تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 80 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 80

079

قوله 16- "واللذان يأتيانها منكم" اللذان تثنية الذي، وكان القياس أن يقال اللذيان كرحيان. قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة وبين الأسماء المبهمة. وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفاً. وقرأ ابن كثير "اللذان" بتشديد النون وهي لغة قريش، وفيه لغة أخرى وهي "اللذا" بحذف النون، وقرأ الباقون بتخفيف النون. قال سيبويه: المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها: أي الفاحشة منكم، ودخلت الفاء في الجواب لأن في الكلام معنى الشرط. والمراد باللذان هنا الزاني والزانية تغليباً، وقيل: الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات، والثانية في الرجال خاصة وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن فعقوبة النساء الحبس وعقوبة الرجال الأذى واختار هذا النحاس ورواه عن ابن عباس ورواه القرطبي عن مجاهد وغيره واستحسنه. وقال السدي وقتادة وغيرهما الآية الأولى في النساء المحصنات ويدخل معهن الرجال المحصنون، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين، ورجحه الطبري وضعفه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد. وقال ابن عطية: إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه، وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء قال قتادة: كانت المراة تحبس ويؤذيان جميعاً. واختلف المفسرون في تفسير الأذى، فقيل: التوبيخ والتعيير، وقيل: السب والجفاء من دون تعيير، وقيل: النيل باللسان والضرب بالنعال، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس، وقيل: ليس بمنسوخ كما تقدم في الحبس. قوله "فإن تابا" أي: من الفاحشة "وأصلحا" العمل فيما بعد "فأعرضوا عنهما" أي: اتركوهما وكفوا عنهما الأذى، وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدم من الخلاف.
قوله 17- "إنما التوبة على الله" استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق كما ينبئ عنه قوله "توابا رحيماً" بل إنما تقبل من البعض دون البعض كما بينه النظم القرآني ها هنا، فقوله "إنما التوبة" مبتدأ خبره قوله "للذين يعملون السوء بجهالة". وقوله "على الله" متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي، وقيل المعنى: إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده، وقيل المعنى: إنما التوبة واجبة على الله، وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين، وقيل: على هنا بمعنى عند، وقيل: بمعنى من. وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافاً للمعتزلة، وقيل إن قوله "على الله" هو الخبر. وقوله "للذين يعملون" متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالاً. والسوء هنا: العمل السيء. وقوله "بجهالة" متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالاً: أي يعملونها متصفين بالجهالة أو جاهلين. وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً. وحكي عن الضحاك ومجاهد أن الجهالة هنا العمد وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، ومنه قوله تعالى "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو" وقال الزجاج: معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، وقيل معناه: أنهم لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك وضعفه ابن عطية. قوله "ثم يتوبون من قريب" معناه: قبل أن يحضرهم الموت كما يدل عليه قوله "حتى إذا حضر أحدهم الموت" وبه قال أبو مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم، والمراد قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه، ومن في قوله: "من قريب" للتبعيض: أي يتوبون بعض زمان قريب، وهو ما عدا وقت حضور الموت، وقيل معناه قبل المرض، وهو ضعيف، بل باطل لما قدمنا، ولما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وقيل معناه: يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. قوله: "فأولئك يتوب الله عليهم" هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم.
وقوله 18- "وليست التوبة للذين يعملون السيئات" تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب قوله "حتى إذا حضر أحدهم الموت" حتى حرف ابتداء، والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها، وحضور الموت حضور علاماته وبلوغ المريض إلى حالة السياق ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق، وهي بلوغ روحه حلقومه، قاله الهروي. وقوله "قال إني تبت الآن" أي: وقت حضور الموت. قوله "ولا الذين يموتون وهم كفار" معطوف على الموصول في قوله "للذين يعملون السيئات" أي: ليست التوبة لأولئك ولا للذين يموتون وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأساً، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت، وأن وجودها كعدمها. وقد أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله "واللاتي يأتين الفاحشة" قال: كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت، فإن ماتت ماتت وإن عاشت عاشت، حتى نزلت الآية في سورة النور "الزانية والزاني فاجلدوا" فجعل الله لهن سبيلاً. فمن عمل شيئاً جلد وأرسل، وقد روي هذا عنه من وجوه. وأخرج أبو داود في سننه عنه والبيهقي في قوله "واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم" إلى قوله "سبيلاً" ثم جمعهما جميعاً، فقال " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " ثم نسخ ذلك بآية الجلد، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين، أخرجه أبو داود والبيهقي عن مجاهد وأخرجه عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن قتادة، وأخرجه البيهقي في سننه عن الحسن، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وأخرجه ابن جرير عن السدي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله "واللذان يأتيانها منكم" قال: كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير وضرب بالنعال، فأنزل الله بعد هذه الآية "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "واللذان يأتيانها منكم" قال: الرجلان الفاعلان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "واللذان يأتيانها منكم" يعني البكرين. وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: الرجل والمرأة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله "إنما التوبة على الله" الآية قال: هذه للمؤمنين، وفي قوله "وليست التوبة للذين يعملون السيئات" قال: هذه لأهل النفاق "ولا الذين يموتون وهم كفار" قال: هذه لأهل الشرك. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمداً كان أو غيره. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي عن أبي عن صالح عن ابن عباس في قوله "إنما التوبة على الله" الآية، قال: من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء "ثم يتوبون من قريب" قال: في الحياة والصحة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال: كل شيء قبل الموت فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: القريب: ما لم يغرغر. وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر، ذكرها ابن كثير في تفسيره، ومنها الحديث الذي قدمنا ذكره.
هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات والمقصود نفي الظلم عنهن، والخطاب للأولياء، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله 19- "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت. وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى يموت أو ترد إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه: فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وقد روي هذا السبب بألفاظ، فمعنى "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" أي: لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم وتحبسونهن لأنفسكم ولا‌ يحل لكم أن "تعضلوهن" عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري وأبو مجلز: كان من عاداتهم إذا مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئاً، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت فيرثها، فنزلت الآية. وقيل: الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طمعاً في إرثهن، أو يفتدين ببعض مهورهن واختاره ابن عطية. قال: ودليل ذلك قوله "إلا أن يأتين بفاحشة" إذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى تذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج. قال الحسن: إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى وترد إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال قوم: الفاحشة البذاءة باللسان، وسوء العشرة قولاً وفعلاً. وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. هذا كله على أن الخطاب في قوله "ولا تعضلوهن" للأزواج، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله "ولا تعضلوهن" لمن خوطب بقوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" فيكون المعنى: ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أي: ما آتاهن من ترثونه "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" جاز لكم حبسهن عن الأزواج، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعف من الزنا، وكما أن جعل قوله "ولا تعضلوهن" خطاباً للأولياء فيه هذا التعسف، كذلك جعل قوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه، والأولى أن يقال: إن الخطاب في قوله "لا يحل لكم" للمسلمين: أي لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرهاً كما تفعله الجاهلية، ولا يحل لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم: أي تحسبوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهن، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من المهر يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهن "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" جاز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهن. قوله "مبينة" قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء. وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ ابن عباس "مبينة" بكسر الباء وسكون الياء من أبان الشيء فهو مبين. قوله "وعاشروهن بالمعروف" أي: يما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة، وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى والفقر والرفاعة والوضاعة "فإن كرهتموهن" لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز "فعسى" أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته: أي فإن كرهتموهن فاصبروا "فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً".