تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 78 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 78

077

قوله: 8- " وإذا حضر القسمة أولو القربى " المراد بالقرارة هنا غير الوارثين، وكذا اليتامى والمساكين، شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منها رزق، فيرضخ لهم المتقاسمون شيئاً منها. وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة وأن الأمر للندب. وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى "يوصيكم الله في أولادكم" والأول أرجح، لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال: إنها منسوخة بآية المواريث، إلا أن تقولوا: إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه. وقالت طائفة: إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة وهو معنى الأمر الحقيقي فلا يصار إلى الندب إلا لقرينه، والضمير في قوله "منه" راجع إلى المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل: راجع إلى ما ترك. والقول المعروف: هو القول الجميل الذي ليس فيه من بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى.
قوله 9- "وليخش الذين لو تركوا" هم الأوصياء كما ذهب إليه طائفة من المفسرين، وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذي في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم، وقالت طائفة: المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم، وقال آخرون: إن المراد بهم من يحضر الميت عند موته، أمروا بتقوى الله، وبأن يقولوا للمحتضر قولاً سديداً من إرشادهم إلى التخلص عن حقوق الله وحقوق بني آدم، وإلى الوصية بالقرب المقربة إلى الله سبحانه، وإلى ترك التبذير بماله وإحرام ورثته كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم فقراء عالة يتكففون الناس،وقال ابن عطية: الناس صنفان يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مفلسين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين. قال القرطبي: وهذا التفصيل صحيح. قوله "لو تركوا" صلة الموصول، والفاء في قوله "فليتقوا" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمعنى: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، ثم أمرهم بتقوى الله، والقول السديد للمحتضرين، أو لأولادهم من بعدهم على ما سبق.
قوله 10- "إن الذين يأكلون أموال اليتامى" استئناف يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء والأوصياء وانتصاب قوله "ظلماً" على المصدرية: أي أكل ظلم، أو على الحالية: أي ظالمين لهم. قوله "إنما يأكلون في بطونهم ناراً" أي: ما يكون سبباً للنار، تعبيراً بالمسبب عن السبب، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية. وقوله "وسيصلون" قراءة عاصم وابن عامر بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وقرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية بكثرة الفعل مرة بعد أخرى. وقرأ الباقون بفتح الياء من صلى النار يصلاها، والصلى هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد: لم أكن من جناتها علم اللـ ـه وإني لحرها اليوم صالي والسعير: الجمر المشتعل. وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات. ولا الصغار حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه وهما عصبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذا ميراثه كله، فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فأرسل إليهما رسول الله فقال: لا تحركا من الميراث شيئاً، فإنه قد أنزل علي شيء احترت فيه إن للذكر والأنثى نصيباً، ثم نزل بعد ذلك "ويستفتونك في النساء"، وثم نزل "يوصيكم الله في أولادكم" فدعا بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: نزلت في أم كلثوم ابنة أم كحلة أو أم كحة وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار، كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله، فقال عم ولدها: يا رسول الله لا يركب فرساً ولا ينكي عدواً ويكسب عليها ولا يكتسب، فنزلت. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى "وإذا حضر القسمة" قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن خطاب بن عبد الله في هذه الآية قال: قضى بها أبو موسى. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن الحسن والزهري قالا: هي محكمة ما طابت به أنفسهم. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: يرضخ لهم فإن كان في ماله تقصير اعتذر إليهم فهو قولاً معروفاً. وأخرج ابن المنذر عن عائشة أنها لم تنسخ. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم أن هذه الآية منسوخة بآية الميراث. وأخرج أبو داود في ناسخه وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب قال: هي منسوخة. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: إن كانوا كباراً يرضخوا، وإن كانوا صغاراً اعتذروا إليهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه في قوله "وليخش الذين لو تركوا" قال: هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته فيسمعه يوصي وصية تضر بورثته، فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة. وقد روي نحو هذا من طرق. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم عن أبي برزة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً، فقيل: يا رسول الله من هم؟ قال: ألم تر أن الله يقول "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً""؟ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: "نظرت فإذا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار فيقذف في في أحدهم حتى يخرج من أسافلهم ولهم جؤار وصراخ، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء "الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً"". وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم.
هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" الآية، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذه الآية ركن من أركان الدين وعمدة من عمد الأحكام وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض، وقد كان هذا العلم من أجل علوم الصحابة وأكثر مناظراتهم فيه، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله. قوله 11- "يوصيكم الله في أولادكم" أي: في بيان ميراثهم. وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا، فقالت الشافعية: إنهم يدخلون مجازاً لا حقيقة، وقالت الحنفية: إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب، ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافراً، ويخرج بالسنة، وكذلك يدخل القاتل عمداً، ويخرج أيضاً بالسنة والإجماع، ويدخل فيه الخنثى. قال القرطبي: وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول، فإن بال منهما، فمن حيث سبق، فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما فله نصف الذكر ونصف نصيب الأنثى، وقيل: يعطى أقل النصيبين، وهو نصيب الأنثى، قاله يحيى بن آدم، وهو قول الشافعي. وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة، وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين، للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" إلا إذا كان ساقطاً معهم كالأخوة لأم. وقوله "للذكر مثل حظ الأنثيين" جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد، فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم: ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين. والمراد حال اجتماع الذكور والإناث، وأما حال الانفراد فللذكر جميع الميراث وللأنثى النصف وللاثنتين فصاعداً الثلثان. قوله "فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك" أي: فإن كن الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر، أو البنات، أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين: أي زائدات على اثنتين على أن فوق صفة لنساء أو يكون خبراً ثانياً لكان "فلهن ثلثا ما ترك" الميت المدلول عليه بقرينة المقام. وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً، ولم يسم للاثنتين فريضة، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما فذهب الجمهور إلى أنة لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين، وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف، اجتج الجمهور بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه قال في شأنهما "فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان" فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين، وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد. قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط، لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضاً للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين وابناً فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى "وإن كانت واحدة فلها النصف" كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين. وقيل: إن فوق زائدة، والمعنى: وإن كن نساء اثنتين كقوله تعالى "فاضربوا فوق الأعناق" أي الأعناق، ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا: هو خطأ، لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى. قال ابن عطية: ولأن قوله "فوق الأعناق" هو الفصيح، وليست فوق زائدة، بل هي محكمة المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ، وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال انتهى. وأيضاً لو كان لفظ فوق زائداً كما قالوا لقال فلهما ثلثا ما ترك ولم يقل فلهن ثلثا ما ترك، وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي في سننه عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث "يوصيكم الله في أولادكم" الآية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك، أخرجوه من طرق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه. قوله "وإن كانت واحدة فلها النصف" قرأ نافع وأهل المدينة " واحدة " بالرفع على أن كان تامة بمعنى: فإن وجدت واحدة أو حدثت واحدة. وقرأ الباقون بالنصب قال النحاس: وهذه قراءة حسنة: أي وإن كانت المتروكة أو المولودة واحدة. قوله "ولأبويه لكل واحد منهما السدس" أي: لأبوي المي، وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه و"لكل واحد منهما السدس" بدل من قوله "ولأبويه" بتكرير العامل للتأكيد والتفصيل. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة "السدس" بسكون الدال، وكذلك قرأ الثلث والربع إلى العشر بالسكون، وهي لغة بني تميم وربيعة، وقرأ الجمهور بالتحريك ضماً، وهي لغة أهل الحجاز وبني أسد في جميعها. والمراد بالأبوين الأب والأم والتثنية على لفظ الأب للتغليب. وقد اختلف العلماء في الجد، هل هو بمنزلة الأب فتسقط به الأخوة أم لا؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال بقول أبي بكر، ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة وعطاء وطاوس والحسن وقتادة وأبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق، واحتجوا بمثل قوله تعالى "ملة أبيكم إبراهيم" وقوله: "يا بني آدم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ارموا يا بني إسماعيل". وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الجد مع الإخوة لأبوين أو لأب، ولا ينقص معهم من الثلث، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ومالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي. وقيل: يشرك بين الجد والإخوة إلى السدس. ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة. وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في القاسمة مجرى الإخوة. وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب شيئاً، وأجمع العلماء على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدة أم الأم. واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي، فروي عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي أنها لا ترث وابنها حي، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وروي عن عمر وابن مسعود وأبي موسى أنها ترث معه وروي أيضاً عن علي وعثمان، وبه قال شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر. قوله "إن كان له ولد" الولد يقع على الذكر والأنثى، لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد وحده أو مع الأنثى منهم فليس للجد إلا السدس، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض وهو عصبة فيما عدا السدس وأولاد ابن الميت كأولاد الميت. قوله "فإن لم يكن له ولد" أي: ولا ولد ابن لما تقدم من الإجماع "وورثه أبواه" منفردين عن سائر الورثة كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين، أما لو كان معهما أحد الزوجين فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين. وروي عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين، وهو يستلزم تفضيل الأم على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منهما عند انفرادهما عن أحد الزوجين. قوله "فإن كان له إخوة فلأمه السدس" إطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما. وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأم إلى السدس إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب. وأجمعوا أيضاً على أن الأختين فصاعداً كالأخوين في حجب الأم. قوله "من بعد وصية يوصي بها أو دين" قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم يوصى بفتح الصاد. وقرأ الباقون بكسرها، واختار الكسر أبو عبيد وأبو حاتم لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا. قال الأخفش: وتصديق ذلك قوله: "يوصين" و"توصون". واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدماً عليها بالإجماع، فقيل: المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما- وقيل: لما كانت الوصية أقل لزوماً من الدين قدمت اهتماماً بها، وقيل: قدمت لكثرة وقوعها فصارت كالأمر اللازم لكل ميت، وقيل: قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان، وقيل: لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت، بخلاف الدين فإنه ثابت مؤدى ذكر أو لم يذكر، وقيل: قدمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فربما يشق على الورثة إخراجها، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه، وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى "غير مضار" كما سيأتي إن شاء الله. قوله "آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً" قيل خبر قوله "آباؤكم وأبناؤكم" مقدر أي هم المقسوم عليهم وقيل: إن الخبر قوله "لا تدرون" وما بعده "وأقرب" خبر قوله "أيهم" و"نفعاً" تمييز: أي لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح "أو ولد صالح يدعو له". وقال ابن عباس والحسن: قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه. وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه، وقيل: المراد النفع في الدنيا والآخرة، قاله ابن زيد، وقيل المعنى: إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم، أمن أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً، أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا؟ وقوى هذا صاحب الكشاف، قال: لأن الجملة اعتراضية، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه، ويناسبه قوله "فريضة من الله" نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى "يوصيكم" يفرض عليكم. وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة، والعامل يوصيكم. والأول أولى "إن الله كان عليماً" بقسمة المواريث "حكيماً" حكم بقسمتها وبينها لأهلها. وقال الزجاج: "عليماً" بالأشياء قبل خلقها "حكيماً" فيما يقدره ويمضيه منها.