تفسير الطبري تفسير الصفحة 80 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 80
081
079
 الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً }.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ} والنساء اللاتـي يأتـين بـالزنا: أي بزنـين. {مِنْ نِسائِكُمْ} وهن مـحصنات ذوات أزواج, أو غير ذوات أزواج. {فـاسْتَشْهِدُوا عَلَـيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ} يقول: فـاستشهدوا علـيهنّ بـما أتـين من الفـاحشة أربعة رجال من رجالكم, يعنـي: من الـمسلـمين. {فإنْ شَهِدُو} علـيهن, {فَأمْسِكُوهُنّ فِـي البُـيُوتِ} يقول: فـاحبسوهنّ فـي البـيوت, {حتـى يَتَوَفّـاهُنّ الـمَوْتُ} يقول: حتـى يـمتن, {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} يعنـي: أو يجعل الله لهنّ مخرجا وطريقا إلـى النـجاة مـما أتـين به من الفـاحشة.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
7104ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي مـحمد بن يزيد, قال: حدثنا يحيـى بن أبـي زائدة, عن ابن جريج, عن مـجاهد: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فـاسْتَشْهِدُوا عَلَـيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنّ فِـي البُـيُوتِ} أمر بحبسهن فـي البـيوت حتـى يـمتن {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} قال: الـحدّ.
7105ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} قال: الزنا, كان أمر بحبسهنّ حين يشهد علـيهن أربعة حتـى يـمتن¹ {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} والسبـيـل: الـحدّ.
7106ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس, قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} إلـى: {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} فكانت الـمرأة إذا زنت حبست فـي البـيت حتـى تـموت, ثم أنزل الله تبـارك وتعالـى بعد ذلك: {الزّانِـيَةُ وَالزّانِـي فـاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} فإن كانا مـحصنـين رُجما, فهذه سبـيـلهما الذي جعل الله لهما.
7107ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} فقد جعل الله لهنّ, وهو الـجلد والرجم.
7108ـ حدثنـي بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ} حتـى بلغ: {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} كان هذا من قبل الـحدود, فكانا يؤذيان بـالقول جميعا, وبحبس الـمرأة. ثم جعل الله لهنّ سبـيلاً, فكان سبـيـل من أحصن جلد مائة ثم رمي بـالـحجارة, وسبـيـل من لـم يحصن جلد مائة ونفـي سنة.
7109ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء بن أبـي ربـاح وعبد الله بن كثـير: الفـاحشة: الزنا, والسبـيـل: الرجم والـجلد.
7110ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فـاسْتَشْهِدُوا عَلَـيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلـى: {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} هؤلاء اللاتـي قد نكحن وأحصن, إذا زنت الـمرأة فإنها كانت تـحبس فـي البـيت ويأخذ زوجها مهرها فهو له, فذلك قوله: {وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بفـاحِشةٍ مُبَـيّنَةٍ} {وَعاشِرُوهُنّ بـالـمَعْرُوفِ} حتـى جاءت الـحدود فنسختها, فجلدت ورجمت, وكان مهرهَا ميراثا, فكان السبـيـل هو الـجلد.
7111ـ حُدثت, عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي قوله: {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} قال: الـحد, نسخ الـحد هذه الاَية.
7112ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا يحيـى, عن إسرائيـل, عن خصيف, عن مـجاهد: {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} قال: جلد مائة, الفـاعل والفـاعلة.
حدثنا الرفـاعي, قال: حدثنا يحيـى, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: الـجلد.
7113ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا معاذ بن هشام, قال: حدثنا أبـي, عن قتادة, عن الـحسن, عن حطان بن عبد الله الرقاشي, عن عبـادة بن الصامت: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل علـيه الوحي نكس رأسه, ونكس أصحابه رءوسهم¹ فلـما سُرّيَ عنه رفع رأسه, فقال: «قَدْ جَعَلَ الله لَهُنّ سَبِـيلاً, الثّـيّبُ بـالثّـيّبِ, والبِكْرُ بـالبِكْرِ¹ أما الثّـيّبُ فتُـجْلَدُ ثم تُرْجَمُ¹ وأما البِكْرُ فتُـجْلَدُ ثم تُنْفَـى».
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن حطان بن عبد الله, عن عبـادة بن الصامت, قال: قال نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنّـي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيلاً¹ الثّـيّبُ بـالثّـيّبِ تُـجْلَدُ مِائَةً وَتُرْجَمُ بـالـحِجارَةِ, وَالبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْـيُ سَنَةٍ».
7114ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن, عن حطان بن عبد الله أخي بنـي رقاش, عن عبـادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل علـيه الوحي كرب لذلك وتربّد له وجهه, فأنزل الله علـيه ذات يوم, فلقـي ذلك فلـما سُري عنه قال: «خُذُوا عَنّـي قَد جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيلاً¹ الثّـيّبُ بـالثّـيّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمّ رَجْمٌ بـالـحِجارَةِ, وَالبِكْرُ بـالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمّ نَفْـيُ سَنَةٍ».
7115ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال: ابن زيد فـي قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ, فـاسْتَشْهِدُوا عَلَـيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنّ فِـي البُـيُوتِ حتـى يَتَوَفّـاهُنّ الـمَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} قال: يقول: لا تنكحوهنّ حتـى يتوفـاهنّ الـموت, ولـم يخرجهن من الإسلام. ثم نسخ هذا, وجعل السبـيـل التـي ذكر أن يجعل لهن سبـيلاً, قال: فجعل لها السبـيـل إذا زنت وهي مـحصنة رجمت وأخرجت, وجعل السبـيـل للبكر جلد مائة.
7116ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {حتـى يَتَوَفّـاهُنّ الـمَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} قال: الـجلد والرجم.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن أبـي جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن الـحسن, عن حطان بن عبد الله الرقاشي, عن عبـادة بن الصامت, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنّـي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيلاً: الثّـيّبِ بـالثّـيّبِ وَالبِكْرُ بـالبِكْرِ, الثّـيّبُ تُـجْلَدُ وَتُرْجَمُ والبِكرُ تُـجْلَدُ وَتُنْفَـى».
حدثنـي يحيـى بن إبراهيـم الـمسعودي, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن جده, عن الأعمش, عن إسماعيـل بن مسلـم البصري, عن الـحسن, عن عبـادة بن الصامت, قال: كنا جلوسا عند النبـيّ صلى الله عليه وسلم إذ احمّر وجهه, وكان يفعل ذلك إذا نزل علـيه الوحي, فأخذه كهيئة الغَشْي لـما يجد من ثِقل ذلك, فلـما أفـاق قال: «خُذُوا عَنّـي قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيلاً, والبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ ويُنْفَـيانِ سَنَةً, والثّـيّبـانِ يُجْلَدَانِ وَيُرْجَمانِ».
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصحة فـي تأويـل قوله: {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} قول من قال السبـيـل التـي جعلها الله جلّ ثناؤه للثـيبـين الـمـحصنـين الرجم بـالـحجارة, وللبكرين جلد مائة, ونفـي سنة لصحة الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم ولـم يجلد¹ وإجماع الـحجة التـي لا يجوز علـيها فـيـما نقلته مـجمعة علـيه الـخطأ والسهو والكذب¹ وصحة الـخبر عنه, أنه قضى فـي البكرين بجلد مائة, ونفـي سنة, فكان فـي الذي صحّ عنه من تركه, جلد من رجم من الزناة فـي عصره دلـيـل واضح علـى وهي الـخبر الذي روي عن الـحسن عن حطان عن عبـادة عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: السبـيـل للثـيب الـمـحصن: الـجلد والرجم. وقد ذكر أن هذه الاَية فـي قراءة عبد الله: واللاتـي يأتـين بـالفـاحشة من نسائكم, والعرب تقول: أتـيت أمرا عظيـما, وبأمر عظيـم, وتكلـمت بكلام قبـيح, وكلاما قبـيحا.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً }.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ}: والرجل والـمرأة اللذان يأتـيانها, يقول: يأتـيان الفـاحشة والهاء والألف فـي قوله: {يأْتِـيانه} عائدة علـى الفـاحشة التـي فـي قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} والـمعنى: واللذان يأتـيان منكم الفـاحشة فآذوهما.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فآذُوهُم} فقال بعضهم: هما البكران اللذان لـم يحصنا, وهما غير اللاتـي عنـين بـالاَية قبلها. وقالوا: قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} معنـيّ به الثـيبـات الـمـحصنات بـالأزواج, وقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ} يعنـي به: البكران غير الـمـحصنـين. ذكر من قال ذلك:
7117ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: ذكر الـجواري والفتـيان اللذين لـم ينكحوا, فقال: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُم}.
7118ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ} البكران فآذوهما.
وقال آخرون: بل عُنـي بقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ} الرجلان الزانـيان. ذكر من قال ذلك:
7119ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا يحيـى, عن ابن جريج, عن مـجاهد: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُم} قال: الرجلان الفـاعلان لا يكْنـي.
7120ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ}: الزانـيان.
وقال آخرون: بل عنـي بذلك الرجل والـمرأة, إلا أنه لـم يقصد به بكر دون ثـيب. ذكر من قال ذلك:
7121ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا يحيـى, عن ابن جريج, عن عطاء: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُم} قال: الرجل والـمرأة.
7122ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين, عن يزيد النـحويّ, عن عكرمة والـحسن البصريّ, قالا: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} إلـى قوله: {أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِـيل} فذكر الرجل بعد الـمرأة ثم جمعهما جميعا, فقال: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فإنْ تَابـا وأصْلَـحا فـأْعَرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابـا رَحِيـم}.
7123ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء وعبد الله بن كثـير, قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ} قال: هذه للرجل والـمرأة جميعا.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ} قول من قال: عنـي به البكران غير الـمـحصنـين إذا زنـيا وكان أحدهما رجلاً والاَخر امرأة, لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البـيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} قصد البـيان عن حكم الزوانـي, لقـيـل: والذين يأتونها منكم فآذوهم, أو قـيـل: والذي يأتـيها منكم, كما قـيـل فـي التـي قبلها: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ} فأخرج ذكرهنّ علـى الـجمع, ولـم يقل: واللتان يأتـيان الفـاحشة. وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البـيان علـى الوعيد علـى فعل أو الوعد علـيه, أخرجت أسماء أهله بذكر الـجمع أو الواحد, وذلك أن الواحد يدلّ علـى جنسه, ولا تـخرجها بذكر اثنـين, فتقول: الذين يفعلون كذا فلهم كذا, والذي يفعل كذا فله كذا, ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا, إلا أن يكون فعلاً لا يكون إلا من شخصين مختلفـين كالزنا لا يكون إلا من زان وزانـية. فإذا كان ذلك كذلك, قـيـل بذكر الاثنـين, يراد بذلك الفـاعل والـمفعول به, فإما أن يذكر بذكر الاثنـين والـمراد بذلك شخصان فـي فعل قد ينفرد كلّ واحد منهما به أو فـي فعل لا يكونان فـيه مشتركين فذلك ما لا يعرف فـي كلامها. وإذا كان ذلك كذلك, فبـيّن فساد قول من قال: عُنـي بقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ} الرجلان, وصحة قول من قال: عنـي به الرجل والـمرأة وإذا كان ذلك كذلك, فمعلوم أنهما غير اللواتـي تقدم بـيان حكمهنّ فـي قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ} لأن هذين اثنان وأولئك جماعة. وإذا كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الـحبس كان للثـيبـات عقوبة حتـى يتوفـين من قبل أن يجعل لهنّ سبـيلاً, لأنه أغلظ فـي العقوبة من الأذى الذي هو تعنـيف وتوبـيخ أو سبّ وتعيـير, كما كان السبـيـل التـي جعلت لهنّ من الرجم أغلظ من السبـيـل التـي جعلت للأبكار من جلد الـمائة ونفـي السنة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَآذُوهُما فإنْ تابـا وأصْلَـحا فأعْرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابـا رَحِيـم}.
اختلف أهل التأويـل فـي الأذى الذي كان الله تعالـى ذكره جعله عقوبة للذين يأتـيان الفـاحشة من قبل أن يجعل لهما سبـيلاً منه, فقال بعضهم: ذلك الأذى, أذى بـالقول واللسان, كالتعيـير والتوبـيخ علـى ما أتـيا من الفـاحشة. ذكر من قال ذلك:
7124ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فَآذُوهُم} قال: كانا يؤذيان بـالقول جميعا.
7125ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {فَآذُوهُما فإنْ تابـا وأصْلَـحا فأعْرِضُوا عَنْهُم} فكانت الـجارية والفتـى إذا زنـيا يعنفـان ويعيران حتـى يتركا ذلك.
وقال آخرون: كان ذلك الأذى, أذى اللسان, غير أنه كان سبّـا. ذكر من قال ذلك:
7126ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {فَآذُوهُم} يعنـي: سبّـا.
وقال آخرون: بل كان ذلك الأذى بـاللسان والـيد. ذكر من قال ذلك:
7127ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُم} فكان الرجل إذا زنى أوذي بـالتعيـير, وضرب بـالنعال.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله تعالـى ذكره كان أمر الـمؤمنـين بأذى الزانـيـين الـمذكورين إذا أتـيا ذلك وهما من أهل الإسلام, والأذى قد يقع بكل مكروه نال الإنسان من قول سيىء بـاللسان أو فعل, ولـيس فـي الاَية بـيان أن ذلك كان أمر به الـمؤمنون يومئذ, ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الـجماعة الـموجب مـجيئها قطع العذر. وأهل التأويـل فـي ذلك مختلفون, وجائز أن يكون ذلك أذى بـاللسان والـيد, وجائز أن يكون كان أذى بأيهما, ولـيس فـي العلـم بأيّ ذلك كان من أيّ نفعٌ فـي دين ولا دنـيا ولا فـي الـجهل به مضرّة, إذ كان الله جلّ ثناؤه قد نسخ ذلك من مـحكمه بـما أوجب من الـحكم علـى عبـاده فـيهما وفـي اللاتـي قبلهما¹ فأما الذي أوجب من الـحكم علـيهم فـيهما فما أوجب فـي سورة النور بقوله: {الزّانِـيَةُ والزّانـي فـاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ} وأما الذي أوجب فـي اللاتـي قبلهما, فـالرجم الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيهما وأجمع أهل التأويـل جميعا علـى أن الله تعالـى ذكره قد جعل لأهل الفـاحشة من الزناة والزوانـي سبـيلاً بـالـحدود التـي حكم بها فـيهم.
وقال جماعة من أهل التأويـل: إن الله سبحانه نسخ بقوله: {الزّانِـيَةُ والزّانـي فـاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ} قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُم}. ذكر من قال ذلك:
7128ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُم} قال: كل ذلك نسخته الاَية التـي فـي النور بـالـحدّ الـمفروض.
حدثنا أبو هشام, قال: حدثنا يحيـى, عن ابن جريج, عن مـجاهد: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُم}... الاَية, قال: هذا نسخته الاَية فـي سورة النور بـالـحد الـمفروض.
7129ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا أبو تـميـلة, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن يزيد النـحوي, عن عكرمة والـحسن البصري, قالا فـي قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُم}... الاَية, نسخ ذلك بآية الـجلد, فقال: {الزّانِـيَةُ والزّانـي فـاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ}.
7130ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُم} فأنزل الله بعد هذا: {الزّانِـيَةُ والزّانـي فـاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ} فإن كانا مـحصنـين رجما فـي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7131ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {واللاّتِـي يأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ}... الاَية¹ جاءت الـحدود فنسختها.
7132ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول: نسخ الـحدّ هذه الاَية.
7133ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة: {فأمْسِكُوهُنّ فـي البُـيُوتِ}... الاَية, قال: نسختها الـحدود, وقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ} نسختها الـحدود.
7134ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُم}... الاَية, ثم نسخ هذا وجعل السبـيـل لها إذا زنت وهي مـحصنة رجمت وأخرجت, وجعل السبـيـل للذكر جلد مائة.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {فَأمْسِكُوهُنّ فِـي البُـيُوتِ حتـى يَتَوَفّـاهُنّ الـمَوْتُ} قال: نسختها الـحدود.
وأما قوله: {فإنْ تابـا وأصْلَـحا فَأعْرِضُوا عَنْهُم} فإنه يعنـي به جلّ ثناؤه: فإن تابـا من الفـاحشة التـي أتـيا, فراجعا طاعة الله بـينهما وأصلـحا, يقول: وأصلـحا دينهما بـمراجعة التوبة من فـاحشتهما والعمل بـما يرضي الله, فأعرضوا عنهما, يقول: فـاصفحوا عنهما, وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به, عقوبة لهما علـى ما أتـيا من الفـاحشة, ولا تؤذوهما بعد توبتهما.
وأما قوله: {إنّ اللّهَ كانَ تَوّابـا رَحِيـم} فإنه يعنـي: أن الله لـم يزل راجعا لعبـيده إلـى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته رحيـما بهم, يعنـي: ذا رحمة ورأفة.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ}: ما التوبة علـى الله لأحد من خـلقه, إلا للذين يعملون السوء من الـمؤمنـين بجهالة. {ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ} يقول: ما الله براجع لأحد من خـلقه إلـى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التـي سلفت منه, إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون, ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلـى ما أمرهم الله به من الندم علـيه والاستغفـار وترك العود إلـى مثله من قبل نزول الـموت بهم. وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالـى ذكره, فقال: {ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ}.
وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك, قال أهل التأويـل غير أنهم اختلفوا فـي معنى قوله: {بِجَهالَةٍ} فقال بعضهم فـي ذلك بنـحو ما قلنا فـيه, وذهب إلـى أن عمله السوء هو الـجهالة التـي عناها. ذكر من قال ذلك:
7135ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبـي العالـية: أنه كان يحدّث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة.
7136ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة قوله: {للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: اجتـمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة, عمدا كان أو غيره.
7137ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: كل من عصى ربه فهو جاهل, حتـى ينزع عن معصيته.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: كل من عمل بـمعصية الله فذاك منه بجهل حتـى يرجع عنه.
7138ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} ما دام يعصي الله فهو جاهل.
7139ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل بن غزوان, عن أبـي النضر, عن أبـي صالـح عن ابن عبـاس: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: من عمل السوء فهو جاهل, من جهالته عمل السوء.
7140ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثظنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: من عصى الله فهو جاهل, حتـى ينزع عن معصيته. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد, قال: كل عامل بـمعصية فهو جاهل حين عمل بها. قال ابن جريج: وقال لـي عطاء بن أبـي ربـاح نـحوه.
7141ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ} قال: الـجهالة: كل امرىء عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبدا حتـى ينزع عنها. وقرأ: {هَلْ عَلِـمْتُـمْ ما فَعْلْتُـمْ بِـيُوسُف وأخِيهِ إذْ أنْتُـمْ جاهِلُون} وقرأ: {وإلاّ تَصْرِفْ عنّـي كَيْدهُنّ أصْبُ إلَـيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الـجاهِلِـينَ} قال: من عصى الله فهو جاهل حتـى ينزع عن معصيته.
وقال آخرون: معنى قوله: {للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ}: يعملون ذلك علـى عمد منهم له. ذكر من قال ذلك:
7142ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن مـجاهد: {يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: الـجهالة: العمد.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد, مثله.
7143ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: الـجهالة: العمد.
وقال آخرون: معنى ذلك: إنـما التوبة علـى الله للذين يعملون السوء فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
7144ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, قوله: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: الدنـيا كلها جهالة.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية قول من قال: تأويـلها: إنـما التوبة علـى الله للذين يعملون السوء, وعملهم السوء هو الـجهالة التـي جهلوها عامدين كانوا للإثم, أو جاهلـين بـما أعدّ الله لأهلها. وذلك أنه غير موجود فـي كلام العرب, تسمية العامد للشيء الـجاهل به, إلا أن يكون معنـيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته, فـيقال: هو به جاهل, علـى معنى جهله بـمعنى: نفعه وضرّه¹ فأما إذا كان عالـما بقدر مبلغ نفعه وضرّه قاصدا إلـيه, فغير جائز من غير قصده إلـيه أن يقال هو به جاهل¹ لأن الـجاهل بـالشيء هو الذي لا يعلـمه ولا يعرفه عند التقدم علـيه, أو يعلـمه فـيشبه فـاعله, إذ كان خطأ ما فعله بـالـجاهل الذي يأتـي الأمر وهو به جاهل فـيخطىء موضع الإصابة منه, فـيقال: إنه لـجاهل به, وإن كان به عالـما لإتـيانه الأمر الذي لا يأتـي مثله إلا أهل الـجهل به. وكذلك معنى قوله: {يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ} قـيـل فـيهم: يعملون السوء بجهالة وإن أتوه علـى علـم منهم بـمبلغ عقاب الله أهله, عامدين إتـيانه, مع معرفتهم بأنه علـيهم حرام, لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التـي لا يأتـي مثله إلا من جهل عظيـم عقاب الله علـيه أهله فـي عاجل الدنـيا وآجل الاَخرة, فقـيـل لـمن أتاه وهو به عالـم: أتاه بجهالة, بـمعنى: أنه فعل فعل الـجهال به, لا أنه كان جاهلاً.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن معناه: أنهم جهلوا كنه ما فـيه من العقاب, فلـم يعلـموه كعلـم العالـم, وإن علـموه ذنبـا, فلذلك قـيـل: {يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ}. ولو كان الأمر علـى ما قال صاحب هذا القول لوجب أن لا تكون توبة لـمن علـم كنه ما فـيه. وذلك أنه جلّ ثناؤه قال: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} دون غيرهم. فـالواجب علـى صاحب هذا القول أن لا يكون للعالـم الذي عمل سوءا علـى علـم منه بكنه ما فـيه ثم تاب من قريب¹ توبة, وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن كل تائب عسى الله أن يتوب علـيه, وقوله: «بـابُ الّتْوبَةِ مَفْتُوحٌ ما لَـمْ تَطْلُـعِ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها», وخلاف قول الله عزّ وجلّ: {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِـح}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}.
أختلف أهل التأويـل فـي معنى القريب فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم يتوبون فـي صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم. ذكر من قال ذلك:
7145ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} والقريب قبل الـموت ما دام فـي صحته.
7146ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل, عن أبـي النضر, عن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: فـي الـحياة والصحة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الـموت. ذكر من قال ذلك:
7147ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} والقريب فـيـما بـينه وبـين أن ينظر إلـى ملك الـموت.
7148ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت عمران بن حدير, قال: قال أبو مـجلز: لا يزال الرجل فـي توبة حتـى يعاين الـملائكة.
7149ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن قـيس, قال: القريب: ما لـم تنزل به آية من آيات الله تعالـى وينزل به الـموت.
7150ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} له التوبة ما بـينه وبـين أن يعاين ملك الـموت, فإذا تاب حين ينظر إلـى ملك الـموت فلـيس له ذاك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل الـموت. ذكر من قال ذلك:
7151ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن رجل, عن الضحاك: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: كل شيء قبل الـموت فهو قريب.
7152ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: الدنـيا كلها قريب.
7153ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قبل الـموت.
7154ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا معاذ بن هشام, قال: ثنـي أبـي, عن قتادة, عن أبـي قلابة, قال: ذكر لنا أن إبلـيس لـما لعن وأُنْظِرَ, قال: وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فـيه الروح! فقال تبـارك وتعالـى: وعزتـي لا أمنعه التوبة ما دام فـيه الروح.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا عمران, عن قتادة, قال: كنا عند أنس بن مالك وثَمّ أبو قلابة, فحدّث أبو قلابة قال: إن الله تبـارك وتعالـى لـما لعن إبلـيس سأله النّظِرَة, فقال: وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم! فقال الله تبـارك وتعالـى: وعزتـي لا أمنعه التوبة ما دام فـيه الروح.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا أيوب, عن أبـي قلابة, قال: إن الله تبـارك وتعالـى لـما لعن إبلـيس سأله النّظِرَة, فأنظره إلـى يوم الدين, فقال: وعزتك لا أَخرج من قلب ابن آدم ما دام فـيه الروح! قال: وعزتـي لا أَحجب عنه التوبة ما دام فـيه الروح.
7155ـ حدثنـي ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن, قال: بلغنـي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «إنّ إبْلِـيسَ لَـمّا رأى آدَمَ أجْوَفَ, قالَ: وعِزّتِكَ لا أخْرُجُ مِنْ جَوْفِهِ ما دَام فِـيهِ الرّوحُ! فَقالَ اللّهُ تَبـارَكَ وتَعالـى: وعِزّتِـي لا أحُولُ بَـيْنَهُ وبْـينَ التّوْبَةِ ما دَامَ فِـيهِ الرّوحُ».
7156ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا معاذ بن هشام, قال: ثنـي أبـي, قتادة, عن العلاء بن زياد, عن أبـي أيوب بُشَيْر بن كعب, أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, قال: «إنّ الله يَقْبَلُ تَوْبَة العَبْدِ ما لـمْ يُغَرْغِرْ».
7157ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن عبـادة بن الصامت, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال¹ فذكر مثله.
7158ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن عوف, عن الـحسن, قال: بلغنـي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «إنّ الله تَبـارك وتَعالـى يَقْبَلْ تَوْبَة العَبْدِ ما لـمْ يُغَرْغِرْ».
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: تأويـله: ثم يتوبون قبل مـماتهم فـي الـحال التـي يفهمون فـيها أمر الله تبـارك وتعالـى ونهيه, وقبل أن يغلبوا علـى أنفسهم وعقولهم, وقبل حال اشتغالهم بكرب الـحشرجة وغمّ الغرغرة, فلا يعرفوا أمر الله ونهيه, ولا يعقلوا التوبة, لأن التوبة لا تكون توبة إلا مـمن ندم علـى ما سلف منه, وعزم فـيه علـى ترك الـمعاودة, وهو يعقل الندم, ويختار ترك الـمعاودة, فأما إذا كان بكرب الـموت مشغولاً, وبغمّ الـحشرجة مغمورا, فلا إخاله إلا عن الندم علـى ذنوبه مغلوبـا, ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لـم يغرغر العبد بنفسه, فإن كان الـمرء فـي تلك الـحال يعقل عقل الصحيح, ويفهم فهم العاقل الأريب, فأحدث إنابة من ذنوبه, ورجعة من شروده عن ربه إلـى طاعته كان إن شاء الله مـمن دخـل فـي وعد الله الذي وعد التائبـين إلـيه من إجرامهم من قريب بقوله: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَـأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَـيْهمْ وكانَ اللّهُ عَلِـيـما حَكِيـم}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَـأُولَئِكَ} فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب {يَتُوبُ اللّهُ عَلَـيْهِمْ} دون من لـم يتب, حتـى غلب علـى عقله وغمرته حشرجة ميتته, فقال: وهو لا يفقه ما يقول: {إنّـي تبْتُ الاَنَ} خداعا لربه ونفـاقا فـي دينه, ومعنى قوله: {يَتُوبُ اللّهُ عَلَـيْهِمْ}: يرزقهم إنابة إلـى طاعته, ويتقبل منهم أوبتهم إلـيه, وتوبتهم التـي أحدثوها من ذنوبهم.
وأما قوله: {وكانَ اللّهُ عَلِـيـما حَكِيـم} فإنه يعنـي: ولـم يزل الله جلّ ثناؤه علـيـما بـالناس من عبـاده الـمنـيبـين إلـيه بـالطاعة بعد إدبـارهم عنه, الـمقبلـين إلـيه بعد التولـية, وبغير ذلك من أمور خـلقه, حكيـم فـي توبته علـى من تاب منهم من معصيته, وفـي غير ذلك من تدبـيره وتقديره, ولا يدخـل أفعاله خـلل, ولا يخـلطه خطأ ولا زلل.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الاَنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُوْلَـَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولـيست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار علـى معاصي الله, حتـى إذا حضر أحدهم الـموت, يقول: إذا حشرج أحدهم بنفسه, وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إلـيه لقبض روحه قال: وقد غلب علـى نفسه, وحيـل بـينه وبـين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته: إنـي تبت الاَن, يقول فلـيس لهذا عند الله تبـارك وتعالـى توبة, لأنه قال ما قال فـي غير حال توبة. كما:
7159ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن يعلـى بن نعمان, قال: أخبرنـي من سمع ابن عمر يقول: التوبة مبسوطة ما لـم يَسُقْ. ثم قرأ ابن عمر: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} ثم قال: وهل الـحضور إلا السّوْق.
7160ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} قال: إذا تبـين الـموت فـيه لـم يقبل الله له توبة.
7161ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل, عن أبـي النضر, عن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} فلـيس لهذا عند الله توبة.
7162ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت إبراهيـم بن ميـمون, يحدّث عن رجل من بنـي الـحارث, قال: حدثنا رجل منا, عن عبد الله بن عمرو, أنه قال: «مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بعَامٍ تِـيبَ عَلَـيْهِ», حتـى ذكر شهرا, حتـى ذكر ساعة, حتـى ذكر فُواقا, قال: فقال رجل: كيف يكون هذا والله تعالـى يقول: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ}؟ فقال عبد الله: أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7163ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن إبراهيـم بن مهاجر, عن إبراهيـم, قال: كان يقال: التوبة مبسوطة ما لـم يؤخذ بكَظَمِه.
واختلف أهل التأويـل فـيـمن عُنـي بقوله: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} فقال بعضهم: عُنـي به أهل النفـاق. ذكر من قال ذلك:
7164ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: نزلت الأولـى فـي الـمؤمنـين, ونزلت الوسطى فـي الـمنافقـين, يعنـي: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ} والأخرى فـي الكفـار, يعنـي: {وَلا الّذِينَ يَـموتونَ وَهمْ كفّـارٌ}.
وقال آخرون: بل عنـي بذلك أهل الإسلام. ذكر من قال ذلك:
7165ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن سفـيان, قال: بلغنا فـي هذه الاَية: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} قال: هم الـمسلـمون, ألا ترى أنه قال: {وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كُفّـارٌ
وقال آخرون: بل هذه الاَية كانت نزلت فـي أهل الإيـمان, غير أنها نسخت. ذكر من قال ذلك:
7166ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كُفّـارٌ} فأنزل الله تبـارك وتعالـى بعد ذلك: {إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِـمَنْ يَشاءُ} فحرّم الله تعالـى الـمغفرة علـى من مات وهو كافر, وأرجأ أهل التوحيد إلـى مشيئته, فلـم يؤيسهم من الـمغفرة.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه فـي الإسلام, وذلك أن الـمنافقـين كفـار, فلو كان معنـيا به أهل النفـاق لـم يكن لقوله: {وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كفّـارٌ} معنى مفهوم, لأنهم إن كانوا هم والذين قبلهم فـي معنى واحد من أن جميعهم كفـار, فلا وجه لتفريق أحد منهم فـي الـمعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد مقبولة. وفـي تفرقة الله جلّ ثناؤه بـين أسمائهم وصفـاتهم بأن سمى أحد الصنفـين كافرا, ووصف الصنف الاَخر بأنهم أهل سيئات, ولـم يسمهم كفـارا ما دلّ علـى افتراق معانـيهم, وفـي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا, وفساد ما خالفه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كفّـارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابـا ألِـيـم}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولا التوبة للذين يـموتون وهم كفـار فموضع «الذين» خفض, لأنه معطوف علـى قوله: {لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ}. وقوله: {أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابـا ألِـيـم} يقول: هؤلاء الذين يـموتون وهم كفـار, أعتدنا لهم عذابـا ألـيـما, لأنهم أبعدهم من التوبة كونهم علـى الكفر. كما:
7167ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل, عن أبـي النضر, عن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس: {وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كفّـارٌ} أولئك أبعد من التوبة.
واختلف أهل العربـية فـي معنى: {أعْتَدْنا لَهُمْ} فقال بعض البصريـين: معنى: {أعْتَدْن}: أفعلنا من العتاد, قال: ومعناها: أعددنا. وقال بعض الكوفـيـين: أعددنا وأعتدنا معناهما واحد, فمعنى قوله: {أعْتَدْنا لَهُمْ} أعددنا لهم {عَذَابـا ألِـيـم} يقول: مؤلـما موجعا.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }.
يعنـي تبـارك وتعالـى (بقوله): {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو}: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْه} يقول: لا يحلّ لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبـائكم كرها.
فإن قال قائل: كيف كانوا يرثونهن, وما وجه تـحريـم وراثتهن, فقد علـمت أن النساء مورّثات كما الرجال مورثون؟ قـيـل: إن ذلك لـيس من معنى وراثتهنّ إذا هنّ متن فتركن مالاً, وإنـما ذلك أنهن فـي الـجاهلـية كانت إحداهنّ إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولـى بها من غيره ومنها بنفسها, إن شاء نكحها وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولـم يزوّجها حتـى تـموت, فحرّم الله تعالـى ذلك علـى عبـاده, وحظر علـيهم نكاح حلائل آبـائهم, ونهاهم عن عضلهنّ عن النكاح.
وبنـحو القول الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
7168ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد, قال: حدثنا أبو إسحاق, يعنـي الشيبـانـي, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولـياؤه أحقّ بـامرأته, إن شاء بعضهم تزوّجها, وإن شاءوا زوّجوها, وإن شاءوا لـم يزوّجوها, وهم أحقّ بها من أهلها, فنزلت هذه الاَية فـي ذلك.
7169ـ وحدثنـي أحمد بن مـحمد الطوسي, قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالـح, قال: ثنـي مـحمد بن فضيـل, عن يحيـى بن سعيد, عن مـحمد بن أبـي أمامة بن سهل بن حنـيف, عن أبـيه, قال: لـما توفـي أبو قـيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوّج امرأته, وكان ذلك لهم فـي الـجاهلـية, فأنزل الله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْه}.
7170ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, عن الـحسين بن واقد, عن يزيد النـحويّ, عن عكرمة والـحسن البصري قالا فـي قوله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ}, وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته, فـيعضلها حتـى تـموت أو تردّ إلـيه صداقها, فأحكم الله عن ذلك, يعنـي أن الله نهاكم عن ذلك.
7171ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن سلـيـمان التـيـمي, عن أبـي مـجلز فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه} قال: كانت الأنصار تفعل ذلك كان الرجل إذا مات حميـمه ورث حميـمه امرأته, فـيكون أولـى بها من ولـيّ نفسها.
7172ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الـخراسانـي, عن ابن عبـاس فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه}... الاَية, قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حميـمه, فهو أحقّ بـامرأته, إن شاء أمسكها أو يحبسها حتـى تفتدي منه بصداقها أو تـموت فـيذهب بـمالها. قال ابن جريج: فأخبرنـي عطاء بن أبـي ربـاح أن أهل الـجاهلـية كانوا إذا هلك الرجل, فترك امرأة, حبسها أهله علـى الصبـيّ يكون فـيهم, فنزلت: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه}... الاَية. قال ابن جريج, وقال مـجاهد: كان الرجل إذا توفـي أبوه كان أحقّ بـامرأته, ينكحها إن شاء إذا لـم يكن ابنها, أو ينكحها إن شاء أخاه أو ابن أخيه. قال ابن جريج: وقال عكرمة: نزلت فـي كبـيشة بنت معن بن عاصم من الأوس, توفـي عنها أبو قـيس بن الأسلت, فجنـح علـيها ابنه, فجاءت النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا نبـيّ الله, لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح! فنزلت هذه الاَية.
7173ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه} قال: كان إذا توفـي الرجل كان ابنه الأكبر هو أحقّ بـامرأته ينكحها إذا شاء إذا لـم يكن ابنها, أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه.
7174ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن عمرو بن دينار مثل قول مـجاهد.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, قال: سمعت عمرو بن دينار يقول مثل ذلك.
7175ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما قوله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه}, فإن الرجل فـي الـجاهلـية كان يـموت أبوه أو أخوه أو ابنه, فإذا مات وترك امرأته, فإن سبق وارث الـميت فألقـى علـيها ثوبه فهو أحقّ بها أن ينكحها بـمهر صاحبه أو ينكحها فـيأخذ مهرها, وإن سبقته فذهبت إلـى أهلها فهم أحقّ بنفسها.
7176ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان البـاهلـي, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه} كانوا بـالـمدينة إذا مات حميـم الرجل وترك امرأة, ألقـى الرجل علـيها ثوبه, فورث نكاحها, وكان أحقّ بها, وكان ذلك عندهم نكاحا, فإن شاء أمسكها حتـى تفتدي منه, وكان هذا فـي الشرك.
7177ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه} قال: كانت الوراثة فـي أهل يثرب بـالـمدينة ههنا, فكان الرجل يـموت فـيرث ابنه امرأة أبـيه, كما يرث أمه لا يستطيع أن يـمنع, فإن أحبّ أن يتـخذها اتـخذها كما كان أبوه يتـخذها, وإن كره فـارقها, وإن كان صغيرا حبست علـيه حتـى يكبر, فإن شاء أصابها وإن شاء فـارقها, فذلك قول الله تبـارك وتعالـى: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه}.
حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه} وذلك أن رجالاً من أهل الـمدينة كان إذا مات حميـم أحدهم, ألقـى ثوبه علـى امرأته, فورث نكاحها, فلـم ينكحها أحد غيرها, وحبسها عنده حتـى تفتدي منه بفدية, فأنزل الله عزّ وجلّ: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءع كَرْه}.
7178ـ حدثنـي ابن وكيع, قال: ثنـي أبـي, قال: حدثنا سفـيان, عن علـيّ بن بذيـمة, عن مقسم, قال: كانت الـمرأة فـي الـجاهلـية إذا مات زوجها, فجاء رجل فألقـى علـيها ثوبه كان أحقّ الناس بها, قال: فنزلت هذه الاَية: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه}.
فتأويـل الاَية علـى هذا التأويـل: يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكن أن ترثوا آبـاءكم وأقاربكم نكاح نسائهم كرها, فترك ذلك الاَبـاء والأقارب والنكاح, ووجّه الكلام إلـى النهي عن وراثة النساء, اكتفـاء بـمعرفة الـمخاطبـين بـمعنى الكلام, إذ كان مفهوما معناه عندهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحلّ لكم أيها الناس أن ترثوا النساء تركاتهن كرها, قال: وإنـما قـيـل ذلك لأنهم كانوا يعضلون أياماهن وهن كارهات للعضل حتـى يـمتن فـيرثوهن أموالهن. ذكر من قال ذلك:
7179ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه} قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية, ألقـى علـيها حميـمه ثوبه, فمنعها من الناس, فإن كانت جميـلة تزوّجها, وإن كانت قبـيحة حبسها حتـى تـموت, فـيرثها.
7180ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري فـي قوله: {لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْه} قال: نزلت فـي ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس بـامرأته ولـيه, فـيـمسكها حتـى تـموت فـيرثها, فنزلت فـيهم.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين بتأويـل الاَية, القول الذي ذكرناه عمن قال معناه: لا يحلّ لكن أن ترثوا النساء كرها أقاربكم, لأن الله جل ثناؤه قد بـين مواريث أهل الـمواريث, فذلك لأهله نـحو وراثتهم إياه الـموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء. فقد علـم بذلك أنه جلّ ثناؤه لـم يحظر علـى عبـاده أن يرثوا النساء ما جعله لهم ميراثا عنهن, وأنه إنـما حظر أن يكرهن موروثات بـمعنى حظر وراثة نكاحهن إذا كان ميتهم الذي ورثوه قد كان مالكا علـيهن أمرهن فـي النكاح ملك الرجل منفعة ما استأجر من الدور والأرضين وسائر ما له منافع, فأبـان الله جل ثناؤه لعبـاده أن الذي يـملكه الرجل منهم من بضع زوجته, معناه غير معنى ما يـملك أحدهم من منافع سائر الـمـملوكات التـي تـجوز إجارتها, فإن الـمالك بضع زوجته إذا هو مات لـم يكن ما كان له ملكا من زوجته بـالنكاح لورثته بعده, كما لهم من الأشياء التـي كان يـملكها بشراء أو هبة أو إجارة بعد موته بـميراثه ذلك عنه.
وأما قوله تعالـى: {وَلا تَعّضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: تأويـله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ}: أي ولا تـحبسوا يا معشر ورثة من مات من الرجال أزواجهم عن نكاح من أردن نكاحه من الرجال كيـما يـمتن فتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهن¹ أي فتأخذوا من أموالهم إذا متن ما كان موتاكم الذين ورثتـموهن ساقوا إلـيهنّ من صدقاتهنّ. ومـمن قال ذلك جماعة قد ذكرنا بعضهم, منهم ابن عبـاس, والـحسن البصري, وعكرمة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تعضلوا أيها الناس نساءكم فتـحبسوهنّ ضرارا, ولا حاجة لكم إلـيهن فتضروا بهن لـيفتدين منكم بـما آتـيتـموهنّ من صدقاتهن. ذكر من قال ذلك:
7181ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ} يقول: لا تقهروهن, {لِتَذْهَبوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتـمُوهُنّ} يعنـي الرجل تكون له الـمرأة وهو كاره لصحبتها, ولها علـيه مهر, فـيُضِرّ بها لتفتدي.
7182ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ} يقول: لا يحلّ لك أن تـحبس امرأتك ضرارا حتـى تفتدي منك. قال: أخبرنا معمر, قال: وأخبرنـي سماك بن الفضل عن ابن البـيـلـمانـي, قال: نزلت هاتان الاَيتان, إحداهما فـي أمر الـجاهلـية, والأخرى فـي أمر الإسلام.
7183ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن معمر, قال: أخبرنا سماك بن الفضل, عن عبد الرحمن بن البـيـلـمانـي فـي قوله: {لا يَحِلّ لَكمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضلُوهُنّ}, قال: نزلت هاتان الاَيتان, إحداهما فـي الـجاهلـية, والأخرى فـي الإسلام, قال عبد الله لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء فـي الـجاهلـية, ولا تعضلوهنّ فـي الإسلام.
7184ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن سالـم, عن سعيد: {وَلا تَعْضُلوهُنّ} قال: لا تـحبسوهنّ.
7185ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَلا تَعْضُلوهُنّ لِتتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ} أما تعضلوهنّ, فـيقول: تضارّوهنّ لـيفتدين منكم.
7186ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَلا تَعْضُلوهُنّ} قال: العضل: أن يكره الرجل امرأته, فـيضرّ بها حتـى تفتدي منه, قال الله تبـارك وتعالـى: {وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكمْ إلـى بَعْضٍ}.
وقال آخرون: الـمعنـيّ بـالنهي عن عضل النساء فـي هذه الاَية: أولـياؤهنّ. ذكر من قال ذلك:
7187ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ} كالعضل فـي سورة البقرة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: بل الـمنهيّ عن ذلك زوج الـمرأة بعد فراقه إياها, وقالوا: ذلك كان من فعل الـجاهلـية, فنهوا عنه فـي الإسلام. ذكر من قال ذلك:
7188ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كان العضل فـي قريش بـمكة, ينكح الرجل الـمرأة الشريفة فلعلها لا توافقه, فـيفـارقها علـى أن لا تتزوّج إلا بإذنه, فـيأتـي بـالشهود فـيكتب ذلك علـيها ويشهد, فإذا خطبها خاطب, فإن أعطته وأرضته أذن لها, وإلا عضلها. قال: فهذا قول الله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ}... الاَية.
قال أبو جعفر: قد بـينا فـيـما مضى معنى العضل وما أصله بشواهد ذلك من الأدلة.
وأولـى هذه الأقوال التـي ذكرناها بـالصحة فـي تأويـل قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ} قول من قال: نهى الله جلّ ثناؤه زوج الـمرأة عن التضيـيق علـيها والإضرار بها, وهو لصحبتها كاره, ولفراقها مـحبّ, لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصحة, لأنه لا سبـيـل لأحد إلـى عضل امرأة, إلا لأحد رجلـين: إما لزوجها بـالتضيـيق علـيها وحبسها علـى نفسه, وهو لها كاره, مضارّة منه لها بذلك, لـيأخذ منها ما آتاها بـافتدائها منه نفسها بذلك, أو لولـيها الذي إلـيها إنكاحها, وإذا كان لا سبـيـل إلـى عضلها لأحد غيرهما, وكان الولـيّ معلوما أنه لـيس مـمن آتاها شيئا, فـيقال: إن عضلها عن النكاح عضلها لـيذهب ببعض ما آتاها, كان معلوما أن الذي عنى الله تبـارك وتعالـى بنهيه عن عضلها, هو زوجها الذي له السبـيـل إلـى عضلها ضرارا لتفتدي منه.
وإذا صحّ ذلك, وكان معلوما أن الله تعالـى ذكره لـم يجعل لأحد السبـيـل علـى زوجته بعد فراقه إياها وبـينونتها منه, فـيكون له إلـى عضلها سبـيـل لتفتدي منه من عضله إياها, أتت بفـاحشة أم لـم تأت بها, وكان الله جلّ ثناؤه قد أبـاح للأزواج عضلهنّ إذا أتـين بفـاحشة مبـينة, حتـى يفتدين منه, كان بـينا بذلك خطأ التأويـل الذي تأوّله ابن زيد, وتأويـل من قال: عنى بـالنهي عن العضل فـي هذه الاَية: أولـياء الأيامى, وصحة ما قلنا فـيه. {ولا تَعْضُلوهُنّ} فـي موضع نصب عطفـا علـى قوله: {أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْه} ومعناه: لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرها, ولا تعضلوهن, وكذلك هي فـيـما ذكر فـي حرف ابن مسعود, ولو قـيـل: هو فـي موضع جزم علـى وجه النهي لـم يكن خطأ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إلاّ أنْ يأْتْـيِنَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: لا يحلّ لكم أيها الـمؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن, وأنتـم لصحبتهن كارهون, وهن لكم طائعات, لتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهنّ من صدقاتهنّ, إلا أن يأتـين بفـاحشة مبـينة, فـيحلّ لكن حينئذً الضرار بهنّ لـيفتدين منكم.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الفـاحشة التـي ذكرها الله جلّ ثناؤه فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: معناها: الزنا, وقال إذا زنت امرأة الرجل حلّ له عضلها والضرار بها لتفتدي منه بـما آتاها من صداقها. ذكر من قال ذلك:
7189ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا أشعث, عن الـحسن فـي البكر تفجر, قال: تضرب مائة, وتُنفـى سنة, وتردّ إلـى زوجها ما أخذت منه. وتأوّل هذه الاَية: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَـيْـمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفَـاحِشَةٍ مُبَـيّنَةٍ}.
7190ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن عطاء الـخراسانـي فـي الرجل إذا أصابت امرأته فـاحشة: أخذ ما ساق إلـيها وأخرجها¹ فنسخ ذلك الـحدود.
7191ـ حدثنا أحمد بن منـيع, قال: حدثنا عبد الله بن الـمبـارك, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب, عن أبـي قلابة قال: إذا رأى الرجل من امرأته فـاحشة, فلا بأس أن يضارّها, ويشقّ علـيها حتـى تـختلع منه.
حدثنا ابن حميد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, قال: أخبرنـي معمر, عن أيوب, عن أبـي قلابة فـي الرجل يطلع من امرأته علـى فـاحشة, فذكر نـحوه.
7192ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} وهو الزنا, فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.
7193ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عبد الكريـم أنه سمع الـحسن البصريّ: {إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ} قال: الزنا. قال: وسمعت الـحسن وأبـا الشعثاء يقولان: فإن فعلت حلّ لزوجها أن يكون هو يسألها الـخـلع لتفتدي.
وقال آخرون: الفـاحشة الـمبـينة فـي هذا الـموضع: النشوز.ذكر من قال ذلك:
7194ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: {إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} وهو البغض والنشوز, فإذا فعلت ذلك, فقد حلّ له منها الفدية.
7195ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عنبسة, عن علـيّ بن بذيـمة, عن مقسم فـي قوله: «وَلاَ تَعْضُلوهُنّ لِتَذْهَبوا بِبَعْضٍ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ إلاّ أنْ يَفْحُشْنَ» فـي قراءة ابن مسعود. قال: إذا عضلت وآذتك فقد حل لك أخذ ما أخذت منك.
7196ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مطرف بن طريف, عن خالد, عن الضحاك بن مزاحم: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} قال: الفـاحشة ههنا النشوز, فإذا نشزت حلّ له أن يأخذ خـلعها منها.
7197ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} قال: هو النشوز.
7198ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء بن أبـي ربـاح: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} فإن فعلن إن شئتـم أمسكتـموهنّ, وإن شئتـم أرسلتـموهن.
7199ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي قوله: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} قال: عدل ربنا تبـارك وتعالـى فـي القضاء فرجع إلـى النساء, فقال: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} والفـاحشة: العصيان والنشوز¹ فإذا كان ذلك من قبلها, فإن الله أمره أن يضربها, وأمره بـالهجر, فإن لـم تدع العصيان والنشوز فلا جناح علـيه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية.
قال أبو جعفر: وأولـى ما قـيـل فـي تأويـل قوله: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} أنه معنـيّ به كل فـاحشة من بذاءة بـاللسان علـى زوجها, وأذى له وزنا بفرجها. وذلك أن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} كل فـاحشة مبـينة ظاهرة, فكلّ زوج امرأة أتت بفـاحشة من الفواحش التـي هي زنا أو نشوز, فله عضلها علـى ما بـين الله فـي كتابه, والتضيـيق علـيها حتـى تفتدي منه بأيّ معانـي فواحش أتت بعد أن تكون ظاهرة مبـينة بظاهر كتاب الله تبـارك وتعالـى, وصحة الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كالذي:
7200ـ حدثنـي يونس بن سلـيـمان البصريّ, قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل, قال: حدثنا جعفر بن مـحمد, عن أبـيه, عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «اتّقوا اللّهَ فِـي النّساءِ, فـانّكمْ أخَذْتُـموهُنّ بأمانَةِ اللّهِ, وَاسْتَـحْلَلْتُـمْ فُرُوجَهنّ بِكَلِـمَةِ اللّهِ, وَإنّ لَكمْ عَلَـيْهنّ أن لا يُوطِئنَ فُرشَكمْ أحَدا تَكْرَهونَهُ, فإنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فـاضْرِبوهنّ ضَرْبـا غَيْرَ مُبَرّحٍ وَلهُنّ عَلَـيْكمْ رِزْقُهُنّ وكِسْوَتُهُنّ بـالـمَعْرُوفِ».
7201ـ حدثنا موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي, قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب, قال: حدثنا موسى بن عبـيدة الربذي قال: حدثنا صدقة بن يسار, عن ابن عمر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «أيّها النّاسُ إنّ النّساءَ عِنْدَكمْ عَوَانٌ, أخَذْتُـمُوهُنّ بأمانَةِ اللّهِ, وَاسْتَـحْلَلْتُـمْ فرُوجَهُنّ بِكَلَـمِةِ اللّهِ, وَلَكمْ عَلَـيْهنّ حَقٌ, وَلهُنّ عَلَـيْكُمْ حَقٌ, ومِنْ حَقّكمْ عَلَـيْهِنّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكمْ أحَدًا وَلا يَعْصِيَنّكُمْ فِـي مَعْرُوفٍ, فإذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهنّ رِزْقَهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بـالـمَعْرُوفِ».
فأخبر صلى الله عليه وسلم, أن من حقّ الزوج علـى الـمرأة أن لا توطىء فراشه أحدا, وأن لا تعصيه فـي معروف وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة علـيه, وإنـما هو واجب علـيه, إذا أدّت هي إلـيه ما يجب علـيها من الـحقّ بتركها إيطاء فراشه غيره, وتركها معصيته فـي معروف. ومعلوم أن معنى قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حَقّكمْ عَلَـيْهِنّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحَدا» إنـما هو أن لا يـمكنّ أنفسهنّ من أحد سواكم. وإذا كان ما روينا فـي ذلك صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبـين أن لزوج الـمرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره, وأمكنت من جماعها سواه, أن له منعها من الكسوة والرزق بـالـمعروف, مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته فـي الـمعروف. وإذا كان ذلك له فمعلوم أنه غير مانع لها بـمنعه إياها ماله منعها حقا لها واجبـا علـيه. وإذا كان ذلك كذلك فبّـين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها فأخذ منها زوجها ما أعطته أنه لـم يأخذ ذلك عن عضل منهيّ عنه, بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مبـاح. وإذ كان ذلك كذلك كان بـينا أنه داخـل فـي استثناء الله تبـارك وتعالـى الذي استثناه من العاضلـين بقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةً}. وإذ صحّ ذلك, فبـين فساد قول من قال: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} منسوخ بـالـحدود, لأن الـحدّ حقّ الله تعالـى علـى من أتـى بـالفـاحشة التـي هي زنا. وأما العضل لتفتدي الـمرأة من الزوج بـما آتاها أو ببعضه فحقّ لزوجها كما عضله إياها وتضيـيقه علـيها إذا هي نشزت علـيه لتفتدي منه حقّ له, ولـيس حكم أحدهما يبطل حكم الاَخر.
فمعنى الاَية: ولا يحلّ لكم أيها الذين آمنوا أن تعضلوا نساءكم, فتضيقوا علـيهنّ, وتـمنعوهنّ رزقهنّ وكسوتهن بـالـمعروف, لتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهن من صَدُقاتكم, {إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفَـاحِشَةٍ} من زنا أو بذاء علـيكم, وخلاف لكم فـيـما يجب علـيهن لكم مبـينة ظاهره, فـيحلّ لكم حينئذٍ عضلهنّ, والتضيـيق علـيهنّ, لتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهنّ من صداق, إن هنّ افتدين منكم به.
واختلفت القراء فـي قراءة قوله: «مبَـيّنَةً» فقرأه بعضهم: «مُبَـيّنَةٍ» بفتـح الـياء, بـمعنى أنها قد بـينت لكم وأعلنت وأظهرت. وقرأه بعضهم: «مبَـيّنَةٍ» بكسر الـياء, بـمعنى أنها ظاهرة بـينة للناس أنها فـاحشة. وهما قراءتان مستفـيضتان فـي قراءة أمصار الإسلام, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب فـي قراءته الصواب, لأن الفـاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بـينة, وإذا ظهرت فبإظهار صاحبها إياها ظهرت, فلا تكون ظاهرة بـينة إلا وهي مبـينة ولا مبـينة إلا وهي مبـينة, فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارىء صوابـا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعاشِرُوهُنّ بـالـمَعْرُوفِ}.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {وَعاشِرُوهُنّ بـالـمَعْرُوفِ}: وخالقوا أيها الرجال نساءكم, وصاحبوهنّ بـالـمعروف, يعنـي بـما أمرتـم به من الـمصاحبة, وذلك إمساكهنّ بأداء حقوقهنّ التـي فرض الله جلّ ثناؤه لهنّ علـيكم إلـيهنّ, أو تسريح منكم لهن بإحسان. كما:
7202ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَعاشِروهُنّ بـالـمَعْرُوفِ} يقول: وخالطوهنّ. كذا قال مـحمد بن الـحسين, وإنـما هو خالقوهنّ من العشرة وهي الـمصاحبة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإنْ كَرِهْتُـمُوهُنّ فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِـيهِ خَيْرا كَثِـير}.
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: لا تعضلوا نساءكم لتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهنّ من غير ريبة, ولا نشوز, كان منهنّ, ولكن عاشروهنّ بـالـمعروف وإن كرهتـموهن, فلعلكم أن تكرهوهنّ, فتـمسكوهنّ, فـيجعل الله لكم فـي إمساككم إياهنّ علـى كره منكم لهنّ خيرا كثـيرا من ولد يرزقكم منهنّ, أو عطفكم علـيهنّ بعد كراهتكم إياهن. كما:
7203ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {فإنْ كَرِهْتُـمُوهُنّ فَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيجْعَلَ اللّهُ فِـيهِ خَيْرا كَثِـير} يقال: فعسى الله أن يجعل فـي الكراهة خيرا كثـيرا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
7204ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: ثنـي أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي قوله: {وَيجْعَلَ اللّهُ فِـيهِ خَيْرا كَثِـير} قال: الولد.
7205ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {وَيجْعَلَ اللّهُ فِـيهِ خَيْرا كَثِـير} والـخير الكثـير: أن يعطف علـيها, فـيرزق الرجل ولدها, ويجعل الله فـي ولدها خيرا كثـيرا.
والهاء فـي قوله: {وَيجْعَلَ اللّهُ فِـيهِ خَيْرا كَثِـير} علـى قول مـجاهد الذي ذكرناه كناية عن مصدر تكرهوا, كأن معنى الكلام عنده: فإن كرهتـموهنّ, فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فـيه خيرا كثـيرا. ولو كان تأويـل الكلام: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فـي ذلك الشيء الذي تكرهونه خيرا كثـيرا, كان جائزا صحيحا