تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 592 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 592

591

16- "بل تؤثرون الحياة الدنيا" هذا إضراب عن كلام مقدر يدل عليه السياق: أي لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا. قرأ الجمهور "تؤثرون" بالفوقية على الخطاب، ويؤيدها قراءة أبي بل أنتم تؤثرون وقرأ أبو عمرو بالتحتية على الغيبة. قيل والمراد بالآية الكفرة، والمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا بها والاطمئنان إليها والإعراض عن الآخرة بالكلية، وقيل المراد بها جميع الناس من مؤمن وكافر، والمراد بإيثارها ما هو أعم من ذلك مما لا يخلو عنه غالب الناس من تأثير جانب الدنيا على الآخرة، والتوجه إلى تحصيل منافعها والاهتمام بها اهتماماً زائداً على اهتمامه بالطاعات.
17- "والآخرة خير وأبقى" في محل نصب على الحال من فاعل تؤثرون: أي والحال أن الدار الآخرة التي هي الجنة أفضل وأدوم من الدنيا، قال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى؟.
والإشارة بقوله: 18- "إن هذا" إلى ما تقدم من فلاح مت تزكى وما بعده، وقيل إنه إشارة إلى جميع السورة، ومعنى "لفي الصحف الأولى" أي ثابت فيها.
وقوله: 19- "صحف إبراهيم وموسى" بدل من الصحف الأولى. قال قتادة وابن زيد: يريد بقوله: "إن هذا" والآخرة خير وأبقى. وقالا: تتابعت كتب الله عز وجل أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا. وقال الحسن: تتابعت كتب الله جل ثناؤه إن هذا لفي الصحف الأولى، وهو قوله: "قد أفلح" إلى آخر السورة. قرأ الجمهور " لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم " بضم الحاء في الموضعين، وقرأ الأعمش وهارون وأبو عمرو في رواية عنه بسكونها فيهما، وقرأ الجمهور إبراهيم بالألف بعد الراء وبالياء بعد الهاء، وقرأ أبو رجاء بحذفهما وفتح الهاء، وقرأ أبو موسى وابن الزبير إبراهيم بألفين. وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة بن عامر الجهني قال: "لما نزلت "فسبح باسم ربك العظيم" قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت "سبح اسم ربك الأعلى" قال: اجعلوها في سجودكم" ولا مطعن في إسناده. وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ "سبح اسم ربك الأعلى" قال: سبحان ربي الأعلى". قال أبو داود: خولف فيه وكيع، فرواه شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد ابن عباس موقوفاً. وأخرجه موقوفاً أيضاً عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ "سبح اسم ربك الأعلى" قال: سبحان ربي الأعلى وفي لفظ لعبد بن حميد عنه قال: "إذا قرأت "سبح اسم ربك الأعلى" فقل: سبحان ربي الأعلى" وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب أنه قرأ "سبح اسم ربك الأعلى" فقال: سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة، فقيل له أتزيد في القرآن؟ قال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن أبي موسى الأشعري أنه قرأ في الجمعة بـ"سبح اسم ربك الأعلى" فقال: سبحان ربي الأعلى. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عمر يقرأ "سبح اسم ربك الأعلى" فقال: سبحان ربي الأعلى، وكذلك هي في قراءة أبي بن كعب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عبد الله بن الزبير أنه قرأ "سبح اسم ربك الأعلى" فقال: سبحان ربي الأعلى، وهو في الصلاة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فجعله غثاء" قال: هشيماً "أحوى" قال متغيراً. وأخرج ابن مردويه عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينسى، فقيل له قد كفيناك ذلك ونزلت "سنقرئك فلا تنسى"". وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس " إلا ما شاء الله " يقول : إلا ما شئت أنا فأنسيك . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "ونيسرك لليسرى" قال: للخير. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود "ونيسرك لليسرى" قال: الجنة. وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "قد أفلح من تزكى" قال "من شهد أن لا إله إلا الله، وقطع الأنداد، وشهد أني رسول الله "وذكر اسم ربه فصلى" قال: هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها والاهتمام بمواقيتها". قال البزار: لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قد أفلح من تزكى" قال: من الشرك "وذكر اسم ربه" قال: وحد الله "فصلى" قال: الصلوات الخمس. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس "قد أفلح من تزكى" قال: من قال لا إله إلا الله. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن مردويه والبيهقي في سننه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى "". وفي لفظ قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن زكاة الفطر، فقال: "قد أفلح من تزكى" قال: هي زكاة الفطر" وكثير بن عبد الله ضعيف جداً، قال فيه أبو داود: هو ركن من أركان الكذب، وقد صحح الترمذي حديثاً من طريقه، وخطئ في ذلك، ولكنه يشهد له ما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى " ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر" وليس في هذين الحديثين ما يدل على أن ذلك سبب النزول، بل فيهما أنه صلى الله عليه وسلم تلا الآية وقوله: هي زكاة الفطر، يمكن أن يراد به أنها مما يصدق عليه التزكي، وقد قدمنا أن السورة مكية، ولم تكن في مكة صلاة عيد ولا فطرة، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري "قد أفلح من تزكى" قال: أعطي صدقة الفطر قبل أن يخرج إلى العيد "وذكر اسم ربه فصلى" قال: خرج إلى العيد وصلى: وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال إنما أنزلت هذه الآية في إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى ". وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله: "قد أفلح من تزكى" للفطر قال: لم أسمع بذلك، ولكن للزكاة كلها. ثم عاودته فقال لي: والصدقات كلها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن عرفجة الثقفي قال: استقرأت ابن مسعود "سبح اسم ربك الأعلى" فلما بلغ "بل تؤثرون الحياة الدنيا" ترك القراءة، وأقبل على أصحابه فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل، وقال: " بل تؤثرون الحياة الدنيا " بالياء. وأخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي كلها في صحف إبراهيم وموسى". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال: نسخت هذه السورة من صحف إبراهيم وموسى، وفي لفظ: هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال "قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب" الحديث. سورة الغاشية هي ست وعشرون آية، وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الغاشية بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وقد تقدم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ "سبح اسم ربك الأعلى"، والغاشية في صلاة العيد، ويوم الجمعة". قوله: 1- "هل أتاك حديث الغاشية" قال جماعة من المفسرين: هل هنا بمعنى قد، وبه قال قطرب: أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، وهي القيامة لأنها تغشى الخلائق بأهوالها. وقيل إن بقاء هل هنا على معناها الاستفهامي المتضمن للتعجيب مما في خبره والتشويق إلى استماعه أولى. وقد ذهب إلى أن المراد بالغاشية هنا القيامة أكثر المفسرين. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: الغاشية النار تغشى وجوه الكفار كما في قوله: "وتغشى وجوههم النار" وقيل الغاشية أهل النار لأنهم يغشونها ويقتحمونها والأول أولى. قال الكلبي: المعنى إن لم يكن أتاك حديث الغاشية.
فقد أتاك 2- " وجوه يومئذ خاشعة " الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما هو؟ أو مستأنفة استئنافاً نحوياً لبيان ما تضمنته من كون ثم وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفة المذكورة، ووجوه مرتفع على الابتداء وإن كانت نكرة لوقوعه في مقام التفصيل، وقد تقدم مثل هذا في سورة القيامة، وفي سورة النازعات. والتنوين في يومئذ عوص عن المضاف إليه: أي يوم غشيان الغاشية، والخاشعة الذليلة الخاضعة، وكل متضائل ساكن يقال له خاشع، يقال خشع الصوت: إذا خفي، وخشع في صلاته: إذا تذلل ونكس رأسه. والمراد بالوجوه هنا أصحابها. قال مقاتل: يعني الكفار لأنهم تكبروا عن عبادة الله. قال قتادة وابن زيد: خاشعة في النار، وقيل أراد وجوه اليهود والنصارى على الخصوص. والأول أولى.
قوله: 3- "عاملة ناصبة" معنى عاملة أنها تعمل عملاً شاقاً. قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقة: قد عمل يعمل عملاً. قيل وهذا العمل هو جر السلاسل والأغلال والخوض في النار "ناصبة" أي تعبة، يقال نصب بالكسر ينصب نصباً: إذا تعب، والمعنى: أنها في الآخرة تعبة لما تلاقيه من عذاب الله. وقيل إن قوله: "عاملة" في الدنيا إذ لا عمل في الآخرة: أي تعمل في الدنيا بالكفر والمعاصي، وتنصب في ذلك. وقيل إنها عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة، والأول أولى. قال قتادة "عاملة ناصبة" تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها الله، وأنصبها في النار بجر السلاسل الثقال وحمل الأغلال والوقوف حفاة عراة في العرصات "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب فأعملها وأنصبها في جهنم. قال الكلبي: يجرون على وجوههم في النار. وقال أيضاً: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. قرأ الجمهور "عاملة ناصبة" بالرفع فيهما على أنهما خبران آخران للمبتدأ، أو على تقدير مبتدأ، وهما خبران له، وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد وابن كثير في رواية عنه بنصبهما على الحال أو على الذم.
وقوله: 4- "تصلى ناراً حامية" خبر آخر للمبتدأ. أي تدخل ناراً متناهية في الحر، يقال حمي النهار وحمي التنور: أي اشتد حرهما. قال الكسائي: يقال اشتد حمى النهار وحموه بمعنى. قرأ الجمهور "تصلى" بفتح التاء مبنياً للفاعل. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمهما مبنياً للمفعول. وقرأ أبو رجاء بضم التاء وفتح الصاد وتشديد اللام، والضمير راجع إلى الوجوه على جيمع هذه القراءات، والمراد أصحابها كما تقدم، وهكذا الضمير.
5- "تسقى من عين آنية" والمراد بالعين الآنية: المتناهية في الحر، والآني: الذي قد انتهى حره، من الإيناء بمعنى التأخر، يقال آناه يؤنيه إيناء: أي أخره وحبسه كما في قوله: "يطوفون بينها وبين حميم آن" قال الواحدي: قال المفسرون لو وقعت منها نطفة على جبال الدنيا لذابت.
ولما ذكر سبحانه شرابهم عقبه بذكر طعامهم فقال: 6- "ليس لهم طعام إلا من ضريع" هو نوع من الشوك يقال له الشبرق في لسان قريش إذا كان رطباً، فإذايبس فهو الضريع. كذا قال مجاهد وقتادة وغيرهما من المفسرين. قيل وهو سم قاتل، وإذا يبس لا تقربه دابة ولا ترعاه، وقيل هو شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات الناس، فإذا رعت منه الإبل لم تشبع وهلكت هزالاً. قال الخليل: الضريع نبات أخضر منتن الريح يرمي به البحر. وجمهور أهل اللغة والتفسير قالوا: بالأول، ومنه قول أبي ذؤيب: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وعاد ضريعاً بان عنه التحايص وقال الهذلي إبلاً وسوء مرعاها: وحبس في هرم الضـــريع وكلهــا قرنـاء داميــة اليــديـن جــرود وقال سعيد بن جبير: الضريع الحجارة، وقيل هو شجرة في نار جهنم. وقال الحسن: وهو بعض ما أخفاه الله من العذاب. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله بالخلاص منه، فسمي بذلك لأن آكله يتضرع إلى الله في أن يعفي عنه لكراهته وخشونته. قال النحاس: قد يكون مشتقاً من الضارع وهو الذليل: أي من شربه يلحقه ضراعة وذلة. وقال الحسن أيضاً: هو الزقوم، وقيل هو واد في جهنم، وقد تقدم في سورة الحاقة " فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين " والغسلين غير الضريع كما تقدم، وجمع بين الآيتين بأن النار دركات، فمنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين.
ثم وصف سبحانه الضريع فقال: 7- "لا يسمن ولا يغني من جوع" أي لا يسمن الضريع آكله ولا يدفع عنه ما به من الجوع. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية. قال المشركون: إن إبلنا تسمن من الضريع، فنزلت "لا يسمن ولا يغني من جوع" وكذبوا في قولهم هذا، فإن الإبل لا تأكل الضريع ولا تقربه. وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبات النافع.
ثم شرع سبحانه في بيان حال أهل الجنة بعد الفراغ من بيان حال أهل النار فقال: 8- "وجوه يومئذ ناعمة" أي ذات نعمة وبهجة، وهي وجوه المؤمنين صارت وجوههم ناعمة لما شاهدوا من عاقبة أمرهم وما أعده الله لهم من الخير الذي يفوق الوصف، ومثله قوله: "تعرف في وجوههم نضرة النعيم".
ثم قال: 9- "لسعيها راضية" أي لعلمها الذي عملته في الدنيا راضية، لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها وقرت به عيونها، والمراد بالوجوه هنا أصحابها كما تقدم.
10- "في جنة عالية" أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة، أو عالية القدر لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
11- "لا تسمع فيها لاغية" قرأ الجمهور "لا تسمع" بفتح الفوقية ونصب "لاغية": أي لا تسمع أنت أيها المخاطب، أو لا تسمع تلك الوجوه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتحتية مضمونة مبنياً للمفعول ورفع لاغية. وقرأ نافع بالفوقية مضمومة مبنياً للمفعول ورفع لاغية. وقرأ الفضل والجحدري بفتح التحتية مبنياً للفاعل ونصب لاغية، واللغو الكلام الساقط. قال الفراء والأخفش: أي لا تسمع فيها كلمة لغو. قيل المراد بذلك الكذب والبهتان والكفر قاله قتادة: وقال مجاهد: أي الشتم. وقال الفراء: لا تسمع فيها حالفاً يحلف بكذب. وقال الكلبي: لا تسمع في الجنة حالفاً بيمين برة ولا فاجرة. وقال الفراء: أيضاً لا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة تلغى لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم، وهذا أرجح الأقوال لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم، ولا وجه لتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص إلا بمخصص يصلح للتخصيص، ولاغية إما صفة موصوف محذوف: أي كلمة لاغية، أو نفس لاغية، أو مصدر: أي لا تسمع فيها لغواً.
12- "فيها عين جارية" قد تقدم في سورة الإنسان أن فيها عيوناً، والعين هنا بمعنى العيون كما في قوله: "علمت نفس" ومعنى جارية أنها تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة. قال الكلبي: لا أدري بماء أو بغيره.
13- "فيها سرر مرفوعة" أي عالية مرتفة السمك، أو عالية القدر.
14- "وأكواب موضوعة" قد تقدم أن الأكواب جمع كوب، وأنه القدح الذي لا عروة له، ومعنى موضوعة: أنها موضوعة بين أيديهم يشربون منها.
15- "ونمارق مصفوفة" النمارق: الوسائد. قال الواحدي: في قول الجميع، واحدتها نمرقة بضم النون، وزاد الفراء سماعاً عن العرب نمرقة بكسرها. قال الكلبي: وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض، ومنه قول الشاعر: وإنا لنجري الكأس بين شروبنا وبين أبي قابوس فوق النمارق وقال الآخر: كهول وشبان حسان وجوههم على سرر مصفوفــة ونـمارق قال في الصحاح: النمرق والنمرقة وسادة صغيرة، وكذلك النمرقة بالكسر لغة حكاها يعقوب.
16- "وزرابي مبثوثة" يعني البسط، واحدها زربي وزربية. قال أبو عبيدة والفراء: الزرابي الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدها زربية، والمبثوثة المبسوطة قاله قتادة. وقال عكرمة: بعضها فوق بعض. قال الواحدي: ويجوز أن يكون المعنى: أنها مفرقة في المجالس. وبه قال القتيبي. وقال الفراء: معنى بمثوثة كثيرة، والظاهر أن معنى البث: التفرق مع كثرة، ومنه "وبث فيها من كل دابة".
10- "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره مما مر غير مرة، والجملة مسوقة لتقرير أمر البعث والاستدلال عليه، وكذا ما بعدها، وكيف منصوبة بما بعدها، والجملة في محل جر على أنها بدل اشتمال من الإبل، والمعنى: أينكرون أمر البعث ويستبعدون وقوعه، أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر ما يشاهدونه من المخلوقات "كيف خلقت" على ما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثتها ومزيد قوتها وبديع أوصافها. قال أبو عمرو بن العلاء: إنما خص الإبل لأنها من ذوات الأربع تبرك فتحمل عليها الحمولة، وغيرهما من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم: قال الزجاج: نبههم على عظيم من خلقه قد ذلله للصغير يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقل حمله، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره، فأراهم عظيماً من خلقه ليدل بذلك على توحيده. وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة، فقال: أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به، ثم هو حنزير لا يركب ظهره ولا يؤكل لحمه ولا يحلب دره، والإبل من أعز مال العرب وأنفسه، تأكل النوى والقت وتخرج اللبن ويأخذ الصبي بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها. وقال المبرد: الإبل هنا هي القطع العظيمة من السحاب، وهو خلاف ما ذكره أهل التفسير واللغة. وروي عن الأصمعي أنه قال: من قرأ خلقت بالتخفيف عنى به البعير، ومن قرأ بالتشديد عنى به السحاب.
18- "وإلى السماء كيف رفعت" أي رفعت فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم ولا يدركه العقل، وقيل رفعت فلا ينالها شيء.
19- "وإلى الجبال كيف نصبت" على الأرض مرساة راسخة لا تميد ولا تميل ولا تزول.
20- "وإلى الأرض كيف سطحت" أي بسطت، والسطح بسط الشيء، يقال لظهر البيت إذا كان مستوياً: سطح. قرأ الجمهور "سطحت" مبنياً للمفعول مخففاً. وقرأ الحسن: بالتشديد. وقرأ علي بن أبي طالب وابن السميفع وأبو العالية: خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وضم التاء فيها كلها.
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير فقال: 21- "فذكر" والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها: أي فعظهم يا محمد وخوفهم ثم علل الأمر بالتذكير فقال: "إنما أنت مذكر" أي ليس عليك إلا ذلك.
22- و"لست عليهم بمصيطر" المصيطر والمسيطر بالسين والصاد: المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله كذا في الصحاحأي لست عليهم بمصيطر حتى تكرههم على الإيمان، وهذا منسوخ بآية السيف. قرأ الجمهور "بمصيطر" بالصاد، وقرأ هشام وقنبل في رواية بالسين. وقرأ خلف بإشمام الصاد زايا. وقرأ هارون الأعور بفتح الطاء اسم مفعول.
23- "إلا من تولى وكفر" هذا استثناء منقطع: أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير.
24- "فيعذبه الله العذاب الأكبر" وهو عذاب جهنم الدائم، وقيل هو استثناء متصل من قوله "فذكر" أي فذكر كل أحد إلا من انقطع طعمك عن إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر، والأول أولى. وإنما قال الأكبر لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر. وقرأ ابن مسعود فإنه يعذبه الله وقرأ ابن عباس وقتادة ألا من تولى على أنها ألا التي للتنبيه والاستفتاح.
25- " إن إلينا إيابهم " أي رجوعهم بعد الموت، يقال آب يؤوب: إذا رجع، ومنه قول عبيد بن الأبرص: وكل ذي غيبة يتوب وغائب الموت لا يؤوب قرأ الجمهور "إيابهم" بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر وشيبة بالتشديد. قال أبو حاتم: لا يجوز التشديد ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام، وقيل هما لغتان بمعنى. قال الواحدي: وأما إيابهم بتشديد الياء فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج.
26- "ثم إن علينا حسابهم" يعني جزاءهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث، وثم للتراخي في الرتبة لبعد منزلة الحساب في الشدة عن منزلة الإياب. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الغاشية من أسماء القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "هل أتاك حديث الغاشية" قال: الساعة " وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة " قال: تعمل وتنصب في النار "تسقى من عين آنية" قال: هي التي قد طال أينها "ليس لهم طعام إلا من ضريع" قال: الشبرق. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً " وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة " قال: يعني اليهود والنصارى تخشع ولا ينفعها عملها "تسقى من عين آنية" قال: قد أنى غليانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "تصلى ناراً حامية" قال: حارة، "تسقى من عين آنية" قال: انتهى حرها "ليس لهم طعام إلا من ضريع" يقول: من شجر من نار. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً "إلا من ضريع" قال: الشبرق اليابس. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً "لا تسمع فيها لاغية" يقول: لا تسمع أذى ولا باطل وفي قوله: "فيها سرر مرفوعة" قال: بعضها فوق بعض "ونمارق" قال: مجالس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "ونمارق" قال: المرافق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "لست عليهم بمصيطر" قال: جبار "إلا من تولى وكفر" قال: حسابه على الله. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضاً " لست عليهم بمصيطر " ثن نسخ ذلك فقال: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً "إن إلينا إيابهم" قال: مرجعهم.