تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 454 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 454

453

18- "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق" أي يقدسن الله سبحانه وينزهنه عما لا يليق به. وجملة يسبحن في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان والمعجزة، وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال. وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، فهذا معنى تسبيح الجبال، والأول أولى. وقيل معنى يسبحن يصلين، و معه متعلق بسخرنا. ومعنى بالعشي والإشراق قال الكلبي: غدوة وعشية، يقال أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وذكل وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها. قال الزجاج: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت.
19- "والطير محشورة" معطوف على الجبال، وانتصاب محشورة على الحال من الطير: أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة: أي مجموعة إليه تسبح الله معه. قيل كانت تجمعها إليه الملائكة. وقيل كانت تجمعها الريح "كل له أواب" أي كل واحد من داود والجبال والطير رجاع إلى طاعة الله وأمره، والضمير في له راجع إلى الله عز وجل. وقيل الضمير لداود: أي لأجل تسبيح داود مسبح، فوضع أواب موضع مسبح، والأول أولى. وقد قدمنا أن الأواب: الكثير الرجوع إلى الله سبحانه.
20- "وشددنا ملكه" قويناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم. وقيل بكثرة الجنود "وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب" المراد بالحكمة النبوة والمعرفة بكل ما يحكم به. وقال مقاتل: الفهم والعلم. وقال مجاهد: العدل. وقال أبو العالية: العلم بكتاب الله. وقال شريح: السنة. والمراد بالفصل الخطاب الفصل في القضاء وبه قال الحسن والكلبي ومقاتل. وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود والإيمان لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذا. وقيل هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
21- "وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب" لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة لما فيها من الأخبار العجيبة. قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين، جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة، فأتياه وهو في محرابه. قال النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد والاثنين والجماعة. ومعنى "تسوروا المحراب" أتوه من أعلى سوره ونزلوا إليه، والسور: الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهم إثنين نظراً إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع. ومنه قول الشاعر: وخصم غضاب قد نفضت لحاهم كنفض البراذين العراب المخاليا والمحراب: الغرفة، لأنهم تسوروا عليه وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس ومنه محراب المسجد. وقيل إنهما كانا إنسيين ولم يكونا ملكين.
والعامل في إذ في قوله: 22- "إذ دخلوا على داود " النبأ: أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم، وبهذا قال ابن عطية ومكي وأبو البقاء. وقيل العامل فيه أتاك. وقيل معمول للخصم. وقيل معمول لمحذوف: أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. وقيل هو معمول لتسوروا. وقيل هو بدل مما قبله. وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما "ففزع منهم" وذكل لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم ودخلوا عليه بغير إذنه ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس. قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من المتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة، وجملة "قالوا لا تخف" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم وارتفاع "خصمان" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي نحن خصمان، وجاء فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا بلفظ التثنية لما ذكر من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد والمثنى والمجموع، فالكل جائز. قال الخليل: هو كما تقول نحن فعلنا كذا: إذا كنتما إثنين. وقال الكسائي: جمع لما كان خبراً فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة أخبر الإثنان عن أنفسهما فقالا خصمان، وقوله: "بغى بعضنا على بعض" هو على سبيل الفرض والتقدير، وعلى سبيل التعريض لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان. ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق ونهياه عن الجور فقالا: "فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط" أي لا تجر في حكمك، يقال شط الرجل وأشط شططاً وإشطاطاً: إذا جار في حكمه. قال أبو عبيد: شططت لعيه وأشططت: أي جرت. وقال الأخفش: معناه لا تسرف، وقيل لا تفرط، وقيل لا تمل. والمعنى متقارب، والأصل فيه البعد، من شطت الدار: إذا بعدت. قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شيء "واهدنا إلى سواء الصراط" سواء الصراط: وسطه. والمعنى: أرشدنا إلى الحق واحملنا عليه.
23- "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة" المراد بالأخوة هنا: أخوة الدين أو الصحبة، والنعجة هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش نعجة "ولي نعجة واحدة" قال الواحدي: النعجة البقرة الوحشية، والعرب تكني عن المرأة بها، وتشبه النساء بالنعاج من البقر. قرأ الجمهور "تسع وتسعون" بكسر التاء الفوقية. وقرأ الحسن وزيد بن علي بفتحها. قال النحاس: وهي لغة شاذة، وإنما عني بـ هذا داود لأنه كان له تسع وتسعون امرأة، وعني بقوله ولي نعجة واحدة أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود كما سيأتي بيان ذلك " فقال أكفلنيها " أي ضمها إلي وانزل لي عنها حتى أكفلها وأصير بعلاً لها. قال ابن كيسان: اجعلها كفلي ونصيبي "وعزني في الخطاب" أي غلبني، يقال عزه يعزه عزاً: إذا غلبه. وفي المثل من عز بز أي من غلب سلب والاسم العزة: وهي القوة. قال عطاء: المعنى إن تكلم كان أفصح مني. وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وعازني في الخطاب أي غالبني من المعازة وهي المغالبة.
24- "قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه" أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول، واللام هي الموطئة للقسم، وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر، وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما يسمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها. ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر. قال النحاس. ويقال إن خطيئة داود هي قوله: "لقد ظلمك" لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت "وإن كثيراً من الخلطاء" وهم الشركاء واحدهم خليط: وهو المخالط في المال "ليبغي بعضهم على بعض" أي يتعدى بعضهم على بعض ويظلمه غير مراع لحقه "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطاً ولا غيره "وقليل ما هم" أي وقليل هم، وما زائدة للتوكيد والتعجيب. وقيل هي موصولة، وهم مبتدأ، وقليل خبره "وظن داود أنما فتناه". قال أبو عمرو والفراء: ظن يعني أيقن. ومعنى فتناه ابتليناه، والمعنىأنه عند أن تخاصما إليه وقال ما قال علم عند ذلك أن المراد، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته. قال الواحدي: قال المفسرون: فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، فعند ذلك علم داود بما أراده. قرأ الجمهور: "فتناه" بالتخفيف للتاء وتشديد النون. وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء بالتشديد للتاء والنون ، وهي مبالغة في الفتنة. وقرأ الضحاك افتناه وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميفع "فتناه" بتخفيفهما وإسناد الفعل إلى الملكين، ورويت هذه القراءة عن السجود. قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود، فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء وأحدهما يدخل في الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة. ثم جاء في هذا على تسمية أحدهما بالآخر. وقيل المعنى للسجود راكعاً: أي مصلياً. وقيل بل كان ركوعهم سجوداً، وقيل بل كان سجودهم ركوعاً "وأناب" أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه. وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه على أقوال: الأول أنه نظر إلى امرأة الرجل التي أراد أن تكون زوجة له، كذا قال سعيد بن جبير وغيره. قال الزجاج: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، وصارت الأولى له والثانية عليه. القول الثاني أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة. الثالث أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته فاغتم لذلك أوريا، فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها. الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة. السادس أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا. وأقول الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه، ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء، فقد نبه الله على ذلك وعرض له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه فاستغفر وتاب. وقد قال سبحانه: "وعصى آدم ربه فغوى" وهو أبو البشر وأول الأنبياء، ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه.
ثم أخبر سبحانه أنه قبل استغفاره وتوبته قال: 25- "فغفرنا له ذلك" أي ذلك الذنب الذي استغفر منه. قال عطاء الخراساني وغيره: إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه وغمر رأسه. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: "فغفرنا له ذلك" تام، ثم يبتدئ الكلام بقوله: "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" الزلفى: القربة والكرامة بعد المغفرة لذنبه. قال مجاهد: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة، والمراد بحسن المآب: حسن المرجع وهو الجنة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ما لها من فواق" قال: من رجعة. "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا" قال: سألوا الله أن يعجل لهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن عدي عنه "عجل لنا قطنا" قال: نصيبنا من الجنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: "ذا الأيد" قال: القوة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأواب المسبح. وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب "فقال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الأواب الموقن. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق". وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً قال: لقد أتى علي زمان وما أدري وجه هذه الآية "يسبحن بالعشي والإشراق" حتى رأيت الناس يصلون الضحى. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه قال: كنت أمر بهذه الآية "يسبحن بالعشي والإشراق" فما أدري ما هي؟ حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح، فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى، ثم قال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من وجه آخر عنه نحوه. والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جداً قد ذكرناها في شرحنا للمنتقى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم فقال: إن هذا غصبني بقراً لي، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده، فأتي داود في منامه فقيل له: اقتل الرجل الذي استعدى، فقال: إن هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأتي الليلة الثانية في منامه فأمر أن يقتل الرجل فلم يفعل، ثم أتي الليلة الثالثة، فقيل له: اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال: إن الله أمرني أن أقتلك، قال: تقتلني بغير بينة ولا تثبت؟ قال نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك، فقال الرجل: لا تعجل لعلي حتى أخبرك، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت، فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وشدد به ملكه، فهو قول الله "وشددنا ملكه". وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه "وآتيناه الحكمة" قال: أعطي الفهم. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن أبي موسى الأشعري قال: أول من قال أما بعد داود عليه السلام "و" هو "فصل الخطاب". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول: فصل الخطاب الذي أوتي داود أما بعد. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن داود حدث نفسه إذا ابتلي أنه يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فقيل له اليوم الذي تبتلى فيه، فأخذ الزبور ودخل المحراب وأغلق باب المحراب وأخذ الزبور في حجره، وأقعد منصفاً: يعني خادماً على الباب وقال: لا تأذن لأحد علي اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون الطير، فيه من كل لون، فجعل يدور بين يديه، فدنا منه فأمكن أن يأخذه، فتناوله بيده ليأخذه فاستوفز من خلفه، فأطبق الزبور وقام إليه ليأخذه، فطار فوقع على كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فأفضى فوقع على خص فأشرف عليه لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها، فغطت جسدها أجمع بشعرها، وكان زوجها غازياً في سبيل الله، فكتب داود إلى رأس الغزاة: انظر أوريا فاجعله في حملة التابوت وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم وأما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، فاشترط عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل وكتب عليه بذلك كتاباً، فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان، وشب فتسور عليه الملكان المحراب وكان شأنهما ما قص الله في كتابه وخر داود ساجداً، فغفر الله له وتاب عليه. وأخرج الحاكم وصححه والبيقي في الشعب قال: ما أصاب داود بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عجب، عجب بنفسه، وذلك أنه قال: يا رب ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك أو يسبح أو يكبر وذكر أشياء، فكره الله ذلك، فقال: يا داود إن ذلك لم يكن إلابي فلولا عوني ما قويت عليه، وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً، قال: يا رب فأخبرني به، فأخبر به فأصابته الفتنة ذلك اليوم. وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً بإسناد ضعيف. وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطولة. وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "إن هذا أخي" قال: على ديني. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير والطبراني عنه قال: ما زاد داود على أن قال "أكفلنيها". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أكفلنيها" قال ما زاد داود على أن قال: تحول لي عنها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وقليل ما هم" يقول: قليل الذي هم فيه، وفي قوله: "وظن داود أنما فتناه" قال: اختبرناه. وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضاً أنه قال في السجود في ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وأخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال: سجدها داود ونسجدها شكراً. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص. وأخرج ابن مردويه عن أنس مثله مرفوعاً. وأخرج الدارمي وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "ص"، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود، فقال: إنما هي توبة ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود، فنزل فسجد". وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر يوم القيامة فعظم شأنه وشدته قال: ويقول الرحمن عز وجل لداود عليه السلام: مر بين يدي، فيقول داود: يا رب أن تدخضني خطيئتي، فيقول: خذ بقدمي، فيأخذ بقدمه عز وجل فيمر، قال: فتلك الزلفى التي قال الله "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب".
لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا: أي وقفنا له 26- "يا داود إنا" استخلفناك على الأرض، أو "جعلناك خليفة" لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر "فاحكم بين الناس بالحق" أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده "ولا تتبع الهوى" أي هوى النفس في الحكم بين العباد. وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس "فيضلك عن سبيل الله" بالنصب على أنه جواب للنهي وفاعل يضلك هو الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزوماً بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما، وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة. وسبيل الله: هو طريق الحق، أو طريق الجنة، وجملة "إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد" تعليل للنهي عن اتباع الهوى والوقوع في الضلال، والباء في "بما نسوا يوم الحساب" للسببية، ومعنى النسيان الترك: أي بسبب تركهم العمل لذلك اليوم: قال الزجاج: أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين وإن كانوا ينذرون ويذكرون. وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا: أي تركوا القضاء بالعدل، والأول أولى.