تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 49 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 49

048

قوله: 283- "وإن كنتم على سفر" لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب ونص على حالة السفر فإنها من جملة أحوال العذر، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة: أي فإن كنتم مسافرين "ولم تجدوا كاتباً" في سفركم "فرهان مقبوضة" قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت ينص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعاً له من يهودي". وقرأ الجمهور كاتباً أي رجلاً يكتب لكم. وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية كتاباً قال ابن الأنباري: فسره مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مداداً: يعني في الأسفار. وقرأ أبو عمرو وابن كثير فرهن بضم الراء والهاء. وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان. قاله الفراء والزجاج وابن جرير الطبري. وقرأ عاصم بن أبي النجود فرهن بفتح الراء وإسكان الهاء. وقراءة الجمهور رهان؟ قال الزجاج: يقال في الرهن رهنت أو أرهنت، وكذا قال ابن الأعرابي والأخفش. وقال أبو علي الفارسي: يقال أرهنت في المعاملات، وأما في القرض والبيع فرهنت: وقال ثعلب: الرواة كلهم في قول الشاعر: فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكاً على أرهنتهم على أنه يجوز رهنته وأرهنته إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم على أنه عطف لفعل مستقبل على فعل ماض وشبهه بقوله: قمت وأصك وجهه. وقال ابن السكيت: أرهنت فيهما بمعنى أسلفت، والمرتهن الذي يأخذ الرهن، والشيء مرهون ورهين، وراهنت فلاناً على كذا مراهنة خاطرته. وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض كما صرح به القرآن، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض. قوله: "فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته" أي إن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق لحسن ظنه به وأمانته لديه واستغنى بأمانته عن الارتهان "فليؤد الذي اؤتمن" وهو المديون "أمانته" أي الدين الذي عليه، والأمانة مصدر سمي به الذي في الذمة وأضافها إلى الذين عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة، وقرئ ايتمن بقلب الهمزة ياءً، وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ، لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها "وليتق الله ربه" في أن لا يكتم من الحق شيئاً. قوله: "ولا تكتموا الشهادة" نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة، وهو في حكم التفسير لقوله: "ولا يضار كاتب" أي لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدمين. قوله: "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله، ولكونه رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله، وارتفاع القلب على أنه فاعل أو مبتدأ وآثم خبره على ما تقرر في علم النحو، ويجوز أن يكون قلبه بدلاً من آثم بدل البعض من الكل، ويجوز أن يكون أيضاً بدلاً من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من، وقرئ قلبه بالنصب كما في قوله: "إلا من سفه نفسه". وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين" قال: نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وغيرهم عنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أجله، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية. قال: أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان، فمن لم يشهد على ذلك فقد عصى " ولا يأب الشهداء " يعني من احتيج إليه من المسلمين ليشهد على شهادة أو كانت عنده شهادة، فلا يحل له أن يأبى إذا ما دعي، ثم قال بعد هذا: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره، فنهاه الله عن ذلك. وقال: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم" يعني معصية. قال: ومن الكبائر كتمان الشهادة، لأن الله تعالى يقول: "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "ولا يأب كاتب" قال: واجب على الكاتب أن يكتب. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت الكتابة عزيمة فنسخها: "ولا يضار كاتب ولا شهيد". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد. قال: "فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً" قال: هو الجاهل "أو ضعيفاً" قال: هو الأحمق. وأخرج ابن جرير عن الضحاك والسدي في قوله: "سفيهاً" قالا: هو الصبي الصغير. وأخرج ابن جرير من طريق عطية العوفي عن ابن عباس "فليملل وليه" قال صاحب الدين. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال: ولي اليتيم. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: ولي السفيه أو الضعيف. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد في قوله: "من رجالكم" قال: من الأحرار. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: "ممن ترضون من الشهداء" قال: عدول. وأخرج الشافعي والبيهقي عن مجاهد قال: عدلان حران مسلمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أن تضل إحداهما" يقول: أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة "فتذكر إحداهما الأخرى" يعني تذكرها التي حبطت شهادتها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يأب الشهداء" قال: إذا كانت عندهم شهادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم يشهدون فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله: "ولا يأب الشهداء". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر عن عائشة في قوله: "أقسط عند الله" قالت: أعدل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" قال: يأتي الرجل الرجلين فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة فيقولان: إنا على حاجة، فيقول: إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما. وأخرج ابن جرير عن طاوس "لا يضار كاتب"، فيكتب ما لم يمل عليه "ولا شهيد" فيشهد بما لم يستشهد. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وإن كنتم على سفر" الآية، قال: من كان على سفر فبايع بيعاً إلى أجل فلم يجد كاتباً فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وجد كاتباً أن يرتهن. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لا يكون الرهن إلا في السفر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لا يكون الرهن إلا مقبوضاً. وأخرج البخاري في تاريخه وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن ماجه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " حتى بلغ "فإن أمن بعضكم بعضاً" قال: هذه نسخت ما قبلها. وأقول: رضي الله عن هذا الصحابي الجليل، ليس هذا من باب النسخ، فهذا مقيد بالائتمان وما قبله ثابت محكم لم ينسخ وهو مع عدم الائتمان. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "آثم قلبه" قال: فاجر قلبه. وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين.
قوله: 284- "لله ما في السموات وما في الأرض" قد تقدم تفسيره. قوله: " وإن تبدوا ما في أنفسكم " إلى آخر الآية، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها، ويعذب من يشاء منهم بما أسر أو أظهر منها، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال: الأول أنها وإن كانت عامة، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر. وقد روي هذا عن ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به. والقول الثاني: أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين، قاله مجاهد، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص. والقول الثالث: أنها محكمة عامة، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين. حكاه الطبري عن قوم، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص، فإن قوله: "يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" لا يختص ببعض معين إلا بدليل. والقول الرابع: أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها". قوله: "يحاسبكم به الله" قدم الجار والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به، وقدم الإبداء على الإخفاء، لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه: "قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله" فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه، وجملة قوله: "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" مستأنفة: أي فهو يغفر وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله: "يحاسبكم به الله" وهذا على قراءة ابن عامر وعاصم. وأما على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي بجزم الراء والباء، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها، وهو جواب الشرط: أعني قوله: "يحاسبكم به الله". وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو العالية وعاصم الجحدري بنصب الراء والباء في قوله: "فيغفر" "ويعذب" على إضمار أن عطفاً على المعنى. وقرأ طلحة بن مصرف يغفر بغير فاء على البدل، وبه قرأ الجعفي وخلاد. وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم" الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما اقترأها القوم وذلك بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل " لا تكلف نفس إلا وسعها " إلى آخرها". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً نحوه، وزاد فأنزل الله "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" قال: قد فعلت "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال: قد فعلت "واعف عنا واغفر لنا وارحمنا" الآية، قال: قد فعلت. وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من طرق. وأخرج البخاري والبيهقي عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال: نسختها الآية التي بعدها. وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن علي نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير عن عائشة نحوه أيضاً. وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: نزلت في كتمان الشهادة فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة. وعلى كل حال فبعد هذه الأحاديث المصرحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به". وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: كل عبد هم بسوء ومعصية وحدث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف ويحزن ويشتد همه لا يناله من ذلك شيء كما هم بالسوء ولم يعمل منه بشيء. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عنها نحوه، والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله يقول يوم القيامة: إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت، وهو مدفوع بما تقدم.
قوله: 285- "بما أنزل إليه من ربه" أي بجميع ما أنزل الله "والمؤمنون" عطف على الرسول، وقوله: "كل" أي من الرسول والمؤمنين "آمن بالله" ويجوز أن يكون قوله: "والمؤمنون" مبتدأ. وقوله: "كل" مبتدأ ثان. وقوله: "آمن بالله" خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، وأفراد الضمير في قوله: "آمن بالله" مع رجوعه إلى كل المؤمنين، لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: "وكل أتوه داخرين". قال الزجاج: لما ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة، وبين أحكام الحج، وحكم الحيض، والطلاق والإيلاء، وأقاصيص الأنبياء، وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله: "لله ما في السموات وما في الأرض" ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقيل: سبب نزولها الآية التي قبلها. وقد تقدم بيان ذلك. قوله: "وملائكته" أي: من حيث كونهم عباده المكرمين المتوسطين بينه وبين أنبيائه في إنزال كتبه، وقوله: "وكتبه" لأنها المشتملة على الشرائع التي تعبد بها عباده. وقوله: "ورسله" لأنهم المبلغون لعباده ما نزل إليهم. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر "وكتبه" بالجمع. وقرأوا في التحريم " وكتبه " وقرأ ابن عباس هنا " وكتبه " وكذلك قرأ حمزة والكسائي، وروي عنه أنه قال: الكتاب أكثر من الكتب. وبينه صاحب الكشاف فقال: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع انتهى. ومن أراد تحقيق المقام فليرجع إلى شرح التلخيص المطول عند قول صاحب التلخيص واستغراق المفرد أشمل. وقرأ الجمهور ورسله بضم السين. وقرأ أبو عمرو بتخفيف السين. وقرأ الجمهور "لا نفرق" بالنون. والمعنى: يقولون: لا نفرق. والمعنى: يقولون: لا نفرق. وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة وابن عمر وابن جرير ويعقوب لا يفرق بالياء التحتية. وقوله: "بين أحد" ولم يقل بين آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجمع كما في قوله تعالى: "فما منكم من أحد عنه حاجزين" فوصفه بقوله: "حاجزين" لكونه في معنى الجمع، وهذه الجملة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال وأن تكون خبراً آخر لقوله: "كل". وقوله: "من رسله" أظهر في محل الإضمار للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة في الحكم، أو الإشعار بعلة عدم التفريق بينهم. وقوله: "وقالوا سمعنا وأطعنا" هو معطوف على قوله: "آمن" وهو وإن كان للمفرد وهذا للجماعة فهو جائز نظراً إلى جانب المعنى: أي أدركناه بأسماعنا وفهمناه وأطعنا ما فيه، وقيل معنى سمعنا: أجبنا دعوتك. قوله: "غفرانك" مصدر منصوب بفعل مقدر: أي اغفر غفرانك. قاله الزجاج وغيره، وقدم السمع والطاعة على طلب المغفرة لكون الوسيلة تتقدم على المتوسل إليه.
قوله: 286- "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" التكليف هو الأمر بما فيه مشقة وكلفة، والوسع: الطاقة، والوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه: "وإن تبدوا ما في أنفسكم" الآية لكشف كربة المسلمين، ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس وهي كقوله سبحانه: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر". قوله: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" فيه ترغيب وترهيب: أي لها ثواب ما كسبت من الخير، وعليها وزر ما اكتسبت من الشر، وتقدم لها وعليها على الفعلين ليفيد أن ذلك لها لا لغيرها، وعليها لا على غيرها، وهذا مبني على أن كسب للخير فقط، واكتسب للشر فقط، كما قاله صاحب الكشاف وغيره، وقيل: كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين، وإنما كرر الفعل وخالف بين التصريفين تحسيناً للنظم كما في قوله تعالى: "فمهل الكافرين أمهلهم رويداً". قوله: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" أي: لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين. وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين وغيرهم قائلين إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما، فما معنى الدعاء بذلك، فإنه من تحصيل الحاصل. وأجيب عن ذلك أن المراد طلب المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط وعدم المبالاة، لا من أجل النسيان والخطأ فإنه لا مؤاخذة بهما كما يفيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وسيأتي مخرجه، وقيل: إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته، وقيل: إنه وإن ثبت شرعاً أنه لا مؤاخذة بهما، فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلاً، وقيل: لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمداً، وإنما يصدر عنهم خطأ أو نسياناً، فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً بنزاهة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. قال القرطبي: وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شيء، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديانات والصلوات المفروضات. وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسياً في رمضان أو حنث ساهياً، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسياناً، ويعرف ذلك في الفروع انتهى. قوله: "ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا" عطف على الجملة التي قبله، وتكرير النداء للإيذان بمزيد التضرع واللجوء إلى الله سبحانه. والإصر: العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه: أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله. والمراد به هنا التكليف الشاق، والأمر الغليظ الصعب، وقيل الإصر: شدة العمل وما غلظ على بني إسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة، ومنه قول النابغة: يا مانع الضيم أن تغشي سراتهم والحامل الإصر عنهم بعدما غرقوا وقيل الإصر: المسخ قردة وخنازير، وقيل: العهد، ومنه قوله تعالى: "وأخذتم على ذلكم إصري" وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا، لا إلى معنى الإصر في لغة العرب، فإنه ما تقدم ذكره بلا نزاع، والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر إصراً: حبس، والإصر بكسر الهمزة من ذلك. قال الجوهري: والموضع مأصر، والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر. ومعنى الآية أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقل التكاليف ما حمل الأمم قبلهم. وقوله: "كما حملته" صفة مصدر محذوف: أي حملاً مثل حملك إياه على من قبلنا، أو صفة لإصراً: أي إصراً مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا. قوله: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" هو أيضاً عطف على ما قبله، وتكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا. والمعنى لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق، وقيل: هو عبارة عن إنزال العقوبات، كأنه قال: لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا، وقيل: المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف. قال في الكشاف: وهذا تقرير لقوله: "ولا تحمل علينا إصراً". قوله: "واعف عنا" أي عن ذنوبنا، يقال عفوت من ذنبه: إذا تركته ولم تعاقبه عليه "واغفر لنا" أي استر على ذنوبنا، والغفر: الستر "وارحمنا" أي تفضل برحمة منك علينا "أنت مولانا" أي ولينا وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون، وقيل معناه: أنت سيدنا ونحن عبيدك "فانصرنا على القوم الكافرين" فإن من حق المولى أن ينصر عبيده، والمراد عامة الكفرة، وفيه إشارة إلى أعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله. وقد قدمنا في شرح الآية التي قبل هذه أعني قوله: "إن تبدوا ما في أنفسكم" إلخ، أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات قد فعلت، فكان ذلك دليلاً على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشيء من الخطأ والنسيان ولا حمل عليهم شيئاً من الإصر الذي حمله على من قبلهم، ولا حملهم ما لا طاقة لهم به، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم، ونصرهم على القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان "لا نفرق بين أحد من رسله" لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا نفرق بين أحد منهم، ولا نكذب به "وقالوا سمعنا" للقرآن الذي جاء من الله "وأطعنا"، أقروا لله أن يطيعوه في أمره ونهيه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "غفرانك ربنا" قال: قد غفرت لكم "وإليك المصير" قال: إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر قال: لما نزلت "آمن الرسول" الآية، قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فقال: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" حتى ختم السورة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" قال: هم المؤمنون وسع الله عليهم أمر دينهم فقال: "ما جعل عليكم في الدين من حرج". وقال: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر". وقال: "فاتقوا الله ما استطعتم". وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" قال: من العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "إلا وسعها" قال: إلا طاقتها. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك نحوه. وقد أخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن حبان في صحيحه والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخرج ابن ماجه من حديث أبي ذر مرفوعاً، والطبراني من حديث ثوبان ومن حديث ابن عمر ومن حديث عقبة بن عامر. وأخرجه البيهقي أيضاً من حديثه. وأخرجه ابن عدي في الكامل وأبو نعيم من حديث أبي بكرة. وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث أم الدرداء. وأخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن حديث الحسن مرسلاً، وأخرجه عبد بن حميد من حديث الشعبي مرسلاً. وفي أسانيد هذه الأحاديث مقال ولكنها يقوي بعضها بعضاً فلا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقد تقدم حديث "إن الله قال قد فعلت" وهو في الصحيح وهو يشهد لهذه الأحاديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إصراً" قال: عهداً. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله. وأخرج أيضاً عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ولا تحمل علينا إصراً" قال: لا تمسخنا قردة وخنازير. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية أن الإصر: الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الفضيل في الآية قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب قيل له: توبتك أن تقتل نفسك فيقتل نفسه، فوضعت الآصار عن هذه الأمة. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: لما نزلت هذه الآيات "ربنا لا تؤاخذنا" إلخ، كلما قالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبي: آمين رب العالمين. وأخرج أبو عبيد عن ميسرة أن جبريل لقن النبي صلى الله عليه وسلم خاتمة البقرة آمين. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال: آمين. وأخرج أبو عبيد عن جبير بن نفير أنه كان يقول: آمين آمين. وأخرج عبد بن حميد عن أبي ذر قال: هي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال: سألها نبي الله ربه فأعطاه إياها، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد ثبت عند الشيخين وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". وأخرج أبو عبيد والدارمي والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فأنزل منه آيتين ختم بها سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقر بهما شيطان". وأخرج أحمد والنسائي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبلي". وأخرج أحمد والبيهقي عن أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو عبيد وأحمد ومحمد بن نصر عن عقبة بن عامر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة "آمن الرسول" إلى خاتمتها، فإن الله اصطفى بها محمداً" وإسناده حسن. وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وأعطي ثلاثاً، أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات. وأخرج الحاكم وصححه البيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء". وأخرج الديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنان هما قرآن وهما يشفيان، وهما مما يحبهما الله الآيتان من آخر البقرة". وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب كتاباً قبل ان يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان". وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل الله آيتين من كنوز الجنة، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة أو آية الكرسي ضحك وقال: إنهما من كنز تحت العرش. وأخرج ابن مردويه عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش". وأخرج مسلم والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال:" بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فرفع جبريل بصره فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منع ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته". فهذه ثلاثة عشر حديثاً في فضل هاتين الآيتين مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي في فضلهما من غير المرفوع عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي مسعود وكعب الأحبار والحسن وأبي قلابة، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم ما يغني عن غيره.