تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 93 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 93

092

قوله 92- "وما كان لمؤمن" هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم كقوله "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبراً وهو يستلزم صدقه، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمناً قط، وقيل: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله، وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآين ذلك بوجه، ثم استثنى منه استثناءً منقطعاً فقال: إلا خطأ، أي ما كان له أن يقتله البتة، لكن إن قتله خطا فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج، وقيل: هو استثناء متصل، والمعنى: وما ثبت ولا وجد ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إذ هو مغلوب حيئذ، وقيل المعنى: ولا خطأ. قال النحاس: ولا يعرف ذلك في كلام العرب، ولا يصح في المعنى لان الخطأ لا يحظر، وقيل إن المعنى: ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. فيكون قوله: خطأ منتصباً بانه مفعول له. ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف: أي: إلا قتلاً خطأ، ووجوه الخطأ كثيرة ويضبطها عدم القصد، والخطأ الاسم من أخطأ إذا لم يعتمد. قوله "فتحرير رقبة مؤمنة" أي: فعليه تحرير رقبة مؤمنة يعتقها كفارة عن قتل الخطأ، وعبر بالرقبة عن جميع الذات. واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة، فقيل: هي التي صلت وعقلت الإيمان فلا تجزئ الصغيرة، وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم. وقال عطاء بن أبي رباح: إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين المسلمين. وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات، ولا يجزئ في قول جمهور العلماء أعمى ولا مقعد ولا أشل، ويجزئ عند الأكثر الأعرج والأعور. قال مالك إلا أن يكون عرجاً شديداً. ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع. قوله "ودية مسلمة إلى أهله" الدية: ما تعطى عوضاً عن دم المقتول إلى ورثته، والمسلمة: المدفوعة المؤداة، والأهل المراد بهم الورثة، وأجناس الدية وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة. قوله "إلا أن يصدقوا" أي: إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل بالدية، سمي العفو عنها صدقة ترغيباً فيه. وقرأ أبي: إلا يتصدقوا. وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله "فدية مسلمة" أي: فعليه دية مسلمة إلا أن يقع العفو من الورثة عنها. قوله "فإن كان من قوم عدو لكم" أي: فإن كان المقتول من قوم عدو لكم وهم الكفار الحربيون، وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم، ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم وأنه باق على دين قومه فلا دية على قاتله بل عليه تحرير رقبة مؤمنة. واختلفوا في وجه سقوط الدية، فقيل: وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية، وقيل: وجهه أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء" وقال بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال. قوله "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" أي: مؤقت أو مؤيد. وقرأ الحسن " وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله " أي: فعلى قاتله دية مؤداة إلى أهله من أهل الإسلام وهم ورثته "وتحرير رقبة مؤمنة" كما تقدم "فمن لم يجد" أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها "فصيام شهرين متتابعين" أي فعليه صيام شهرين متتابعين، لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في نهار، فلو أفطر استأنف، هذا قول الجمهور، وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف. واختلف في الإفطار لعرض المرض. قوله "توبة من الله" منصوب على أنه مفعول له: أي شرع ذلك لكل توبة، أي: قبولاً لتوبتكم، أو منصوب على المصدرية: أي تاب عليكم توبة، وقيل منصوب على الحال: أي حال كونه ذا توبة كائنة من الله.
قوله 93- "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم" لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمداً. وقد اختلف العلماء في معنى العمد، فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو القتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المحدد، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها. وقال الجمهور: إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصى أو بغير ذلك، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عمد، وشبه عمد، وخطأ. واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها. وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين: عمد، وخطأ ولا ثالث لهما. واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان. ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك في السنة. وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمداً، فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له: أي يستحقها بسبب هذا الذنب، وبين كونه خالداً فيها، وبين غضب الله عليه ولعنته له وإعداده له عذاباً عظيماً. وليس وراء هذا التشديد تشديد، ولا مثل هذا الوعيد وعيد. وانتصاب خالداً على الحال. وقوله "وغضب الله عليه" معطوف على مقدر، يدل عليه السياق: أي جعل جزاءه جهنم او حكم عليه أو جازاه وغضب عليه وأعد له. وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها علماء أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" وهي آخر ما نزل وما نسختها شيء، وقد روى النسائي عنه نحو هذا. وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى "إن الحسنات يذهبن السيئات" وقوله "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده". وقوله "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قالوا أيضاً: والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان، فيكون معناهما: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد السبب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضاً بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم: "قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه" وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره في الذي قتل مائة نفس، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن القاتل عمداً داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. وقد أوضحت في شرحي على المنتقى متمسك كل فريق. والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً، لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجباً أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجباً وكان القاتل غنياً متمكناً من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد التوبة من القاتل عمداً وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فنحن لا يقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً" يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وما كان لمؤمن" الآية، قال: إن عياش بن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمناً كان يعذبه هو وأبو جهل وهو أخوه لأمه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وعياش يحسب أن ذلك الرجل كافر. وأوضح من هذا السياق ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني الحارث، فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً" الآية، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم قال له: قم فحرر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي بأطول من هذا. وقد روي من طرق غير هذه. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية، فعدل ابو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله فضربه. وأخرج ابن منذه وأبو نعيم نحو ذلك ولكن فيه أن الذي قتل المتعوذ بكلمة الشهادة هو بكر بن حارثة الجهني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "فتحرير رقبة مؤمنة" قال: يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصلى. وكل رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة، فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة، وفي قوله "ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا" قال: عليه الدية مسلمة إلا أن يتصدق بها عليه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: في حرف أبي فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها، فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء: أي أنت رسول الله، فقال أعتقها فإنها مؤمنة". وقد روي من طرق وهو في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي. وقد وردت أحاديث في تقدير الدية، وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد، ودية المسلم ودية الكافر، وهي معروفة فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضع. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله "ودية مسلمة إلى أهله" قال: هذا المسلم الذي ورثته مسلمون "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وليس بينهم وبين رسول الله عقد "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد فيقتل فيكون ميراثه للمسلمين وتكون ديته لقومه لأنهم يعقلون عنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" يقول: فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن فقتله خطأ فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين ولا دية عليه، وفي قوله "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" يقول: إذا كان كافراً في ذمتكم فقتل فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طريق عطاء بن السائب عن أبي عياش قال: كان الرجل يجيء فيسلم. ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم فتعزوهم جيوش النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل الرجل فيمن يقتل، فأنزل الله هذه الآية "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" وليس له دية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "توبة من الله" يعني: تجاوزاً من الله لهذه الأمة حيث جعل في قتل الخطا الكفارة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة: أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة. فاعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه، وفيه نزلت الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه، وفيه أن مقيس بن صبابة لحق بمكة بعد ذلك وارتد عن الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" بعد التي في سورة الفرقان بثمان سنين وهي قوله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" إلى قوله: "غفوراً رحيماً". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن زيد بن ثابت أن قوله "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" نزلت بعد قوله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" بستة أشهر. وأخرج ابن المنذر عنه قال: نزلت هذه الآية التي في النساء بعد قوله "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" بأربعة أشهر، والآثار عن الصحابة في هذا كثيرة جداً، والحق ما عرفناك.
هذا متصل بذكر الجهاد والقتال، والضرب: السير في الأرض، تقول العرب ضربت في الأرض: إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول: ضربت الأرض بدون في: إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخرج رجلان يضربان الغائط". قوله "فتبينوا" من التبين وهو التأمل، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة فإنه قرأ فتثبتوا من التثبت. واختار القراءة الاولى أبو عبيدة وأبو حاتم قالا: لان من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين، مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضراً وسفراً بلا خلاف، لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر كما سيأتي. قوله " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام " وقرئ "السلام". ومعناهما واحد. واختار أبو عبيدة السلام. وخالفه أهل النظر فقالوا، السلم هنا أشبه لانه بمعنى الانقياد والتسليم. والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل: هما بمعنى الإسلام: أي: لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام: أي كلمته وهي الشهادة لست مؤمناً، وقيل: هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً. والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا: إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية، وقرأ أبو جعفر "لست مؤمناً" من أمنه: إذا أجرته فهو مؤمن. وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به، لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تاولوا، وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح لا يكون مسلماً ولا يصير بها دمه معصوماً وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف، وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول: أنا مسلم أو أنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأول. قوله "تبتغون عرض الحياة الدنيا" الجملة في محل نصب على الحال: أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعاً إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة: يقال: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء، وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرضاً بالسكون. وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى "تريدون عرض الدنيا" وجمعه عروض. وفي المجمل لابن فارس: والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه، وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو أكثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد. قوله "فعند الله مغانم كثيرة" هو تعليل للنهي: أي عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد، واغتنام ماله "كذلك كنتم من قبل" أي: كنتم كفاراً، فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة، أو كذلك كنتم من قبل، تخفون إيمانكم عن قومكم خوفاً على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به، وكرر الأمر بالتبين للتأكد عليهم لكونه واجباً لا فسحة فيه ولا رخصة. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لحق ناس من المسلمين رجلاً معه غنيمة له فقال السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمة، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن عبد الله بن أبي حدود الأسلمي قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع ووطب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" الآية. وفي لفظ عند ابن إسحاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث أبي حدرد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمحلم: أقتلته بعدما قال آمنت بالله؟ فنزل القرآن. وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر أن محلماً جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال: لا غفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم، ثم طرحوه في جبل وألقوا عليه الحجارة، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم" الآية. وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد والطبراني والضياء في المختارة عن ابن عباس أن سبب نزول الآية: أن المقداد بن الأسود قتل رجلاً بعد ما قال: لا إله إلا الله. وفي سبب النزول روايات كثيرة، وهذا الذي ذكرناه أحسنها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "كذلك كنتم من قبل" قال: تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه: يعني الذين قتلوه بعد أن ألقى إليهم السلام وفي لفظ تكتمون إيمانكم من المشركين "فمن الله عليكم" فأظهر الإسلام فأعلنتم إيمانكم "فتبينوا" قال: وعيد من الله ثان. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله "كذلك كنتم من قبل" قال: كنتم كفاراً حتى من الله عليكم بالسلام وهداكم له.
التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه وإن كان معلوماً، لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار تنشيط المجاهدين ليرغبوا وتبكيت القاعدين ليأنفوا. قوله 95- "غير أولي الضرر" قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو بالرفع على أنه وصف للقاعدين كما قال الأخفش، لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير. وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين. وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين: أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين. ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من القاعدين: أي لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم، لان لفظهم لفظ المعرفة. قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد، وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد- وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة. قال القرطبي: والأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك "إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر". قال: وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر "إذا مرض العبد قال الله تعالى: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي". قوله "فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة" هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالاً، والمراد هنا غير أولي الضرر حملاً للمطلق على المقيد، وقال هنا "درجة"، وقال فيما بعد "درجات" فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقال آخرون: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما، وقيل إن معنى درجة علواً: أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح، ودرجة منتصبة على التمييز أو المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل: أي فضل الله تفضيله أو على نزع الخافض أو على الحالية من المجاهدين أي: ذوي درجة. قوله "وكلاً" مفعول أول لقوله "وعد الله" قدم عليه لإفادته القصر: أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين وعده الله الحسنى: أي المثوبة وهي الجنة. قوله "أجراً" هو منتصب على التمييز، وقيل: على المصدرية لأن فضل بمعنى آجر التقدير آجرهم أجراً، وقيل: مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الإعطاء، وقيل: منصوب بنزع الخافض، وقيل على الحال من درجات مقدم عليها.