سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 49 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 49
050
048
الآية : 283
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِن كُنتُمْ عَلَىَ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته القراء فـي الأمصار جميعا «كاتبـا», بـمعنى: ولـم تـجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتـموه إلـى أجل مسمى «فرهان مقبوضة». وقرأ جماعة من الـمتقدمين: «ولـم تـجدوا كتابـا», بـمعنى: ولـم يكن لكم إلـى اكتتاب كتاب الدين سبـيـل, إما بتعذر الدواة والصحيفة, وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتـم الدواة والصحيفة.
والقراءة التـي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار: {وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِب} بـمعنى: من يكتب, لأن ذلك كذلك فـي مصاحف الـمسلـمين, وإن كنتـم أيها الـمتداينون فـي سفر بحيث لا تـجدون كاتبـا يكتب لكم, ولـم يكن لكم إلـى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتـموه إلـى أجل مسمى بـينكم الذي أمرتكم بـاكتتابه والإشهاد علـيه سبـيـل, فـارتهنوا بديونكم التـي تداينتـموها إلـى الأجل الـمسمى رهونا تقبضونها مـمن تداينونه كذلك لـيكون ثقة لكم بأموالكم. ذكر من قال ما قلنا فـي ذلك:
5178ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: {وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلَـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِبـا فَرُهُنٌ مَقْبُوضةٌ} فمن كان علـى سفر فبـايع بـيعا إلـى أجل فلـم يجد كاتبـا فرخص له فـي الرهان الـمقبوضة, ولـيس له إن وجد كاتبـا أن يرتهن.
5179ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِب} يقول: كاتبـا يكتب لكم, «فرهان مقبوضة».
حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, قال: ما كان من بـيع إلـى أجل, فأمر الله عزّ وجلّ أن يكتب ويشهد علـيه وذلك فـي الـمقام, فإن كان قوم علـى سفر تبـايعوا إلـى أجل فلـم يجدوا (كاتبـا), فرهان مقبوضة.
ذكر قول من تأوّل ذلك علـى القراءة التـي حكيناها:
5180ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد, عن مقسم, عن ابن عبـاس: فإن لـم تـجدوا كتابـا, يعنـي بـالكتاب: الكاتب والصحيفة والدواة والقلـم.
5181ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: أخبرنـي أبـي, عن ابن عبـاس أنه قرأ: «فإن لـم تـجدوا كتابـا», قال: ربـما وجد الرجل الصحيفة ولـم يجد كاتبـا.
5182ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, كان يقرؤهـا: «فإن لـم تـجدوا كتابـا», ويقول: ربـما وجد الكاتب ولـم توجد الصحيفة أو الـمداد, ونـحو هذا من القول.
5183ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيج, عن مـجاهد: «وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كِتابـا» يقول: مدادا, يقرؤها كذلك, يقول: فإن لـم تـجدوا مدادا, فعند ذلك تكون الرهون الـمقبوضة, {فرهان مقبوضة}, قال: لا يكون الرهن إلا فـي السفر.
5184ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن شعيب بن الـحبحاب, قال: إن أبـا العالـية كان يقرؤها: «فإن لـم تـجدوا كتابـا», قال أبو العالـية: توجد الدواة ولا توجد الصحيفة.
واختلف القراء فـي قراءة قوله: {فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} فقرأ ذلك عامة قراء الـحجاز والعراق: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} بـمعنى جماع رهن, كما الكبـاش جماع كبش, والبغال جماع بغل, والنعال جماع نعل. وقرأ ذلك جماعة آخرون: «فَرُهُنٌ مقبوضة» علـى معنى جمع رِهَان ورُهْن جمع الـجمع, وقد وجهه بعضهم إلـى أنها جمع رهن مثل سَقْـف وسُقُـف. وقرأه آخرون: {فرُهْنٌ} مخففة الهاء, علـى معنى جماع رَهْن, كما تـجمع السقـف سُقْـفـا¹ قالوا: ولا نعلـم اسما علـى فعل يجمع علـى فُعُل وفُعْل إلا الرّهْنْ والرّهْن والسّقُـف والسّقْـف.
والذي هو أولـى بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} لأن ذلك الـجمع الـمعروف لـما كان من اسم علـى فَعْل, كما يقال حَبْل وحبـال وكَعْب وكعاب, ونـحو ذلك من الأسماء. فأما جمع الفَعْل علـى الفُعُل أو الفُعْل فشاذّ قلـيـل إنـما جاء فـي أحرف يسيرة, وقـيـل سَقْـف وسُقُـف وَسُقْـف, وقَلْب وقُلُب وقُلْب من قلب النـخـل, وجَدّ وجُدّ. للـجد الذي هو بـمعنى الـحظّ. وأما ما جاء من جمع فَعْل علـى فُعْل فَثّطّ وثُطّ, ووَرْد ووُرْد, وخَوْد وخُود. وإنـما دعا الذي قرأ ذلك: «فَرُهْنٌ مَقْبُوضَةٌ» إلـى قراءته فـيـما أظن كذلك مع شذوذه فـي جمع فَعْل, أنه وجد الرّهان مستعملة فـي رِهان الـخيـل, فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الـملتبِس برهان الـخيـل, الذي هو بغير معنى الرّهان, الذي هو جمع رَهْن, ووجد الرّهُن مقولاً فـي جمع رَهْن, كما قال قعنب:
بـانَتْ سُعادُ وأمْسَى دُوَنها عَدَنُ
وَغَلِقَتْ عِنْدَها مِنْ قَلْبِكَ الرّهُنُ
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَـإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْـيُوءَدّ الّذِي اوءْتُـمِنَ أمانَتَهُ وَلْـيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ}.
(يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فإن كان الـمدين أمينا عند ربّ الـمال والدين فلـم يرتهن منه فـي سفره رهنا بدينه لأمانته عنده علـى ماله وثقته, فَلْـيَتّقِ الله الـمدين ربه, يقول: فلـيخف الله ربه فـي الذي علـيه من دين صاحبه أن يجحده, أو يـلطّ دونه, أو يحاول الذهاب به, فـيتعرّض من عقوبة الله ما لا قبل له به, ولـيؤدّ دينه الذي ائتـمنه علـيه إلـيه. وقد ذكرنا قول من قال هذا الـحكم من الله عزّ وجلّ ناسخ الأحكام التـي فـي الآية قبلها من أمر الله عزّ وجلّ بـالشهود والكتاب, وقد دللنا علـى أولـى ذلك بـالصواب من القول فـيه فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.) وقد:
5185ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {فَـإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُوءَدّ الّذِي اوءْتُـمِنَ أمانَتَهُ} إنـما يعنـي بذلك فـي السفر, فأما الـحضر فلا وهو واجد كاتبـا, فلـيس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا.
وهذا الذي قاله الضحاك, من أنه لـيس لربّ الدين ائتـمان الـمدين وهو واجد إلـى الكاتب والكتاب والإشهاد علـيه سبـيلاً وإن كانا فـي سفر, فكما قال لـما قد دللنا علـى صحته فـيـما مضى قبل.
وأما ما قاله ـ من الأمر فـي الرهن أيضا كذلك مثل الائتـمان فـي أنه لـيس لربّ الـحقّ الارتهان بـماله إذا وجد إلـى الكاتب والشهيد سبـيلاً فـي حضر أو سفر ـ فإنه قول لا معنى له لصحة الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «اشترى طعاما نَساءً, ورهن به درعا له». فجائز للرجل أن يرهن بـما علـيه, ويرتهن بـماله من حقّ فـي السفر والـحضر, لصحة الـخبر بـما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن معلوما أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـم يكن حين رهن من ذكرنا غير واجد كاتبـا ولا شهيدا, لأنه لـم يكن متعذرا علـيه بـمدينته فـي وقت من الأوقات الكاتب والشاهد, غير أنهما إذا تبـايعا برهن, فـالواجب علـيهما إذا وجدا سبـيلاً إلـى كاتب وشهيد, وكان البـيع أو الدين إلـى أجل مسمى أن يكتبـا ذلك ويشهدا علـى الـمال والرهن, وإنـما يجوز ترك الكاتب والإشهاد فـي ذلك حيث لا يكون لهما إلـى ذلك سبـيـل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَكْتُـمُوا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُـمْها فـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِـمَا تَعْمَلُونَ عَلِـيـمٌ}.
(وهذا خطاب من الله عزّ وجلّ للشهود الذين أمر الـمستدين وربّ الـمال بإشهادهم, فقال لهم: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا, ولا تكتـموا أيها الشهود بعد ما شهدتـم شهادتكم عند الـحكام, كما شهدتـم علـى ما شهدتـم علـيه¹ ولكن أجيبوا من شهدتـم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم علـى خصمه علـى حقه عند الـحاكم الذي يأخذ له بحقه. ثم أخبر الشاهد جل ثناؤه ما علـيه فـي كتـمان شهادته وإبـائه من أدائها والقـيام بها عند حاجة الـمستشهد إلـى قـيامه بها عند حاكم, أو ذي سلطان, فقال: {وَمَنْ يَكْتُـمْهَ}, يعنـي ومن يكتـم شهادته, {فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}, يقول: فـاجر قلبه, مكتسب بكتـمانه إياها معصية الله.) كما:
5186ـ حدثنـي الـمثنى, قال: أخبرنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَلاَ تَكْتُـموا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُـمْها فـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ} فلا يحلّ لأحد أن يكتـم شهادة هي عنده, وإن كانت علـى نفسه والوالدين, ومن يكتـمها فقد ركب إثما عظيـما.
5187ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قوله: {ومَنْ يَكْتُـمْها فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ} يقول: فـاجر قلبه.
5188ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: أكبر الكبـائر الإشراك بـالله, لأن الله يقول: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِـاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَـيْهِ الـجَنّةَ وَمأوُاهُ النّارُ} وشهادة الزور, وكتـمان الشهادة, لأن الله عزّ وجلّ يقول: {وَمَنْ يَكْتُـمْها فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}.
وقد روي عن ابن عبـاس أنه كان يقول: علـى الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر بها حيث استـخبر.
5189ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن مـحمد بن مسلـم, قال: أخبرنا عمرو بن دينار, عن ابن عبـاس, قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها, فأخبره بها, ولا تقل: أخبرْ بها عند الأمير¹ أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي.
وأما قوله: {وَاللّهُ بِـمَا تَعْمَلُونَ عَلِـيـمٌ} فإنه يعنـي بـما تعملون فـي شهادتكم من إقامتها والقـيام بها أو كتـمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إلـيها, وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانـيتها, {علـيـمٌ} يحصيه علـيكم لـيجزيكم بذلك كله جزاءكم, إما خيرا, وإما شرّا علـى قدر استـحقاقكم.
الآية : 284
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{للّهِ ما فِي السّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ} لله ملك كل ما فـي السموات وما فـي الأرض من صغير وكبـير, وإلـيه تدبـير جميعه, وبـيده صرفه وتقلـيبه, لا يخفـى علـيه منه شيء, لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه. وإنـما عنى بذلك جلّ ثناؤه: كتـمان الشهود الشهادة, يقول: لا تكتـموا الشهادة أيها الشهود, ومن يكتـمها يفجر قلبه, ولن يخفـى علـيّ كتـمانه, وذلك لأنـي بكل شيء علـيـم, وبـيدي صرف كل شيء فـي السموات والأرض وملكه, أعلـمه خفـيّ ذلك وجلّـيه, فـاتقوا عقابـي إياكم علـى كتـمانكم الشهادة. وعيدا من الله بذلك من كتـمها وتـخويفـا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فـاعل بهم فـي آخرتهم, وبـمن كان من نظرائهم مـمن انطوى كشحا علـى معصية فأضمرها, أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه من الـمـحاسبة علـيها, فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} يقول: وإن تظهروا فـيـما عندكم من الشهادة علـى حقّ ربّ الـمال الـجحود والإنكار, أو تـخفوا ذلك فتضمروه فـي أنفسكم وغير ذلك من سيىء أعمالكم, {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يعنـي بذلك: يحتسب به علـيكم من أعماله, فـيجازي من شاء منكم من الـمسيئين بسوء عمله, وغافر منكم لـمن شاء من الـمسيئين.
ثم اختلف أهل التأويـل فـيـما عنى بقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فقال بعضهم بـما قلنا من أنه عنى به الشهود فـي كتـمانهم الشهادة, وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم مـمن أضمر معصية أو أبداها. ذكر من قال ذلك:
5190ـ حدثنـي أبو زائدة زكريا بن يحيـى بن أبـي زائدة, قال: حدثنا أبو نفـيـل, عن يزيد بن أبـي زياد, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يقول: يعنِـي فـي الشهادة.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن يزيد بن أبـي زياد, عن مقسم, عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة.
5191ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: سئل داود عن قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فحدثنا عن عكرمة, قال: هي الشهادة إذا كتـمتها.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن عمرو وأبـي سعيد, أنه سمع عكرمة يقول فـي هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة.
5192ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن السدي, عن الشعبـي فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة.
حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد, عن مقسم, عن ابن عبـاس, أنه قال فـي هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: نزلت فـي كتـمان الشهادة وإقامتها.
حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن عكرمة فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يعنـي كتـمان الشهادة وإقامتها علـى وجهها.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية إعلاما من الله تبـارك وتعالـى عبـاده أنه مؤاخذهم بـما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مـما لـم يعملوه. ثم اختلف متأوّلو ذلك كذلك, فقال بعضهم: ثم نسخ الله ذلك بقوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ذكر من قال ذلك:
5193ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان, عن مصعب بن ثابت, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبـيه, عن أبـي هريرة, قال: لـما نزلت: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} اشتدّ ذلك علـى القوم, فقالوا: يا رسول الله إنا لـمؤاخذون بـما نـحدّث به أنفسنا؟ هلكنا! فأنزل الله عزّ وجلّ: {لاَ يُكْلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه} الآية, إلـى قوله: {رَبّنا لا تُوءَاخِذْنَا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنَ} قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: نَعَمْ». {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} إلـى آخر الآية, قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عزّ وجلّ نعم».
5194ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا سفـيان, عن آدم بن سلـيـمان مولـى خالد بن خالد, قال: سمعت سعيد بن جبـير يحدّث عن ابن عبـاس قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنَ يَشَاءْ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ} دخـل قلوبهم منها شيء لـم يدخـلها من شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَمِعْنا وأطَعْنا وَسَلّـمْنَا». قال: فألقـى الله عزّ وجلّ الإيـمان فـي قلوبهم, قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ}. قال أبو كريب: فقرأ: {رَبّنَا لا تُوءَاخِذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْن} قال: فقال: «قد فعلت». {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ} قال: «قد فعلت». {رَبّنا ولا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: «قد فعلت». {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَـانْصُرْنَا عَلَـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: «قد فعلت».
5195ـ حدثنـي أبو الرداد الـمصري عبد الله بن عبد السلام, قال: حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد, عن حيوة بن شريح, قال: سمعت يزيد بن أبـي حبـيب, يقول: قال ابن شهاب: حدثنـي سعيد بن مرجانة, قال: جئت عبد الله بن عمر, فتلا هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ}. ثم قال ابن عمر: لئن آخذنا بهذه الآية لنهلكنّ. ثم بكى ابن عمر حتـى سالت دموعه. قال: ثم جئت عبد الله بن العبـاس, فقلت: يا أبـا عبـاس, إنـي جئت ابن عمر فتلا هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}... الآية, ثم قال: لئن واخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتـى سالت دموعه. فقال ابن عبـاس: يغفر الله لعبد الله بن عمر لقد فرِق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فرق ابن عمر منها, فأنزل الله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فنسخ الله الوسوسة, وأثبت القول والفعل.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, عن سعيد بن مرجانة يحدّث: أنه بـينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}... الآية, فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكنّ! ثم بكى ابن عمر حتـى سمع نشيجه. فقال ابن مرجانة: فقمت حتـى أتـيت ابن عبـاس, فذكرت له ما تلا ابن عمر, وما فعل حين تلاها, فقال عبد الله بن عبـاس: يغفر الله لأبـي عبد الرحمن, لعمري لقد وجد الـمسلـمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر, فأنزل الله بعدها: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه} إلـى آخر السورة. قال ابن عبـاس: فكانت هذه الوسوسة مـما لا طاقة للـمسلـمين بها, وصار الأمر إلـى أن قضى الله عزّ وجلّ: أن للنفس ما كسبت وعلـيها ما اكتسبت فـي القول والفعل.
5196ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: سمعت الزهري يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: قرأها ابن عمر, فبكى وقال: إنا لـمؤاخذون بـما نـحدّث به أنفسنا! فبكى حتـى سمع نشيجه, فقام رجل من عنده, فأتـى ابن عبـاس, فذكر ذلك له, فقال: رحم الله ابن عمر لقد وجد الـمسلـمون نـحوا مـما وجد, حتـى نزلت: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5197ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن جعفر بن سلـيـمان, عن حميد الأعرج, عن مـجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}... الآية. فبكى! فدخـلت علـى ابن عبـاس, فذكرت له ذلك, فضحك ابن عبـاس فقال: يرحم الله ابن عمر, أو ما يدري فـيـم أنزلت؟ إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا, وقالوا: يا رسول الله هلكنا! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا سَمِعْنَا وأطَعْنا», فنسختها: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِـاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسلِهِ} إلـى قوله: {وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فتـجوّز لهم من حديث النفس, وأخذوا بـالأعمال.
5198ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن سفـيان بن حسين, عن الزهري, عن سالـم أن أبـاه قرأ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فدمعت عينه. فبلغ صنـيعه ابن عبـاس, فقال: يرحم الله أبـا عبد الرحمن! لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت, فنسختها الآية التـي بعدها: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}.
5199ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, قال: نسخت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}.
5200ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن آدم بن سلـيـمان, عن سعيد بن جبـير, قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قالوا: أنؤاخذ بـما حدثنا به أنفسنا ولـم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُوءَاخَذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْن} قال: ويقول: قد فعلت. قال: فأعطيت هذه الأمة خواتـيـم سورة البقرة, لـم تعطها الأمـم قبلها.
5201ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جرير بن نوح, قال: حدثنا إسماعيـل, عن عامر: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال: فنسختها الآية بعدها قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5202ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبـي: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: نسختها الآية التـي بعدها: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}. وقوله: {وَإِنْ تُبْدُو} قال: يحاسب بـما أبدى من سرّ أو أخفـى من سرّ, فنسختها التـي بعدها.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا سيار, عن الشعبـي, قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال: فكان فـيها شدة حتـى نزلت هذه الآية التـي بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فنسخت ما كان قبلها.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن ابن عون, قال: ذكروا عند الشعبـي: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} حتـى بلغ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فقال الشعبـي: إلـى هذا صار, رجعت إلـى آخر الآية.
5203ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: قال ابن مسعود: كانت الـمـحاسبة قبل أن تنزل: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فلـما نزلت نسخت الآية التـي كانت قبلها.
حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك, يذكر عن ابن مسعود, نـحوه.
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن بـيان, عن الشعبـي, قال: نسخت: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5204ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن موسى بن عبـيدة, عن مـحمد بن كعب وسفـيان, عن جابر, عن مـجاهد, وعن إبراهيـم بن مهاجر, عن مـجاهد, قالوا: نسخت هذه الآية: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}... الآية.
5205ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن جابر, عن عكرمة وعامر, بـمثله.
5206ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج, قال: حدثنا حماد بن حميد, عن الـحسن فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} إلـى آخر الآية, قال: مـحتها: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5207ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أنه قال: نسخت هذه الآية, يعنـي قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}... الآية التـي كانت قبلها: {إنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: نسختها قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}.
5208ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي ابن زيد, قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}... إلـى آخر الآية, اشتدّت علـى الـمسلـمين, وشقت مشقة شديدة, فقالوا: يا رسول الله لو وقع فـي أنفسنا شيء لـم نعمل به واخذنا الله به؟ قال: «فَلَعَلّكُمْ تَقُولُونَ كَما قَالَ بَنُو إِسْرَائِيـلَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنا», قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله. قال: فنزل القرآن يفرجها عنهم: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِـاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} إلـى قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فصيره إلـى الأعمال, وترك ما يقع فـي القلوب.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج, قال: حدثنا هشيـم, عن سيار, عن أبـي الـحكم, عن الشعبـي, عن أبـي عبـيدة, عن عبد الله بن مسعود فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: نسخت هذه الآية التـي بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5209ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بـما وسوست به أنفسهم وما عملوا, فشكوا ذلك إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: إن عمل أحدنا وإن لـم يعمل أُخذنا به؟ والله ما نـملك الوسوسة! فنسخها الله بهذه الآية التـي بعدها بقوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه} فكان حديث النفس مـما لـم تطيقوا.
5210ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة أن عائشة أم الـمؤمنـين رضي الله عنها قالت: نسختها قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ}.
وقال آخرون مـمن قال معنى ذلك: «الإعلام من الله عز وجل عبـاده أنه مؤاخذهم بـما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم, وبـما حدثتهم به أنفسهم مـما لـم يعلـموه». هذه الآية مـحكمة غير منسوخة, والله عز وجل مـحاسب خـلقه علـى ما عملوا من عمل وعلـى ما لـم يعملوه مـما أصرّوه فـي أنفسهم ونووه وأرادوه, فـيغفره للـمؤمنـين, ويؤاخذ به أهل الكفر والنفـاق. ذكر من قال ذلك:
5211ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فإنها لـم تنسخ, ولكن الله عزّ وجل إذا جمع الـخلائق يوم القـيامة, يقول الله عزّ وجل: إنـي أخبركم بـما أخفـيتـم فـي أنفسكم مـما لـم تطلع علـيه ملائكتـي, فأما الـمؤمنون فـيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم, وهو قوله: {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يقول: يخبركم. وأما أهل الشكّ والريب, فـيخبرهم بـما أخفوا من التكذيب, وهو قوله: {فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} وهو قوله: {وَلَكِنْ يُوءَاخِذْكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} من الشكّ والنفـاق.
5212ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فذلك سرّ عملكم وعلانـيته, يحاسبكم به الله, فلـيس من عبد مؤمن يسر فـي نفسه خيرا لـيعمل به, فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات, وإن هو لـم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن, والله يرضى سرّ الـمؤمنـين وعلانـيتهم, وإن كان سوءا حدّث به نفسه اطلع الله علـيه وأخبره به يوم تبلـى السرائر, وإن هو لـم يعمل به لـم يؤاخذه الله به حتـى يعمل به, فإن هو عمل به تـجاوز الله عنه, كما قال: {أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَـجَاوَزُ عَنْ سَيّئَاتِهِمْ}.
5213ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ اللّهُ}... الآية. قال: قال ابن عبـاس: إن الله يقول يوم القـيامة: إن كتابـي لـم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها, فأما ما أسررتـم فـي أنفسكم فأنا أحاسبكم به الـيوم, فأغفر لـمن شئت, وأعذّب من شئت.
5214ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا علـيّ بن عاصم, قال: أخبرنا بـيان, عن بشر, عن قـيس بن أبـي حازم, قال: إذا كان يوم القـيامة, قال الله عزّ وجلّ يُسمِع الـخلائق: إنـما كان كتابـي يكتبون علـيكم ما ظهر منكم, فأما ما أسررتـم فلـم يكونوا يكتبونه, ولا يعلـمونه, أنا الله أعلـم بذلك كله منكم, فأغفر لـمن شئت, وأعذّب من شئت.
5215ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} كان ابن عبـاس يقول: إذا دعي الناس للـحساب, أخبرهم الله بـما كانوا يسرّون فـي أنفسهم مـما لـم يعملوه, فـيقول: إنه كان لا يعزب عنـي شيء, وإنـي مخبركم بـما كنتـم تسرّون من السوء, ولـم تكن حفظتكم علـيكم مطلعين علـيه. فهذه الـمـحاسبة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن عبـيد بن سلـيـمان, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, نـحوه.
5216ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمُ بِهِ اللّهُ} قال: هي مـحكمة لـم ينسخها شيء, يقول: يحاسبكم به الله, يقول: يعرّفه الله يوم القـيامة أنك أخفـيت فـي صدرك كذا وكذا لا يؤاخذه.
5217ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن عمرو بن عبـيد, عن الـحسن, قال: هي مـحكمة لـم تنسخ.
5218ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: من الشكّ والـيقـين.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يقول: فـي الـيقـين والشك.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
فتأويـل هذه الآية علـى قول ابن عبـاس الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ} من شيء من الأعمال, فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم, أو تـخفوه فتسرّوه فـي أنفسكم, فلـم يطلع علـيه أحد من خـلقـي, أحاسبكم به, فأغفر كل ذلك لأهل الإيـمان, وأعذّب أهل الشرك والنفـاق فـي دينـي.
وأما علـى الرواية التـي رواها عنه الضحاك من رواية عبـيد بن سلـيـمان عنه, وعلـى ما قاله الربـيع بن أنس, فإن تأويـلها: إن تظهروا ما فـي أنفسكم فتعملوه من الـمعاصي, أو تضمروا إرادته فـي أنفسكم, فتـخفوه, يُعلـمْكم به الله يوم القـيامة, فـيغفر لـمن يشاء, ويعذّب من يشاء.
وأما قول مـجاهد فشبـيه معناه بـمعنى قول ابن عبـاس الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة.
وقال آخرون مـمن قال: «هذه الآية مـحكمة وهي غير منسوخة» ووافقوا الذين قالوا: «معنى ذلك أن الله عزّ وجلّ أعلـم عبـاده ما هو فـاعل بهم فـيـما أبدوا وأخفوا من أعمالهم»: معناها: أن الله مـحاسب جميع خـلقه بجميع ما أبدوا من سيىء أعمالهم, وجميع ما أسروه, ومعاقبهم علـيه, غير أن عقوبته إياهم علـى ما أخفوه مـما لـم يعملوه ما يحدث لهم فـي الدنـيا من الـمصائب, والأمور التـي يحزنون علـيها ويألـمون منها. ذكر من قال ذلك:
5219ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}... الآية, قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من همّ بسيئة فلـم يعملها أرسل الله علـيه من الهمّ والـحزن مثل الذي همّ به من السيئة فلـم يعملها, فكانت كفـارته.
حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بـمعصية, أَو يحدّث بها نفسه, حاسبه الله بها فـي الدنـيا, يخاف ويحزن ويهتـم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي أبو تـميـلة, عن عبـيد, عن الضحاك, قال: قالت عائشة فـي ذلك: كل عبد همّ بسوء ومعصية, وحدّث نفسه به, حاسبه الله فـي الدنـيا, يخاف ويحزن ويشتدّ همه, لا يناله من ذلك شيء, كما همّ بـالسوء ولـم يعمل منه شيئا.
5220ـ حدثنا الربـيع, قال: حدثنا أسد بن موسى, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, عن علـيّ بن زيد, عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}, {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فقالت: ما سألنـي عنها أحد مذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «يا عائشة, هذه مُتَابَعَةُ الله العبد بـما يُصِيبُه من الـحُمّى والنكْبَة والشّوْكَة, حتـى البضاعة يَضَعُها فـي كمّه فـيفقدها فـيفزع لها, فـيجدها فـي ضِبْنِهِ حتـى إن الـمُوءْمِنَ لَـيَخْرُجُ من ذنوبه كما يخرج التّبْرُ الأحمر من الكِيرِ».
وأولـى الأقوال التـي ذكرناها بتأويـل الآية قول من قال: إنها مـحكمة ولـيست بـمنسوخة, وذلك أن النسخ لا يكون فـي حكم إلا ينفـيه بآخر له ناف من كل وجوهه, ولـيس فـي قوله جلّ وعزّ: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ} نفـي الـحكم الذي أعلـم عبـاده بقوله: {أوْ تُـخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} لأن الـمـحاسبة لـيست بـموجبة عقوبة, ولا مؤاخذة بـما حوسب علـيه العبد من ذنوبه, وقد أخبر الله عزّ وجلّ عن الـمـجرمين أنهم حين تُعرض علـيهم كتب أعمالهم يوم القـيامة, يقولون: {يا وَيْـلَتَنَا ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِـيرَةً إِلاّ أحْصَاهَ} فأخبر أن كتبهم مـحصية علـيهم صغائر أعمالهم وكبـائرها, فلـم تكن الكتب وإن أحصت صغائر الذنوب وكبـائرها بـموجب إحصاؤها علـى أهل الإيـمان بـالله ورسوله وأهل الطاعة له, أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبـين, لأن الله عزّ وجلّ وعدهم العفو عن الصغائر بـاجتنابهم الكبـائر, فقال فـي تنزيـله: {إِنْ تَـجْتَنِبُوا كَبـائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِـلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيـم} فدلّ أن مـحاسبة الله عبـاده الـمؤمنـين بـما هو مـحاسبهم به من الأمور التـي أخفتها أنفسهم غير موجبة لهم منه عقوبة, بل مـحاسبته إياهم إن شاء الله علـيها لـيعرّفهم تفضله علـيهم بعفوه لهم عنها كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الـخبر الذي:
5221ـ حدثنـي به أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أبـي, عن قتادة, عن صفوان بن مـحرز, عن ابن عمر, عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُدْنِـي اللّهُ عَبْدَهُ الـمُوءْمِنُ يَوْمَ القِـيَامَةِ حَتّـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بِسَيّئَاتِهِ يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَـيَقُولُ نَعَمْ, فَـيَقُولُ: سَتَرْتُها فِـي الدّنْـيَا وأغْفِرُها الـيَوْمَ. ثُمّ يُظْهِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ, فَـيَقُولُ: هاومُ اقْرَءُوا كِتابِـيَهْ» أو كما قال: «وأمّا الكَافِرُ, فَـإِنّهُ يُنَادَى بِهِ عَلـى رُءُوسِ الأشْهادِ».
5222ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ وسعيد وهشام, وحدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا هشام, قالا جميعا فـي حديثهما, عن قتادة, عن صفوان بن مـحرز, قال: بـينـما نـحن نطوف بـالبـيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف, إذ عرض له رجل, فقال: يا ابن عمر أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فـي النـجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَدْنُو الـمُوءْمِنُ مِنْ رَبّهِ حتّـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بِذُنُوبِهِ, فَـيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ كَذَا؟ فَـيَقُولُ: رَبّ اغْفِرْ مَرّتَـيْنِ, حتـى إذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللّهُ أنْ يَبْلُغَ قَالَ: فَـإِنّـي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَـيْكَ فِـي الدّنْـيا, وأنا أغْفِرُها لَكَ الـيَوْمَ», قال: «فَـيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ أوْ كِتابَهُ بِـيَـمِينِهِ. وأمّا الكُفّـارُ وَالـمُنَافِقُونَ, فَـيُنَادَى بِهِمْ علـى رُءُوسِ الأشْهادِ: هَولاَءِ الّذِينَ كَذَبُوا علـى رَبِهِمْ, ألا لَعْنَةُ اللّهِ علـى الظّالِـمِينَ».
إن الله يفعل بعبده الـمؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله حتـى يعرّفه تفضله علـيه بعفوه له عنها, فكذلك فعله تعالـى ذكره فـي مـحاسبته إياه بـما أبداه من نفسه, وبـما أخفـاه من ذلك, ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرّمه علـيه, فـيستره علـيه, وذلك هو الـمغفرة التـي وعد الله عبـاده الـمؤمنـين, فقال: يغفر لـمن يشاء.
فإن قال قائل: فإن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ينبىء عن أن جميع الـخـلق غير مؤاخذين إلا بـما كسبته أنفسهم من ذنب, ولا مثابـين إلا بـما كسبته من خير. قـيـل: إن ذلك كذلك, وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله, أو ترك ما أمر بفعله.
فإن قال: فإذا كان ذلك كذلك, فما معنى وعيد الله عزّ وجلّ إيانا علـى ما أخفته أنفسنا بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} إن كان {لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا, من همّ بذنب, أو إرادة لـمعصية, لـم تكتسبه جوارحنا؟ قـيـل له: إن الله جلّ ثناؤه قد وعد الـمؤمنـين أن يعفو لهم عما هو أعظم مـما همّ به أحدهم من الـمعاصي فلـم يفعله, وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبـائرها, وإنـما الوعيد من الله عزّ وجلّ بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} علـى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تـخفـي الشكّ فـي الله, والـمرية فـي وحدانـيته, أو فـي نبوّة نبـيه صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله, أو فـي الـمعاد والبعث من الـمنافقـين, علـى نـحو ما قال ابن عبـاس ومـجاهد, ومن قال بـمثل قولهما أن تأويـل قوله: {أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} علـى الشكّ والـيقـين. غير أنا نقول إن الـمتوعد بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} هو من كان إخفـاء نفسه ما تـخفـيه الشكّ والـمرية فـي الله, وفـيـما يكون الشك فـيه بـالله كفرا, والـموعود الغفران بقوله: {فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ} هو الذي أخفـى, وما يخفـيه الهمة بـالتقدّم علـى بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التـي كان جائزا ابتداء تـحلـيـله وإبـاحته, فحرّمه علـى خـلقه جلّ ثناؤه, أو علـى ترك بعض ما أمر الله بفعله مـما كان جائزا ابتداء إبـاحة تركه, فأوجب فعله علـى خـلقه. فإن الذي يهمّ بذلك من الـمؤمنـين إذا هو لـم يصحح همه بـما يهمّ به, ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بـالتقدم علـيه لـم يكن مأخوذا, كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ, وَمَنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها لَـمْ تُكْتُبْ عَلَـيْهِ», فهذا الذي وصفنا, هو الذي يحاسب الله به مؤمنـي عبـاده ثم لا يعاقبهم علـيه.
فأما من كان ما أخفته نفسه شكا فـي الله وارتـيابـا فـي نبوّة أنبـيائه, فذلك هو الهالك الـمخـلد فـي النار, الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الألـيـم بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ}.
فتأويـل الآية إذا: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ} أيها الناس, فتظهروه {أوْ تُـخْفُوهُ} فتنطوي علـيه نفوسكم, {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فـيعرّف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه, ومغفرته له, فـيغفره له, ويعذّب منافقكم علـى الشكّ الذي انطوت علـيه نفسه فـي وحدانـية خالقه ونبوّة أنبـيائه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّهُ علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: والله عزّ وجلّ علـى العفو عما أخفته نفس هذا الـمؤمن من الهمة بـالـخطيئة, وعلـى عقاب هذا الكافر علـى ما أخفته نفسه من الشكّ فـي توحيد الله عزّ وجلّ, ونبوّة أنبـيائه, ومـجازاة كل واحد منهما علـى كل ما كان منه, وعلـى غير ذلك من الأمور قادرٌ.
الآية : 285
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: صدّق الرسول, يعنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأقرّ {بـما أُنْزِلَ إِلَـيْهِ} يعنـي بـما أوحي إلـيه من ربه من الكتاب, وما فـيه من حلال وحرام, ووعد ووعيد, وأمر ونهي, وغير ذلك من سائر ما فـيه من الـمعانـي التـي حواها. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما نزلت هذه الآية علـيه قال: «يَحقّ لَهُ».
5223ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} وذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم لـما نزلت هذه الآية قال: «وَيَحِقّ لَهُ أنْ يُوءْمِنَ».
وقد قـيـل: إنها نزلت بعد قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأن الـمؤمنـين برسول الله من أصحابه, شقّ علـيهم ما توعدهم الله به من مـحاسبتهم علـى ما أخفته نفوسهم, فشكوا ذلك إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَعَلّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيـلَ!» فقالوا: بل نقول: سمعنا وأطعنا! فأنزل الله لذلك من قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بـاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}. يقول: وصدّق الـمؤمنون أيضا مع نبـيهم بـالله وملائكته وكتبه ورسله الاَيتـين. وقد ذكرنا قائلـي ذلك قبل.
واختلف القراء فـي قراءة قوله: «وكتبه», فقرأ ذلك عامة قراء الـمدينة وبعض قراء أهل العراق: {وكُتُبِهِ} علـى وجه جمع الكتاب علـى معنى: والـمؤمنون كلّ آمن بـالله وملائكته وجميع كتبه التـي أنزلها علـى أنبـيائه ورسوله. وقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: «وكتابه» بـمعنى: والـمؤمنون كلّ آمن بـالله وملائكته, وبـالقرآن الذي أنزله علـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم. وقد رُوي عن ابن عبـاس أنه كان يقرأ ذلك وكتابه, ويقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكان ابن عبـاس يوجه تأويـل ذلك إلـى نـحو قوله: {وَالعَصْرِ إِنّ الإنْسَانَ لَفِـي خُسْرٍ} بـمعنى: جنس الناس وجنس الكتاب, كما يقال: ما أكثر درهم فلان وديناره, ويراد به جنس الدراهم والدنانـير. وذلك وإن كان مذهبـا من الـمذاهب معروفـا, فإن الذي هو أعجب إلـيّ من القراءة فـي ذلك أن يقرأ بلفظ الـجمع, لأن الذي قبله جمع, والذي بعده كذلك, أعنـي بذلك: «وملائكته وكتبه ورسله», فإلـحاق الكتب فـي الـجمع لفظا به أعجب إلـيّ من توحيده وإخراجه فـي اللفظ به بلفظ الواحد, لـيكون لاحقا فـي اللفظ والـمعنى بلفظ ما قبله وما بعده, وبـمعناه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.
وأما قوله: {لاَ نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فإنه أخبر جلّ ثناؤه بذلك عن الـمؤمنـين أنهم يقولون ذلك. ففـي الكلام فـي قراءة من قرأ: {لاَ نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} بـالنون متروك قد استغنـي بدلالة ما ذكر عنه, وذلك الـمتروك هو «يقولون».
(وتأويـل الكلام: والـمؤمنون كل آمن بـالله وملائكته وكتبه ورسله, يقولون: لا نفرّق بـين أحد من رسله. وترك ذكر «يقولون» لدلالة الكلام علـيه, كما ترك ذكره فـي قوله: {وَالـمَلاَئِكَةُ يَدْخُـلُونَ عَلَـيْهِمْ مِنْ كُلّ بـابٍ سَلامٌ عَلَـيْكُمْ بِـمَا صَبْرْتُـمْ} بـمعنى: يقولون سلام. وقد قرأ ذلك جماعة من الـمتقدّمين: «لا يُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» بـالـياء, بـمعنى: والـمؤمنون كلهم آمن بـالله وملائكته وكتبه ورسله, لا يفرّق الكل منهم بـين أحد من رسله, فـيؤمن ببعض, ويكفر ببعض, ولكنهم يصدقون بجميعهم, ويقرّون أن ما جاءوا به كان من عند الله, وأنهم دعوا إلـى الله وإلـى طاعته, ويخالفون فـي فعلهم ذلك الـيهود الذين أقرّوا بـموسى وكذّبوا عيسى, والنصارى الذين أقرّوا بـموسى وعيسى وكذّبوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وجحدوا نبوّته, ومن أشبههم من الأمـم الذين كذّبوا بعض رسل الله, وأقّروا ببعضه.) كما:
5224ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} كما صنع القوم, يعنـي بنـي إسرائيـل, قالوا: فلان نبـيّ, وفلان لـيس نبـيا, وفلان نؤمن به, وفلان لا نؤمن به.
والقراءة التـي لا نستـجيز غيرها فـي ذلك عندنا بـالنون: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} لأنها القراءة التـي قامت حجة بـالنقل الـمستفـيض الذي يـمتنع مع التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط, يعنـي ما وصفنا من يقولون: لا نفرّق بـين أحد من رسله. ولا يعترض بشاذّ من القراءة علـى ما جاءت به الـحجة نقلاً ورواية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَـيْكَ الـمَصِيرُ}.
(يعنـي بذلك جل ثناؤه: وقال الكلّ من الـمؤمنـين: {سَمِعْن} قول ربنا, وأمره إيانا بـما أمرنا به, ونهيه عما نهانا عنه, {وَأَطَعْن}: يعنـي أطعنا ربنا فـيـما ألزمنا من فرائضه, واستعبدنا به من طاعته, وسلـمنا له: وقوله: {غُفْرَانَكَ رَبّن} يعنـي: وقالوا غفرانك ربنا, بـمعنى: اغفر لنا, ربنا غفرانك, كما يقال: سبحانك, بـمعنى نسبحك سبحانك. وقد بـينا فـيـما مضى أن الغفران والـمغفرة: الستر من الله علـى ذنوب من غفر له, وصفحه له عن هتك ستره بها فـي الدنـيا والاَخرة, وعفوه عن العقوبة علـيه. وأما قوله: {وَإلَـيْكَ الـمَصِيرُ} فإنه يعنـي جل ثناؤه أنهم قالوا: وإلـيك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فـاغفر لنا ذنوبنا.)
فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله: {غُفْرَانَكَ}؟ قـيـل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر, وكذلك تفعل العرب بـالـمصادر والأسماء إذا حلت مـحل الأمر, وأدّت عن معنى الأمر نصبتها, فـيقولون: شكرا لله يا فلان, وحمدا له, بـمعنى: اشكر الله واحمده, والصلاةَ الصلاةَ: بـمعنى صلوا. ويقولون فـي الأسماء: اللّهَ اللّهَ يا قوم. ولو رفع بـمعنى هو الله, أو هذا الله ووجه إلـى الـخبر وفـيه تأويـل الاَمر كان جائزا, كما قال الشاعر:
إنّ قَوْما مِنْهُمْ عُمَيْرٌ وأشْبـاهُ عُمَيْرٍ ومِنْهُمُ السّفّـاحُ
لَـجَدِيرُونَ بـالوَفـاءِ إذَا قالَ أخو النّـجدَةِ السّلاحُ السّلاحُ
ولو كان قوله: {غُفْرَانَكَ رَبّنَ} جاء رفعا فـي القراءة لـم يكن خطأ, بل كان صوابـا علـى ما وصفنا.
وقد ذكر أن هذه الآية لـما نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من الله علـيه وعلـى أمته, قال له جبريـل صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلّ قد أحسن علـيك وعلـى أمتك الثناء, فسلْ ربك.
5225ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن بـيان, عن حكيـم بن جابر, قال: لـما أنزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بـاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَـيْكَ الـمَصِير} قال جبريـل: إن الله عزّ وجلّ قد أحسن الثناء علـيك, وعلـى أمتك, فسل تعطه! فسأل: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه}... إلـى آخر السورة.
الآية : 286
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} فـيتعبدها إلا بـما يسعها, فلا يضيق علـيها, ولا يجهدها. وقد بـينا فـيـما مضى قبل أن الوسع اسم من قول القائل: وسعنـي هذا الأمر مثل الـجُهْد والوُجْد من جهدنـي هذا الأمر ووجدت منه. كما:
5226ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} قال: هم الـمؤمنون, وسع الله علـيهم أمر دينهم, فقال الله جل ثناؤه: {وَما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الـيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} وَقالَ: {اتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُـمْ}.
5227ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن الزهري, عن عبد الله بن عبـاس, قال: لـما نزلت ضجّ الـمؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله هذا, نتوب من عمل الـيد والرجل واللسان, كيف نتوب من الوسوسة, كيف نـمتنع منها؟ فجاء جبريـل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} إنكم لا تستطيعون أن تـمتنعوا من الوسوسة.
5228ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} وسعها: طاقتها, وكان حديث النفس مـما لا يطيقون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه لها: للنفس التـي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها, يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير¹ وعلـيها: يعنـي وعلـى كل نفس ما اكتسبت: ما عملت من شرّ. كما:
5229ـ حدثنا بشر بن يزيد, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ} أي من خير {وَعَلَـيْها ما اكْتَسْبَتْ} أي من شرّ, أو قال: من سوء.
5230ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يقول: ما عملت من خير, {وَعَلَـيْها ما اكْتَسَبَتْ} يقول: وعلـيها ما عملت من شرّ.
حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, مثله.
5231ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن الزهري, عن عبد الله بن عبـاس: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} عمل الـيد والرجل واللسان.
فتأويـل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها, فلا يجهدها, ولا يضيق علـيها فـي أمر دينها, فـيؤاخذها بهمة إن همت, ولا بوسوسة إن عرضت لها, ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْن}.
(وهذا تعلـيـم من الله عزّ وجلّ عبـاده الـمؤمنـين دعاءه كيف يدعونه, وما يقولون فـي دعائهم إياه. ومعناه: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علـينا عمله فلـم نعمله, أو أخطأنا فـي فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه, علـى غير قصد منا إلـى معصيتك, ولكن علـى جهالة منا به وخطأ.) كما:
5232ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} إن نسينا شيئا مـما افترضته علـينا, أو أخطأنا شيئا مـما حرّمته علـينا.
5233ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة فـي قوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال: بلغنـي أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ تَـجَاوَزَ لِهَذِهِ الأُمّةِ عَنْ نِسْيانِها وَما حَدّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا».
5234ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال له جبريـل صلى الله عليه وسلم فقل ذلك يا مـحمد.
إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يؤاخذ الله عزّ وجلّ عبـاده بـما نسوا أو أخطئوا فـيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟ قـيـل: إن النسيان علـى وجهين: أحدهما: علـى وجه التضيـيع من العبد والتفريط¹ والاَخر: علـى وجه عجز الناسي عن حفظ ما استـحفظ, ووكل به وضعف عقله عن احتـماله, فأما الذي يكون من العبد علـى وجه التضيـيع منه والتفريط, فهو ترك منا لـما أمر بفعله, فذلك الذي يرغب العبد إلـى الله عزّ وجلّ فـي تركه مؤاخذته به, وهو النسيان الذي عاقب الله عزّ وجل به آدم صلوات الله علـيه, فأخرجه من الـجنة, فقال فـي ذلك: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إلـى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَـمْ نَـجِدْ لَهُ عَزْم} وهو النسيان الذي قال جلّ ثناؤه: {فـالْـيَوْمُ نَنْسَاهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَ} فرغبة العبد إلـى الله عزّ وجلّ بقوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} فـيـما كان من نسيان منه لـما أمر بفعله علـى هذا الوجه الذي وصفنا ما لـم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فـيه وتضيـيعا, كفرا بـالله عزّ وجلّ, فإن ذلك إذا كان كفرا بـالله فإن الرغبة إلـى الله فـي تركه الـمؤاخذة به غير جائزة, لأن الله عزّ وجلّ قد أخبر عبـاده أنه لا يغفر لهم الشرك به, فمسألته فعل ما قد أعلـمهم أنه لا يفعله خطأ, وإنـما يكون مسألته الـمغفرة فـيـما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه, وعن قراءته, ومثل نسيانه صلاة أو صياما, بـاشتغاله عنهما بغيرهما حتـى ضيعهما. وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنـيته عن حفظه, وقلة احتـمال عقله ما وكل بـمراعاته, فإن ذلك من العبد غير معصية, وهو به غير آثم, فذلك الذي لا وجه لـمسألة العبد ربه أن يغفره له, لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما لـيس له بذنب, وذلك مثل الأمر يغلب علـيه, وهو حريص علـى تذكره وحفظه, كالرجل يحرص علـى حفظ القرآن بجدّ منه, فـيقرؤه, ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه, ولكن بعجز بنـيته عن حفظه وقلة احتـمال عقله, ذكر ما أودع قلبه منه, وما أشبه ذلك من النسيان, فإن ذلك مـما لا يجوز مسألة الربّ مغفرته, لأنه لا ذنب للعبد فـيه, فـيغفر له بـاكتسابه. وكذلك للـخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فـيأتـيه بقصد منه وإرادة, فذلك خطأ منه, وهو به مأخوذ, يقال منه: خَطىء فلان وأخطأ فـيـما أتـى من الفعل, وأثم إذا أتـى ما يتأثم فـيه وركبه, ومنه قول الشاعر:
النّاس يَـلْـحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُخَطِئُوا الصّوَابَ وَلا يُلامُ الـمُرْشَدُ
يعنـي: أخطأوا الصواب. وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلـى ربه فـي صفح ما كان منه من إثم عنه, إلا ما كان من ذلك كفرا. والاَخر منهما: ما كان عنه علـى وجه الـجهل به والظنّ منه, بأن له فعله, كالذي يأكل فـي شهر رمضان لـيلاً, وهو يحسب أن الفجر لـم يطلع, أو يؤخر صلاة فـي يوم غيـم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها فـيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لـم يدخـل, فإن ذلك من الـخطأ الـموضوع عن العبد الذي وضع الله عزّ وجلّ عن عبـاده الإثم فـيه, فلا وجه لـمسألة العبد ربه أن يؤاخذه به, وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بـما نسي أو أخطأ, إنـما هو فعل منه لـما أمره به ربه تبـارك وتعالـى, أو لـما ندبه إلـيه من التذلل له والـخضوع بـالـمسألة, فأما علـى وجه مسألته الصفح, فما لا وجه له عندهم وللبـيان عن هؤلاء كتاب سنأتـي فـيه إن شاء الله علـى ما فـيه الكفـاية لـمن وفق لفهمه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن}.
(يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قولوا: ربنا لا تـحمل علـينا إصرا: يعنـي بـالإصر: العهد, كما قال جل ثناؤه: {قال أأقْرَرْتُـمْ وأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي}. وإنـما عنى بقوله: {وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر}: ولا تـحمل علـينا عهدا, فنعجز عن القـيام به ولا نستطيعه, {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} يعنـي علـى الـيهود والنصارى الذين كلفوا أعمالاً وأخذت عهودهم ومواثـيقهم علـى القـيام بها, فلـم يقوموا بها, فعوجلوا بـالعقوبة. فعلـم الله عزّ وجلّ أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم الرغبة إلـيه بـمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثـيقه علـى أعمال إن ضيعوها أو أخطأوا فـيها أو نسوها مثل الذي حمل من قبلهم, فـيحلّ بهم بخطئهم فـيه وتضيـيعهم إياه مثل الذي أحلّ بـمن قبلهم.)
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5235ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {لاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر} قال: لا تـحمل علـيها عهدا وميثاقا, {كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ} يقول: كما غلظ علـى من قبلنا.
5236ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن موسى بن قـيس الـحضرمي, عن مـجاهد فـي قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر} قال: عهدا.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {إصْر} قال: عهدا.
5237ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس فـي قوله: {إصْر} يقول: عهدا.
5238ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} والإصر: العهد الذي كان علـى من قبلنا من الـيهود.
5239ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج قوله: {وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر} قال: عهدا لا نطيقه, ولا نستطيع القـيام به, {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ} الـيهود والنصارى, فلـم يقوموا به فأهلكتهم.
5240ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك: {إصْر} قال: الـمواثـيق.
5241ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: الإصر: العهد¹ {وأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي} قال: عهدي.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {وَأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي} قال: عهدي.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تـحمل علـينا ذنوبـا وإثما كما حملت ذلك علـى من قبلنا من الأمـم, فتـمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم. ذكر من قال ذلك:
5242ـ حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي, قال: حدثنا بقـية بن الولـيد, عن علـيّ بن هارون, عن ابن جريج, عن عطاء بن أبـي ربـاح فـي قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} قال: لا تـمسخنا قردة وخنازير.
5243ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} لا تـحمل علـينا ذنبـا لـيس فـيه توبة ولا كفـارة.
وقال آخرون: معنى الإصر بكسر الألف: الثقل. ذكر من قال ذلك:
5244ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} يقول: التشديد الذي شددته علـى من قبلنا من أهل الكتاب.
5245ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألته, يعنـي مالكا, عن قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر} قال: الإصر: الأمر الغلـيظ.
فأما الأصر بفتـح الألف: فهو ما عطف الرجل علـى غيره من رحم أو قرابة, يقال: أصرتنـي رحم بـينـي وبـين فلان علـيه, بـمعنى: عطفتنـي علـيه, وما يأصرنـي علـيه: أي ما يعطفنـي علـيه, وبـينـي وبـينه أصر رحم يأصرنـي علـيه أصرا: يعنـي به: عاطفة رحم تعطفنـي علـيه.
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا وَلاَ تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القـيام به لثقل حمله علـينا. وكذلك كانت جماعة أهل التأويـل يتأوّلونه.) ذكر من قال ذلك:
5246ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {رَبّنا ولا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} تشديد يشدّد به كما شدّد علـى من كان قبلكم.
5247ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك قوله: {وَلا تُـحَمّلْنَا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: لا تـحملنا من الأعمال ما لا نطيق.
5248ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بهِ} لا تفترض علـينا من الدين ما لا طاقة لنا به, فنعجز عنه.
5249ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بِهِ} مسخ القردة والـخنازير.
5250ـ حدثنـي سلام بن سالـم الـخزاعي, قال: حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي, قال: حدثنا مـحمد بن شعيب بن سابور, عن سالـم بن شابور فـي قوله: {رَبّنا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: الغلـمة.
5251ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {رَبّنا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} من التغلـيظ والأغلال التـي كانت علـيهم من التـحريـم.
(وإنـما قلنا: إن تأويـل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القـيام به علـى نـحو الذي قلنا فـي ذلك, لأنه عقـيب مسألة الـمؤمنـين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخْطَأُوا, وأن لا يحمل علـيهم إصرا كما حمله علـى الذين من قبلهم, فكان إلـحاق ذلك بـمعنى ما قبله من مسألتهم فـي الدين أولـى مـما خالف ذلك الـمعنى.)
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَن}.
وفـي هذا أيضا من قول الله عزّ وجلّ خبرا عن الـمؤمنـين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تـيسير فرائضه علـيهم بقوله: {وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} لأنهم عقبوا ذلك بقولهم: {وَاعْفُ عَنّ} مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم فـي بعض ما أمرهم به من فرائضه, فـيصفح لهم عنه, ولا يعاقبهم علـيه, وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه علـى أبدانهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال بعض أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5252ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَاعْفُ عَنّ} قال: اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مـما أمرتنا به. وكذلك قوله: {وَاغْفِرْ لَن} يعنـي: واستر علـينا زلة إن أتـيناها فـيـما بـيننا وبـينك, فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها. وقد دللنا علـى معنى الـمغفرة فـيـما مضى قبل.
5253ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد {وَاغْفِرْ لَن} إن انتهكنا شيئا مـما نهيتنا عنه.
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَارْحَمْنَ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنـجينا بها من عقابك, فإنه لـيس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله, ولـيست أعمالنا منـجيتنا إن أنت لـم ترحمنا, فوفقنا لـما يرضيك عنا.) كما:
5254ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَارْحَمْنَ} قال: يقول: لا ننال العمل بـما أمرتنا به, ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك, قال: ولـم ينـج أحد إلا برحمتك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أنْتَ مَوْلاَنَا فَـانْصُرْنَا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: {أنْتَ مَوْلاَنَ} أنت ولـينا بنصرك دون من عاداك وكفر بك, لأنا مؤمنون بك ومطيعوك فـيـما أمرتنا ونهيتنا, فأنت ولـيّ من أطاعك, وعدوّ من كفر بك فعصاك, فـانصرنا لأنا حزبك, علـى القوم الكافرين الذي جحدوا وحدانـيتك, وعبدوا الاَلهة والأنداد دونك, وأطاعوا فـي معصيتك الشيطان. والـمولـى فـي هذا الـموضع الـمفعل من وَلَـى فلان أمر فلان فهو يـلـيه ولاية, وهو ولـيه ومولاه, وإنـما صارت الـياء من ولـى ألفـا لانفتاح اللام قبلها التـي هي عين الاسم.
وقد ذكر أن الله عزّ وجلّ لـما أنزل هذه الآية علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم, استـجاب الله له فـي ذلك كله. ذكر الأخبـار التـي جاءت بذلك:
5255ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم ومـحمد بن خـلف قالا: حدثنا آدم, قال: حدثنا ورقاء, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: قال لـما نزلت هذه الآية: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} قال: قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلـما انتهى إلـى قوله: {غُفْرَانَكَ رَبّنَ} قال الله عز وجل: «قد غفرت لكم», فلـما قرأ: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال الله عز وجل: «لا أحملكم» فلـما قرأ: {وَاغْفِرْ لَن} قال الله تبـارك وتعالـى: «قد غفرت لكم», فلـما قرأ: {وَارْحَمْن} قال الله عز وجل: «قد رحمتكم», فلـما قرأ: {وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال الله عز وجل: «قد نصرتكم علـيهم».
5256ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, قال: أتـى جبريـل النبـي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا مـحمد قل: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أوْ أخْطَأْن} فقالها, فقال جبريـل: قد فعل, وقال له جبريـل: قل {رَبّنَا لاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} فقالها, فقال جبريـل: قد فعل, فقال: قل {رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}, فقالها: فقال جبريـل صلى الله عليه وسلم: قد فعل, فقال: قل {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا عَلـى القَوْمِ الكافِرِينَ}. فقالها, فقال جبريـل: قد فعل.
5257ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْن} فقال له جبريـل: فعل ذلك يا مـحمد, {رَبّنَا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} فقال له جبريـل فـي كل ذلك: فعل ذلك يا مـحمد.
5258ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن آدم بن سلـيـمان مولـى خالد, قال: سمعت سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: أنزل الله عز وجل: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} إلـى قوله: {رَبّنَا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن}, فقرأ: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال: فقال: قد فعلت, {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ} فقال: قد فعلت, {رَبّنا وَلاَ تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: قد فعلت, {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: قد فعلت.
5259ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان, عن مصعب بن ثابت, عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب, عن أبـيه, عن أبـي هريرة, قال: أنزل الله عز وجل: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ نَعَمْ».
5260ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو حميد, عن سفـيان, عن آدم بن سلـيـمان, عن سعيد بن جبـير: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال: ويقول قد فعلت, {رَبّنا وَلا تَـحْمِل عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} قال: ويقول قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتـيـم سورة البقرة, ولـم تعطها الأمـم قبلها.
5261ـ حدثنا علـي بن حرب الـموصلـي, قال: حدثنا ابن فضيـل, قال: حدثنا عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس فـي قول الله عز وجل {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} إلـى قوله: {غُفْرَانَكَ رَبن} قال: قد غفرت لكم, {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} إلـى قوله: {لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال: لا أؤاخذكم, {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلَن} قال: لا أحمل علـيكم, إلـى قوله: {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلان} إلـى آخر السورة, قال: قد عفوت عنكم, وغفرت لكم, ورحمتكم, ونصرتكم علـى القوم الكافرين.
وروي عن الضحاك بن مزاحم أن إجابة الله للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
5262ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} كان جبريـل علـيه السلام يقول له سلها, فسألها نبـيّ الله ربه جل ثناءه, فأعطاه إياها, فكانت للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
5263ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق: أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة: {وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: آمين.
نهاية تفسير الإمام الطبرى
لسورة البقرة
050
048
الآية : 283
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِن كُنتُمْ عَلَىَ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته القراء فـي الأمصار جميعا «كاتبـا», بـمعنى: ولـم تـجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتـموه إلـى أجل مسمى «فرهان مقبوضة». وقرأ جماعة من الـمتقدمين: «ولـم تـجدوا كتابـا», بـمعنى: ولـم يكن لكم إلـى اكتتاب كتاب الدين سبـيـل, إما بتعذر الدواة والصحيفة, وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتـم الدواة والصحيفة.
والقراءة التـي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار: {وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِب} بـمعنى: من يكتب, لأن ذلك كذلك فـي مصاحف الـمسلـمين, وإن كنتـم أيها الـمتداينون فـي سفر بحيث لا تـجدون كاتبـا يكتب لكم, ولـم يكن لكم إلـى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتـموه إلـى أجل مسمى بـينكم الذي أمرتكم بـاكتتابه والإشهاد علـيه سبـيـل, فـارتهنوا بديونكم التـي تداينتـموها إلـى الأجل الـمسمى رهونا تقبضونها مـمن تداينونه كذلك لـيكون ثقة لكم بأموالكم. ذكر من قال ما قلنا فـي ذلك:
5178ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: {وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلَـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِبـا فَرُهُنٌ مَقْبُوضةٌ} فمن كان علـى سفر فبـايع بـيعا إلـى أجل فلـم يجد كاتبـا فرخص له فـي الرهان الـمقبوضة, ولـيس له إن وجد كاتبـا أن يرتهن.
5179ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِب} يقول: كاتبـا يكتب لكم, «فرهان مقبوضة».
حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, قال: ما كان من بـيع إلـى أجل, فأمر الله عزّ وجلّ أن يكتب ويشهد علـيه وذلك فـي الـمقام, فإن كان قوم علـى سفر تبـايعوا إلـى أجل فلـم يجدوا (كاتبـا), فرهان مقبوضة.
ذكر قول من تأوّل ذلك علـى القراءة التـي حكيناها:
5180ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد, عن مقسم, عن ابن عبـاس: فإن لـم تـجدوا كتابـا, يعنـي بـالكتاب: الكاتب والصحيفة والدواة والقلـم.
5181ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: أخبرنـي أبـي, عن ابن عبـاس أنه قرأ: «فإن لـم تـجدوا كتابـا», قال: ربـما وجد الرجل الصحيفة ولـم يجد كاتبـا.
5182ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, كان يقرؤهـا: «فإن لـم تـجدوا كتابـا», ويقول: ربـما وجد الكاتب ولـم توجد الصحيفة أو الـمداد, ونـحو هذا من القول.
5183ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيج, عن مـجاهد: «وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كِتابـا» يقول: مدادا, يقرؤها كذلك, يقول: فإن لـم تـجدوا مدادا, فعند ذلك تكون الرهون الـمقبوضة, {فرهان مقبوضة}, قال: لا يكون الرهن إلا فـي السفر.
5184ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن شعيب بن الـحبحاب, قال: إن أبـا العالـية كان يقرؤها: «فإن لـم تـجدوا كتابـا», قال أبو العالـية: توجد الدواة ولا توجد الصحيفة.
واختلف القراء فـي قراءة قوله: {فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} فقرأ ذلك عامة قراء الـحجاز والعراق: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} بـمعنى جماع رهن, كما الكبـاش جماع كبش, والبغال جماع بغل, والنعال جماع نعل. وقرأ ذلك جماعة آخرون: «فَرُهُنٌ مقبوضة» علـى معنى جمع رِهَان ورُهْن جمع الـجمع, وقد وجهه بعضهم إلـى أنها جمع رهن مثل سَقْـف وسُقُـف. وقرأه آخرون: {فرُهْنٌ} مخففة الهاء, علـى معنى جماع رَهْن, كما تـجمع السقـف سُقْـفـا¹ قالوا: ولا نعلـم اسما علـى فعل يجمع علـى فُعُل وفُعْل إلا الرّهْنْ والرّهْن والسّقُـف والسّقْـف.
والذي هو أولـى بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} لأن ذلك الـجمع الـمعروف لـما كان من اسم علـى فَعْل, كما يقال حَبْل وحبـال وكَعْب وكعاب, ونـحو ذلك من الأسماء. فأما جمع الفَعْل علـى الفُعُل أو الفُعْل فشاذّ قلـيـل إنـما جاء فـي أحرف يسيرة, وقـيـل سَقْـف وسُقُـف وَسُقْـف, وقَلْب وقُلُب وقُلْب من قلب النـخـل, وجَدّ وجُدّ. للـجد الذي هو بـمعنى الـحظّ. وأما ما جاء من جمع فَعْل علـى فُعْل فَثّطّ وثُطّ, ووَرْد ووُرْد, وخَوْد وخُود. وإنـما دعا الذي قرأ ذلك: «فَرُهْنٌ مَقْبُوضَةٌ» إلـى قراءته فـيـما أظن كذلك مع شذوذه فـي جمع فَعْل, أنه وجد الرّهان مستعملة فـي رِهان الـخيـل, فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الـملتبِس برهان الـخيـل, الذي هو بغير معنى الرّهان, الذي هو جمع رَهْن, ووجد الرّهُن مقولاً فـي جمع رَهْن, كما قال قعنب:
بـانَتْ سُعادُ وأمْسَى دُوَنها عَدَنُ
وَغَلِقَتْ عِنْدَها مِنْ قَلْبِكَ الرّهُنُ
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَـإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْـيُوءَدّ الّذِي اوءْتُـمِنَ أمانَتَهُ وَلْـيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ}.
(يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فإن كان الـمدين أمينا عند ربّ الـمال والدين فلـم يرتهن منه فـي سفره رهنا بدينه لأمانته عنده علـى ماله وثقته, فَلْـيَتّقِ الله الـمدين ربه, يقول: فلـيخف الله ربه فـي الذي علـيه من دين صاحبه أن يجحده, أو يـلطّ دونه, أو يحاول الذهاب به, فـيتعرّض من عقوبة الله ما لا قبل له به, ولـيؤدّ دينه الذي ائتـمنه علـيه إلـيه. وقد ذكرنا قول من قال هذا الـحكم من الله عزّ وجلّ ناسخ الأحكام التـي فـي الآية قبلها من أمر الله عزّ وجلّ بـالشهود والكتاب, وقد دللنا علـى أولـى ذلك بـالصواب من القول فـيه فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.) وقد:
5185ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {فَـإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُوءَدّ الّذِي اوءْتُـمِنَ أمانَتَهُ} إنـما يعنـي بذلك فـي السفر, فأما الـحضر فلا وهو واجد كاتبـا, فلـيس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا.
وهذا الذي قاله الضحاك, من أنه لـيس لربّ الدين ائتـمان الـمدين وهو واجد إلـى الكاتب والكتاب والإشهاد علـيه سبـيلاً وإن كانا فـي سفر, فكما قال لـما قد دللنا علـى صحته فـيـما مضى قبل.
وأما ما قاله ـ من الأمر فـي الرهن أيضا كذلك مثل الائتـمان فـي أنه لـيس لربّ الـحقّ الارتهان بـماله إذا وجد إلـى الكاتب والشهيد سبـيلاً فـي حضر أو سفر ـ فإنه قول لا معنى له لصحة الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «اشترى طعاما نَساءً, ورهن به درعا له». فجائز للرجل أن يرهن بـما علـيه, ويرتهن بـماله من حقّ فـي السفر والـحضر, لصحة الـخبر بـما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن معلوما أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـم يكن حين رهن من ذكرنا غير واجد كاتبـا ولا شهيدا, لأنه لـم يكن متعذرا علـيه بـمدينته فـي وقت من الأوقات الكاتب والشاهد, غير أنهما إذا تبـايعا برهن, فـالواجب علـيهما إذا وجدا سبـيلاً إلـى كاتب وشهيد, وكان البـيع أو الدين إلـى أجل مسمى أن يكتبـا ذلك ويشهدا علـى الـمال والرهن, وإنـما يجوز ترك الكاتب والإشهاد فـي ذلك حيث لا يكون لهما إلـى ذلك سبـيـل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَكْتُـمُوا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُـمْها فـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِـمَا تَعْمَلُونَ عَلِـيـمٌ}.
(وهذا خطاب من الله عزّ وجلّ للشهود الذين أمر الـمستدين وربّ الـمال بإشهادهم, فقال لهم: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا, ولا تكتـموا أيها الشهود بعد ما شهدتـم شهادتكم عند الـحكام, كما شهدتـم علـى ما شهدتـم علـيه¹ ولكن أجيبوا من شهدتـم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم علـى خصمه علـى حقه عند الـحاكم الذي يأخذ له بحقه. ثم أخبر الشاهد جل ثناؤه ما علـيه فـي كتـمان شهادته وإبـائه من أدائها والقـيام بها عند حاجة الـمستشهد إلـى قـيامه بها عند حاكم, أو ذي سلطان, فقال: {وَمَنْ يَكْتُـمْهَ}, يعنـي ومن يكتـم شهادته, {فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}, يقول: فـاجر قلبه, مكتسب بكتـمانه إياها معصية الله.) كما:
5186ـ حدثنـي الـمثنى, قال: أخبرنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَلاَ تَكْتُـموا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُـمْها فـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ} فلا يحلّ لأحد أن يكتـم شهادة هي عنده, وإن كانت علـى نفسه والوالدين, ومن يكتـمها فقد ركب إثما عظيـما.
5187ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قوله: {ومَنْ يَكْتُـمْها فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ} يقول: فـاجر قلبه.
5188ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: أكبر الكبـائر الإشراك بـالله, لأن الله يقول: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِـاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَـيْهِ الـجَنّةَ وَمأوُاهُ النّارُ} وشهادة الزور, وكتـمان الشهادة, لأن الله عزّ وجلّ يقول: {وَمَنْ يَكْتُـمْها فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}.
وقد روي عن ابن عبـاس أنه كان يقول: علـى الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر بها حيث استـخبر.
5189ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن مـحمد بن مسلـم, قال: أخبرنا عمرو بن دينار, عن ابن عبـاس, قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها, فأخبره بها, ولا تقل: أخبرْ بها عند الأمير¹ أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي.
وأما قوله: {وَاللّهُ بِـمَا تَعْمَلُونَ عَلِـيـمٌ} فإنه يعنـي بـما تعملون فـي شهادتكم من إقامتها والقـيام بها أو كتـمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إلـيها, وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانـيتها, {علـيـمٌ} يحصيه علـيكم لـيجزيكم بذلك كله جزاءكم, إما خيرا, وإما شرّا علـى قدر استـحقاقكم.
الآية : 284
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{للّهِ ما فِي السّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ} لله ملك كل ما فـي السموات وما فـي الأرض من صغير وكبـير, وإلـيه تدبـير جميعه, وبـيده صرفه وتقلـيبه, لا يخفـى علـيه منه شيء, لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه. وإنـما عنى بذلك جلّ ثناؤه: كتـمان الشهود الشهادة, يقول: لا تكتـموا الشهادة أيها الشهود, ومن يكتـمها يفجر قلبه, ولن يخفـى علـيّ كتـمانه, وذلك لأنـي بكل شيء علـيـم, وبـيدي صرف كل شيء فـي السموات والأرض وملكه, أعلـمه خفـيّ ذلك وجلّـيه, فـاتقوا عقابـي إياكم علـى كتـمانكم الشهادة. وعيدا من الله بذلك من كتـمها وتـخويفـا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فـاعل بهم فـي آخرتهم, وبـمن كان من نظرائهم مـمن انطوى كشحا علـى معصية فأضمرها, أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه من الـمـحاسبة علـيها, فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} يقول: وإن تظهروا فـيـما عندكم من الشهادة علـى حقّ ربّ الـمال الـجحود والإنكار, أو تـخفوا ذلك فتضمروه فـي أنفسكم وغير ذلك من سيىء أعمالكم, {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يعنـي بذلك: يحتسب به علـيكم من أعماله, فـيجازي من شاء منكم من الـمسيئين بسوء عمله, وغافر منكم لـمن شاء من الـمسيئين.
ثم اختلف أهل التأويـل فـيـما عنى بقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فقال بعضهم بـما قلنا من أنه عنى به الشهود فـي كتـمانهم الشهادة, وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم مـمن أضمر معصية أو أبداها. ذكر من قال ذلك:
5190ـ حدثنـي أبو زائدة زكريا بن يحيـى بن أبـي زائدة, قال: حدثنا أبو نفـيـل, عن يزيد بن أبـي زياد, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يقول: يعنِـي فـي الشهادة.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن يزيد بن أبـي زياد, عن مقسم, عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة.
5191ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: سئل داود عن قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فحدثنا عن عكرمة, قال: هي الشهادة إذا كتـمتها.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن عمرو وأبـي سعيد, أنه سمع عكرمة يقول فـي هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة.
5192ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن السدي, عن الشعبـي فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة.
حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد, عن مقسم, عن ابن عبـاس, أنه قال فـي هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: نزلت فـي كتـمان الشهادة وإقامتها.
حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن عكرمة فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يعنـي كتـمان الشهادة وإقامتها علـى وجهها.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية إعلاما من الله تبـارك وتعالـى عبـاده أنه مؤاخذهم بـما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مـما لـم يعملوه. ثم اختلف متأوّلو ذلك كذلك, فقال بعضهم: ثم نسخ الله ذلك بقوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ذكر من قال ذلك:
5193ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان, عن مصعب بن ثابت, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبـيه, عن أبـي هريرة, قال: لـما نزلت: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} اشتدّ ذلك علـى القوم, فقالوا: يا رسول الله إنا لـمؤاخذون بـما نـحدّث به أنفسنا؟ هلكنا! فأنزل الله عزّ وجلّ: {لاَ يُكْلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه} الآية, إلـى قوله: {رَبّنا لا تُوءَاخِذْنَا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنَ} قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: نَعَمْ». {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} إلـى آخر الآية, قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عزّ وجلّ نعم».
5194ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا سفـيان, عن آدم بن سلـيـمان مولـى خالد بن خالد, قال: سمعت سعيد بن جبـير يحدّث عن ابن عبـاس قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنَ يَشَاءْ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ} دخـل قلوبهم منها شيء لـم يدخـلها من شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَمِعْنا وأطَعْنا وَسَلّـمْنَا». قال: فألقـى الله عزّ وجلّ الإيـمان فـي قلوبهم, قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ}. قال أبو كريب: فقرأ: {رَبّنَا لا تُوءَاخِذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْن} قال: فقال: «قد فعلت». {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ} قال: «قد فعلت». {رَبّنا ولا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: «قد فعلت». {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَـانْصُرْنَا عَلَـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: «قد فعلت».
5195ـ حدثنـي أبو الرداد الـمصري عبد الله بن عبد السلام, قال: حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد, عن حيوة بن شريح, قال: سمعت يزيد بن أبـي حبـيب, يقول: قال ابن شهاب: حدثنـي سعيد بن مرجانة, قال: جئت عبد الله بن عمر, فتلا هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ}. ثم قال ابن عمر: لئن آخذنا بهذه الآية لنهلكنّ. ثم بكى ابن عمر حتـى سالت دموعه. قال: ثم جئت عبد الله بن العبـاس, فقلت: يا أبـا عبـاس, إنـي جئت ابن عمر فتلا هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}... الآية, ثم قال: لئن واخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتـى سالت دموعه. فقال ابن عبـاس: يغفر الله لعبد الله بن عمر لقد فرِق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فرق ابن عمر منها, فأنزل الله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فنسخ الله الوسوسة, وأثبت القول والفعل.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, عن سعيد بن مرجانة يحدّث: أنه بـينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}... الآية, فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكنّ! ثم بكى ابن عمر حتـى سمع نشيجه. فقال ابن مرجانة: فقمت حتـى أتـيت ابن عبـاس, فذكرت له ما تلا ابن عمر, وما فعل حين تلاها, فقال عبد الله بن عبـاس: يغفر الله لأبـي عبد الرحمن, لعمري لقد وجد الـمسلـمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر, فأنزل الله بعدها: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه} إلـى آخر السورة. قال ابن عبـاس: فكانت هذه الوسوسة مـما لا طاقة للـمسلـمين بها, وصار الأمر إلـى أن قضى الله عزّ وجلّ: أن للنفس ما كسبت وعلـيها ما اكتسبت فـي القول والفعل.
5196ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: سمعت الزهري يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: قرأها ابن عمر, فبكى وقال: إنا لـمؤاخذون بـما نـحدّث به أنفسنا! فبكى حتـى سمع نشيجه, فقام رجل من عنده, فأتـى ابن عبـاس, فذكر ذلك له, فقال: رحم الله ابن عمر لقد وجد الـمسلـمون نـحوا مـما وجد, حتـى نزلت: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5197ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن جعفر بن سلـيـمان, عن حميد الأعرج, عن مـجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}... الآية. فبكى! فدخـلت علـى ابن عبـاس, فذكرت له ذلك, فضحك ابن عبـاس فقال: يرحم الله ابن عمر, أو ما يدري فـيـم أنزلت؟ إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا, وقالوا: يا رسول الله هلكنا! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا سَمِعْنَا وأطَعْنا», فنسختها: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِـاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسلِهِ} إلـى قوله: {وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فتـجوّز لهم من حديث النفس, وأخذوا بـالأعمال.
5198ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن سفـيان بن حسين, عن الزهري, عن سالـم أن أبـاه قرأ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فدمعت عينه. فبلغ صنـيعه ابن عبـاس, فقال: يرحم الله أبـا عبد الرحمن! لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت, فنسختها الآية التـي بعدها: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}.
5199ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, قال: نسخت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}.
5200ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن آدم بن سلـيـمان, عن سعيد بن جبـير, قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قالوا: أنؤاخذ بـما حدثنا به أنفسنا ولـم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُوءَاخَذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْن} قال: ويقول: قد فعلت. قال: فأعطيت هذه الأمة خواتـيـم سورة البقرة, لـم تعطها الأمـم قبلها.
5201ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جرير بن نوح, قال: حدثنا إسماعيـل, عن عامر: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال: فنسختها الآية بعدها قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5202ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبـي: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: نسختها الآية التـي بعدها: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}. وقوله: {وَإِنْ تُبْدُو} قال: يحاسب بـما أبدى من سرّ أو أخفـى من سرّ, فنسختها التـي بعدها.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا سيار, عن الشعبـي, قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال: فكان فـيها شدة حتـى نزلت هذه الآية التـي بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فنسخت ما كان قبلها.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن ابن عون, قال: ذكروا عند الشعبـي: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} حتـى بلغ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فقال الشعبـي: إلـى هذا صار, رجعت إلـى آخر الآية.
5203ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: قال ابن مسعود: كانت الـمـحاسبة قبل أن تنزل: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فلـما نزلت نسخت الآية التـي كانت قبلها.
حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك, يذكر عن ابن مسعود, نـحوه.
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن بـيان, عن الشعبـي, قال: نسخت: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5204ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن موسى بن عبـيدة, عن مـحمد بن كعب وسفـيان, عن جابر, عن مـجاهد, وعن إبراهيـم بن مهاجر, عن مـجاهد, قالوا: نسخت هذه الآية: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}... الآية.
5205ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن جابر, عن عكرمة وعامر, بـمثله.
5206ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج, قال: حدثنا حماد بن حميد, عن الـحسن فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} إلـى آخر الآية, قال: مـحتها: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5207ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أنه قال: نسخت هذه الآية, يعنـي قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}... الآية التـي كانت قبلها: {إنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: نسختها قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه}.
5208ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي ابن زيد, قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}... إلـى آخر الآية, اشتدّت علـى الـمسلـمين, وشقت مشقة شديدة, فقالوا: يا رسول الله لو وقع فـي أنفسنا شيء لـم نعمل به واخذنا الله به؟ قال: «فَلَعَلّكُمْ تَقُولُونَ كَما قَالَ بَنُو إِسْرَائِيـلَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنا», قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله. قال: فنزل القرآن يفرجها عنهم: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِـاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} إلـى قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فصيره إلـى الأعمال, وترك ما يقع فـي القلوب.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج, قال: حدثنا هشيـم, عن سيار, عن أبـي الـحكم, عن الشعبـي, عن أبـي عبـيدة, عن عبد الله بن مسعود فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: نسخت هذه الآية التـي بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
5209ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بـما وسوست به أنفسهم وما عملوا, فشكوا ذلك إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: إن عمل أحدنا وإن لـم يعمل أُخذنا به؟ والله ما نـملك الوسوسة! فنسخها الله بهذه الآية التـي بعدها بقوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَه} فكان حديث النفس مـما لـم تطيقوا.
5210ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة أن عائشة أم الـمؤمنـين رضي الله عنها قالت: نسختها قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ}.
وقال آخرون مـمن قال معنى ذلك: «الإعلام من الله عز وجل عبـاده أنه مؤاخذهم بـما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم, وبـما حدثتهم به أنفسهم مـما لـم يعلـموه». هذه الآية مـحكمة غير منسوخة, والله عز وجل مـحاسب خـلقه علـى ما عملوا من عمل وعلـى ما لـم يعملوه مـما أصرّوه فـي أنفسهم ونووه وأرادوه, فـيغفره للـمؤمنـين, ويؤاخذ به أهل الكفر والنفـاق. ذكر من قال ذلك:
5211ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فإنها لـم تنسخ, ولكن الله عزّ وجل إذا جمع الـخلائق يوم القـيامة, يقول الله عزّ وجل: إنـي أخبركم بـما أخفـيتـم فـي أنفسكم مـما لـم تطلع علـيه ملائكتـي, فأما الـمؤمنون فـيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم, وهو قوله: {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يقول: يخبركم. وأما أهل الشكّ والريب, فـيخبرهم بـما أخفوا من التكذيب, وهو قوله: {فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} وهو قوله: {وَلَكِنْ يُوءَاخِذْكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} من الشكّ والنفـاق.
5212ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فذلك سرّ عملكم وعلانـيته, يحاسبكم به الله, فلـيس من عبد مؤمن يسر فـي نفسه خيرا لـيعمل به, فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات, وإن هو لـم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن, والله يرضى سرّ الـمؤمنـين وعلانـيتهم, وإن كان سوءا حدّث به نفسه اطلع الله علـيه وأخبره به يوم تبلـى السرائر, وإن هو لـم يعمل به لـم يؤاخذه الله به حتـى يعمل به, فإن هو عمل به تـجاوز الله عنه, كما قال: {أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَـجَاوَزُ عَنْ سَيّئَاتِهِمْ}.
5213ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ اللّهُ}... الآية. قال: قال ابن عبـاس: إن الله يقول يوم القـيامة: إن كتابـي لـم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها, فأما ما أسررتـم فـي أنفسكم فأنا أحاسبكم به الـيوم, فأغفر لـمن شئت, وأعذّب من شئت.
5214ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا علـيّ بن عاصم, قال: أخبرنا بـيان, عن بشر, عن قـيس بن أبـي حازم, قال: إذا كان يوم القـيامة, قال الله عزّ وجلّ يُسمِع الـخلائق: إنـما كان كتابـي يكتبون علـيكم ما ظهر منكم, فأما ما أسررتـم فلـم يكونوا يكتبونه, ولا يعلـمونه, أنا الله أعلـم بذلك كله منكم, فأغفر لـمن شئت, وأعذّب من شئت.
5215ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} كان ابن عبـاس يقول: إذا دعي الناس للـحساب, أخبرهم الله بـما كانوا يسرّون فـي أنفسهم مـما لـم يعملوه, فـيقول: إنه كان لا يعزب عنـي شيء, وإنـي مخبركم بـما كنتـم تسرّون من السوء, ولـم تكن حفظتكم علـيكم مطلعين علـيه. فهذه الـمـحاسبة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن عبـيد بن سلـيـمان, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, نـحوه.
5216ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمُ بِهِ اللّهُ} قال: هي مـحكمة لـم ينسخها شيء, يقول: يحاسبكم به الله, يقول: يعرّفه الله يوم القـيامة أنك أخفـيت فـي صدرك كذا وكذا لا يؤاخذه.
5217ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن عمرو بن عبـيد, عن الـحسن, قال: هي مـحكمة لـم تنسخ.
5218ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: من الشكّ والـيقـين.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} يقول: فـي الـيقـين والشك.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
فتأويـل هذه الآية علـى قول ابن عبـاس الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ} من شيء من الأعمال, فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم, أو تـخفوه فتسرّوه فـي أنفسكم, فلـم يطلع علـيه أحد من خـلقـي, أحاسبكم به, فأغفر كل ذلك لأهل الإيـمان, وأعذّب أهل الشرك والنفـاق فـي دينـي.
وأما علـى الرواية التـي رواها عنه الضحاك من رواية عبـيد بن سلـيـمان عنه, وعلـى ما قاله الربـيع بن أنس, فإن تأويـلها: إن تظهروا ما فـي أنفسكم فتعملوه من الـمعاصي, أو تضمروا إرادته فـي أنفسكم, فتـخفوه, يُعلـمْكم به الله يوم القـيامة, فـيغفر لـمن يشاء, ويعذّب من يشاء.
وأما قول مـجاهد فشبـيه معناه بـمعنى قول ابن عبـاس الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة.
وقال آخرون مـمن قال: «هذه الآية مـحكمة وهي غير منسوخة» ووافقوا الذين قالوا: «معنى ذلك أن الله عزّ وجلّ أعلـم عبـاده ما هو فـاعل بهم فـيـما أبدوا وأخفوا من أعمالهم»: معناها: أن الله مـحاسب جميع خـلقه بجميع ما أبدوا من سيىء أعمالهم, وجميع ما أسروه, ومعاقبهم علـيه, غير أن عقوبته إياهم علـى ما أخفوه مـما لـم يعملوه ما يحدث لهم فـي الدنـيا من الـمصائب, والأمور التـي يحزنون علـيها ويألـمون منها. ذكر من قال ذلك:
5219ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}... الآية, قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من همّ بسيئة فلـم يعملها أرسل الله علـيه من الهمّ والـحزن مثل الذي همّ به من السيئة فلـم يعملها, فكانت كفـارته.
حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بـمعصية, أَو يحدّث بها نفسه, حاسبه الله بها فـي الدنـيا, يخاف ويحزن ويهتـم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي أبو تـميـلة, عن عبـيد, عن الضحاك, قال: قالت عائشة فـي ذلك: كل عبد همّ بسوء ومعصية, وحدّث نفسه به, حاسبه الله فـي الدنـيا, يخاف ويحزن ويشتدّ همه, لا يناله من ذلك شيء, كما همّ بـالسوء ولـم يعمل منه شيئا.
5220ـ حدثنا الربـيع, قال: حدثنا أسد بن موسى, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, عن علـيّ بن زيد, عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ}, {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فقالت: ما سألنـي عنها أحد مذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «يا عائشة, هذه مُتَابَعَةُ الله العبد بـما يُصِيبُه من الـحُمّى والنكْبَة والشّوْكَة, حتـى البضاعة يَضَعُها فـي كمّه فـيفقدها فـيفزع لها, فـيجدها فـي ضِبْنِهِ حتـى إن الـمُوءْمِنَ لَـيَخْرُجُ من ذنوبه كما يخرج التّبْرُ الأحمر من الكِيرِ».
وأولـى الأقوال التـي ذكرناها بتأويـل الآية قول من قال: إنها مـحكمة ولـيست بـمنسوخة, وذلك أن النسخ لا يكون فـي حكم إلا ينفـيه بآخر له ناف من كل وجوهه, ولـيس فـي قوله جلّ وعزّ: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ} نفـي الـحكم الذي أعلـم عبـاده بقوله: {أوْ تُـخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} لأن الـمـحاسبة لـيست بـموجبة عقوبة, ولا مؤاخذة بـما حوسب علـيه العبد من ذنوبه, وقد أخبر الله عزّ وجلّ عن الـمـجرمين أنهم حين تُعرض علـيهم كتب أعمالهم يوم القـيامة, يقولون: {يا وَيْـلَتَنَا ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِـيرَةً إِلاّ أحْصَاهَ} فأخبر أن كتبهم مـحصية علـيهم صغائر أعمالهم وكبـائرها, فلـم تكن الكتب وإن أحصت صغائر الذنوب وكبـائرها بـموجب إحصاؤها علـى أهل الإيـمان بـالله ورسوله وأهل الطاعة له, أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبـين, لأن الله عزّ وجلّ وعدهم العفو عن الصغائر بـاجتنابهم الكبـائر, فقال فـي تنزيـله: {إِنْ تَـجْتَنِبُوا كَبـائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِـلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيـم} فدلّ أن مـحاسبة الله عبـاده الـمؤمنـين بـما هو مـحاسبهم به من الأمور التـي أخفتها أنفسهم غير موجبة لهم منه عقوبة, بل مـحاسبته إياهم إن شاء الله علـيها لـيعرّفهم تفضله علـيهم بعفوه لهم عنها كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الـخبر الذي:
5221ـ حدثنـي به أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أبـي, عن قتادة, عن صفوان بن مـحرز, عن ابن عمر, عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُدْنِـي اللّهُ عَبْدَهُ الـمُوءْمِنُ يَوْمَ القِـيَامَةِ حَتّـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بِسَيّئَاتِهِ يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَـيَقُولُ نَعَمْ, فَـيَقُولُ: سَتَرْتُها فِـي الدّنْـيَا وأغْفِرُها الـيَوْمَ. ثُمّ يُظْهِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ, فَـيَقُولُ: هاومُ اقْرَءُوا كِتابِـيَهْ» أو كما قال: «وأمّا الكَافِرُ, فَـإِنّهُ يُنَادَى بِهِ عَلـى رُءُوسِ الأشْهادِ».
5222ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ وسعيد وهشام, وحدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا هشام, قالا جميعا فـي حديثهما, عن قتادة, عن صفوان بن مـحرز, قال: بـينـما نـحن نطوف بـالبـيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف, إذ عرض له رجل, فقال: يا ابن عمر أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فـي النـجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَدْنُو الـمُوءْمِنُ مِنْ رَبّهِ حتّـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بِذُنُوبِهِ, فَـيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ كَذَا؟ فَـيَقُولُ: رَبّ اغْفِرْ مَرّتَـيْنِ, حتـى إذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللّهُ أنْ يَبْلُغَ قَالَ: فَـإِنّـي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَـيْكَ فِـي الدّنْـيا, وأنا أغْفِرُها لَكَ الـيَوْمَ», قال: «فَـيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ أوْ كِتابَهُ بِـيَـمِينِهِ. وأمّا الكُفّـارُ وَالـمُنَافِقُونَ, فَـيُنَادَى بِهِمْ علـى رُءُوسِ الأشْهادِ: هَولاَءِ الّذِينَ كَذَبُوا علـى رَبِهِمْ, ألا لَعْنَةُ اللّهِ علـى الظّالِـمِينَ».
إن الله يفعل بعبده الـمؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله حتـى يعرّفه تفضله علـيه بعفوه له عنها, فكذلك فعله تعالـى ذكره فـي مـحاسبته إياه بـما أبداه من نفسه, وبـما أخفـاه من ذلك, ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرّمه علـيه, فـيستره علـيه, وذلك هو الـمغفرة التـي وعد الله عبـاده الـمؤمنـين, فقال: يغفر لـمن يشاء.
فإن قال قائل: فإن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ينبىء عن أن جميع الـخـلق غير مؤاخذين إلا بـما كسبته أنفسهم من ذنب, ولا مثابـين إلا بـما كسبته من خير. قـيـل: إن ذلك كذلك, وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله, أو ترك ما أمر بفعله.
فإن قال: فإذا كان ذلك كذلك, فما معنى وعيد الله عزّ وجلّ إيانا علـى ما أخفته أنفسنا بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} إن كان {لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا, من همّ بذنب, أو إرادة لـمعصية, لـم تكتسبه جوارحنا؟ قـيـل له: إن الله جلّ ثناؤه قد وعد الـمؤمنـين أن يعفو لهم عما هو أعظم مـما همّ به أحدهم من الـمعاصي فلـم يفعله, وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبـائرها, وإنـما الوعيد من الله عزّ وجلّ بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} علـى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تـخفـي الشكّ فـي الله, والـمرية فـي وحدانـيته, أو فـي نبوّة نبـيه صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله, أو فـي الـمعاد والبعث من الـمنافقـين, علـى نـحو ما قال ابن عبـاس ومـجاهد, ومن قال بـمثل قولهما أن تأويـل قوله: {أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} علـى الشكّ والـيقـين. غير أنا نقول إن الـمتوعد بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} هو من كان إخفـاء نفسه ما تـخفـيه الشكّ والـمرية فـي الله, وفـيـما يكون الشك فـيه بـالله كفرا, والـموعود الغفران بقوله: {فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ} هو الذي أخفـى, وما يخفـيه الهمة بـالتقدّم علـى بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التـي كان جائزا ابتداء تـحلـيـله وإبـاحته, فحرّمه علـى خـلقه جلّ ثناؤه, أو علـى ترك بعض ما أمر الله بفعله مـما كان جائزا ابتداء إبـاحة تركه, فأوجب فعله علـى خـلقه. فإن الذي يهمّ بذلك من الـمؤمنـين إذا هو لـم يصحح همه بـما يهمّ به, ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بـالتقدم علـيه لـم يكن مأخوذا, كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ, وَمَنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها لَـمْ تُكْتُبْ عَلَـيْهِ», فهذا الذي وصفنا, هو الذي يحاسب الله به مؤمنـي عبـاده ثم لا يعاقبهم علـيه.
فأما من كان ما أخفته نفسه شكا فـي الله وارتـيابـا فـي نبوّة أنبـيائه, فذلك هو الهالك الـمخـلد فـي النار, الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الألـيـم بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ}.
فتأويـل الآية إذا: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ} أيها الناس, فتظهروه {أوْ تُـخْفُوهُ} فتنطوي علـيه نفوسكم, {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} فـيعرّف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه, ومغفرته له, فـيغفره له, ويعذّب منافقكم علـى الشكّ الذي انطوت علـيه نفسه فـي وحدانـية خالقه ونبوّة أنبـيائه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّهُ علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: والله عزّ وجلّ علـى العفو عما أخفته نفس هذا الـمؤمن من الهمة بـالـخطيئة, وعلـى عقاب هذا الكافر علـى ما أخفته نفسه من الشكّ فـي توحيد الله عزّ وجلّ, ونبوّة أنبـيائه, ومـجازاة كل واحد منهما علـى كل ما كان منه, وعلـى غير ذلك من الأمور قادرٌ.
الآية : 285
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: صدّق الرسول, يعنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأقرّ {بـما أُنْزِلَ إِلَـيْهِ} يعنـي بـما أوحي إلـيه من ربه من الكتاب, وما فـيه من حلال وحرام, ووعد ووعيد, وأمر ونهي, وغير ذلك من سائر ما فـيه من الـمعانـي التـي حواها. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما نزلت هذه الآية علـيه قال: «يَحقّ لَهُ».
5223ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} وذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم لـما نزلت هذه الآية قال: «وَيَحِقّ لَهُ أنْ يُوءْمِنَ».
وقد قـيـل: إنها نزلت بعد قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأن الـمؤمنـين برسول الله من أصحابه, شقّ علـيهم ما توعدهم الله به من مـحاسبتهم علـى ما أخفته نفوسهم, فشكوا ذلك إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَعَلّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيـلَ!» فقالوا: بل نقول: سمعنا وأطعنا! فأنزل الله لذلك من قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بـاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}. يقول: وصدّق الـمؤمنون أيضا مع نبـيهم بـالله وملائكته وكتبه ورسله الاَيتـين. وقد ذكرنا قائلـي ذلك قبل.
واختلف القراء فـي قراءة قوله: «وكتبه», فقرأ ذلك عامة قراء الـمدينة وبعض قراء أهل العراق: {وكُتُبِهِ} علـى وجه جمع الكتاب علـى معنى: والـمؤمنون كلّ آمن بـالله وملائكته وجميع كتبه التـي أنزلها علـى أنبـيائه ورسوله. وقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: «وكتابه» بـمعنى: والـمؤمنون كلّ آمن بـالله وملائكته, وبـالقرآن الذي أنزله علـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم. وقد رُوي عن ابن عبـاس أنه كان يقرأ ذلك وكتابه, ويقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكان ابن عبـاس يوجه تأويـل ذلك إلـى نـحو قوله: {وَالعَصْرِ إِنّ الإنْسَانَ لَفِـي خُسْرٍ} بـمعنى: جنس الناس وجنس الكتاب, كما يقال: ما أكثر درهم فلان وديناره, ويراد به جنس الدراهم والدنانـير. وذلك وإن كان مذهبـا من الـمذاهب معروفـا, فإن الذي هو أعجب إلـيّ من القراءة فـي ذلك أن يقرأ بلفظ الـجمع, لأن الذي قبله جمع, والذي بعده كذلك, أعنـي بذلك: «وملائكته وكتبه ورسله», فإلـحاق الكتب فـي الـجمع لفظا به أعجب إلـيّ من توحيده وإخراجه فـي اللفظ به بلفظ الواحد, لـيكون لاحقا فـي اللفظ والـمعنى بلفظ ما قبله وما بعده, وبـمعناه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.
وأما قوله: {لاَ نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فإنه أخبر جلّ ثناؤه بذلك عن الـمؤمنـين أنهم يقولون ذلك. ففـي الكلام فـي قراءة من قرأ: {لاَ نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} بـالنون متروك قد استغنـي بدلالة ما ذكر عنه, وذلك الـمتروك هو «يقولون».
(وتأويـل الكلام: والـمؤمنون كل آمن بـالله وملائكته وكتبه ورسله, يقولون: لا نفرّق بـين أحد من رسله. وترك ذكر «يقولون» لدلالة الكلام علـيه, كما ترك ذكره فـي قوله: {وَالـمَلاَئِكَةُ يَدْخُـلُونَ عَلَـيْهِمْ مِنْ كُلّ بـابٍ سَلامٌ عَلَـيْكُمْ بِـمَا صَبْرْتُـمْ} بـمعنى: يقولون سلام. وقد قرأ ذلك جماعة من الـمتقدّمين: «لا يُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» بـالـياء, بـمعنى: والـمؤمنون كلهم آمن بـالله وملائكته وكتبه ورسله, لا يفرّق الكل منهم بـين أحد من رسله, فـيؤمن ببعض, ويكفر ببعض, ولكنهم يصدقون بجميعهم, ويقرّون أن ما جاءوا به كان من عند الله, وأنهم دعوا إلـى الله وإلـى طاعته, ويخالفون فـي فعلهم ذلك الـيهود الذين أقرّوا بـموسى وكذّبوا عيسى, والنصارى الذين أقرّوا بـموسى وعيسى وكذّبوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وجحدوا نبوّته, ومن أشبههم من الأمـم الذين كذّبوا بعض رسل الله, وأقّروا ببعضه.) كما:
5224ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} كما صنع القوم, يعنـي بنـي إسرائيـل, قالوا: فلان نبـيّ, وفلان لـيس نبـيا, وفلان نؤمن به, وفلان لا نؤمن به.
والقراءة التـي لا نستـجيز غيرها فـي ذلك عندنا بـالنون: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} لأنها القراءة التـي قامت حجة بـالنقل الـمستفـيض الذي يـمتنع مع التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط, يعنـي ما وصفنا من يقولون: لا نفرّق بـين أحد من رسله. ولا يعترض بشاذّ من القراءة علـى ما جاءت به الـحجة نقلاً ورواية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَـيْكَ الـمَصِيرُ}.
(يعنـي بذلك جل ثناؤه: وقال الكلّ من الـمؤمنـين: {سَمِعْن} قول ربنا, وأمره إيانا بـما أمرنا به, ونهيه عما نهانا عنه, {وَأَطَعْن}: يعنـي أطعنا ربنا فـيـما ألزمنا من فرائضه, واستعبدنا به من طاعته, وسلـمنا له: وقوله: {غُفْرَانَكَ رَبّن} يعنـي: وقالوا غفرانك ربنا, بـمعنى: اغفر لنا, ربنا غفرانك, كما يقال: سبحانك, بـمعنى نسبحك سبحانك. وقد بـينا فـيـما مضى أن الغفران والـمغفرة: الستر من الله علـى ذنوب من غفر له, وصفحه له عن هتك ستره بها فـي الدنـيا والاَخرة, وعفوه عن العقوبة علـيه. وأما قوله: {وَإلَـيْكَ الـمَصِيرُ} فإنه يعنـي جل ثناؤه أنهم قالوا: وإلـيك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فـاغفر لنا ذنوبنا.)
فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله: {غُفْرَانَكَ}؟ قـيـل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر, وكذلك تفعل العرب بـالـمصادر والأسماء إذا حلت مـحل الأمر, وأدّت عن معنى الأمر نصبتها, فـيقولون: شكرا لله يا فلان, وحمدا له, بـمعنى: اشكر الله واحمده, والصلاةَ الصلاةَ: بـمعنى صلوا. ويقولون فـي الأسماء: اللّهَ اللّهَ يا قوم. ولو رفع بـمعنى هو الله, أو هذا الله ووجه إلـى الـخبر وفـيه تأويـل الاَمر كان جائزا, كما قال الشاعر:
إنّ قَوْما مِنْهُمْ عُمَيْرٌ وأشْبـاهُ عُمَيْرٍ ومِنْهُمُ السّفّـاحُ
لَـجَدِيرُونَ بـالوَفـاءِ إذَا قالَ أخو النّـجدَةِ السّلاحُ السّلاحُ
ولو كان قوله: {غُفْرَانَكَ رَبّنَ} جاء رفعا فـي القراءة لـم يكن خطأ, بل كان صوابـا علـى ما وصفنا.
وقد ذكر أن هذه الآية لـما نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من الله علـيه وعلـى أمته, قال له جبريـل صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلّ قد أحسن علـيك وعلـى أمتك الثناء, فسلْ ربك.
5225ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن بـيان, عن حكيـم بن جابر, قال: لـما أنزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بـاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَـيْكَ الـمَصِير} قال جبريـل: إن الله عزّ وجلّ قد أحسن الثناء علـيك, وعلـى أمتك, فسل تعطه! فسأل: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه}... إلـى آخر السورة.
الآية : 286
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} فـيتعبدها إلا بـما يسعها, فلا يضيق علـيها, ولا يجهدها. وقد بـينا فـيـما مضى قبل أن الوسع اسم من قول القائل: وسعنـي هذا الأمر مثل الـجُهْد والوُجْد من جهدنـي هذا الأمر ووجدت منه. كما:
5226ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} قال: هم الـمؤمنون, وسع الله علـيهم أمر دينهم, فقال الله جل ثناؤه: {وَما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الـيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} وَقالَ: {اتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُـمْ}.
5227ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن الزهري, عن عبد الله بن عبـاس, قال: لـما نزلت ضجّ الـمؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله هذا, نتوب من عمل الـيد والرجل واللسان, كيف نتوب من الوسوسة, كيف نـمتنع منها؟ فجاء جبريـل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} إنكم لا تستطيعون أن تـمتنعوا من الوسوسة.
5228ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} وسعها: طاقتها, وكان حديث النفس مـما لا يطيقون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه لها: للنفس التـي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها, يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير¹ وعلـيها: يعنـي وعلـى كل نفس ما اكتسبت: ما عملت من شرّ. كما:
5229ـ حدثنا بشر بن يزيد, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ} أي من خير {وَعَلَـيْها ما اكْتَسْبَتْ} أي من شرّ, أو قال: من سوء.
5230ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يقول: ما عملت من خير, {وَعَلَـيْها ما اكْتَسَبَتْ} يقول: وعلـيها ما عملت من شرّ.
حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, مثله.
5231ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن الزهري, عن عبد الله بن عبـاس: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} عمل الـيد والرجل واللسان.
فتأويـل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها, فلا يجهدها, ولا يضيق علـيها فـي أمر دينها, فـيؤاخذها بهمة إن همت, ولا بوسوسة إن عرضت لها, ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْن}.
(وهذا تعلـيـم من الله عزّ وجلّ عبـاده الـمؤمنـين دعاءه كيف يدعونه, وما يقولون فـي دعائهم إياه. ومعناه: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علـينا عمله فلـم نعمله, أو أخطأنا فـي فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه, علـى غير قصد منا إلـى معصيتك, ولكن علـى جهالة منا به وخطأ.) كما:
5232ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} إن نسينا شيئا مـما افترضته علـينا, أو أخطأنا شيئا مـما حرّمته علـينا.
5233ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة فـي قوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال: بلغنـي أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ تَـجَاوَزَ لِهَذِهِ الأُمّةِ عَنْ نِسْيانِها وَما حَدّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا».
5234ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال له جبريـل صلى الله عليه وسلم فقل ذلك يا مـحمد.
إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يؤاخذ الله عزّ وجلّ عبـاده بـما نسوا أو أخطئوا فـيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟ قـيـل: إن النسيان علـى وجهين: أحدهما: علـى وجه التضيـيع من العبد والتفريط¹ والاَخر: علـى وجه عجز الناسي عن حفظ ما استـحفظ, ووكل به وضعف عقله عن احتـماله, فأما الذي يكون من العبد علـى وجه التضيـيع منه والتفريط, فهو ترك منا لـما أمر بفعله, فذلك الذي يرغب العبد إلـى الله عزّ وجلّ فـي تركه مؤاخذته به, وهو النسيان الذي عاقب الله عزّ وجل به آدم صلوات الله علـيه, فأخرجه من الـجنة, فقال فـي ذلك: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إلـى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَـمْ نَـجِدْ لَهُ عَزْم} وهو النسيان الذي قال جلّ ثناؤه: {فـالْـيَوْمُ نَنْسَاهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَ} فرغبة العبد إلـى الله عزّ وجلّ بقوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} فـيـما كان من نسيان منه لـما أمر بفعله علـى هذا الوجه الذي وصفنا ما لـم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فـيه وتضيـيعا, كفرا بـالله عزّ وجلّ, فإن ذلك إذا كان كفرا بـالله فإن الرغبة إلـى الله فـي تركه الـمؤاخذة به غير جائزة, لأن الله عزّ وجلّ قد أخبر عبـاده أنه لا يغفر لهم الشرك به, فمسألته فعل ما قد أعلـمهم أنه لا يفعله خطأ, وإنـما يكون مسألته الـمغفرة فـيـما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه, وعن قراءته, ومثل نسيانه صلاة أو صياما, بـاشتغاله عنهما بغيرهما حتـى ضيعهما. وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنـيته عن حفظه, وقلة احتـمال عقله ما وكل بـمراعاته, فإن ذلك من العبد غير معصية, وهو به غير آثم, فذلك الذي لا وجه لـمسألة العبد ربه أن يغفره له, لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما لـيس له بذنب, وذلك مثل الأمر يغلب علـيه, وهو حريص علـى تذكره وحفظه, كالرجل يحرص علـى حفظ القرآن بجدّ منه, فـيقرؤه, ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه, ولكن بعجز بنـيته عن حفظه وقلة احتـمال عقله, ذكر ما أودع قلبه منه, وما أشبه ذلك من النسيان, فإن ذلك مـما لا يجوز مسألة الربّ مغفرته, لأنه لا ذنب للعبد فـيه, فـيغفر له بـاكتسابه. وكذلك للـخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فـيأتـيه بقصد منه وإرادة, فذلك خطأ منه, وهو به مأخوذ, يقال منه: خَطىء فلان وأخطأ فـيـما أتـى من الفعل, وأثم إذا أتـى ما يتأثم فـيه وركبه, ومنه قول الشاعر:
النّاس يَـلْـحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُخَطِئُوا الصّوَابَ وَلا يُلامُ الـمُرْشَدُ
يعنـي: أخطأوا الصواب. وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلـى ربه فـي صفح ما كان منه من إثم عنه, إلا ما كان من ذلك كفرا. والاَخر منهما: ما كان عنه علـى وجه الـجهل به والظنّ منه, بأن له فعله, كالذي يأكل فـي شهر رمضان لـيلاً, وهو يحسب أن الفجر لـم يطلع, أو يؤخر صلاة فـي يوم غيـم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها فـيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لـم يدخـل, فإن ذلك من الـخطأ الـموضوع عن العبد الذي وضع الله عزّ وجلّ عن عبـاده الإثم فـيه, فلا وجه لـمسألة العبد ربه أن يؤاخذه به, وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بـما نسي أو أخطأ, إنـما هو فعل منه لـما أمره به ربه تبـارك وتعالـى, أو لـما ندبه إلـيه من التذلل له والـخضوع بـالـمسألة, فأما علـى وجه مسألته الصفح, فما لا وجه له عندهم وللبـيان عن هؤلاء كتاب سنأتـي فـيه إن شاء الله علـى ما فـيه الكفـاية لـمن وفق لفهمه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن}.
(يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قولوا: ربنا لا تـحمل علـينا إصرا: يعنـي بـالإصر: العهد, كما قال جل ثناؤه: {قال أأقْرَرْتُـمْ وأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي}. وإنـما عنى بقوله: {وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر}: ولا تـحمل علـينا عهدا, فنعجز عن القـيام به ولا نستطيعه, {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} يعنـي علـى الـيهود والنصارى الذين كلفوا أعمالاً وأخذت عهودهم ومواثـيقهم علـى القـيام بها, فلـم يقوموا بها, فعوجلوا بـالعقوبة. فعلـم الله عزّ وجلّ أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم الرغبة إلـيه بـمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثـيقه علـى أعمال إن ضيعوها أو أخطأوا فـيها أو نسوها مثل الذي حمل من قبلهم, فـيحلّ بهم بخطئهم فـيه وتضيـيعهم إياه مثل الذي أحلّ بـمن قبلهم.)
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5235ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {لاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر} قال: لا تـحمل علـيها عهدا وميثاقا, {كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ} يقول: كما غلظ علـى من قبلنا.
5236ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن موسى بن قـيس الـحضرمي, عن مـجاهد فـي قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر} قال: عهدا.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {إصْر} قال: عهدا.
5237ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس فـي قوله: {إصْر} يقول: عهدا.
5238ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} والإصر: العهد الذي كان علـى من قبلنا من الـيهود.
5239ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج قوله: {وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر} قال: عهدا لا نطيقه, ولا نستطيع القـيام به, {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ} الـيهود والنصارى, فلـم يقوموا به فأهلكتهم.
5240ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك: {إصْر} قال: الـمواثـيق.
5241ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: الإصر: العهد¹ {وأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي} قال: عهدي.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {وَأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي} قال: عهدي.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تـحمل علـينا ذنوبـا وإثما كما حملت ذلك علـى من قبلنا من الأمـم, فتـمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم. ذكر من قال ذلك:
5242ـ حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي, قال: حدثنا بقـية بن الولـيد, عن علـيّ بن هارون, عن ابن جريج, عن عطاء بن أبـي ربـاح فـي قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} قال: لا تـمسخنا قردة وخنازير.
5243ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} لا تـحمل علـينا ذنبـا لـيس فـيه توبة ولا كفـارة.
وقال آخرون: معنى الإصر بكسر الألف: الثقل. ذكر من قال ذلك:
5244ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} يقول: التشديد الذي شددته علـى من قبلنا من أهل الكتاب.
5245ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألته, يعنـي مالكا, عن قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْر} قال: الإصر: الأمر الغلـيظ.
فأما الأصر بفتـح الألف: فهو ما عطف الرجل علـى غيره من رحم أو قرابة, يقال: أصرتنـي رحم بـينـي وبـين فلان علـيه, بـمعنى: عطفتنـي علـيه, وما يأصرنـي علـيه: أي ما يعطفنـي علـيه, وبـينـي وبـينه أصر رحم يأصرنـي علـيه أصرا: يعنـي به: عاطفة رحم تعطفنـي علـيه.
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا وَلاَ تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القـيام به لثقل حمله علـينا. وكذلك كانت جماعة أهل التأويـل يتأوّلونه.) ذكر من قال ذلك:
5246ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {رَبّنا ولا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} تشديد يشدّد به كما شدّد علـى من كان قبلكم.
5247ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك قوله: {وَلا تُـحَمّلْنَا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: لا تـحملنا من الأعمال ما لا نطيق.
5248ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بهِ} لا تفترض علـينا من الدين ما لا طاقة لنا به, فنعجز عنه.
5249ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بِهِ} مسخ القردة والـخنازير.
5250ـ حدثنـي سلام بن سالـم الـخزاعي, قال: حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي, قال: حدثنا مـحمد بن شعيب بن سابور, عن سالـم بن شابور فـي قوله: {رَبّنا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: الغلـمة.
5251ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {رَبّنا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} من التغلـيظ والأغلال التـي كانت علـيهم من التـحريـم.
(وإنـما قلنا: إن تأويـل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القـيام به علـى نـحو الذي قلنا فـي ذلك, لأنه عقـيب مسألة الـمؤمنـين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخْطَأُوا, وأن لا يحمل علـيهم إصرا كما حمله علـى الذين من قبلهم, فكان إلـحاق ذلك بـمعنى ما قبله من مسألتهم فـي الدين أولـى مـما خالف ذلك الـمعنى.)
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَن}.
وفـي هذا أيضا من قول الله عزّ وجلّ خبرا عن الـمؤمنـين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تـيسير فرائضه علـيهم بقوله: {وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} لأنهم عقبوا ذلك بقولهم: {وَاعْفُ عَنّ} مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم فـي بعض ما أمرهم به من فرائضه, فـيصفح لهم عنه, ولا يعاقبهم علـيه, وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه علـى أبدانهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال بعض أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5252ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَاعْفُ عَنّ} قال: اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مـما أمرتنا به. وكذلك قوله: {وَاغْفِرْ لَن} يعنـي: واستر علـينا زلة إن أتـيناها فـيـما بـيننا وبـينك, فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها. وقد دللنا علـى معنى الـمغفرة فـيـما مضى قبل.
5253ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد {وَاغْفِرْ لَن} إن انتهكنا شيئا مـما نهيتنا عنه.
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَارْحَمْنَ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنـجينا بها من عقابك, فإنه لـيس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله, ولـيست أعمالنا منـجيتنا إن أنت لـم ترحمنا, فوفقنا لـما يرضيك عنا.) كما:
5254ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَارْحَمْنَ} قال: يقول: لا ننال العمل بـما أمرتنا به, ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك, قال: ولـم ينـج أحد إلا برحمتك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أنْتَ مَوْلاَنَا فَـانْصُرْنَا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: {أنْتَ مَوْلاَنَ} أنت ولـينا بنصرك دون من عاداك وكفر بك, لأنا مؤمنون بك ومطيعوك فـيـما أمرتنا ونهيتنا, فأنت ولـيّ من أطاعك, وعدوّ من كفر بك فعصاك, فـانصرنا لأنا حزبك, علـى القوم الكافرين الذي جحدوا وحدانـيتك, وعبدوا الاَلهة والأنداد دونك, وأطاعوا فـي معصيتك الشيطان. والـمولـى فـي هذا الـموضع الـمفعل من وَلَـى فلان أمر فلان فهو يـلـيه ولاية, وهو ولـيه ومولاه, وإنـما صارت الـياء من ولـى ألفـا لانفتاح اللام قبلها التـي هي عين الاسم.
وقد ذكر أن الله عزّ وجلّ لـما أنزل هذه الآية علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم, استـجاب الله له فـي ذلك كله. ذكر الأخبـار التـي جاءت بذلك:
5255ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم ومـحمد بن خـلف قالا: حدثنا آدم, قال: حدثنا ورقاء, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: قال لـما نزلت هذه الآية: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} قال: قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلـما انتهى إلـى قوله: {غُفْرَانَكَ رَبّنَ} قال الله عز وجل: «قد غفرت لكم», فلـما قرأ: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال الله عز وجل: «لا أحملكم» فلـما قرأ: {وَاغْفِرْ لَن} قال الله تبـارك وتعالـى: «قد غفرت لكم», فلـما قرأ: {وَارْحَمْن} قال الله عز وجل: «قد رحمتكم», فلـما قرأ: {وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال الله عز وجل: «قد نصرتكم علـيهم».
5256ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, قال: أتـى جبريـل النبـي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا مـحمد قل: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أوْ أخْطَأْن} فقالها, فقال جبريـل: قد فعل, وقال له جبريـل: قل {رَبّنَا لاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} فقالها, فقال جبريـل: قد فعل, فقال: قل {رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}, فقالها: فقال جبريـل صلى الله عليه وسلم: قد فعل, فقال: قل {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا عَلـى القَوْمِ الكافِرِينَ}. فقالها, فقال جبريـل: قد فعل.
5257ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْن} فقال له جبريـل: فعل ذلك يا مـحمد, {رَبّنَا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} فقال له جبريـل فـي كل ذلك: فعل ذلك يا مـحمد.
5258ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, وحدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن آدم بن سلـيـمان مولـى خالد, قال: سمعت سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: أنزل الله عز وجل: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} إلـى قوله: {رَبّنَا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن}, فقرأ: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال: فقال: قد فعلت, {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ} فقال: قد فعلت, {رَبّنا وَلاَ تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: قد فعلت, {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: قد فعلت.
5259ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان, عن مصعب بن ثابت, عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب, عن أبـيه, عن أبـي هريرة, قال: أنزل الله عز وجل: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ نَعَمْ».
5260ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو حميد, عن سفـيان, عن آدم بن سلـيـمان, عن سعيد بن جبـير: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال: ويقول قد فعلت, {رَبّنا وَلا تَـحْمِل عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِن} قال: ويقول قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتـيـم سورة البقرة, ولـم تعطها الأمـم قبلها.
5261ـ حدثنا علـي بن حرب الـموصلـي, قال: حدثنا ابن فضيـل, قال: حدثنا عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس فـي قول الله عز وجل {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} إلـى قوله: {غُفْرَانَكَ رَبن} قال: قد غفرت لكم, {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَه} إلـى قوله: {لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} قال: لا أؤاخذكم, {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلَن} قال: لا أحمل علـيكم, إلـى قوله: {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلان} إلـى آخر السورة, قال: قد عفوت عنكم, وغفرت لكم, ورحمتكم, ونصرتكم علـى القوم الكافرين.
وروي عن الضحاك بن مزاحم أن إجابة الله للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
5262ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْن} كان جبريـل علـيه السلام يقول له سلها, فسألها نبـيّ الله ربه جل ثناءه, فأعطاه إياها, فكانت للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
5263ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق: أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة: {وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: آمين.
نهاية تفسير الإمام الطبرى
لسورة البقرة