وانطلق الملأ منهم" المراد بالملأ: الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز أي انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين "أن امشوا" أي قائلين لبعضهم بعضاً امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه "واصبروا على آلهتكم" أي اثبتوا على عبادتها، وقيل المعنى: وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام امشوا واصبروا على آلهتكم، و أن في قوله: "أن امشوا" هي المفسرة للقول المقدر، أو لقوله وانطلق لأنه مضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر أو للمذكور: أي بأن امشوا. وقيل المراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها: أي اجتمعوا وأكثروا، وهو بعيد جداً، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول، وجملة "إن هذا لشيء يراد" تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر: أي يريده محمد بنا وبآلهتنا، ويود تمامه ليعلو علينا، وتكون له أتباعاً فيتحكم فينا بما يريد، فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه والتنفير عنه. وقيل المعنى: إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده فهو كائن لا محالة، فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى: إن دينكم لشيء يراد: أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه، والأول أولى.
7- "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة" أي ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة. وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام، كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي. وقال مجاهد: يعنون ملة قريش، وروي مثله عن قتادة أيضاً. وقال الحسن: المعنى ما سمعنا: أن هذا يكون آخر الزمان. وقيل المعنى: ما سمعنا من اليهود والنصارى أن محمد رسول "إن هذا إلا اختلاق" أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه.
ثم استنكروا أن يخص الله ورسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا: 8- "أأنزل عليه الذكر من بيننا" والاستفهام للإنكار: أي كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والأشراف. قال الزجاج: قالوا كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ونحن أكبر سناً وأعظم شرفاً منه، وهذا مثل قولهم: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم بين السبب الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فقال: "بل هم في شك من ذكري" أي من القرآن أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله "بل لما يذوقوا عذاب" أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن ولم يشكوا فيه.
9- "أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب" أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا، فما لهم ولإنكار ما تفضر الله به على هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته. والمعنى: بل أعندهم، لأن أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة. والعزيز الغالب القاهر. والوهاب: المعطي بغير حساب.
10- "أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما" أي بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء، وقوله: "فليرتقوا في الأسباب" جواب شرط محذوف: أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء وإلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون، أو فليصعدوا، وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم. والأسباب: أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها. قاله مجاهد وقتادة، ومنه قول زهير: ولو رام أسبابا السماء بسلم قال الربيع بن أنس: الأسباب أدق من الشعر، وأشد من الحديد ولكن لا ترى. وقال السدي "في الأسباب" في الفضل والدين. وقيل فليعملوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة وهو قول أبي عبيدة. وقيل الأسباب الحبال: يعني إن وجدوا حبالاً يصعدون فيها إلى السماء فعلوا، والأسباب عند أهل اللغة كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان. وفي هذا الكلام تهكم بهم وتعجيز لهم.
11- "جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب" هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم والظفر بهم، وجند مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم جند، يعني الكفار مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بهم ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك من الكيد، و ما في قوله: ما هنالك هي صفة لجند لإفادة التعظيم والتحقير: أي جند أي جند. وقيل هي زائدة، يقال هزمت الجيش كسرته، وتهزمت القرية: إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدم، وهو قوله: "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإن أسلب عزهم وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك ولله الحمد في بدر وفيما بعده من مواطن الله. وقد أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن "ص" فقال: لا ندري ما هو. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ص محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عنه "والقرآن ذي الذكر" قال: ذي الشرف. وأخرج أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: "فنادوا ولات حين مناص" قال: ليس بحين نزو ولا فرار. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه في الآية قال: نادوا النداء حين ينفعهم، وأنشد: تذكرت ليلى لات حين تذكر وقد بنت منها والمناص بعيد وأخرج عنه أيضاً في الآية قال: ليس هذا حين زوال. وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عنه أيضاً قال: لا حين فرار. وأخرج بن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وانطلق الملأ منهم" الآية قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه "وانطلق الملأ منهم" قال: أبو جهل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة" قال: النصرانية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "فليرتقوا في الأسباب" قال: في السماء.
لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أمثالهم ممن تقدمهم وعمل عملهم من الكفر والتكذيب، فقال: 12- "كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد" قال المفسرون: كانت له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض. وقيل المراد بالأوتاد: الجموع والجنود الكثيرة، يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون سلطانه كما تقوي الأوتاد ما ضربت عليه، فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا. قال ابن قتيبة: العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون ملكاً دائماً شديداً، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد. وقيل المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم: أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة. قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتاداً، والأوتاد جمع وتد أفصحها فتح الواو وكسر التاء، ويقال وتد بفتحها وود بإدغام التاء في الدال وودت. قال الأصمعي ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل وأنشد: لاقت على الما جديلاً واتدا ولم يكن يخلفها المواعدا
13- "وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة" الأيكة الغيضة، وقد تقدم تفسيرها واختلاف القراء في قراءتها في سورة الشعراء، ومعنى "أولئك الأحزاب" أنهم الموصوفون بالقوة والكثرة كقولهم: فلان هو الرجل. وقريش وإن كانوا حزباً كما قال الله سبحانه فيما تقدم "جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب" ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً، وأقوى أبداناً، وأوسع أموالاً وأعماراً، وهذه الجملة يجوز أن تكون خبراً، والمبتدأ قوله وعاد كذا قال أبو البقاء وهو ضعيف، بل الظاهر أن عاد وما بعده معطوفات على قوم نوح، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف، أو بدلاً من الأمم المذكورة.
14- "إن كل إلا كذب الرسل" إن هي النافية، والمعنى: ما كل حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل، لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد تكذيب كل حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي كل أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل "فحق عقاب" أي فحق عليهم عقابي بتكذيبهم، ومعنى حق: ثبت ووجب، وإن تأخر فكأنه واقع بهم، وكل ما هو آت قريب. قرأ يعقوب بإثبات الياء في عقاب وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي.
15- "وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة" أي ما ينتظرون إلا صيحة، وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة. وقيل هي النفخة الثانية، وعلى الأول المراد من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار، وعلى الثاني المراد كفار الأمم المذكورة: أي ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية. وقيل المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر: صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان وجملة "ما لها من فواق" في محل نصب صفة لصيحة. قال الزجاج: فواق وفواق بفتح الفاء وضمها أي ما لها من رجوع، والفواق ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتق من الرجوع أيضاً، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، وأفاق من مرضه: أي رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد ومقاتل: إن الفواق الرجوع. وقال قتادة ما لها من مثنوية. وقال السدي: ما لها من إفاقة، وقيل ما لها من مرد. قال الجوهري: ما لها من نظرة وراحة وإفاقة، ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم، فإذا جاءت لم ترجع ولا ترد عنهم ولا تصرف منهم ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، ومنه قول الأعشى: حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت جاءت لترضع شق النفس لو رضعا والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وجمعها فيق وأفواق. قرأ حمزة والكسائي "ما لها من فواق" بضم الفاء وقرأ الباقون بفتحها. قال الفراء وأبو عبيدة: الفواق بفتح الفاء الراحة: أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشي عليه، وبالضم الانتظار.
16- "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب" لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا هذه المقالة استهزاءاً وسخرية، والقط في اللغة النصيب، من القط، وهو القطع، وبهذا قال قتادة وسعيد بن جبير. قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك قط. قال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز، والجمع القطوط، ومنه قول الأعشى: ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق ومعنى يأفق يصلح، ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله "ويستعجلونك بالعذاب". وقيل السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن حبير والسدي. وقال أبو العالية والكلبي ومقاتل: لما نزل " فأما من أوتي كتابه بيمينه " "وأما من أوتي كتابه بشماله" قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب.
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال 17- "اصبر على ما يقولون" من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها، وهذه الآية منسوخة بآية السيف "واذكر عبدنا داود ذا الأيد" لما فرغ من ذكر قرون الضلالة، وأمم الكفر والتكذيب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته بذكر قصة داود وما بعدها. ومعنى "اذكر عبدنا داود" اذكر قصته فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوة ومنه رجل أيد: أي قوي، وتأيد الشيء: تقوى والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوة على العباد. قال الزجاج: وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة، ومن قوته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي نصف الليل وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وجملة "إنه أواب" تعليل لكونه ذا الأيد، والأواب: الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه. وقيل: معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأول، يقال آب يؤوب: إذا رجع.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 453
452آياتها ست وثمانون، وقيل خمس وثمانون، وقيل ثمان وثمانون آية وهي مكية: قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة ص بمكة وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: " لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقى عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم. وتقول وتقول، قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً، قالوا فما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: "أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب" فنزل فيهم "ص والقرآن ذي الذكر" إلى قوله: "بل لما يذوقوا عذاب"." قوله: 1- "ص" قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور فإنها ساكنة الأواخر على الوقف. وقرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن أبي عبلة وأبو السماك بكسر الدال من غير تنوين، ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين، وقيل وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض -والمعنى صاد القرآن بعملك: أي عارضة بعملك وقابله فاعمل به، وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري وقال: إنه فسر قراءته هذه بهذا، وعنه أن المعنى: اتله وتعرض لقراءته. وقرأ عيسى بن عمر: الصاد بفتح الدال، والفتح لالتقاء الساكنين، وقيل نصب على الإغراء. وقيل معناه: صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وروي عن ابن أبي إسحاق أيضاً أنه قرأ صاد بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات. وقرأ هارون الأعور وابن السميفع صاد بالصم من غير تنوين على البناء نحو منذ وحيث. وقد اختلف في معنى صاد فقال الضحاك: معناه صدق الله. وقال عطاء: صدق محمد. وقال سعيد بن جبير: هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقال محمد بن كعب: هو مفتاح اسم الله. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الله. وروي عنه أنه قال: هو اسم من أسماء الرحمن. وقال مجاهد: هو فاتحة السورة. وقيل هو مما استأثر الله بعلمه، وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة. قيل وهو إما اسم للحروف مسروداً على نمط التعبد، أو اسم للسورة، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار اذكر أو اقرأ، والواو في قوله: "والقرآن ذي الذكر" هي واو القسم، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره وعلو محله، ومعنى "ذي الذكر" أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شيء. قال مقاتل: معنى "ذي الذكر" ذي البيان. وقال الضحاك: ذي الشرف كما في قوله: "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم" أي شرفكم، وقيل: أي ذي الموعظة. واختلف في جواب هذا القسم ما هو؟ فقال الزجاج والكسائي والكوفيون غير الفراء: إنه قوله: "إن ذلك لحق" وقال الفراء: لا نجده مستقيماً لتأخره جداً عن قوله: "والقرآن" ورجح هو وثعلب أن الجواب قوله: "كم أهلكنا" وقال الأخفش: الجواب هو "إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب" وقيل هو صاد، لأن معناه حق، فهو جواب لقوله والقرآن كما تقول حقاً والله، وجب والله. ذكره ابن الأنبارين وروي أيضاً عن ثعلب والفراء، وهو مبني على أن جواب القسم يجوز تقدمه وهو ضعيف. وقيل الجواب محذوف، والتقدير: والقرآن ذي الذكر لتبعثن ونحو ذلك. وقال ابن عطية تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار، والقول بالحذف أولى. وقيل إن قوله ص مقسم به، وعلى هذا القول تكون الواو في والقرآن للعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه، وأنه حق، وأنه ليس بمحل للريب.
قال سبحانه: 2- "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" فأضرب عن ذلك وكأنه قال لا ريب فيه قطعاً، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه. بل هم في عزة عن قبول الحق: أي تكبر وتجبر. وشقاق: أي وامتناع عن قبول الحق، والعزة عند العرب: الغلبة والقهر، يقال: من عز بز أي من غلب سلب، ومنه و "عزني في الخطاب" أي غلبني، ومنه قول الشاعر: يعز على الطريق بمنكبيه كما انترك الخليع على القداح والشقاق: مأخوذ من الشق وقد تقدم بيانه.
ثم خوفهم سبحانه وهددهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار فقال 3- "كم أهلكنا من قبلهم من قرن" يعني الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل: أي كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين كانوا أمنع من هؤلاء وأشد قوة وأكثر أموالاً، وكم هي الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، و من قرن تمييز، و من في من قبلهم هي لابتداء الغاية "فنادوا ولات حين مناص" النداء هنا: هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص. قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت والتأخر. ولات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن. وقال النحويون: هي لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم: رب وربت، وثم وثمت قال الفراء: النوص التأخر، وأنشد قول امرئ القيس: أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص قال: يقال يناص عن قرنه ينوص نوصاً: أي فر وزاغ. قال الفراء: ويقال ناص ينوص: إذا تقدم. وقيل المعنى: أنه قال بعضهم لبعض مناص: أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص، فقال الله: "ولات حين مناص" قال سيبويه: لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر: أي ليس حيننا حين مناص. قال الزجاج: التقدير وليس أواننا. قال ابن كيسان: والقول كما قال سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه قال المبرد والأخفش. قال الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش: والتاء تكتب منقطعة عن حين، وكذلك هي في المصاحف. وقال أبو عبيد: تكتب متصلة بحين، فيقال ولا تحين ومنه قول أبي وجرة السعدي: العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر: تذكر حب ليلى لات حينا وأمسى الشيب قد قطع القرينا قال أبو عبيد: لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن. قلت: بل قد يزيدونها في غير ذلك كما في قول الشاعر: فلتعرفن خلائقاً مشمولة ولتندمن ولات ساعة مندم وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلاً به على أن من العرب من يخفض بها، وجملة "ولات حين مناص" في محل نصب على الحال من ضمير نادوا. قرأ الجمهور لات بفتح التاء، وقرئ لات بالكسر كجير.
4- "وعجبوا أن جاءهم منذر منهم" أي عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزة وشقاق أن جاءهم منذر منهم: أي رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمروا على الكفر، وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي من أن جاءهم، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم "وقال الكافرون هذا ساحر كذاب" قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر: أي هذا المدعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات كذاب فيما يدعيه من أن الله أرسله. قيل ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالواه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر.
ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من التوحيد وما نفاه من الشركاء لله فقالوا: 5- "أجعل الآلهة إلهاً واحداً" أي صيرها إلهاً واحداً وقصرها على الله سبحانه "إن هذا لشيء عجاب" أي لأمر بالغ العجاب بالضم والعجاب بالتشديد أكثر منه قرأ الجمهور عجاب مخففاً. وقرأ علي والسلمي وعيسى بن عمر وابن مقسم بتشديد الجيم. قال مقاتل: عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة، قيل والعجاب بالتخفيف والتشديد يدلان على أنه قد تجاوز الحد في العجب، كما يقال الطويل الذي فيه طول، والطوال الذي قد تجاوز حد الطول وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدد الجيم لا بالمخفف، وقد قدمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات.
6- "وانطلق الملأ منهم" المراد بالملأ: الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز أي انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين "أن امشوا" أي قائلين لبعضهم بعضاً امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه "واصبروا على آلهتكم" أي اثبتوا على عبادتها، وقيل المعنى: وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام امشوا واصبروا على آلهتكم، و أن في قوله: "أن امشوا" هي المفسرة للقول المقدر، أو لقوله وانطلق لأنه مضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر أو للمذكور: أي بأن امشوا. وقيل المراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها: أي اجتمعوا وأكثروا، وهو بعيد جداً، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول، وجملة "إن هذا لشيء يراد" تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر: أي يريده محمد بنا وبآلهتنا، ويود تمامه ليعلو علينا، وتكون له أتباعاً فيتحكم فينا بما يريد، فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه والتنفير عنه. وقيل المعنى: إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده فهو كائن لا محالة، فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى: إن دينكم لشيء يراد: أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه، والأول أولى.
7- "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة" أي ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة. وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام، كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي. وقال مجاهد: يعنون ملة قريش، وروي مثله عن قتادة أيضاً. وقال الحسن: المعنى ما سمعنا: أن هذا يكون آخر الزمان. وقيل المعنى: ما سمعنا من اليهود والنصارى أن محمد رسول "إن هذا إلا اختلاق" أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه.
ثم استنكروا أن يخص الله ورسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا: 8- "أأنزل عليه الذكر من بيننا" والاستفهام للإنكار: أي كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والأشراف. قال الزجاج: قالوا كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ونحن أكبر سناً وأعظم شرفاً منه، وهذا مثل قولهم: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم بين السبب الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فقال: "بل هم في شك من ذكري" أي من القرآن أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله "بل لما يذوقوا عذاب" أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن ولم يشكوا فيه.
9- "أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب" أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا، فما لهم ولإنكار ما تفضر الله به على هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته. والمعنى: بل أعندهم، لأن أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة. والعزيز الغالب القاهر. والوهاب: المعطي بغير حساب.
10- "أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما" أي بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء، وقوله: "فليرتقوا في الأسباب" جواب شرط محذوف: أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء وإلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون، أو فليصعدوا، وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم. والأسباب: أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها. قاله مجاهد وقتادة، ومنه قول زهير: ولو رام أسبابا السماء بسلم قال الربيع بن أنس: الأسباب أدق من الشعر، وأشد من الحديد ولكن لا ترى. وقال السدي "في الأسباب" في الفضل والدين. وقيل فليعملوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة وهو قول أبي عبيدة. وقيل الأسباب الحبال: يعني إن وجدوا حبالاً يصعدون فيها إلى السماء فعلوا، والأسباب عند أهل اللغة كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان. وفي هذا الكلام تهكم بهم وتعجيز لهم.
11- "جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب" هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم والظفر بهم، وجند مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم جند، يعني الكفار مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بهم ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك من الكيد، و ما في قوله: ما هنالك هي صفة لجند لإفادة التعظيم والتحقير: أي جند أي جند. وقيل هي زائدة، يقال هزمت الجيش كسرته، وتهزمت القرية: إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدم، وهو قوله: "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإن أسلب عزهم وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك ولله الحمد في بدر وفيما بعده من مواطن الله. وقد أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن "ص" فقال: لا ندري ما هو. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ص محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عنه "والقرآن ذي الذكر" قال: ذي الشرف. وأخرج أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: "فنادوا ولات حين مناص" قال: ليس بحين نزو ولا فرار. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه في الآية قال: نادوا النداء حين ينفعهم، وأنشد: تذكرت ليلى لات حين تذكر وقد بنت منها والمناص بعيد وأخرج عنه أيضاً في الآية قال: ليس هذا حين زوال. وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عنه أيضاً قال: لا حين فرار. وأخرج بن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وانطلق الملأ منهم" الآية قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه "وانطلق الملأ منهم" قال: أبو جهل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة" قال: النصرانية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "فليرتقوا في الأسباب" قال: في السماء.
لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أمثالهم ممن تقدمهم وعمل عملهم من الكفر والتكذيب، فقال: 12- "كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد" قال المفسرون: كانت له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض. وقيل المراد بالأوتاد: الجموع والجنود الكثيرة، يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون سلطانه كما تقوي الأوتاد ما ضربت عليه، فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا. قال ابن قتيبة: العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون ملكاً دائماً شديداً، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد. وقيل المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم: أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة. قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتاداً، والأوتاد جمع وتد أفصحها فتح الواو وكسر التاء، ويقال وتد بفتحها وود بإدغام التاء في الدال وودت. قال الأصمعي ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل وأنشد: لاقت على الما جديلاً واتدا ولم يكن يخلفها المواعدا
13- "وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة" الأيكة الغيضة، وقد تقدم تفسيرها واختلاف القراء في قراءتها في سورة الشعراء، ومعنى "أولئك الأحزاب" أنهم الموصوفون بالقوة والكثرة كقولهم: فلان هو الرجل. وقريش وإن كانوا حزباً كما قال الله سبحانه فيما تقدم "جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب" ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً، وأقوى أبداناً، وأوسع أموالاً وأعماراً، وهذه الجملة يجوز أن تكون خبراً، والمبتدأ قوله وعاد كذا قال أبو البقاء وهو ضعيف، بل الظاهر أن عاد وما بعده معطوفات على قوم نوح، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف، أو بدلاً من الأمم المذكورة.
14- "إن كل إلا كذب الرسل" إن هي النافية، والمعنى: ما كل حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل، لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد تكذيب كل حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي كل أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل "فحق عقاب" أي فحق عليهم عقابي بتكذيبهم، ومعنى حق: ثبت ووجب، وإن تأخر فكأنه واقع بهم، وكل ما هو آت قريب. قرأ يعقوب بإثبات الياء في عقاب وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي.
15- "وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة" أي ما ينتظرون إلا صيحة، وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة. وقيل هي النفخة الثانية، وعلى الأول المراد من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار، وعلى الثاني المراد كفار الأمم المذكورة: أي ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية. وقيل المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر: صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان وجملة "ما لها من فواق" في محل نصب صفة لصيحة. قال الزجاج: فواق وفواق بفتح الفاء وضمها أي ما لها من رجوع، والفواق ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتق من الرجوع أيضاً، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، وأفاق من مرضه: أي رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد ومقاتل: إن الفواق الرجوع. وقال قتادة ما لها من مثنوية. وقال السدي: ما لها من إفاقة، وقيل ما لها من مرد. قال الجوهري: ما لها من نظرة وراحة وإفاقة، ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم، فإذا جاءت لم ترجع ولا ترد عنهم ولا تصرف منهم ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، ومنه قول الأعشى: حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت جاءت لترضع شق النفس لو رضعا والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وجمعها فيق وأفواق. قرأ حمزة والكسائي "ما لها من فواق" بضم الفاء وقرأ الباقون بفتحها. قال الفراء وأبو عبيدة: الفواق بفتح الفاء الراحة: أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشي عليه، وبالضم الانتظار.
16- "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب" لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا هذه المقالة استهزاءاً وسخرية، والقط في اللغة النصيب، من القط، وهو القطع، وبهذا قال قتادة وسعيد بن جبير. قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك قط. قال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز، والجمع القطوط، ومنه قول الأعشى: ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق ومعنى يأفق يصلح، ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله "ويستعجلونك بالعذاب". وقيل السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن حبير والسدي. وقال أبو العالية والكلبي ومقاتل: لما نزل " فأما من أوتي كتابه بيمينه " "وأما من أوتي كتابه بشماله" قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب.
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال 17- "اصبر على ما يقولون" من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها، وهذه الآية منسوخة بآية السيف "واذكر عبدنا داود ذا الأيد" لما فرغ من ذكر قرون الضلالة، وأمم الكفر والتكذيب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته بذكر قصة داود وما بعدها. ومعنى "اذكر عبدنا داود" اذكر قصته فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوة ومنه رجل أيد: أي قوي، وتأيد الشيء: تقوى والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوة على العباد. قال الزجاج: وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة، ومن قوته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي نصف الليل وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وجملة "إنه أواب" تعليل لكونه ذا الأيد، والأواب: الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه. وقيل: معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأول، يقال آب يؤوب: إذا رجع.
الصفحة رقم 453 من المصحف تحميل و استماع mp3