تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 552 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 552

551

6- " وإذ قال عيسى ابن مريم " معطوف على "وإذ قال موسى" معمول لعامله، أو معمول لعامل مقدر معطوف على عامل الظرف الأول " يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة " أي أني رسول الله إليكم بالإنجيل مصدقاً لما بين يدي من التوراة لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة، بل هي مشتملة على التبشير بي، فكيف تنفرون عني وتخالفونني، وانتصاب مصدقاً على الحال، "و" كذا "مبشراً"، والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال، والمعنى: أني أرسلت إليكم حال كوني مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً بمن يأتي بعدي، وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير فلا مقتضى لتكذيبي، وأحمد اسم نبينا صلى الله عليه وسلم وهو علم منقول من الصفة، وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل، فيكون معناها أنه أكثر حمداً لله من غيره، أو من المفعول فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره. قرأ نافع وابن كثر وأبو عمرو والسلمي وزر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم "من بعدي" بفتح الياء. وقرأ الباقون بإسكانها "فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين" أي لما جاءهم عيسى بالمعجزات قالوا هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر، وقيل المراد محمد صلى الله عليه وسلم أي لما جاءهم بذلك قالوا هذه المقالة، والأول أولى. قرأ الجمهور "سحر" وقرأ حمزة والكسائي " ساحر ".
7- "ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام" أي لا أحد أكثر ظلماً منه حيث يفتري على الله الكذب، والحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي هو خير الأديان وأشرفها، لأن من كان كذلك فحقه أن لا يفتري على غيره الكذب، فكيف يفتريه على ربه. قرأ الجمهور "وهو يدعى" من الدعاء مبنياً للمفعول. وقرأ طلحة بن مصرف يدعي بفتح الياء وتشديد الدال من الادعاء مبنياً للفاعل، وإنما عدي بإلى لأنه ضمن معنى الانتماء والانتساب "والله لا يهدي القوم الظالمين" هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها. والمعنى: لا يهدي من اتصف بالظلم، والمذكورون من جملتهم.
8- "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم" الإطفاء: الإخماد، وأصله في النار، واستعير لما يجري مجراها من الظهرو. والمراد بنور الله القرآن: أي يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول، أو الإسلام، أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو الحجج والدلائل، أو جميع ما ذكر، ومعنى بأفواههم: بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن "والله متم نوره" بإظهاره في الآفاق وإعلائه على غيره. قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم "متم نوره" بالإضافة والباقون بتنوين متم "ولو كره الكافرون" ذلك فإنه كائن لا محالة، والجملة في محل نصب على الحال. قال ابن عطية: واللام في ليطفئوا لام مؤكدة دخلت على المفعول، لأن التقدير: يريدون أن يطفئوا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم، كقولك: لزيد ضربت، ولرؤيتك قصدت، وقيل هي لام العلة، والمفعول محذوف:أي يريدون إبطال القرآن أو دفع الإسلام أو هلاك الرسول ليطفئوا، وقيل إنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة بنفسها. قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر، وإليه ذهب الكسائي، ومثل هذا قوله: "يريد الله ليبين لكم".
وجملة 9- "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" مستأنفة مقررة لما قبلها والهدى القرآن أو المعجزات، ومعنى دين الحق، الملة الحقة، وهي ملة الإسلام، ومعنى ليظهره: ليجعله ظاهراً على جميع الأديان عالياً عليها غالباً لها ولو كره المشركون ذلك فإنه كائن لا محالة. قال مجاهد: ذلك إذا نزل عليسى لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام، والدين مصدر يعبر به عن الأديان المتعددة، وجواب لو في الموضعين محذوف، والتقدير أتمه وأظهره. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: وددنا لو أن الله أخبرنا بأحب الأعمال فنعمل به، فأخر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فقال الله: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" قال: هذه الآية في القتال وحده، وهم قوم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول الرجل: قاتلت وضربت بسيفي ولم يفعلوا، فنزلت. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عنه أيضاً قال: قالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه فأخبرهم الله فقال: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص" فكرهوا ذلك، فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "كأنهم بنيان مرصوص" قال: مثبت لا يزول ملصق بعضه على بعض. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب: والعاقب الذي ليس بعده نبي".
قوله: 10- "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم" جعل العمل المذكور بمنزلة [التجارة] لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار. قرأ الجمهور "تنجيكم" بالتخفيف من الإنجاء. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حيوة بالتشديد من التنجية.
ثم بين سبحانه هذه التجارة التي دل عليها فقال: 11- "تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم" وهو خبر في معنى الأمر للإيذان بوجوب الامتثال فكأنه قد وقع فأخبر بوقوعه، وقدم ذكر الأموال على الأنفس لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد. قرأ الجمهور تؤمنون وقرأ ابن مسعود آمنوا وجاهدوا على الأمر. قال الأخفش: تؤمنون عطف بيان لتجارة، والأولى أن تكون الجملة مستأنفة مبينة لما قبلها، والإشارة بقوله "ذلكم" إلى ما ذكر من الإيمان والجهاد، وهو مبتدأ وخبره "خير لكم" أي هذا الفعل خير لكم من أموالكم وأنفسكم "إن كنتم تعلمون" أي إن كنتم ممن يعلم فإنكم تعلمون أنه خير لكم، لا إذا كنتم من أهل الجهل فإنكم لا تعلمون ذلك.
12- "يغفر لكم ذنوبكم" هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، ولهذا جزم. قال الزجاج والمبرد: قوله تؤمنون معنى آمنوا، ولذلك جاء يغفر لكم مجزوماً. وقال الفراء: يغفر لكم جواب الاستفهام فجعله مجزوماً لكونه جواب الاستفهام، وقد غلطه أهل العلم. قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقال الرازي في توجيه قول الفراء: إن هل أدلكم في معنى الأمر عنده، يقال هل أنت ساكت: أي اسكت، وبيانه أن هل بمعنى الاستفهام، ثم يتدرج إلى أن يصير عرضاً وحثاً، والحث كالإغراء، والإغراء أمر. وقرأ زيد بن علي تؤمنوا، وتجاهدوا على إضمار لام الأمر. وقبل إن يغفر لكم مجزوم بشرط مقدر: أي إن تؤمنوا يغفر لكم، وقرأ بعضهم بالإدغام في يغفر لكم، والأول ترك الإدغام لأن الراء حرف متكرر فلا يحسن إدغامه في اللام "ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار" قد تقدم بيانه كيفية جري الأنار من تحت الجنات "ومساكن طيبة في جنات عدن" أي في جنات إقامة "ذلك الفوز العظيم" أي ذلك المذكور في المغفرة، وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو الفزو الذي لا فوز بعده، والظفر الذي لا ظفر يماثله.
13- "وأخرى تحبونها". قال الأخفش والفراء: أخرى معطوفة على تجارة فهي في محل خفض: أي وهل أدلكم على خلصة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة، وقيل هي في محل رفع: أي ولكم خصلة أخرى، وقيل في محل نصب: أي ويعطيكم خصلة أخرى. ثم بين سبحانه هذه الآخرة فقال: "نصر من الله وفتح قريب" أي هي نصر من الله لكم، وفتح قريب. قال الكلبي: يعني النصر على قريش وفتح مكة. وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم "وبشر المؤمنين" معطوف على محذوف: أي قل يا أهيا الذين آمنوا وبشر، أو على تؤمنون لأنه في معنى الأمر، والمعنى: وبشر يا محمد المؤمنين بالنصر والفتح، أو بشرهم بالنصر في الدنيا والفتح، وبالجنة في الآخرة، أو وبشرهم بالجنة في الآخرة.
ثم حض سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال: 14- "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله" أي دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع " أنصار الله " بالتنوين وترك الإضافة. وقرأ الباقون بالإضافة، والرسم يحتمل القراءتين معاً، واختار أبو عيد قراءة الإضافة لقوله "نحن أنصار الله" بالإضافة "كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله" أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى "من أنصاري إلى الله" قالوا "نحن أنصار الله" والكاف في كما قال نعت مصدر محذوف تقديره: كونوا كوناً كما قال، وقيل الكاف في محل نصب على إضمار الفعل، وقيل هو كلام محمول على معناه دون لفظه، والمعنى: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله. وقوله: "إلى الله" قيل إلى بمعنى مع: أي من أنصاري مع الله، وقيل التقدير: من أنصاري فيما يقرب إلى الله، وقيل التقدير: من أنصاري متوجهاً إلى نصرة الله، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة آل عمران. والحواريون هم أنصار المسيح وخلص أصحابه، وأول من آمن به، وقد تقدم بيانهم "فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة" أي آمنت طائفة بعيسى وكفرت به طائفة، وذلك لأنهم لما اختلفوا بعد رفعه تفرقوا وتقاتلوا "فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم" أي قوينا المحقين منه على المبطلين" فأصبحوا ظاهرين" أي عالين غالبين، وقيل المعنى: فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعاً. وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ فنزلت "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم" فكرهوا فنزيت "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون" إلى قوله: "بنيان مرصوص". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله" قال: قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلاً فبايعوه عند العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه. وأخرج ابن إسحاق وابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة:أخرجوا إليه اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم". وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء:إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل قومي، قالوا نعم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "فأيدنا الذين آمنوا" قال: فقوينا الذين آمنوا، وأخرج ابن أبي حاتم عنه فأيدنا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته على عدوهم فأصبحوا اليوم ظاهرين.